حسن يوسفي – المدرسة العليا – مكناس
القناع مفارقة كبرى: يحرر من الأشكال المألوفة ويأسر في قالب واحد، يخفي قسمات ويظهرأخرى، يخلق الاستيهام وضده، يمسخ حامله. يمكن أن نذهب مع المفارقة حتى حدودها القصوى لنقول: إن القناع يزيل القناع. هل نتصور حياة يومية للإنسان خارج الأقنعة؟! إنه مرتبط بأعماق الكائن وبشرطه الوجودي والاجتماعي، لذا فعلاقاته بمقولات أساسية كالشخصية والهوية والضِّعف علاقات قوية.
لاعجب أن نجد القناع حاضرا بعمق في مختلف الثقافات ولدى أغلب الشعوب حيث يشكل أحيانا وسيلة لضمان العيش والاستمرار في الحياة ودرء أخطار الطبيعة (القناع الذي يستعمله الهنود في مؤخرة الرأس للتمويه على الحيوانات أثناء الصيد)، كما يعد عنصرا أساسيا في الطقوس والاحتفالات المقدسة لهذه الشعوب وفي فرجاتها المسرحية. ألم يعرف اليابان بأنه> بلد الأقنعة الجميلة <، ألا تنعت افريقيا بـ >مملكة القناع<.
القناع أداة لتجسيد المقدس قبل أن يصبح وسيلة جمالية للعب المسرحي. ولعل هذا الوضع المزدوج هوالذي يفسر الالتباس الحاصل حول مفهوم القناع حيث يدل في الطقوس والاحتفالات على غطاء الرأس والجسد على السواء، كما يصبح مرادفا لحامله أوللشخصية التي يجسدها أوالنوع الذي يمثله، في حين يطلق لفظ “قناع” في المسرح، غالبا، على ذلك الجزء من الجلد أوالورق أوالخشب الذي يضعه الممثل على وجهه بشكل يبرز الأجزاء المكونة للوجه كالأنف والشفتين. وإذا تجاوزالجانب المقنع صفحة الوجه إلى العنق والشعر كله نصبح آنذاك أمام “رأس” وليس أمام “قناع”. بل إن القناع نفسه، باعتباره وسيلة مرتبطة بالوجه أساسا، عرف عدة تمظهرات عبر تاريخ المسرح في الشرق أو في الغرب حيث اتخذ أشكالا من بينها: الثوب المقوى بالجبص، الطحين أوالطلاء الأبيض، القناع الجلدي، الرأس المموه أو القناع الوجهي الذي يركز على عضلات الوجه ودورها في خلق أقنعة متعددة ومتنوعة.
لقد شكل القناع موضوعا لدراسات مختلفة إثنولوجية وسوسيولوجية، كما حاول البعض مقاربته من زاوية التحليل النفسي عبر البحث عن العلاقة بين القناع البدائي والجنس، وتستلزم الإحاطة العلمية بموضوع القناع النظر إليه في بعديه المقدس والمتخيل، وربطه، بالتالي، بالطقوس والاحتفالات من جهة، وبالمسرح كفن من جهة ثانية.
1- القناع المقدس
إن التقديرالذي يحظى به القناع في المجتمعات القديمة والحديثة لا يجد تفسيره إلا في العلاقة التي تربطه بالمقدس حيث يتجاوز كونه أداة حرفية ويتطلب بالتالي تنفيذ طقوس خاصة أثناء صنعه أوعند وضعه -كما يشير إلى ذلك بيتر بروك- كصب الماء أوملامسة الأرض. ويتجلى هذا الطابع المقدس في كون بعض الآلهة اليونانية القديمة تُجسد عن طريق القناع، وفي إيمان الأفارقة بوجود روح تسكنه وتؤثر، بالتالي، على وجودهم ومصائرهم الفردية والجماعية، لذا فإن عدم احترامه قد يؤدي إلى الخطر، كما يتجلى أيضا في كون اليابانيين يعتبرون أن القوة الإلهية مجسدة في القناع.
1- 1 الآلهة اليونانية المقنعة
لقد عرفت اليونان القديمة نوعين من القناع: الطقسي والمسرحي. ارتبط الأول بالاحتفالات التي كانت تقام للآلهة، في حين شكل الثاني إكسسوارا في المسرحيات التراجيدية والكوميدية، وإن كان هذا التمييز قابلا لإعادة النظر بحكم أن المسرح اليوناني انحذر من طقوس دينية. ويمكن التأكيد أن >مسألة القناع الطقسي في اليونان القديمة ليست سوى جزء من مسألة أكثر عمومية هي تجسيد الآلهة. فالشكل المقنن لتمثيل الإلهي في العصرالكلاسيكي، هوالصورة المؤنسنة: فتمثال الطقس يجسد الإله عبر الخصائص الأكثر إبهارا في الجسد الإنساني كالجمال والشباب والقوة… لكن بموازاة ذلك، فإن لبعض القوى الإلهية صلات خصوصية بالقناع، يصلح القناع للتعبير رمزيا عن مظاهرأخرى للفوق-طبيعي<(1).وتتمثل هذه المظاهرالخارقة للقناع في ثلاثة نماذج أساسية هي: جورجو( Gorgo) أرتيس(Artémis) وديونيزوس ( Dionysos).
فجورجو قوة مجسدة في قناع تخلق عبره المسخ الأسطوري، ويُقَدم النموذج التشكيلي لهذه القوةعبر>شكل مزدوج: شخصية أنوثية ذات وجه وحشي<. إن وجه جورجو يمزج بين الإنساني والحيواني، بين القبح والجمال بين الشيخوخة والشباب. أما أرتيس فهي آلهة لم تجسد عبر القناع ولكنها تخصص ضمن طقسها مكانا هاما للأقنعة ولمظهر التقنع حيث يتم التعبير عن المواقف المختلفة والمتناقضة كالتحفظ الأنثوي والافتراس الحيواني والعفة والفجور، كما يتم نقد مختلف القيم الاجتماعية والتمرد عليها. أما ديونيزوس فيُعتبر الإله المقنع بامتياز في اليونان القديمة. ومن خصائصه الأساسية التي تؤكدها الوثائق الأركيولوجية والأدبية، الوجهيّة facialité ممثلة بالخصوص في جاذبية العينين شأنه شأن جورجو.
في كل هذه الحالات الثلاث >يصلح القناع لترجمة آثار التوتر بين ألفاظ متناقضة: الرعب والسخرية،الوحشية والثقافة، الواقع والوهم. وفي الحالات الثلاث أيضا يتوازى استعماله ويضاعف بالضحك الذي يفك هذه التوترات نفسها، ضحك محرِّر من رعب الموت، من مخاوف الحداد، من ضغط الممنوعات والآداب، وضحك محرر للإنسانية من ضغوطها الاجتماعية<(2).
1-2 القناع الإفريقي والكوسموگونيا
قد يصبح فهم القناع مستعصيا، في غالب الأحيان، إذا لم يتم ربطه بخصوصيات الثقافات وبمظاهر تمثيلها للعالم وتفكيرها في الكون. ويبدو أن هذا الرأي ينطبق إلى حد كبير على المجتمعات الإفريقية التي يرتبط فيها القناع >بالطقوس الزراعية، المأتمية أوالدينية للمجموعات البشرية. فالاحتفالات التي تظهر فيها الأقنعة تستهدف دائما، تقريبا، التذكير بالأحداث الأسطورية التي وقعت في الأصل وأدت إلى تنظيم العالم في شكله الحالي<(3). إن التعامل مع الأقنعة في مختلف الطقوس الإفريقية -على الرغم من تنوعه- يبقى رهينا بشكل تنظيم الكون في فكر الإفريقي، من ثم فإن الاهتمام بالقناع كشيء وتقديره وتخصيص طقوس مميزة لصنعه وحمله لا يجد تبريره إلا في الإيمان بالطاقة أوالقوة أو بالأحرى الروح التي تسكنه والتي تتحكم في كوسموگونية الإفريقي. ولعل هذا ما تؤكده أوديت أصلان حين تقول : >لا يحترم الإفريقي قناعا/ موضوعا وإنما يحترم الروح التي تسكنه. فالقناع الطقوسي ذاكرة أسطورية، تنعش الكوسموگونيا وتصل الإنسان بالقوة المقدسة للأجداد والآلهة وتسمح بالولادة من جديد. لهذا فالانخراط ضمن قناع مقدس شرف، لكنه يمثل خطرا<(4). ويمكن التمثيل لهذا القناع الإفريقي بقناع Komo Kû أو”رأس الكومو” في مجتمعات بامبارا الذي يبدو كعالم مصغر يختصر بمكوناته وأبعاده المختلفة مكونات الخلق.
1-3 القناع الياباني والتيوفانيا
يشكل القناع عنصرا أساسيا سواء في الطقوس المقدسة أوفي الفرجات المسرحية في اليابان، هذا البلد الذي اشتهر بمسرح مقنع هومسرح >النّو Nô<. لقد عمل هذا المسرح على تحويل القناع من أداة مقدسة ترتبط بتمثيل الآلهة على الخشبة Théophanieوتجسيد قوتها إلى عنصر جمالي أو أكسسوار مسرحي. إلا أن الملاحظ أن المظهرالمقدس للقناع قد عرف امتدادت داخل فرجات “النّو” لكنه تحول من الإطارالديني إلى الإطار الجمالي. في هذا الإطار نجد أن >المعنى الطقسي للقناع يتواجد في المسرحية الاحتفالية المسماة شيكيصامبا التي تفتتح، عموما، يوما من “النّو” وتشكل جزءا من الريبرتوار مع الاحتفاظ بأصولها الدينية <(5). والشيكيصامبا هي مجموعة من الرقصات الطقوسية تنحدر من الفرجات التي كان يقيمها الرهبان والأديرة بمناسبة احتفالات السنة الجديدة. هذا الأصل الديني تزكيه الوظيفة المنوطة بممثلي هذه الرقصات الذين >يشخصون بأشكال مختلف ألوهية خيّرة يشكل مجيئها إلى الناس مصدرا للسعادة وطول العمر<(6). وهذا التمثيل للآلهة عن طريق الأقنعة لدى اليابانيين قريب، في أبعاده، من الاستعمال الإفريقي لها؛ لاسيما أنهم يؤمنون بأن الرقصات المقنعة تمتلك القدرة على استحضارالعطف الإلهي وبالتالي ضمان الخصب الطبيعي ونموالزراعة. إن القوة الإلهية مجسدة، إذن، في القناع.
2- القناع المسرحي
إذا كان القناع قد خرج من رحم الطقوس المقدسة لمختلف الشعوب والثقافات، فإنه وجد في مسارحها أيضا مرتعا خصبا للتشكل والتعدد والتنوع. فسواء عدنا إلى المسرح اليوناني أوالمسارح الآسيوية أومسرح الأسرار والمعجزات القروسطي في الغرب أوالكوميديا ديلارتي الإيطالية، نجد أن القناع شكل دوما عنصرا أساسيا ضمن مظاهرها التمثيلية. ويبدو أن الفترة التي عرفت غياب القناع عن خشبة المسرح هي الفترة التي سيطرت فيها سلطة المحاكاة الأرسطية وخصوصا مع الاتجاه الواقعي الطبيعي في القرن التاسع عشر. هذا الاتجاه الذي كان يعتبر المسرح كمرآة المجتمع ويرفض كل شكل مصطنع للتعبير عنه في العرض المسرحي. إلا أن بداية القرن العشرين سرعان ما تعلن عن ميلاد عهد جديد للقناع المسرحي حيث عاد ليحضر بقوة لدى أسماء مشهورة أمثال كوردن كريج ومايرهولد وبريشت وبيتر بروك وغيرهم من أقطاب المسرح الغربي المعاصر. وقد تأثرت هذه العودة بالشروط السياسية والاجتماعية للمجتمع الأوروبي في بداية هذه القرن، كما ارتبطت ببروزالتأثير القوي لمسارح الشرق ومنها المسرح الصيني والياباني والهندي على المسرحيين الغربيين، لاسيما وأن هذه المسارح كانت لها تقاليد أصيلة ومعرفة عميقة بالجسد ولغاته المتعددة.
2-1 القناع في المسرح الكلاسيكي
2.1.1 مسرح الأسرار: التقنع أداة استيهام ومسخ
لفهم الوظيفة الأساسية للقناع فيما يسمى بمسرح الأسرار والمعجزات وهو مسرح ديني عرفته أوروبا في القرون الوسطى وبالضبط خلال القرنين 15-16 لابد من استحضار خصوصيات المجتمع الأوروبي القروسطي. هذا المجتمع الذي كان يجسد تراتبيته عبر عملية >توزيع الأزياء الاجتماعية<. فقد كان اللباس مقننا بشكل يجعل شكله ولونه تعبيرا عن وضعية اجتماعية ما داخل التراتبية العامة للمجتمع من القمة إلى القاعدة. لهذا فإن كل خروج على هذه القاعدة يعتبر قلبا للتنظيم المجتمعي والتراتبية التي يجسدها اللباس بإحكام. ويبدو أن التقنع في المسرحيات الدينية ينبغي أن يفهم في هذا الإطار حيث يمكنها -عن طريق القناع- >أن تلعب ضد السنن المؤسس، أوبالعكس، يمكنها أن تعمقه وتقدره أكثر(…). إن الكون المعروض على الخشبة، سواء كان عالما اجتماعيا أو قوى فوق-طبيعية، يساهم في توصيف كائنات مشابهة لكائنات المجتع الواقعي.<(7). فبموازاة التسنين الواقعي لكائنات المجتمع عن طريق اللباس، هناك تسنين مسرحي لكائنات مسرحية عن طريق القناع. إلا أن هذا التسنين المسرحي يدخل عنصرا آخر في اللعبة هو الفضاء المسرحي، حيث ترتبط دلالة الأقنعة بطبيعة الفضاءات التي تحتويها.
في هذا الإطار، يلاحظ أن الإله والملائكة يتم عرضهم لابسين وغير مقنعين، في حين أن الشياطين يجسدون عراة ومقنعين. ويظهرالإله بزي البابا أو إمبراطور بشكل يوحي بمظهره الإنساني، أما الشيطان فيظهر بقناع وجهي وجسدي هجين يجمع بين الحيوانية والإنسانية. وللشيطان علاقة مع فضاء خاص هو الجحيم الذي يٌخصص له جانب في فضاء الخشبة له مواصفات خاصة حيث >يوجد عادة في الجهة الغربية أو على اليسار، وبالخصوص في الجهة الشمالية. الشخصيات الوحيدة المقنعة، على هذه الخشبة، هي الشياطين؛ وفضاؤها، أي الجحيم، يتميز بكونه قناعا-ديكورا حقيقيا، ممفصلا، يُفتح ويُغلق وهو وجه جهنم<(8).
يستخلص من هذا، أن القناع في مسرح الأسرار يترجم تصورا معينا عن مجتمع مسنن تخلق فيه أشكال التقنع كوسيلة لخرق النظام القائم والإيديولوجية السائدة على الأقل عن طريق الاستيهام. لذا، فالمسخ المجسد عبر هجانة القناع الشيطاني ما هو في الحقيقةإلا تمثيل استعاري للسخرية من مجتمع تراتبي، وضرب للصورة الموحدة للجسد الاجتماعي.
2-1-2 الكوميديا ديلارتي: القناع شخصية-نمط
ينخرط القناع، مع الكوميديا ديلارتي، ضمن وضعية جديدة يتجاوز فيها كونه مجرد وسيلة أو أكسسوار مسرحي كما توحي بذلك الدلالة الحرفية لكلمة “قناع”، ليصبح تعبيرا عن مظهر ثابت أوخاصية دائمة لشخصية نمطية (أرلوكان، بانتلون، سكابان). وقد ارتبط هذا الوضع الجديد للقناع بالتصورالسائد حول الكوميديا ديلارتي باعتبارها >مسرح ممثلين< يمتلك تقليدا محددا بدقة وأسلوبا خاصا في العرض. هذا الأسلوب الذي عملت العديد من التجارب الغربية المعاصرة على استيحائه ومحاولة تجديده (من ذلك أرلوكان خادم السيدتين لگولدوني من إخراج ستريلر).
إن التداخل بين القناع كأكسسوار وبين القناع كشخصية-نمط في الكوميديا ديلارتي قد ولّد في نظر البعض العديد من الالتباسات والأحكام الجاهزة حول هذا النوع من المسرح ومن أبرزها الاندماج السيكولوجي للمثل في شخصيته، هذا الاندماج الذي نتج عن الطابع الثابت والمتكرر لقناعه والذي زكته النظرة المعاصرة لهذا المسرح. وفي هذا الإطار يرى أحد الدارسين للقناع في الكوميديا ديلارتي، من خلال ثنائية داخل/خارج، أن هذا القناع ليس >وجها آخر وإنما واجهة مفقودة (…) أي نفيا للوجه باعتباره فضاء جسديا يتمظهر عبره الداخل بشكل فعال ومرئي بالخصوص ومباشر تقريبا<(9). إن الفهم الحقيقي للقناع في الكوميديا ديلارتي ينبغي أن يستحضر هذه الثنائية: وجه الممثل وواجهته المفقودة التي يقدمها للمتفرج. الأول مرتبط بدواخله وأعماقه النفسية و تاريخه الخاص، والثاني-رغم ثباتها وتكرارها- تبقى مرتبطة بالخارج، أي بالصورة المعروضة على المتفرج.
2-2 القناع في المسرح المعاصر
2-2-1 گوردن كريدج: القناع هو “الرأس المثالي” للمسرح
لقد دشن كريج عودة القناع إلى المسرح في بداية هذا القرن حيث جعل منه عنصرا مهما في المسرحيات التي أخرجها، كما شكل بالنسبة إليه مكونا أساسيا ضمن نظريته المسرحية. فمنذ 1900 استعمله في مسرحية ديدون وإيني. وفي أبريل 1908أخرج العدد الأول من مجلته التي سماها القناع. وهي المجلة التي يدل إسمها على الاهتمام الكبير بالقناع في التعبير المسرحي لدى كريج. بل يلاحظ أن شخصية هذا الرجل نفسها شخصية مقنعة لا سيما وأنه كان يكتب العديد من دراساته وينشر أفكاره تحت أسماء مستعارة. من ذلك النص الهام الذي ظهر في العدد الأول من مجلته تحت عنوان >بصدد الأقنعة<، الذي كتبه تحت إسم مستعار هو جون بالانص. علاوة على هذا، فقد كان يجسد اهتمامه بالقناع أيضا ارتباط تصوره عنه بنظرياته حول الممثل وحول ما يسميه بالفوق-دمية surmarionnette. وقد عمل كريج على إبراز اهتمامه هذا للآخرين. لذلك عمل في المعرض الدولي للمسرح الذي أقيم بزوريخ سنة 1914على عرض مجموعة من مسرحيات مدرسته. هذه المجموعة التي كانت لها علامة أساسية هي القناع والتي كان كاطالوگها يتضمن أقوالا لنيتشه عن القناع.
إن عودة كريج للقناع ليست اختيارا مسرحيا ذاتيا، وإنما هي استجابة طبيعية لروح العصر الذي عرفت فيه الحضارة تطورا هاما برزت معه رؤية محددة للاهتمام بالجسد وتميزت فيه وضعية الوجه ولاسيما في الفنون التشكيلية. لقد كان كريج يعتبر القناع أداة لإزالة الطابع الشخصي عن الممثل. فوجه الممثل نزق وغير قار تنعكس عليه الكثير من الانفعالات الذاتية الداخلية مما يولد وضعيات مسرحية غير منتظرة وغير مرغوبة، ويقلص بالتالي حدود الاشتغال بإمكانات الجسد الأخرى. لذا فالقناع، بالنسبة إليه، هو >الرأس المثالي< للمسرح، وهو التصور الذي جعله يرفض أشياء كثيرة يشير إليها دونيس بابلي قائلا: >إن ما يرفضه كريج، في الواقع، هو نزقية وجه الممثل، هو التعددية اللانهائية لتعبيراته الممكنة باعتبارها انعكاسا لعدم استقراره النفسي، هوتغيره ولا استمراريته،<(10). ولتجاوز هذه الوضعية النزقية للوجه >ينبغي فرض مجموعة من الخصائص المحدودة على وجه الممثل، ويجب إرغامه على استعمال جسده بطريقة أحسن. والقناع ضمانة ضد المصادرة الطبيعية، يرغم الممثل على إقامة لعبه على مجموع جسده< (11).
2-2-2 مايرهولد: القناع رمز للتعبير عن جوهر الكائن
لا يمكن فصل اهتمام مايرهولد بالقناع عن المكانة التي حظي بها هذا الأخير في الأدب الرمزي الروسي عموما خلال بداية هذا القرن، وفي الفنون التشكيلية بالخصوص، دون أن ننسى الجاذبية والإغراء الكبير الذي مارسته الكوميديا ديلارتي-وهي مسرح مقنع- على الشعراء الرمزيين الروس. داخل هذا السياق ينبغي فهم توجه مايرهولد نحو القناع معتبرا إياه رمزا وأداة مسرحية في آن واحد إلى حد أنه اصبح >لازمة في أعمال مايرهولد التي ينظر فيها إلى الحياة من خلال حفل مقنع حيث القناع، كشكل مكون يُخفي ويُظهر في آن واحد التناقض الوجداني، أي الجوهر العميق للكائنات والأفعال المحمولة إلى المسرح.< (12). إن المكانة التي حظي بها القناع لدى مايرهود باعتباره أداة للتعبير عن جوهر الكائن سينعكس بشكل واضح على انشغالات فضاء البحث المسرحي الذي أسسه سنة 1913، وهو عبارة عن استوديو مفتوح للمثلين والراقصين وهواة المسرح، واشتغل فيه إلى جانب مجموعة من العلماء والرسامين والموسيقيين، وكانت مجلة عشق الليمونات الثلاث هي لسان حال هذا الاستيديو الذي يشبه إلى حد كبير مدرسة كريج في فلورانسا ومعهد أوجينيو باربا. وقد شكلت الكوميديا ديلارتي محورا أساسيا ضمن انشغالات الاستوديو خاصة وأن مايرهولد نفسه كان يقوم بتوجيه درس حول “تقنية الحركة المسرحية” يستعير فيه أشياء كثيرة من هذه الكوميديا المرتجلة ومن بعض المسارح الشرقية حيث كان يشير إلى ضرورة أخذ التوجيهات حول تقنيات التنفس من الهنود. لهذا فمايرهولد لم يعمل على محاكاة أقنعة الكوميديا الإيطالية بشكل حرفي، وإن كان الاشتغال الجسدي في الاستيديو يحيل بشكل دائم على اللعب المقنع سواء في البحث عن الحيوانية أوعن العجائبي أوالفوق-طبيعي.
2-2-3 بريشت : من المسخ إلى التقنع
يتحدث جورج بانو في كتابه الممتع عن بريشت مؤكدا أن الفضاء اليومي لهذا المسرحي مسكون بالحضور الشرقي، وذلك ما تجسده الأشياء المتواجدة باستمرار فوق مكتبه ومن بينها الأقنعة اليابانية (قناعان من مسرح “النّو”) (13). هذا الحضور للقناع في اليومي البريشتي سرعان ما سيحوله إلى مادة أساسية في الكتابة بحيث يصبح القناع، كمادة ملموسة، وسيلة لإثارة المتخيل. ولعل ما تفصح عنه التجربة المسرحية البريشتية في بعديها النظري و الإبداعي يؤكد هذا لاستعمال للقناع بكيفية متميزة، وذلك من أجل تحقيق المسخ كإجراء جمالي يحقق أهدافا سياسية. فبريشت الذي وظف القناع في مسرحية رجل برجل (1926)، كان يستوحي >ما يمكن تسميته بفكر المسخ. هذا الفكر، لم يسقط، أكثر من غيره، من السماء لأن عودة الأقنعة في الفترة المعاصرة اتخذ دلالته الحقيقية في المجتمعات المتأزمة التي تجرب فيها توجهات المنع< (14). ويبدو أن ألمانيا العشرينات كانت نموذجا لهذه المجتمعات.
وإذا كانت التجربة المسرحية البريشتية قد تفاعلت مع التطورات الفكرية والسياسية للقرن العشرين، فإن استعماله للقناع بعد الحرب العالمية الثانية سيتخذ طابعا خاصا حيث سيعمل مع فرقته المعروفة ( ) على الاستعاضة بالتقنع عن القناع الثابت، هذا الاستعمال الجديد أعطى للقناع دلالة أوسع تتجاوز الوظائف التي يقوم بها كل من صانع القناع و المكلف بالمكياج (15)، ويلاحظ أن الصيغة التعبيرية نفسها لهذا الإجراء الجديد تؤكد هذا الجمع والاحتواء لعمل الاثنين وتجاوزهما في آن واحد.
2-2-4 بيتر بروك: القناع ذاتية مضاعفة
يخرج القناع عند بيتر بروك من إطاره المحدود المتواضع عليه باعتباره أكسسوارا ليصبح تعبيرا عن حالة أو صفة ملازمة للوجود اليومي للإنسان. لذا نراه يؤكد أن >التعبيراليومي قناع من حيث كونه إخفاء أوكذب في تناقض مع الحركة الداخلية. وعليه، إذا كان الوجه يشتغل كقناع، فما الجدوى من وضع وجه كاذب؟<(16). إن هذا التصور هوالذي جعل بروك يرفض في البداية استعمال القناع في مسرحياته لأنه كان يعتبره بمثابة إضافة ذاتية إلى ذاتية أخرى مما يوحي بعبثيته ولا جدواه. وعلى العموم، فهو مقتنع -بحكم تأثره بالمسارح الشرقية- بأن وجه الممثل أداة أساسية لخلق أقنعة كثيرة ومتنوعة.
وسيتراجع بروك عن موقفه هذا في مرحلة لاحقة حيث سيضطر إلى استعمال القناع في مسرحيته ندوة العصافير، وعندما سئل عن مبررات هذا الاستعمال أجاب >لقد لاحظنا أن ثمة لحظة تصطدم خلالها ذاتية الممثل بحدود الإنسانية<(17). إلا أن القناع، رغم ذلك، ليس واحدا بالنسبة لبروك لأن فيه نوعين: أحدهما نبيل، عجيب وغير طبيعي يشخصن القوى وهوالقناع التقليدي المقدس، والثاني ممل، منفر ومثير للاشمئزاز، وهي الخاصية الملازمة، في نظره، لأغلب الأقنعة في المسرح الغربي. ولعل هذا ما جعل بروك ينحو في تعامله مع القناع نحو استعادة طابعه المقدس أثناء استعماله كأداة جمالية.
——————————————
الهوامش
1- Françoise Frontisi-Ducroux et Jean-Pierre Vernant, Divinités au masque dans la Grèce antique, in Le Masque du rite au théâtre, Ed. C.N.R.S., 1991, p. 19
2- Ibid., p. 26
3- Germaine Dicterlen, Masques : sociétés traditionnelles d’Afrique occidentale, in Le Masque du rite au théâtre, p. 27
4- Odette Aslan, Du rite au jeu masqué, in Le Masque du rite au théâtre p. 279
5- Gerard Martzel, Fêtes rituelles et danses masquéees de l’Ancien Japon, in Le Masque du rite au théâtre, pp. 73-74
6- Ibid., p. 74
7- Elie Konigson, Le masque du Démon : phantasmes et métamorphoses sur la scène médiévale, in Le Masque du rite au théâtre, p. 105
8- Ibid., p. 106
9- Ferdinan de Tariani, Positions du masque dans la Commedia dell’Arte, in Le Masque du rite au théâtre, p. 129
10- Dennis Bablet, D’Edward Gordon Graig au Bauhaus, in Le Masque du rite au théâtre, p. 141
11- Ibid., p. 141
12- Béatrice Picon-Vallin, Les années 10 à Petersbourg : Meyerhold, la Commedia dell’Arte et le Bal Masqué, in Le Masque du rite au théâtre, p. 147
13- Georges Banu, Berthold Brecht ou le petit contre le grand, Ed. Aubier Montaigne, 1981, p. 12
14- Philippe Ivernel, De Brecht à Brecht : métamorphoses du masque, masques de la métamorphose, in Le Masque du rite au théâtre, p. 164
15- Ibid., p. 160
16- Peter Brook, Mensonge et superbe adjectif, in Le Masque du rite au théâtre, p. 193
17- Ibid., p. 196
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6698