قراءة في رواية شجر الخلاطة

Bengrad
2021-06-04T22:12:54+00:00
العدد الخامس
13 أغسطس 2020706 مشاهدة

د. حميد الحميداني- كلية الآداب – فاس

تفرض رواية شجرالخلاطة* نفسها كنمط جديد من الكتابة الروائية بالمغرب، نمط يبني ذاته من خلال الحوار وحده؛ فهي رواية تُمسرح بنيتها من البداية إلى النهاية وتمارس بذلك اقتضابات متعددة في الرواية المألوفة:

– اقتضابا في السرد، لأنها تجعله مندمجا بمقاطع الحوار.

– اقتضابا في الشخصيات؛ فهي تقتصر على شخصيتين متحاورتين.

– اقتضابا في التحديد الزمني لأن زمنها غير مرسوم مباشرة في النص فهو زمن ضمني تُترك مهمة تقديره للقارئ.

– اقتضابا في المكان، فأغلب مراحل “الحدث” تجري في سيارة “هوندا” تتنقل في شوارع البيضاء.

– اقتضابا في الوصف؛ فالإطارالخارجي شاحب الملامح بسبب ندرة الوصف.

– اقتضابا في الحدث نفسه؛ لأنها رواية محاورة كلامية.إنها تذكر القارئ دون شك بالمسرح الذهني.

لماذا كل هذه الاقتضابات؟ لعل ذلك يرجع إلى أنها تريد أن تحسس القارئ بأنها تقدر ظروفه الحالية التي لا تسمح له بالإنصات لسرد مطول أو تعليقات تصادر حريته في استقبال الدلالات الإيحائية بالطريقة التي تريحه أو وصف يعطل مسار تفاعله مع النص.

تسعى الرواية دون شك إلى دمج القارئ في حوارها المباشرالذي يدور بين شخصيتين: الفيلسوف الجيلالي الخلطي والشاب الساخر مصطفى شيش كباب، وهي في نفس الوقت تهدف بكل هذه الخصائص البنائية إلى تأسيس معالم كتابة سقراطية في الرواية المغربية لانها تعتمد الحوار التوليدي كما تعتمد على السخرية من أجل محاولة بلوغ “الحقيقة” حقيقة الوضع الذي تعانيه الشخصيتان معا. غير أن هذه الحوارية تبدو في معظم مراحل الرواية حوارية سقراطية مقلوبة لأن محرك الحوار التوليدي فيها ليس هو الفيلسوف، بل المثقف الأدبي، أما الفيلسوف فهو متلقي العلاج المعرفي والنفسي في القسم الأعظم من النص.

هل تريد الرواية أن تقول ببنيتها الحوارية السقراطية المعكوسة بأن الفلسفة في الوضع المأساوي تصبح مريضة وأن الواقع اليومي هو المؤهل لإنقاذها من “الشلل”؟ لعل بعضا من هذا سيتبين من خلال نوعية القراءة التي نسعى إلى تقديمها لهذا النص المستفز، ولعل شيئا غيره من الدلالات سيبرز ايضا .

ما سيكون محيرا للقارئ في هذا النص هو اعتماد استراتيجيتين في الصياغة: فهناك حضور لاستراتيجية التوجيه (الخلفية المونولوجية) إلى جانب استراتيجية الحوارية؛ لأن سلطة مصطفى شيش كباب بارزة في معظم فصول الرواية، ولأن عناوين فصول أربعة تكشف عن سلطة سردية عليا خفية هي سلطة السارد/الشخصية الذي يوجه حوارية الرواية على الأقل في تلك الفصول الأربعة، وتبقى هناك فرصة لإعادة التوازن إلى الحوار في الفصل الخامس الأخير.

صوت مصطفى يتمظهر مباشرة في عناوين الفصول الأربعة التالية: >هل تعرف اسمك<، >أيها المعوق<، >إهذ لكي اسمعك<، >اسخرمني لنضحك معا<. والخطاب موجه في هذه العناوين من مصطفى إلى الجيلالي الخلطي.

وهناك مع ذلك صوت السارد الضمني الذي انحصر في عنوان النص: شجر الخلاطة، وهو عنوان يقدم حكما مسبقا جاهزا وناجزا عن عالم الرواية مع أنه لا يتدخل أبدا في تفاصيل هذا العالم. هذا الحكم لا يتضمن بالضرورة اختيارا أو تحيزا لإحدى الشخصيتين في النص، إنه وصف لحالة عالم ميؤوس من إدخال أي شكل من أشكال النظام والمعقولية عليه إلا بصياغته في عالم تمثيلي يعيد تركيبه.

إن تخلي السارد عن الدخول إلى عالم النص هو اختيارلترك القارئ وحده في مواجهة العالم الحواري بين مصطفى والجيلالي. الأول شيش حاصل على الإجازة في الأدب العربي سواق “هوندا” في الدار البيضاء والثاني حاصل على دكتوراه في الفلسفة من السوربون مشلول قادم من بن احمد إلى الدار البيضاء لمقابلة الشيخ المهدي الكمنجة الذي أٌشير إلى أنه كان في حالة احتضار وأنه أرسل في طلب الجيلالي لمساعدته في الشفاء من شلله دون إنقاذه من وحش مزعوم. والوحش له دلالة واضحة في النص على أزمة الواقع التي لا مخرج منها.

الحوارية السقراطية المعكوسة تسود في معظم فصول الرواية حيث نلاحظ هيمنة واضحة لمصطفى شيش كباب:

أ- هيمنة معرفية: امتلاكه لنظرية مفسرة لجميع مظاهر الواقع المأساوية. وهي نظرية الأسماء: فمن خلال المقارنة بين المجموعتين التاليتين من الأســماء: 1- محــمد، ميلود، الدمشقي، ابـراهيم، الكرداني ، 2 – قشبل، زروال، قرزز، محراش، يميز بين مأساتين:

…على كل حال جميع الأسماء الأولى … لها علاقة بحوادث أوجهات أو أعلام تاريخية ذات طابع ماساوي واضح … بينما أسماء النوع الثاني جميعها ذات وقع اجتماعي أو نفسي. إذن طابع المأساة في هذا النوع الأخير من الأسماء ينبع من الذات والمجتمع، من الحاضر أكثر مما يأتي من التاريخ(…) وإذا شئت مزيدا من الدقة يمكن القول: إن النوع الثاني من الأسماء يعبر عن مأساة وجودية أوأنطولوجية بينما النوع الأول يعكس مأساة زمنية(…) بينما تتطلب المأساة الأولى المجد والقوة لتفك التناحر، فإن المأساة الثانية تتطلب التهكم للتنفيس عن ذاتها… في الأول يمكنك أن تلاحظ وجود سخرية سوداء كتلك التي نسميها سخرية القدر… وفي الثانية تجد السخرية التي تحط من قيمة الشيء(…) في الحالة الأولى يسود جد مبالغ فيه وفي الحالة الثانية عبث مبالغ فيه، وفي الحالتين معا لا يمكن للعين الفاحصة أن تخطئ طابع المأساة (الرواية، ص. 15-16).

في نظرية الأسماء هذه ليس هناك ما يمنع أن يجتمع البعدان معا في إسم شخص واحد. وهنا يتوجه مصطفى إلى السخرية من إسمه الخاص الذي يجمع تناقضا صارخا بين قيمة فاضلة وأخرى ساقطة:

مصطفى شيش كباب(…) هل يمكنك أن تدلني على طريقة غيرالعبث ألصق بواسطتها هذا بذاك… للجمع بين مرجعيتين متضاربتين أصلا. في أية ملهاة أو مأساة… بل في أي حفل تنكري يمكنك أن تربط الإسم والكنية< (ص. 24)

هذا المسخ الإسمي يتضاعف عندما تُكتب أسماء عربية بلغات أجنبية. هكذا تأمل مصطفى في كنيته المكتوبة باللاتينية فوجدها وقد تفاقم المسخ فيها: أحشيش كباب أو هشيش كباب(ص.20). تتجسد إذن هيمنة مصطفى المعرفية في كونه استطاع أن يقنع في لحظات كثيرة فيلسوفا متخرجا من السوربون بصحة نظريته القادرة على تفسير جميع وجوه المأساة الواقعية، وهذا هو الجانب المؤكِد لسيادة حوارية سقراطية مقلوبة في الرواية، لأننا نجد الفيلسوف الجيلالي الخلطي يوافق في الحوار أحيانا كثيرة على الأفكار التي تم توليدها من قبل مصطفى:

الجيلالي: إن هذه السخرية قد تعاش كاستبطان فردي أو جماعي أي كمأساة داخلية…أوتعاش كظاهرة اجتماعية-ثقافية بينما هي في العمق وجهان لشيء واحد لتراجيديا تصارع فيها الذات الفردية أوالجماعية كائنات عديدة بلا وجوه واضحة سوى وجه الضحك والبكاء.

مصطفى: مرحى ها أنت بدأت تدخل معي عالم عبيدات الرمي.

الجيلالي: هذا عنف… هناك عنف رهيب في هذه الأسماء. (ص.22)

كما يوافق الجيلالي الخلطي على الدلالة السلبية التي استخرجها مصطفي من كنيته، فالخلطي تعني ضعيف التمييز والأحمق ومختلط النسب (ص.53-54). يقول الخلطي:

لا تخلط كل الأوراق، دع الخلط لي؛ للخلطي ثم تذكر كم صبرت عليك وأنت تشرح لي نظريتك العظيمة في الأسماء.

ب- هيمنة علمية: ذلك أنه في مقابل العجز والشلل الذي كان الخلطي يعانيه سيكولوجيا وفزيولوجيا نجد لدى مصطفى دفاعا مستميتا عن ضرورة الانخراط في الحياة العامة ومقاومة السلبية القاسية للواقع، فهو صاحب الإجازة في الأدب العربي لا يرى حرجا في سياقة “هوندا” لأنه لا يريد أن يألف العزلة في بيته حتى لا يصاب بالشلل:

مجرد وجودك عاملا وسط أناس عاملين طول النهاريعطيك قوة، طاقة، مناعة، ويساهم في مد الآخرين بنوع غريب من الطاقة… من القدرة على المقاومة والتحدي… يتسرب إليك نوع عجيب من الحياة شيء شبيه بالعدوى المحفزة بالحماس الجماعي الباطني، يصير لك أعداء وأصدقاء، رفاق وخصوم(…) تغضب تفرح تتخاصم وتتصالح تتبادل إذن شيئا مع الناس: نكتة، طرفة وشاية، دعابة سرا سلفة أزمة ثقلا، قهوة سيجارة، أملا حلما كلاما عميقا أو سطحيا(…) فيخف الشعور بالقهر الذي يكون قد تسرب إليك ليلا… والهم الغامض الذي قد يختلط صباحا بقهوتك أو شايك… (ص45.46).

مقابل طاقة المقاومة التي تمظهر بها مصطفى نجد شللا تاما عند الجيلالي الخلطي في الحوار التالي:

– قل إذن كيف أُصبت بهذا الشلل؟

– لا أدري… منذ فترة لم أعد أستطيع المشي.

– وماذا وقع لك؟

– لا أعلم على وجه الدقة.

– وكيف أصبحت على هذه الصورة؟

– لزمت غرفة بسطح بيتنا مدة شهور عديدة وحين أردت الخروج منها وجدتني مقعدا.

– غريب، ولماذا لزمت تلك الغرفة؟

– في البداية لأنني لم أجد ما أفعله غير القراءة

– ثم !؟

– ثم لم أعد أشعر بالحاجة إلى الخارج، شعرت بالخارج تافها عدوانيا أو لامباليا، كلما خرجت أعود منهكا مريضا ثم تعودت ثم شُللت< (ص. 39).

لا تستمر الحوارية السقراطية المعكوسة إلى نهاية الرواية، وكأن استراتيجية الكاتب اقتضت أن تعود الحكمة اليونانية إلى موقعها الحقيقي لتمارس مهمتها الإرشادية لإدراك الحقيقة: حقيقة أنه أمام انسداد الآفاق وعدوانية الواقع لا يمكن للإنسان أن يبدأ في المقاومة والصراع وينهزم في البداية أو وسط الطريق. ذلك أننا سنجد الفيلسوف الجيلالي الخلطي في الفصل الأخير وقد تخلص من شلله بعد لقائه مع الشيخ المعطي الكمنجة ليلة احتضاره. غير أن مصطفى صاحب “الهوندا” الذي كان متشبثا بالحياة والمقاومة بدا في الفصل الأخير وقد فقد كل أمل في الحياة بعد أن حطمت حافلة ضخمة سيارة “الهوندا” وألصقتها بحائط وكأنها لوحة سريالية (ص.99). فقد فقَد صوابه ولم يذكر بالتحديد ما فعله عندما رأى “الهوندا” على الجدار، وحرر له محضر وأُحيل على طبيب الأمراض العقلية الذي كتب له شهادة جنون عابر قابل للمعاودة(ص.103).ولهذا فهو يعترف بأنه لم يعد قادرا على المقاومة: >أنا لست شيئا، أنا كففت عن الوهم، عن أن أقاوم وحدي، أن أصارع بأي شيء… يشرف، أنا كان علي أن أحترف الجريمة، أن أتاجر، هل تعرف كم يكسب تجار المخدرات؟<(ص.105).

في هذا الوضع يأخذ الفيلسوف دوره القديم في الإرشاد: >اسمع أسوأ شيء أن تبدأ طريقا وأن تنهزم في بدايته أو وسطه< (ص.105). هكذا فُتحت إمكانية جديدة لتجاوز أزمة مصطفى والجيلالي بعد أن قررا معا المرور عبر منعرج يتجمع فيه المثقفون العاطلون. هذا يعني أن الرواية تحتفظ رغم هذا التغير في الأدوار بين الجيلالي ومصطفى بإمكانية فتح أمل ما يُجاوز مأساة الواقع.

نجد في هذا النص أيضا أدوات جمالية تؤسس بنيته التركيبية وتمنحه قوته الإيحائية الدلالية:

1- الحوار التوليدي الذي نجده على مستويات:

– مستوى تعارضي

– مستوى تساؤلي

– مستوى توافقي

– مستوى إرشادي وتوجيهي

2- السخرية، وفيها أيضا أنماط مختلفة

– السخر من الذات

– السخر من الآخر

– السخر من الواقع

3- مزج العجائبي بالفلسفي

-شخصية المعطي الكمنجة الذي لا هو رجل ولا هو امرأة.

– حلقة الغناء وشفاء المعوقين ومنهم الجيلالي في مجلس غناء وعزف ليلة احتضار المعطي الكمنجة.

-النقاش الفلسفي العجائبي حول كون المعطي نفسه قد ولد ولم يولد، وجد ولم يوجد، هو رجل وامرأة في نفس الوقت.

4- إدخال “الخدعة” (الكذب) كتقنية لإعادة تشكيل العلاقة مع الآخر وتغيير أدوار اللعب، يقول مصطفى:

*>- إنك رجل طيب، وأنت مثقف … وأنا كذبت عليك.<

*>- أنا لست دكتورا… معي إجازة في الأدب العربي المحتقر، وسعيدة معها باكلوريا فقط في العلوم التجريبية وإسمها الحقيقي ليس سعيدة… إسمها شامة، وإسم أمها شامة وإسم جدتها…<

*>- في الكلام لا ينبغي أن نلعب نفس اللعبة في اللعبة الواحدة نفس الدور… مفيد كذلك أن نلعب أدوارا مختلفة وأن نتبادلها…<

هذه الخصائص الجمالية والدلالية هي ما جعل الرواية تبني خلاطتها التمثيلية لواقع مفترض يعيش حالة اختلاط في الأسماء وفي الهوية وفي المعيش. وهذا النص حين يفعل ذلك بوسائل ساخرة وعجائبية إنما يريد مع ذلك أن يضفي على ذلك الواقع المفترض بعض ملامح المقبولية التي تبرر المقاومة والمواجهة، لأنه أمام واقع يعاني شللا مركبا لا يمكن للفرد وحده أن يواجه أو يقاوم، إن الأمر يحتاج إلى جهد جماعي لتوجيه الواقع عبر مساره الصحيح.

هذه القراءة إذن رغم اعتمادها الكلي على عناصر النص لا تخلو من تأويل وهي إذ تقدم هذا التصور إنما تعتبره أحد التصورات الممكنة، وهي بذلك لا تنفي مشروعية تأويل مغاير.

* شجر الخلاطة: الميلودي شغموم