جمال الدين بن الشيخ
ترجمة: محمد الــولي – حنون مـبـارك – امحمد أوراغ
لقد حُسمت خلال القرنين الهجريين الأولين الاستراتيجية الثقافية العربية الإسلامية. وكان من أدواتها الكبرى التمييز القائم بين العلوم الأصلية التي تنظم المعارف الدينية، والعلوم الفرعية التي تصنف هرميا المعارف الدنيوية، وذلك بتكليفها بوظائف محددة بطريقة دقيقة. إن المعارف التي تهتم باللغة تشكل موضوع عناية ملحوظة وهي تضطلع بمهمة حاسمة، مهمة إعداد أداة لغوية قادرة على الاستجابة لحاجات العلوم الأصلية.
ينبغي التذكير بأن وضع الشعر قد تحدد في قلب تفكير من طبيعة إيبيستيمولوجية. لقد اعتبر الإنتاج الشعري الذي جمعه اللغويون مدونة على درجة كبرى من التمثيلية ينبغي استخدامها لصياغة المعارف اللغوية. واعتبر الشعر ممارسة قادرة على إضفاء الشرعية على الاستعمال الذي تراد بلورته، وهو استعمال لغة عربية موحدة. وانطلاقا من هذا الوضع ستنجز عملية معقدة ينبغي أن نحلل بعض خصائصها.
تتعلق أولى هذه الخصائص بتفوق العالم في شؤون الشعر. فاللغويون يفرضون حجة سلطة. لقد بدأت تتشكل هيئة العلماء اللغويين وتحدد القواعد التي ينبغي أن تتحكم في أنشطتها. وفي نهاية القرن 2 (هجري) /8 (ميلادي) وبداية القرن 3/9 يختصر الجمحي بشكل جيد هذا الموقف بقوله: >وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه<(1) يشير مفهوم الإجماع، وهو مفهوم شرعي، حين يطبق على الشعر في لحظة أولى، إلى العلماء بوصفهم هم وحدهم القادرون على الحكم بأصالة إنتاج ما. هذا المفهوم يؤكد في الحقيقة أن كل المعرفة المتعلقة بالشعر ينبغي أن تتشكل في علم يقع تحت سلطة العلماء. هنا يتشكل ما يطلق عليه بول فاين قوة الإثبات. والباحث يشير بهذا إلى تشكل مجموعة (هو يستخدم كلمة طبقة) تحترف المعرفة وتضطلع بتوضيحها وتنظيمها ونشرها(2).
إذا فكرنا في هذا الأمر جيدا فإننا نجد هذا الموقف يمثل إجبارا موجها توجيها صائبا. وبعد أن طرد محمد (ص) الشعراء من القبيلة ومصفيا معهم مشكلة أنطلوجية وجد هؤلاء أنفسهم مجردين من إنتاجهم الذي لم يعودوا أهلا للحكم عليه. يقيم الصعود القوي للغوي وضعية >positivisme< علمية مؤثرة في نقط متعددة.
نجد في مقدمة هذه النقاط المدونة الشعرية التي يجد النحاة وواضعو المعاجم أنفسهم في حاجة إلى العودة إليها. كان الأمر يتعلق هنا بجمع الآثار التي كان استعمالها ممكنا في إطار المهمة المنوطة باللغويين، وهي مهمة إعداد لغة عربية موحدة ذات معجم مدون ومقعد نحويا، لغة تستجيب لحاجات ومتطلبات العلوم الأصلية.
والحقيقة أن عالم القرنين الأول والثاني يتخذ له موقعا على مشارف ممارسة شفوية يسعى إلى أن يضع لها حدا. هذه النقطة ينبغي أن تحظى بالعناية المستحقة. إن العالم يقيم حضارة الكتابة وطرائق تفكيرها. وبوصف هذا العالم مؤسس ثقافة فهو يراقب علاقات العلم المكتوب والمعارف المنقولة شفويا، ويتأكد خصوصا من اشتغال الذاكرة الجماعية. لقد قام انطلاقا من تدوين القرآن وتطور العلوم الدينية، نسق كامل مهيأ للاختبار النقدي المطبق على حديث للرسول (ص) وعلى مسألة في الفقه أو النحو وعلى شرح آية أو بيت من الشعر الجاهلي.
وبهذا الصدد فإن فقرة من طبقات الجمحي ذات أهمية خاصة. إنها تقدم مثالا دقيقا لتدخل العالم المسلم، المسلح بحجج السلطة، في إقامة مدونة الشعر الجاهلي. والحقيقة أنه يفتح ملف الشعر الذي ينسبه مؤلف السيرة النبوية ابن اسحاق (151هـ 768م) إلى قبيلتين أسطوريتين هما عاد و ثمود. يعتبرالجمحي هذه النسبة كاذبة ويقدم أربع حجج :
1- لا يتعلق الأمر بشعر وإنما يتعلق بكلام مؤلف معقود بقواف، وبعبارة أخرى يتعلق الأمر بتأليف لغوي منتظم في مقطوعات مقفاة ولكنه لا ينتسب إلى شعر العرب، ومن المؤسف أن نص ابن إسحاق قد وصلنا مجردا من عينات من هذا الشعر المتنازع حوله. وذلك أن حجة الجمحي تبين أن الشعر العربي لم يعد، منذ أمد بعيد جدا، يقبل الصياغة في تأليفات لا تستجيب لقواعده. إن تلك العبارة نفسها ذات دلالة. فإذا كان الأمر يتعلق بنصوص تستجيب لقواعد التأليف وذات مقطوعات مقفاة فما هي السمات التي تنقص حتى تكون هذه النصوص شعرا؟
2- تؤكد خمس سور من القرآن أن هاتين القبيلتين قد انقرضتا ولم تتركا وراءهما خلفا فمن تمكن إذن من نقل أشعارهما؟
3- إن أول من تكلم بالعربية، بعد أن نسي لغة أجداده، هو إسماعيل بن إبراهيم. وكل العرب باستثناء الحميريين وما تبقى من جرهم هم أبناء إسماعيل، ولو أنه قد قيل إن إسماعيل كان له معهم علاقات تجاور بل علاقة مصاهرة. لا تمكن إذن نسبة هذا الإنتاج للغة العربية إلى عاد وثمود.
4- إن فحص الأنساب والشعر الجاهلي لا يسمح ببلوغ عاد وثمود وبإثبات القرابة بين هاتين القبيلتين والعرب(3).
إن الحجاج هنا هو إذن على التوالي شعري وقرآني ولساني ونسبي. إن العلماء يفحصون المعلومات المتعلقة بالشعر باللجوء إلى معارف متنوعة، إلا أنها معارف تتمتع بوضع العلم أي علم التفسير وعلم الأنساب وعلم اللغة. والتبحر العلمي يطرح كحكم مطلق. والقانون المكتوب يقدم على الطرق الشفوية. وماعدا هذا فإن الشك يمكن أن يكون مقبولا فيما يتعلق بالقبائل التي أصبحت أسطورية بسبب الفاصل الزمني. إلا أن المهم ليس قبول أو رفض صلاحية هذه الحجج ولكن الأهمية تكمن في الثقة التي يعرض بها الجمحي هذه الحجج. إن العالم يبسط خطابه باسم الإيمان والعلم دون أن يعترض عليه معترض.
لا يتعلق الأمر هنا أيضا إلا بالسند، وهو الميدان الذي يجد فيه التبحر العلمي المبرر الكامل. ومع ذلك فإن هناك أيضا توجها نحو تحليل المحتويات والأجناس التي يشرع في صياغة نظريتها. يرسم الجمحي حدودها بصدد الشعر المنحول > في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير، لا خير فيه ولا حجة في عربيته ولا غريب يستفاد ولا مثل يضرب، ولا مدح رائع ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف.<(4) تبين بوضوح مصطلحات المدح والهجاء والفخر والنسيب الطريقة التي يسلكها تفكير العلماء. يعين الجمحي المواقع التي يستدعى فيها الشعر، ألا وهي العربية أي اللغة ودراسة آليات اشتغالها؛ والغريب الذي يرتبط بصناعةالمعجم وبالخصوص المعجم النادر البالغ الاختصاص، والواقع خارج مجال الاستعمال الدائم، والمثل الذي يعني صياغة أقوال نموذجية سواء أكانت حكمية أم لا: >هذا ما ينبغي أن نلتمسه في الشعر وهذا ما ينبغي أن يقدمه الشعر.< وهكذا يتأسس هذا الزوج الطالب-المنتج الذي يتحكم في الكتابة الشعرية بطريقة حاسمة.
إن القاضي التقليدي ابن قتيبة لم يخطيء في هذا بعد بضع سنين حينما ألف كتاب الشعر والشعراء. لقد عمل، وهو حريص على تكوين المحاسبين للدولة الذين هم الكتاب، وحريص على إقامة ثقافة عربية إسلامية مرتبة هرميا من حيث أهدافها، إلا أنها متوازنة في مكوناتها، في مقدمته التي أسيئت قراءتها كثيرا، على التحديد الدقيق لوضع الشعر وطبيعته. إنه يبدأ القول بما يريده من الشعر. >وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله (ص)<(5).
إذا كان العالم ابن قتيبة يكرس كتابا للشعر فإن هذا لم يكن بغرض إرضاء آلهة الشعر وتكريم الآداب الجميلة. لقد أقدم على ذلك لأن الشعر أداة ضرورية لاكتساب اللغة، ولأنه يختزن ثقافة ينبغي تملكها. انطلاقا من هنا سيكون من قبيل سوء الفهم تأويل طريقته باعتبارها دفاعا عن الشعر العربي وتمثيلا عنه. إن طريقته تعين، عكس ذلك، وبشكل مضبوط حدود تأثير ما:
1- ينبغي لدراسة الشعر أن تقف عند إنتاج الشعراء الكبار المعروفين ولا ينبغي التقيد بإنتاج كل المدونة الموجودة. وقد يكون هذا ضرورة اختصاص مبالغ فيه. وقد يكون على وجه الخصوص تعبيرا عن إرادة اعتبرت غير مقبولة، وهي أن نفرد للشعر مكانة كبيرة جدا في الثقافة العربية الإسلامية.
2- اعتبر الشعر هدفا ثابتا ويتمثل في المساعدة التي يقدمها في دراسات المعجم والنحو والقرآن والحديث. والتأكيد الجوهري هو : أن الشعراء المدروسين هنا هم الشعراء الذين تعتبر لغتهم معيارية، أي أنها أهل لكي تقدم حججا للتفسير لعلوم اللغة من جهة ولعلوم الدين من جهة أخرى. وهذا تأكيد أساسي أيضا بالنسبة لأهمية الخطاب النقدي وتأثيره في الشاعر: إن المنظر يقيم نسقا كاملا للتحليل سيتحكم في فعل الكتابة.
وهكذا فابن قتيبة سيتجه، بعد تعيين الأهداف، إلى دراسة المحتويات وتعداد المعارف التي يحتويها هذا الشعر. إن الأمر يتعلق بفقرة شهيرة(6) حيث يذكر المعارف المتعلقة بــــ
– الأخبار، أي المعرفة التاريخية المتعلقة بعرب الجاهلية. ينبغي أن نلاحظ هنا أن حياة الجماعة الجاهلية تدرك جزئيا في صيغة إشارات إلى وقائع معزولة (الأيام). هذه الجماعة لن تدخل التاريخ إلا بفضل الإسلام.
– الأنساب الصحاح، وهي معرفة الأنساب التي تعرف أهميتها الحاسمة في إقامة قواعد الانتساب إلى الجماعةالعربية الإسلامية وانتقال السلطة.
– الحكم المضارعة لحكم الفلاسفة. وهذه الجملة قد تكون تعبيرا عن تحفظ القاضي الكبير ابن قتيبة إزاء أنصار الفلسفة الموروثة عن الهيلينيين.
– المعرفة المتعلقة بالخيل والنجوم والرياح والبرق والسحب (في الحقيقة هذا يتعلق بمعرفة الغريب). لقد حافظ الشعر إذن على الذاكرة الجماعية للأحداث والأنساب القبلية. وحافظ على ملامح معرفة معيشة ومخزونة كما هو الحال بالنسبة إلى المعرفة المتعلقة بالبيئة.
إلا أن حرارة التكريم لا ينبغي لها أن تطمس رغبة إقامة الأهمية النسبية للأشياء. إن ابن قتيبة وهو يعدد هذه المعرفة يقيم حدودها الواضحة. إن المقارنة بالصرح الفكري القوي الذي بني منذ مجيء الإسلام لهي مقارنة تخنق الشعر وهو المعلمة الأدبية الجاهلية الوحيدة. ومن جهة أخرى فإننا نعرف أن النثر هو الذي أسندت إليه، من الآن فصاعدا، المهمات الثقافية الأساسية. لقد أبرزالجاحظ هذا التحول الذي يسند إلى مؤلف الرسائل وإلى الكتاب بشكل عام مهمة التفكير في المعرفة ونقلها. هذا دون أن نتحدث كما هو معلوم، عن المختصين في التخصصات الكبرى التي تجمع المعارف الجديدة في مختلف المؤلفات.
إن الشعر يندمج إذن في وظيفة، والمعرفة التي يحتويها ينبغي أن تندرج في مجالات علمية تسعف على اكتشافها. هذه العلاقة القائمة بين الوظيفة والمحتويات تحدد للشاعر جوهر كتابته. لقد أسندت إلى الشعر مهمات ينبغي لمحتوياته أن تساعد على القيام بها. وينبغي للشاعر نتيجة ذلك أن يتكيف مع هذا التحديد لوظيفته. إن العملية تجد هنا نهايتها، ونحن نستخلص من هذا التطور استنتاجا ذا أهمية قصوى، وهو أن الشاعر يخلد تقليدا ثقافيا ويؤمن دوام خطاب نقدي.
إن ابن طباطبا، وهذا سنعود إليه، سيعرض بتفصيل عملية الأسلوب الجيد التي تقود إلى سيطرة العالم على الإبداع الشعري. ويمكن أن نحلل هذه العملية إلى مرحلتين: فالشعر القديم المختار والمنقح بعناية يشكل النموذج “الكلاسيكي” حسب التصور الإستيطيقي الذي ينبغي أن نحدده. هذا النموذج موضوع للاستعمال وينبغي للشعراء الأحياء أن يؤبدوه لكي يتمكن شعرهم من الاضطلاع بوظيفته في البناء الثقافي القائم. تقوم بين الخطاب النقدي والكتابة حركة تبادل تأثير جوهري. يهتم الخطاب المعياري بالإبداعية في نظرية الانعكاس التي تقرر في شأن الإستيطيقا الكلاسيكية. إن مشاكل “الحداثة” ستسوى كما سنرى ذلك، داخل هذا الإطار. في شعر العصور الوسيطة العربية يظل المصب مرتبطا بالضرورة بالمنبع وخاضعا لعملية تكرار وظيفة خالصة.
إقامة موضوع للتحليل : الشعر ممارسة لغوية
إن الشعر وهو مكرس لخدمة علماء اللغة الذي يقدم لهم الحجج يندمج في الوظيفة التي اضطلع بها الخطاب النقدي. فلأجل تحديد الشعر تحديدا جيدا، يبدأ هذا الخطاب بتعيين خصائصه، وبعبارة أخرى، بإقامة موضوع للتحليل. إن أول نص قام بهذا هو نص الجمحي في طبقاته. إنه يماثل الشعر بصناعة ما، وبممارسة تنصب على مادة ما. هذه الممارسة تشكل موضوعا لعلم. إن مقارنات الجمحي دالة: إنه يذكر بالتتابع الدر والياقوت والدينار، بل ويذكر العبد لتفسير كيف أنه لا تمكن معرفة جودة هذه الأشياء دون أن نعمد إلى معاينتها. هذه الدراسة تشغل معرفة، واستعمال معايير موضوعية تسمح بإصدارحكم دون التعرض للخطإ ويوضح الجمحي أن المسألة لا علاقة لها بالاستحسان، إذ أننا قد نعثر على درهم جميل يعتبره الصيرفي فاسدا، كذلك الأمر في الشعر؛ إن رجل الصناعة هو وحده الذي يستطيع أن يحكم على قيمته. كل شيء أصبح قائما في النسق الذي سيفرض نفسه :
– الشعر ممارسة لغوية، أي فعل لغوي إنساني. هذا التأكيد له أهمية عميقة. فما كان يعتبر في السابق غير قابل للوصف وسحريا في أقصى الحدود، وما كان يقدم بوصفه عملية مبهمة يقودها الإلهام، بل جن ما أليف، قد وضع في حدود معرفة محددة وممارسة خاضعة للدراسة النقدية. هذه الممارسة اللغوية القابلة للوصف تعود بالطبيعة إلى كفاءة اللغوي الذي تمثل اللغة معرفته الأساسية. كل عنصر خارق أصبح موضوع إقصاء : لقد صفى الرسول (ص) حساباته مع الشعراء.
– لا يعود تقويم الشعر إلى الذوق ولكنه يعود إلى معرفة. إنه لمن الممكن جدا الحكم على جودة إنتاج ما انطلاقا من معايير موضوعية. هذا المبدأ سيثبت كل تطور الخطاب النقدي اللاحق. لا ننس المعنى الدقيق لكلمة نقد : يتعلق الأمر بعملية فرز موجهة للتعرف على القطعة النقدية غير الزائفة. يفسر الجمحي مصطلح ناقد بهذا المعنى بالضبط وهو بصدد الدرهم والدينار. إننا سنرى كيف أن البحث عن “الموضوعية” سيصبح أساس كل خطاب نقدي.
– مادام العالم اللغوي هو وحده القادر بكل تقنيته على تمييز الشعر الجيد من الرديء فهو أهل لكي يمتثل الشعراء لتعاليمه.
الشعر إذن صناعة، لن يغادر هذا التأكيد مجال النقد. إن قدامة بن جعفر يذكره في مدخل كتابه نقد الشعر. وابن طباطبا بدوره يذكر بالتتابع، حينما يصف عمل تأليف قصيدة ما في عياره (ص.12)، النساج والنقاش وناظم الجواهر. وسيختار أبو هلال العسكري عنوانا لكتابه كتاب الصناعتين. وفيما عدا هذا فإن هذه العناوين هي في ذاتها دالة على هذا البحث عن الموضوعية، وتبين عن وضعية علمية تسم هذه الكتابات : قوانين الشعر، ونقد الشعر، وعيار الشعر.
هذه الإرادة لاعتبار الشعر نتاج ممارسة لغوية تسم المعجم النقدي ذاته. فإذا درسنا المعجم التقني الذي استعمله ابن طباطبا، مثلا، سنلاحظ فورا أنه يقترض بالخصوص معجمه من معجم البناء والنسج. ولنتذكر، بدءا، أن الشعر هو الكتابة الوحيدة المتضمنة تحديدا تنظيما ما. إن اللفظ المختار لوصف النثر لا يحدده بوصفه كتابة متميزة : فالنثر هو مجرد لا نظم. وحينما سينصب التفكير على الكتابة النثرية سيستعمل مصطلح كتابة أو سيتحدث عن الرسائل.
النظم يعني كتابة تقيم بين عناصرها علاقة تنظيم وطيدة. إن الفكرة الأساس هي فكرة نظام مفروض على اللغة. يحيل هذا الفعل بدقة على تأليف عقد من الدر. إن الصورة الملموسة لقصيدة ما هي بهذا صورة الدر المنتظم في خيط (نظام). هذه الصورة تطبق أيضا على القافية (ناظم) حيث يشكل التكرار سلسلة. ومادام الشعر كتابة منتظمة جدا ودالا على معنى (تحديد وضحه قدامة بن جعفر وإليه يعود كل الخطاب النقدي)، فإن المعجم التقني يحيل على متناظرة كبرى وهي التي تشكلت حول مفهوم الصناعة المطبق على الشعر واستخدم أساسا لإقامة الخطاب النقدي. وليس مدهشا بعد هذا إثبات أن هذا الخطاب قد اقترض مصطلحاته من معجم البناء خاصة ومن معجم النسج أحيانا. ففي تحليل ابن طباطبا لمراحل الكتابة الشعرية يستعمل بدقة متناهية مصطلحي التأسيس والبناء.
إن الفعل رَصَفَ يتضمن بشكل ملموس واقعة ترتيب الأحجارفي صف لإعلاء أسس بناء ما أو ترتيبه بشكل يكون أرضية مرصوفة. وهذه الفكرة هي إذن فكرة ترتيب منظم. إنها تطابق تماما سلاسل النظم : إن الأمر يتعلق بصفوف يؤمن ترتيبها الجيد متانة (رصافة) البناء. وهكذا فإن عناصر الكتابةالشعرية توفر، وهي مرتبة ترتيبا متينا، انطباع بناء ثابت لا يترك المكان لأي ضعف. وهذه هي نفس الفكرة المتضمنة في مصطلح نسج الذي يعني متانة العلاقات القائمة بين عناصره. إن الشعر الجيد هو الذي يؤمن فيه كل عنصر الوظيفة التي تسند إليه بالارتباط مع العناصر الأخرى. إن قيمته دائما نسبية، لأنه يدرك في محيط هو الذي يحسم. إن فكرة جميلة في ذاتها، مثلا، يمكن أن تعاني من عدم وجودها في مكانها ضمن الصيرورة العامة للقصيدة، ومن كونها تتجسد في كلمات سيئة الاختيار، ومن كونها مختلة بقافية أو وزن غير ملائمين. فعلى صورة نسج متقن أو غير متقن، فإن أي نقص في النسج يفضح المجموع. إن الفقرة التي خصصها ابن طباطبا في نهاية كتابه لتأليف الشعر تقصد إلى توضيح هذا التآلف وهذا الترابط للعناصر المضافرة لإنجاز نفس المشروع (7).
سلم القيمة عند ابن قتيبة
لقد قلنا إن ابن قتيبة لم يقدم على كتابة مؤلفه لكي ينجز عمل الأنتروبولوجي الهاوي للآداب الجميلة. إنه يقترح مختارات مفيدة لرجال يزاولون مهنا هم الكتاب. فهو يريد أن يعلمهم التمييز بين الشعر الجيد والشعر الرديء. يقدم، انطلاقا من التمييز الأساسي بين الدال أو اللفظ أي الكلمة وبين المدلول أو المعنى جدولا يمكن تمثيله كما يلي :
الحسن-الجودة
اللـــــــــفــــظ * *
المـــــــــعـــنى * *
ضرب الشعـر 1 2 3 4
درجات الجودة
هناك إذن نقد اللفظ والمعنى. إن جمال أو حسن اللفظ مفهوم سيتدقق شيئا فشيئا، وبالخصوص عند الجاحظ في كتابه البيان وعند العسكري في كتابه الصناعتين (ص. 73، 137) وعند ابن الأثير في المثل السائر. إن حسن اللفظ في معناه الأضيق يعني الخصائص الصوتية للفظ وللحروف التي تكونه. لقد حلل علماء الأصوات بشكل مسهب في كثير من الأحيان ظواهر الانفراج التي أدركتها قبل ذلك ممارسة التواصل الشفوي. وبصفة عامة فالمطلوب عدم عرقلة النطق بتجاورات صعبة. إن ما يصعب النطق به يعارض النطق المنساب والجاري والمتناغم، وهي كلها صفات توصف بكلمات من قبيل السلاسة والسهولة. هذه المسألة المتعلقة بالتلفظ ستمتد من الكلمة إلى البيت ثم إلى القصيدة. فالجاحظ يتحدث عن سلاسة النظم حتى >كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد< (البيان 1/67). وهذا مطلب التناغم التام وسلاسة لا يعوقها شيء. ينبغي للشعر، بمعناه المحصور، أن ينساب مع النبع. ولهذا فكل وعورة في النطق وكل تجاور غير منظم وكل توعر مفرط توضع في غير مواضيعها وتعرقل النطق الحسن. هنا يجد مفهوم الوحشي أصله وهو عبارة عن حال “الوحشي” الذي يشير إلى كلمة ذات أجراس خشنة جدا. وهذا المفهوم يتغير تبعا للتطور : فالتمدن يصبح قاعدة ويعين طرف الكلام الرشيق. إن أبا تمام، وهو البدوي المتشدد، سيجد نفسه دائما موضع لوم لأنه يخدش الآذان بأجراسه المتنافرة.
ينبغي أن نلاحظ أننا لا نجد عند ابن قتيبة أثرا لتأويل حسن اللفظ بوصفه يشير إلى جمال داخلي للفظة. يتعلق الأمر دوما بأقوال في مقام، أي بكلمات في استعمالها لهذه المعاني. انطلاقا من هنا نفهم جيدا أن اللفظ يعني مجموع الإمكانات اللغوية الصوتية والمعجمية والتركيبية. ويظل إسهام ابن قتيبة، في مجال نقد المعنى محصورا : إنه يكتفي بإصدار أحكام تندرج في سلم قيم يحددها طرفا الجودة والتأخر. وهذه الأحكام تحيل، مع ذلك، على نظرية للمعنى وهي النظرية التي ينبغي أن نعرضها.
ينصب التحليل أساسا على العلاقة القائمة بين الأداة اللفظية والمعنى. إن هناك عبارة تسترعي الانتباه وهي : >قصرت ألفاظه عنه<. المعنى يقصد به هنا ما يريد الشاعر قوله، المعنى الذي يقصد إليه. الكلمة -أو القول-عاجزة عن بلوغ الغاية المحددة بهذا الشكل. إن قصر فعل ينسب إلى معجم الرماية، إنه يعني عدم بلوغ الغاية، وعدم إصابة الهدف بسهم بالغ القصر. وبعبارة أخرى، فإن الكلمة تظل بمنأى عن المعنى المقصود، وفي وضع العجز عن بلوغه، وأبطأ من أن تلحقه. إن كلمة “قصير” هي الكلمةالتي لا تأتي على نهاية المسار المقصود نحو دلالة ما، أو إنها لا تستكمله استكمالا تاما. إن قصر اللفظ يشير، إذن، إلى قصور الحمولة الدلالية. إن عبارة >ألفاظ لا مبنية لمعنى< تعبر بالضبط عن فكرة عدم الملاءمة هذه للمعنى المثالي المقصود. لا يحيل بناء على أي تمييز للشكل والمحتوى وعلى فكرة لباس غير مناسب لجسد ما. يتعلق الأمر بنفس المادة التي تتشكل تشكلا ملائما إذا كانت عناصرها تقيم بينها علاقات تناسب مثالية. ويتأكد هنا أيضا أن الألفاظ لا تتعلق بمجرد معجم أي الوحدات المنعزلة للغة ما، ولكنها تتعلق بمجموع لغوي في وظيفة، أي موجه لكي يضطلع بوظيفة خاصة.
إن “التأخر” يعني أن الكلمة أو المحسن أو القول تظل “متخلفة” أي أنها لا تصيب الهدف. إنها إذن غير فعالة لقصور الحمولة الدلالية.
إن عبارة >لم تجد هناك فائدة في المعنى< تعبر عن نفس الفكرة في مظهر آخر. يستعمل ابن قتيبة هنا إجراءا معهودا عن اللغويين وهو إجراء تحويل قول شعري إلى نثر. يتعلق هذا الإجراء بتعويض الكلمات والحليات التركيبية والصور المتوفرة في البيت بمقابلات أقل صعوبة على الفهم. إلا أنها تكرر بالضبط معنى القول. وباختصار، فإن الأمر يتعلق بتحويل كتابة ما لغايات تفسيرية خالصة. وحينما يتجرد المعنى من المقوم اللغوي فإنه يظهر جليا ويكون في متناول التقويم. وهكذا يكتشف ابتذاله تحت لباس كتابة مشعرنة لغويا. وبعبارة أخرى، فإن الشاعر لم يستهدف معنى ينبغي إظهاره أمام العيان، إن قوله غير موضوع في نفس المسار المثالي الذي سنصفه لاحقا تحت تسمية الإصابة. وحينما يتجرد القول من الحمولة الدلالية الواقعية فإن قوله يصبح تكراريا ويصبح تبعا لذلك غير فعال.
يستخدم هذا الموقف النقدي ممارسة أساسية وهي مقارنة أقوال تقصد إلى نفس الدلالة. إن مقارنة بين بيت للأعشى وبيت لأبي نواس تبرز هذا الأمر بوضوح. إننا سنعود إلى هذا النمط من التحليل الذي سينتشر انتشارا واسعا وسيجد تمثيلا له في أعمال الآمدي والجرجاني.
يمكن إبداء ملاحظات هامة عديدة إثر دراسةالتصنيف الذي يقترحه ابن قتيبة : 1- الأولى تتعلق بهم إقامة سلم القيمة. يسمح هذا السلم بتمييز مواطن الجودة ومواطن الضعف في إنتاج يسمى الشعر وذلك دون تمييز أي واحد من أنواعه. يتعلق الأمر في الحقيقة بنموذج شامل لكل الكتابات الشعرية التي يقرر أنها تنتسب كلها إلى نفس ممارسة الكتابة. وهذه الممارسة ستتحدد في عرضه لنظرية القصيدة. ينبغي أن نلاحظ أن قدامة بن جعفر سيتبنى هذا السلم من القيم. فهو يستنتج، وهو يماثل بين الإنتاج الشعري والصناعة، أن الشعر، شأنه شأن أي منتوج صناعي، يمكنه أن يوفر منتوجا جيدا أو متوسطا أو ضعيفا. 2- يقيم ابن قتيبة سلمه على عنصرين أساسيين هما اللفظ والمعنى اللذان يميز سماتهما بدون أن يفصل أحدهما عن الآخر، إذ إن قيمةالشعر تخضع دائما، وفي نهايةالأمر، للقيمة الزائدة لكل هذين العنصرين. 3- يستخدم ابن قتيبة معجما تقنيا سبق إلى استخدامه اللغويون. إن ابن قتيبة وهو يظل غامضا (فهو لا يقدم أبدا سببا لأحكامه) وغير دقيق (فهو لا يتفرغ لنقد داخلي حقيقي)، يتلقى مصطلحات جاهزة سلفا. وهو يحيل ضمنيا في نفس الآن على النسق القائم مع الابتعاد قليلا عن القصد اللغوي الصرف.
إن الأهمية الكبرى لهذا النص تكمن في إحالته الضمنية على نظرية عامة للمعنى سنعرضها بعيدا بعض الشيء عما نحن فيه الآن، حينما نكون بصدد مفهوم الطبع. ونقول الآن إن المعنى يشير إلى الدلالة المقصودة. ومن هنا فإن المعنى ينظم مواجهة ثلاثية بين القول المتحقق فعلا وبين القول المثالي الذي يعتبر أنه يدل دلالة تامة على الشيء، وأخيرا بين الشيء نفسه الذي أقدم الشاعر على التعبير عنه. إن القول المثالي يمثل شكل معنى مجرد، تاما وإذن فريدا، وهو يستهلك دفعة واحدة الدلالة المقصودة. وإذا تمكن الشاعر من ترجمته إلى كلمات فإنه سيكون قد أنجز عملية محاكاتية : فقوله سيعوض الشيء، يصبح هو الشيء نفسه بشكل ما. وهذا ما تفسره جيدا العبارة المستعملة الشائعة : أشعر الناس. إنها لا تعني أن هذا الرجل هو الأوفر شعرية من بين كل الشعراء، ولكنها تعني أنه قد حقق لأجل التعبير عن هذا الحافز الموضوعاتي القول المثالي، أي أنه قد أصاب الغاية في صميمها. لا ينبغي البحث عن القيام بما هو أفضل مما فعله بشأن هذا الموضوع، إذ إن هذا الأمر مستحيل : أي أن قوله قد أفرغ في قالبه تماما، ولا يمكن أن نفعل أفضل مما يفعله الشيء ذاته، وأفضل مما لا يقوله الشيء نفسه. وفيما يتعلق بهذا الحافز فإن الممارسة الشعرية منغلقة . ومن هنا هذا التعداد للأقوال المناسبة التي يبرز نموذجيتها صناع المختارات الخالدون الذين هم لغويون.
وبهذه المناسبة، فإن معجم الرماية يجد بطبيعة الحال مكانته في الخطاب النقدي. ولنتذكر مصطلحات أصاب أي بلغ الهدف والغاية، وغالى وغلو أي تجاوزالسهم الهدف مارا فوقه وذلك برفع القوس عاليا جدا وتخطي الهدف، ومن هنا المبالغة، والاتجاه إلى ما وراء الدلالة المقصودة الخ، في حين أن قصر تعني، كما رأينا ذلك، سقوط سهم دون بلوغ الغاية.
التفكير حول شكل قصيدة :
النموذج النظري للقصيدة
ينصب تفكير اللغويين على وجه الخصوص على البيت. وهذا الموقف سيثبت أساس علاقة النقد بالشعر. تبين بوضوح كل الآثار التي وصلتنا أن التحليل ينكب على عدد محصور من الأبيات مقدمة إلينا بوصفها تحققات جيدة ونماذج مقنعة. وقد كان الأثر الأدبي للشاعر ينظر إليه بهذه الصورة المذررة. لا يتعلق الأمر هنا بالاستحالة المادية فقط حيث يوجد الناقد بلجوئه إلى استشهادات عديدة. يتعلق الأمر باختيار نظري : فاللغوي وبعده الناقد يبحثان عن نموذجية ويسعيان إلى البحث عن أقوال تبلغ درجة من الإتقان بحيث تقدم بوصفها إنجازات نهائية. إنهما يقدمان بهذا حجة على الفعالية القصوى للكتابة الشعرية، وسنعود إلى هذه النقطة خلال دراستنا لمفهوم عمود الشعر الذي عرضه المرزوقي.
إلا أنه ينبغي أن نشير، موازاة مع ذلك، إلى بداية التفكير في الشكل – القصيدة، وهو التفكير الذي بدأه ابن قتيبة بصدد النموذج النظري للقصيدة. فانطلاقا منه، سيطور عديد من المؤلفين هذا الموضوع المشكل الذي تمثله القصيدة.
إن نص ابن قتيبة الذي نحلله في كتابنا يطرح مباشرة مشاكل تأويل مريبة. وإذا لم يكن المؤلف يعاني من الجهل فإنه ينبغي أن نبحث عن الأسباب التي دفعته إلى أن يدخل في مقدمته تأكيدا لأديب مجهول، يزكيه بسلطته الخاصة.
لا يمكن لابن قتيبة أن يكون جاهلا لأن هذا النموذج للقصيدة لا يستوعب جزءا هاما من الإنتاج الشعري المتقدم. فالنسيب لا يستنفد لا الشكوى المتلهفة للمجنون، ولا البحث الملاطف لعمر بن أبي ربيعة ولا الروحانية الرقيقة لعباس بن الأحنف. والحقيقة أن شعر الغزل قد بدأ يتشكل في غرض مستقل منذ الجاهلية. وقد تابع هذا الشعر طريقته الخاصة دون أن يفرض قواعد قد تثبت معمارية القصيدة. وليس النسيب إلا واحدة من الممارسات التي تشكل هذا الغرض.
ويمكن للرحيل أن يربط من جهته بتراث قديم للشعر الوصفي. هناك قصائد بأتمها أو أجزاء طويلة مندرجة في تأليفات متعددة الأغراض مخصصة لوصف المحيط الطبيعي. وشكل شعر الحيوانات خاصة موضوع أقسام مشهورة جدا في الشجاعة.
وأخيرا فإن المديح ينتمي إلى الإنتاج المسمى فخرا وهو يشكل أيضا جزءا متمما للممارسة الشعرية. إن حدود المديح غير واضحة. فهو، شأنه شأن الهجاء، يشمل الإطراء الشخصي كما يشمل تعداد فضائل الجماعة. وهو خطاب جماهيري تحديدا يراعي العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو يحتوي ملامح ذاكرة تاريخية أحيانا وأسطورية أحيانا أخرى. إن المديح يطرح كممارسة أساسية للكتابة الشعرية.
إلا أنه لا يمكن للرحيل ولا للمديح كما تم تحديدهما مثلما لايمكن للنسيب أيضا أن تحدد حقل هذه الممارسة وأن تغلقها. وتسمح دراسة الإنتاج الأدبي، حتى ولو كانت هذه الدراسة سطحية،بإبداء ملاحظتين هما :
– إن ابن قتيبة يغفل أجناسا متشكلة تشكلا قويا مثل الخمريات والزهديات.
– إن الإنتاج المتقدم، بما في ذلك ما وثق من شعر الجاهلية، لا يثبت بأي حال من الأحوال هيمنة القصيدة الثلاثية الأجزاء أوالرباعية.
فماهو الشيء الذي ينطبق عليه هذا النموذج النظري الذي يبدو في نظر ابن قتيبة أمرا ثابتا بحيث يخصص له عرضا مطولا في مدخله؟
إننا نتبين خلال الدراسة أن القصيدة إذا لم تكن تشتمل على كل الأجناس فإنها تستخدم كل السجلات :
أ) إن الغنائية يعبر عنها في النسيب وتسمح للفرد بنقل حالات النفس.
ب) الرحيل يتيح له فرصة التموضع في العالم وفي محيطه الطبيعي. إنه ينقل هنا تجربة ومعرفة نعترف بمزاياها.
ج) المديح يتكفل بما هو اجتماعي ويثبت قواعد الخطاب الجماعي.
إن القصيدة، وهي غنائية ووصفية واجتماعية، تتوسل باللغة العاطفية والتقنية وبلغةالتواصل الإجتماعي. إنها بهذا تحتوي على الأنماط الثلاثة للكتابة التي تم رصدها بالفعل في الممارسة المتقدمة، إلا أنها تتحكم، في الآن ذاته، تحكما دقيقا في عرضها ويتم هذا بطريقتين :
1- التحكم في المحتويات
وهذا التحكم يطال أساسا المدخل البكائي للنسيب. وتتوفر الغنائية بالتحديد على الكتابات الأكثر تخيلية (أي تصويرية). إن التعبير عن الرغبة، بالمعنى الواسع للكلمة، هو الموضع الجوهري للإبداعية. إن ابن قتيبة يعترف صراحة بهذا وهو يؤكد أن الحب تتقاسمه كل الكائنات الإنسانية. وليس أقل صحة أن النسيب المختزل إلى كونه مجرد مدخل والمطالب بالبقاء داخل حدوده، لن يوفر أبدا الفرصة للشعراء لسبر أغوار هذا الغرض. إن أبا نواس وأبا تمام قد احتجا ضد هذا الحصر وإن كان الثاني يقبل ذلك مشككا.
وهذا لأن شعر الحب قد خضع للرقابة. إن أمثلة عمر وبشار وأبي نواس تشير هنا إلى أن الشوق حينما يُترك أمر التعبير عنه حرا يؤدي إلى تجاوزات جديرة بالزجر. إن الجمحي يحرص على الكشف عن أثر ذلك في أشعار امرئ القيس.
إلا أن النسيب مندرج في بناء ذي أجزاء متوازنة توازنا ينبغي احترامه. وهذا البناء كله يتحكم فيه المديح الذي يشكل الجزء الأساسي منه. فالغنائية تقاس بالاجتماعي وينبغي لها أن تحترم القيود الأخلاقية على وجه الخصوص. إن مقتضيات الخطاب الجماهيري تثبت بعناية ما يمكن أن يسمح للشاعر الغنائي الخوض فيه. ومن هذا القبيل فإن دوافع الفرد تخضع لسنن الجماعة. إن المحتويات الموضوعة تحت الرقابة تدرج القصيدة في مشروع ثقافي يشهد على انتصارالشرعية الجماعية.
2- مراقبة اللغة
لقد أشرنا في عدة مناسبات إلى أن الشعر المتكون من مدونة مرجعية، والمرتبطة ارتباطا وثيقا بالتفكير النظري للنحاة والمستعملة على نطاق واسع من لدن علماء المعاجم، يمثل إذن حالة لغة وصفت بكونها كلاسيكية. لقد أقيمت بهذا علاقة متينة بين نموذج من اللغة وبين كتابة ما. إن إحدى الصفات الأساسية المنسوبة إلى الشاعر هي الإعادة الجيدة لهذا النموذج. إن الفحل هو بالتحديد الشاعر الذي يبرهن على تملكه له. لم يفلت أكبر الشعراء، من الفرزدق إلى أبي نواس، من الانتقادات الجريحة الموجهة لبعض أبياتهم. ينبغي التذكير بأن الشعراء يضعون أشعارهم تحت تصرف اللغويين. لم ينقص مروان بن أبي حفصة (ق 2) إلا هذا التمكن التام لكي ينصب شاعرا كبيرا.
ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ مناسبة هذه اللغة الفصحى المودعة في خزانة الثقافة لغرض المديح والقصيدة الطويلة المناسباتية. هنا يمكن للشاعر أن يعرض معرفته اللغوية وأن يستعمل كل الأدوات التي يتوفر عليها. بهذه المناسبة يستجيب نتيجة لذلك، استجابة دقيقة لتوقع اللغويين. وعلى العكس من ذلك فإن شعرالغزل يخفف من عتاد اللغة ويختزل بصورة كبيرة ثراءها المعجمي ويعتمد تركيبا شفافا بل مبتذلا. إن زهديات أبي العتاهية ستصل إلى حد الامتزاج مع العبارة الشعبية. وتسفر الخمريات على لاأخلاقية غير جديرة بمعبد النحاة. القصيدة تجعل النفس الشعري في خدمة لغة المناسبات وتربط في الآن نفسه هذه اللغة ربطا وثيقا مع الأغراض التي تسمح لها بالانكشاف.
إننا نفهم توا لماذا منع الشعراء من الانطلاق من الأغراض الجاهزة. فحينما تستكشف حقول جديدة يضطر الشاعر إلى التجديد في المعجم وفي بلاغة الصور. وكانت كل المواد الوفيرة التي أعدتها أجيال الشعراء عرضة للإهمال. وإن هجرة المعجم قد تغدو مصحوبة بالضرورة بهجرة الصور المسجلة في أعماق الوعي الثقافي. فعلى هذا الثبات تقوم الكلاسيكية التي تعمل على التحكم في علاقة الكلمة والمعنى. إن المتخيل قد ظل ملجما باللغة التي يتحرك فيها. لم يكن اللغوي قادرا على تثبيت استعمال اللغة إذا لم يضع حدودا للمجالات التي يمكن أن يستعمل فيها.
وبهذا نفهم ما يقصده ابن قتيبة بإنصاف “المحدثين”. إنه يريد بوصفه مربيا قبل كل شيء أن يستخدم الشعر لتكوين الكتاب. وبهذا فلا يهمه كثيرا العصر الذي كتب فيه هذا الشعر المعتمد للتكوين، الأساسي بالنسبة إليه هو اتخاذه مادة للتكوين. إن “المحدثين” لم يكونوا إذن موضع إقصاء فقد كانوا مدعوين فقط للخضوع لقواعد الممارسة الشعرية.
ومع ذلك فإن التحديد للقصيدة المتعددة الأغراض سيجند الإبداع والتفكير معا لسلوك طريق جديدة. ينبغي في الحقيقة تسجيل واقعة موضوعية كشفت عنها الدراسة الإحصائية وهي أنه ابتداءا من القرن الثالث، ظهر أن أغلب الشعراء وبالخصوص في آثار أبي تمام، يمتثلون لمتطلبات قصيدة المديح. فلنذكر مختصرين أن كل قصيدة تتجاوز عشرة أبيات هي، عند أبي تمام والبحتري وابن الرومي، مدحية بنسب تتراوح بين 70% و 100%. يتعلق الأمر هنا بنزوع ظهر بدءا من القرن الأول إلا أنه لم يعد مهيمنا إلا في القرن الثالث.
هناك إذن علاقة وطيدة بين تحديد نموذج القصيدة الذي يقترحه ابن قتيبة والإنتاج. لا ينبغي التصور أن ابن قتيبة قد أبدع من لا شيء هذا النموذج، كما لا ينبغي التصور أن الشعراء قد استجابوا للتوجيهات الأساسية للنقد. يبدو بالأحرى أن نص ابن قتيبة يسنن ممارسة معاصرة ويصادق على تطور ما. وبعبارة أخرى، إنه ينسب إلى نزوع معين هيمنة الكلاسيكية. إنه لا يعبر بهذا عن حكم شخصي. إنه يدعم اختيارا تمليه في نفس الآن ضرورات ممارسة سوسيوثقافية وضغط علوم اللغة على الكتابة الشعرية. وهذا التأثير المزدوج هو الذي سيحدد فضاء القصيدة ونسيجها. وانطلاقا من هذا التلاقي سيتطور التفكير حول الكتابة. هذا التفكير يعرض على محورين متوازيين. إنه ينصب من جهة على إنتاج القصيدة وينصب من جهة أخرى على السجلات الغرضية.
ابن طباطبا وإبداع القصيدة
لقد شرحنا في كتابنا هذا النصوص التي يكرسها ابن طباطبا لما يمكن تسميته بناء قصيدة. إن هناك استنتاجا جليا يفرض نفسه وهو أن ضرورة التماسك الغرضي والانسجام الداخلي للكتابة قد أصبح قاعدة مطلقة. هذه الضرورة المزدوجه تنصب على مستويين منسجمين للكتابة هما البناء العام للقصيدة والتدرج الذي يؤمن حركتها. وهذا يؤكد بالتمام ما قلناه عن استراتيجية المعنى بصدد سلم القيم عند ابن قتيبة. إن الشاعر يقصد إلى دلالة ما وهذه تتأسس في برنامج. والشاعر يوظف كل وسائل اللغة واللغة الشعرية لإنجاز هذا البرنامج. إن التماسك الغرضي وانسجام الكتابة يستخدمان لتحقيق مشروع. إن تطويع المقول لإرادة القول يصبح محور الإبداع. وهكذا ستستخدم كل مفاهيم الاتصال والالتحام والالتئام… كأساس لتقويم الآثار الشعرية. وبهذا تتأسس معايير التقويم النقدي.
لا ينصب تفكير ابن طباطبا، خلافا لقدامة، على القصيدة باعتبارها موضوعا نهائيا، وإنما ينصب على الصيرورة التي تؤدي إلى إنتاجها. ويتعلق الأمر بتحليل عملية الكتابة الذي سيبدأ بدراسة ما يسميه المؤلف بأدوات الشعر. يظهر منذ البداية هنا أن الشعر يعتبر بوصفه يثبت محتويات محددة بوضوح بفضل ممارسة سابقة. وينبغي أن نميز حينما نعدد هذه الأدوات الوسائل من الأدوات. فالأدوات تقصد إلى تملك آليات اللغة والإعراب وكذا تملك ما له صلة بمعرفة الأنساب. والوسائل تتعلق بما يسميه ابن طباطبا بتأسيس الشعر. وهذا المفهوم تم توضيحه بعيد هذا بصفحتين (ص. 12).
يتعلق الأمر بالنسبة إلى الشاعر باللجوء إلى اختيار أول للعناصر الأساسية التي ستتحكم في بناء القصيدة. وهذا الاختيار يتعلق بالنقط التالية :
– اللغة، وتتجسد بالمقابلة بين لغة من نمط بدوي وأخرى من نمط حضري مولد.
– المعجم،ويتجسد بالمقابلة بين لفظ سهل من جهة ولفظ غريب ووحشي ونافر صعب من جهة أخرى.
– مراتب القول… في فن بعد فن.
– وضع الكلام مواضعه ليؤثر في المتلقي.
– التصرف في المعاني بشكل ينبغي أن يفهم بها مجموع مقومات عرض المعنى. هذه المقومات يمكن أن تشير إلى الكيفيات العامة للخطاب والتقابلات (إطناب وتقصير وإطالة و إيجاز مثلا). يمكنها أن تتعلق بمختلف عناصر الكتابة وهي الألفاظ والمعاني والمباني والمقاطع، منظورا إليها مستقلة أو محللة باعتبار العلاقات التي تربط بينها.
إن التمكن من أدوات الشعر ووسائله يسمح للشاعر بأن يعمد إلى اختيارات أولى توجه الكتابة بطريقة حاسمة. يكون الشاعر بهذا أهلا لمعالجة جملة بناء الشعر (الجملة هنا بمعناها المحصور). والمعجم دال هنا : فالتأسيس يطابق الاختيارات الأساسية والبناء يطابق الصياغة في شكل ما، أي الإنتاج بمعناه المحصور. يخصص ابن طباطبا فقرة لضرورة تأمين تسلسل غرض متناغم اعتمادا على الصلات اللطيفة التي تضمن التخلص من سجل إلى آخر أو من غرض إلى آخر. وهذا يسمح لنا بتقديم قائمة مهمة للسجلات والأغراض أو الحوافز. فهي مهمة لأنها تخرج عن المحتويات التي سبق تثبيتها عند ابن قتيبة في القرن الثالث. فالنسيب لم يعد مذكورا مع وصف الديار إلا بشكل ضمني. إن الخطاب الاجتماعي والخطاب الوصفي يتقاسمان المجالات الغرضية في مجموعتين كبيرتين : فالوصف يستحوذ على البيئة والمديح يقيم تنويعاته أو متناقضاته على أساس أولية تشكل البناء الشعري.
في هذا الثلث الأول من القرن الرابع يتأكد أن التفكير النظري ينصب على وجه الخصوص على القصيدة المدحية، حول المدحية الظافرة، باعتبارها تمثل هي وحدها الكتابة الشعرية. ويبرهن ابن طباطبا على هذا في صفحات لاحقة حينما يقترح قائمة لحوافز المديح. وهويبدأ بتعداد محاسن الجسد وعيوبه ومحاسن الخلق وعيوبها (ص. 18-19). وهذه الصنافة التنميطية للفضائل والنقائص تجد في الممارسة الشعرية حدودها الثابتة. يقول: >استعملت العرب هذه الخلال وأضدادها وشعبت منها فنونا من القول وضروبا من الأمثال وصنوفا من التشبيهات< (ص. 13). إننا نقع هنا على تحديد المدح والهجاء. يفهم من هنا أيضا معنى لفظ فن الذي استعمله المؤلف مرات عديدة وبالخصوص في عرضه لأدوات الشعر. يقصد به، حين يطبق على معرفة، فروع هذه المعرفة، وحينما يطبق على شيء فإنه يعدد الأصناف، وحينما يطبق على الشعر فإنه يعني مجموع الأقوال المستخدمة للتعبير عن واحدة من المحاسن المسجلة في الصنافة التنميطية للفضائل والنقائص. فإذا تناولنا على سبيل المثال الفضيلة الأولى التي ذكرها ابن طباطبا، فإن السخاء يشكل الفن الذي يستقطب كل الحوافز المتضافرة فيه.
قدامة بن جعفر : استيطيقا عامة للشعر
ليس من قبيل الصدفة أن يسجل قدامة بن جعفر وهو معاصر ابن طباطبا هذه المعايير ضمن استيطيقا عامة للشعر يعتبر نفسه بحق فيما نرى، منظرها الأول. وهو في الحقيقة الأول الذي يطرح كموضوع للتحليل، انطلاقا من العمل الذي تم ابتداء من القرن الأول، >علم الجيد والردئ<. إنه يميز مستويات التحليل حسب التوزيع الآتي :
– المستوى النحوي
– المستوى الدلالي
يتعلق هذان المستويان بالنثر وبالشعر معا ولهذا لا يمكنهما أن يكونا كافيين لإقامة استيطيقا خاصة بالشعر.
– المستوى العروضي وهو يتعلق بالأوزان والقوافي، إلا أن التمكن منه لا يمكن بأي حال أن يؤمن اختيارا جيدا في الشعر، إذ إن الإنتاج الردئ قد يوافق موافقة تامة قواعد العروض. ومن جهة أخرى، يدقق قدامة أن الشعراء ليسوا في حاجة إلى معرفة العروض لكتابة أبيات جيدة.
وهكذا فلا يستطيع النحو ولا الدلالة ولا العروض وحدها تحديد الجميل في الشعر. إن خاصية القيمة الشعرية كامنة وراء قواعدها التي يعتبر تطبيقها، بطبيعة الحال، أمرا بديهيا. إن علم الذوق يحتوي كل هذه المعارف، إلا أنه يسند إلى محافل أخرى مهمة مناقشتها. إن استدلال قدامة واضح جدا حينما يطبق على النحو وعلى اللغة وعلى العروض، إلا أنه يتطلب شروحا فيما يتعلق بالمعاني. ففي نظره، المعاني هي للشعر، بمنزلة المادة الموضوعة. إننا نصادف هنا المقارنة مع الحرف التي حللناها سابقا. فالشاعر يستخدم إذن مادة مشتركة بين كل كلام. وهو يعطيها في هذه الحال الصورة الشعرية المخصوصة. الشعر يقدم لنا، وهو صورة المعنى وشكل خاص محمول بالدلالات، بوصفه كيفية خاصة للتدليل. في هذا الإطار يدرج قدامة إشكالية الزوج الصدق/ الكذب.
انطلاقا من هنا، فهولا يستدل على المعنى إلا بالإشارة الضمنية إلى القيمة المخصوصة لهذه الكلمة. إنه يميز في الحقيقة ستة معان وهي : المديح والهجاء والمراثي والتشبيه والوصف والنسيب. يمكن أن يبدو هذا التعداد مثيرا لأول وهلة. فإذا كانت أربعة مصطلحات من هذه الستة تشير إلى سجلات غرضية قارة (المديح والنسيب والهجاء والرثاء) فإن التشبيه والوصف يعودان فيما يبدو إلى قوائم أخرى. والحقيقة أن صنافة قدامة منطقية تماما وتبين أننا لا نخرج من القصيدة القديمة بذكر صريح للمقدمة الغزلية، والغرض الأساسي، أي المديح مع تنوعيه اللذين هما الرثاء والهجاء.
إن تحديد الوصف، فيما عدا أنه غامض يعني كل الشعر الوصفي الذي نعلم أنه يعرض، على وجه الخصوص، في الجزء الثاني من القصيدة تحت تسمية عامة هي الرحيل.إلا أن قدامة سيدقق أكثر هذا المعنى وسيستعمل بهذا الصدد الإحالة الوحيدة الموجودة في كتابه على مفهوم المحاكاة (ص. 62). يتعلق الأمر بكل شيء يقدم الشاعر على وصفه. إن قوائم الوصف عديدة في الأدب النقدي، وتقدم موازنة الآمدي أمثلة جيدة، كما يقدمها كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري والعمدة لابن رشيق. لا يشير الوصف إلى سجل غرضي خاص، ولكنه يشير إلى أي لجوء إلى الوصف المدرج في السجلات الكبرى المكونة لقصيدة ما. نتأكد بهذا أن موضوع الوصف ليس متعينا بالضرورة : شخصا أو حيوانا أو مكانا إلخ. ولكنه يشمل الأشياء المجردة : الإحساسات وأحوال النفس. ويتماثل في أقصى الحالات مع الذكر الذي يعني الإشارة إلى هذا الموضوع أو ذاك. ويظل مع ذلك مرتبطا بقوة بالشعر الوصفي بحصر المعنى. إن قدامة يدرج الوصف ضمن المعاني باعتباره طريقة عامة لوصف شيء ما، إذ إن هذه الطريقة منتجة لحوافز تتخذ لها موضعا في السجلات الكبرى. وبهذا فإن الوصف يراعى مرتين، إذ إنه، كما سبق أن ذكرنا، يمكن أن يشكل كلية هذا السجل.
فإذا كان الوصف يطلق على التناول الموضوعاتي لخطاب محاكاتي، فليس غريبا أن يذكر قدامة معه التشبيه. يتعلق الأمر بكفية تناول دلالي لنفس هذا الخطاب المحاكاتي. إن التشبيه هو الأداة العامة لإنتاج أقوال تسجل في عملية موصوفة سابقا بإظهار معاني الموصوف. إن الشعر هو هذه اللغة بالضبط التي تظهر ملامح الشيء الموصوف، والتي تخلق صورة في المعنى إذا صح القول. ومرة أخرى، فإننا نجد، بصدد الخطاب المحاكاتي الخالق لأشكال-معان، استراتيجية ممتدة كلية نحو إرادة القول. وهنا يحدد بدقة التمييز القائم بين الغرض والمعنى. فالغرض هو الحافز المضبوط أو الموضوع الذي يسجل في المعنى. يتعلق الأمر بالمعنى الذي يقصد إليه بالفعل قول محدد.
يبقى بعد هذا تحديد مجال التحليل. يقدم قدامة على ذلك باللجوء إلى علاقة الائتلاف التي ينبغي أن تربط العناصر المكونة للكتابة الشعرية وهي اللفظ والمعنى والوزن والقافية. وفي هذا الإطار سيعرض ما يسميه نعوت المعاني وسيتفرغ لوضع صنافة الأغراض ومحسنات الفكر ومحسنات الأسلوب.
إن مصطلحي المحدث والمولد يجعلان التفكير ينصب على إنتاج الشعراء الذين سنسميهم “اللاحقين”. إننا نبرر هذا بتحليل دلالة هاتين الكلمتين. وفي كل الأحوال ينبغي أن يبعد اختيار “حديث” الذي هو غامض، بل وخطير، و”معاصر” الذي لا يعني شيئا. ومهما كان الاختيار الحاصل فإن نفس السؤال يظل مطروحا : المحدث هو كذلك بالمقارنة مع من؟ ومعاصر لمن؟ ولاحق لمن؟ إن تحديد اللسان لا يقدم جوابا، إذ إنه طوطولوجي ويترك المشكل كله قائما : >المولدون من الشعراء إنما سموا بذلك لحدوثهم<. المولد محدث. وكما أن نصوصا متعددة تستعمل مصطلحا ثالثا وهو مصطلح متأخر، وذلك لتسمية نفس الأشخاص، فإنه ينبغي أن تفهم أسباب اختيار هذين المصطلحين، وذلك بالاستدلال انطلاقا من وقائع لغوية أو أدبية.
إن الحدث يشير بصفة عامة إلى كل ما هو جديد، متأخر؛ والمولد توصف به كلمة دخلت إلى مجال الاستعمال متأخرة : أي مصطلح مستحدث. ويشير أيضا إلى محسن، تشبيه على سبيل المثال، لم يسبق أن استعمل. وحينما تطبق على الشعراء، فإن هذه الصفة تظل عائمة. إنها تندرج في التراتب التعاقبي جاهلي مخضرم إسلامي، إلا أن ذلك يتم بطريقة تحتاج إلى ضبط.
إن المرحلتين الأوليين تنفلتان بالتأكيد من الحدث. والقرن الإسلامي الأول يبدو مؤطرا خارج مجاله وذلك أولا باعتباره يشمل المخضرمين، وباعتبار الكتابة والثقافة، على الخصوص، تظلان مرتبطتين ارتباطا وثيقا بالعصر الجاهلي. وبعد هذا فإننا ندخل في مجال متحرك. وينبغي التذكير بالمواقع التي يتخذها الخطاب العلمي لإقامة الشعر في مدونة مرجعية. وهذه المدونة هي، في آن واحد، معجمية ونحوية وموضوعاتية وثقافية. والعلماء يحسمون بشأن قيمة كتابة ما، ولو كانت منتمية إلى مجال القديم، بالنظر إليها بمعايير نظرية. إننا نتوفر على أمثلة عديدة لأحكام صدرت عن اللغويين ضد شعراء قدماء. يكفي هنا التذكير بهذه الفقرة من الوساطة التي تذكر أن تشدد اللغويين المتحيز حسب الجرجاني كان يدفعهم إلى عيب شعراء قدماء رغم شهرتهم. هكذا >زعم الأصمعي أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية<. صحيح أن قريحة هذا اللغوي الغاضب قد طالت كثيرا من القدماء، إنه يكفي لإدراك ذلك تصفح كتاب فحولة الشعراء. لقد استهدف نقد العلماء المولدين على وجه الخصوص مع ما في ذلك من سوء الظن، كما أبرز ذلك ابن قتيبة، وأكده بقوة الجرجاني في الوساطة (ص. 50). ولكن ما أهمية سوء لظن؟: إن الشواهد أكثر من أن تجعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بسلوك أفراد. إن شخصا من طراز الأصمعي مثلا لا يمكن أن يتحدث عن رأي شخصي إنه يمثل اتجاها مهيمنا لخطاب نقدي.
هذا الخطاب يذهب إلى حد تعيين حد فاصل للإنتاج الشعري المقبول في المدونة المرجعية، سواء تعلق الأمر بذي الرمة أو بغيره. هنا تكمن واقعة نقدية ذات أهمية قصوى. فالعلماء لا يحددون فقط قواعد الشعر بل إنهم يصدرون، بشكل ما، مراسيم تعيين نهاية المغامرة الشعرية. لقد أغلقت مرة واحدة وإلى الأبد مرحلة الإنتاج الشعري الجدير باعتباره نموذجا. انطلاقا من هذا يتضح جيدا معنى الحداثة : إنه يعبر عن الوعي بانزياح عن معيار ما. وهذا المعيار يتمثل في نموذج للكتابة ثابت غير متغير. وإن كل استعمال جديد، ومهما كان العصرالذي حصل فيه، يُقَوم بإحالة على نموذج يعتبر مثالي الإتقان. الحداثة تعني البعدية في علاقتها بحد فاصل، والشذوذ عن معيار والدونية عن نموذج. إنها دياكرونية ومطلقة : إنها تتربص بكل شاعر يصل بعد زمن الكمال والمعيار تحديدا، سواء تعلق الأمر ببشار أو بأبي نواس وبأبي تمام أم بالمتنبي. والتاريخ يشهد أن النزاعات تتضاعف بشكل مثير في القرن الثالث، وأن الشعراء يدلون بمواقفهم بهذا الشأن. إنهم يعبرون، بدءا من الفرزدق إلى أبي العتاهية وأبي نواس، عن قلقهم وهم يرون العالم نحويا أم لغويا أم عروضيا، يتحكم في الشعر ويتصرف فيه. ونحن نعرف أن الأمر لا يتعلق هنا بمجرد مشكل أدبي، ولكنه يتعلق باختيارثقافي. كل شيء يترتب هرميا وينسق ويتوحد في الثقافة التي تقوم، ولا شيء يقاوم مشروع كبار علماء الإبستمولوجيا الإسلامية. لقد استجاب الشعراء راغبين أم كارهين، للقيود التي أرستها ضرورات الخطاب العلمي وقيود ممارسة سوسيوثقافية.
لقد كان الواقع أشد تعقيدا مما يوهمنا به التحليل. إذ في النهاية، ما الوضع الذي يمكن إذن أن يكون للمولد أو المحدث، وهو لاحق حتما، لعصر الآباء المؤسسين، وموضوع مع ذلك، أمام تحدي محاكاة النموذج الذي أقامه هؤلاء الآباء؟ كيف عالج الخطاب النقدي التناقض الظاهر الذي يترك الكاتب متأرجحا بين الاحترام المطلق لمعيار ما والرغبة في تجاوز حدوده؟ لقد حلم اللغويون بكل تأكيد بعودة نهائية إلى صمت الشعر، الذي ربما سمح لهم، بكل اطمئنان، بالتنظير في سلام، انطلاقا من مدونة أصبحت ثابتة منذ الآن. إلا أن القصيدة ظلت تكتب، وقد كان ضروريا تعيين وضع هذا الذي يكتب فيها.
يشمل التعارض قديم – متأخر أو محدث عند ابن قتيبة تمييزا زمنيا وحسب. وهذا يفسره جيدا في مدخل كتابه. لا يقوم التحقيب الذي أقامه الجمحي، في الوقت الذي تقرر فيه، على أي معيار داخلي للكتابة. إن تاريخ الشعر يطوع للتقسيمات التي تراعى في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. نظرا لأن ظهور الإسلام اعتبر عامل قطيعة حاسمة، فقد تحكم في الشعر كما تحكم في أي إنتاج تاريخي. وهكذا قام التقسيم بين الجاهلي والمخضرم والإسلامي.
حينما أصبحت المدونة القديمة التي وضعها لغويو القرنين الأول والثاني مرجعية، وجب تأطير الإنتاج اللاحق في علاقته بهذا المجموع. لقد واجه ابن قتيبة موقف اللغويين الذي يعتبرالشعر المرجعي غير شامل للآثار المتأخرة. إننا سنحلل فيما يلي ما تعنيه رغبته هذه في الإنصاف. نكتفي هنا بالقول إنه يتخذ موقف الابتعاد عن التشدد اللغوي.
إنه يزعم، كما يقول، إحقاق الحق. وإن مختاراته تخصص مكانا للشعراء “المتأخرين” بل تشمل حتى المعاصرين. ولكن ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ثلاث ملاحظات يبديها بصددهم، وهي في الحقيقة ثلاثة ممنوعات يصرح بها أمامهم.
أ- الأول هو الاستنتاج الذي يخرج به في عرضه عن القصيدة : >وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام<.
ب- يتعلق الثاني باستعمال قياس الاشتقاق، المباح للقدماء، إلا أنه ممنوع على المتأخرين من الشعراء.
ج- الثالث من الممنوعات صرح به حينما خاض في دراسة مختصرة عن عيوب الشعر.
إن الشاعر، بهذا، مطالب باحترام قواعد انتظام القصيدة المطروحة كنموذج، والتي أصبحت شكلا – قصيدة تحتوي على تأليف الحوافز الغرضية وتتحكم فيها. يتعلق الأمر بقطعة أساسية في الجهاز الذي أقيم لمراقبة الإنتاج.
يتعلق الممنوعان الآتيان بالاشتقاق والصرف وعلم اللهجات. فالشاعر المحدث مطالب بعدم اللجوء إلى القياس لنحت كلمات توسع المعجم الذي يستخدمه. لا يسمح للشاعر بالتفكير في بدائل نظرية قد يستدل بها عالم نحو مثل سيبويه. ينبغي له في الأخير ألا يزكي بعض الاستعمالات التي تعود إلى نظام صوتي لهجي.
هناك إرادة مزدوجة يعبر عنها هنا : فمن جهة هناك إرادة المطالبة باحترام القواعد المقبولة في لغة فصحى موحدة يحظى اشتغالها بموافقة عامة؛ ومن جهة أخرى هناك إرادة التمييز بين التفكير النظري وبين التحقق الفعلي. ليس الشعر ميدانا للتجريب ولكنه ميدان المصادقة. ينبغي له أن يستخدم لتكوين الأدباء وينبغي له بالنتيجة أن يستعمل حالة قارة للغة. وبهذا فإن استعمال شكل بدلي شاذ يعتبر غير مقبول، إذ إن الشعر كتابة يترابط فيها القول الجيد مع القول الفاعل.
إننا نرى أن ليبيرالية ابن قتيبة نسبية جدا. إنه بعد أن حدد في خطوط عريضة معايير الكتابة الشعرية، يسلم بأن الشعراء “المتأخرين” يمكنهم أن يحاولوا كتابة الشعر والفوز في ذلك. فهو يدين إذن كل رفض مبدئي، إذ إنه يعتبره سوء الظن. إلا أنه لا يتصور أبدا إمكان خروج الشاعر عن الحدود المرسومة بهذا الشكل، فهو لا يترك له الاختيار: فلا خيار أمام المحدث إلا محاكاة القدماء. هكذا تقوم استطيقا التأبيد.
في هذا الإطار يوضع ابن طباطبا حينما يصف محنة الشعراء المولدين. إنه يحيل دوما على النموذج النظري للكتابة الذي تحدثنا عنه. فالشاعر المولد يعاني من صعوبات أكثر لأن من كان قبله قد استنفدوا كل مقومات المعنى واللفظ والحيلة. لهذا فالشاعر ينبغي له أن يبرهن، على وجه الخصوص، على تمكنه، لكن مع الاحترام الصارم لقواعد ما يسميه المؤلف شعر العرب دون مزيد من التدقيق، الشيء الذي يدل على أنه كان يعرف جيدا ما ينبغي أن يفهم من ذلك. وهو سيتجه إلى اقتراح اختيار للأمثلة النمطية مبينا الشعر الجيد من الرديء. وهذا الاختيار يوفر للشاعر كي يتشبع به الفكر ولكي يختزن في ذاكرته. وهو يستطيع أن يقوي استعداداته الطبيعية والتمكن من لغة الشعراء والتكون بالممارسة (ص. 15-16).
هكذا نصادف وعي الكتابة متشكلا، وهو نوع من الطبع الثاني الذي يسمح بالتعبير حسب قواعد تم تعيينها. إن محاكاة القدماء تظل الوسيلة الوحيدة للمولد لكي يتهيأ بشكل جيد للكتابة الشعرية. هذه الضرورة في التكون في الشعر بالتشبع بإنتاج القدماء ستصبح واحدا من الثوابت في الخطاب النقدي. إنها توجد في قلب نظرية الأساليب لابن خلدون(8). فالشاعر ينبغي أن يسجل في أعماق فكره الخطاطات الغرضية المجردة التي يتكفل بتحقيقها لاحقا لغويا. إنه يصبح سبيكة تختلط فيها تجارب سابقة تزوده بالعناصر الضرورية لإنتاجه. في حدود هذه التجارب يسمح له ببعض الاختيارات التي تطال المعجم أو التماسك الموضوعاتي للقصيدة الذي أصبح معتادا التشديد على ضرورته في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع.
ليس غريبا أن يحلل هذا المؤلف إنتاج الشعراء المولدين في إطار السرقة. ذلك أن الخطاب النقدي لم يتمكن في أية لحظة من تصور تفسخ الرابط العضوي الذي يربط بقوة كل إنتاج هذا العصر أو ذاك بسوابق شعرية، متشكلة في مدونة مرجعية. وهنا يتحدث عن هذه المحنة التي يعاني منها المولدون. إنه يذكر أن القدماء كانوا يقيمون أشعارهم على علاقة وطيدة بالواقع (الصدق ص.15). وبعبارة أخرى فإن الآباء المؤسسين قد أقاموا الكتابة-الانعكاس التي تعود قيمتها أساسا إلى قدرتها المحاكية. إنهم، دوما، اولئك الذين يعبر كلامهم عن الواقعي تعبيرا تاما. وهذا تناسب يشد الكلمة إلى موضوعها في شفافية تامة. إن أفضل عبارة هي تلك التي تناسب جيدا موضوعها في شفافية دلالية تامة.
هنا يكشف عن محتوى كلمة محنة. إن ترابط الكتابة الشعرية ومواضيعها قد سبق تحققه. وأن واجب الإخلاص للواقع، أي الصدق المسجل في أجناس محددة بقوة قد استجيب له. والنموذج النظري للكتابة يحيل على مدونة موجودة. وباختصار فقد قيل كل شيء والشاعر المولد يتحمل المحنة الرهيبة لممارسة التمجيد الذي ينبغي أن يخضع لها دون أن يسعى إلى تغيير أي شيء فيها. يثبت ابن طباطبا الهامش الضيق الذي يتركه لحريته : لم يعد مطالبا بالصدق، إذ أننا لا ننتظر منه أن يعيد قول واقعة واضحة جدا في الإنتاج المتقدم. إنه لا يستطيع أن يجدد الحقيقة وهو مثبت على أسس غرضية دقيقة (ص.15) وعلى العكس من ذلك يطلب منه أن يبرهن على مجموعة من الملكات المحددة في القائمة الآتية للصفات :
لطيف أشعار؛ بديع معان؛ بليغ ألفاظ
مضحك نوادر؛ أنيق وشي القول.
هذه صفات شعر لطيف، متنوع تنوعا دقيقا ومؤثر وهزلي وظريف أخيرا. الشعراء مطالبون إذن بنفس الممارسة إلا أنه يسمح لهم بالإقدام على ذلك بذكاء في التنويع والدقة في التلوين والأناقة في العبارة والفكر في الحجة. ينبغي لهم في النهاية أن يمتعوا في الإطار الذي رسم لهم.
ومن هنا أهمية مفهوم السرقة الذي سيكون من الخطإ اختزالها إلى مجرد سطو أو نسخ. إن شاعر التوليد الموضوع في الشروط التي أتينا على وصفها، مدعو إلى المحاكاة والحذر الدقيق من الاقتراضات المبالغ فيها في نفس الآن. وهكذا فإن دراسة السرقات هي بعيدة عن أن تختزل إلى بحث ما في الأبوة. ولنذكر بمثال من بين أمثلة أخرى .فعلى 479 صفحة يشتمل عليها كتاب وساطة الجرجاني في طبعته الأخيرة نجد ما يقارب النصف مخصصا للسرقة، وذلك في فصل يمتد من ص. 216 إلى ص. 411 حيث لم يدرس إلا المتنبي. هناك فقرة مثيرة (ص. 183) تلفت النظر إلى التعقيد البالغ للسرقة حيث يتقدم تحليلها بوصفه دلالة حقيقية للشعر. هناك ينبغي التوجه للبحث عن نقد للمعنى وقد تم ذلك بدقة وحذق. هناك تكشفت الحوافز وتقاربت الأغراض وأقيمت السجلات وقوبل المنظوم مع كل الإنتاج المتقدم وأبرزت إنجازاته، وكشفت هفواته، وبانت أخفى أصوله وألطف تشابهاته، إلى حد أن كثيرا من التقاربات تبدو لنا اليوم تعسفية لأننا فقدنا الذوق والعلم بهذا النمط من الممارسة. إننا نشاهد هنا، فيما يهمنا، إلى أي حد يظل شعر التوليد متجذرا في نصوص المؤسسين.
علي الجرجاني : إعادة تقويم الخطاب النقدي
لنتوقف عند كتاب الوساطة الذي هو بعيد جدا عن استنفاد غناه. إنه يسعى في منتصف القرن الرابع إلى توضيح عام. ينبغي أن نقرأ ونعيد صفحاته الثلاث الأولى. هناك نبرة وعمق مثيران.
يفتح الجرجاني ملف المتنبي، كما سيفتح بعد ذلك الآمدي ملفي أبي تمام والبحتري. ليس من قبيل الصدفة أن كان هذان الكتابان كتبهما رجلان ينتميان إلى نفس الجيل. يحتل شعر التوليد الأذهان ويرغم الخطاب النقدي على إبداء الرأي في إنتاجهم، وذلك بالإحالة دوما على شعر المؤسسين. لا شك أن الوضع الثقافي يدفع المحللين إلى إعادة تقويم الخطاب النقدي لا إلى الانقلاب. لا ينبغي أن ننسى أن المطالب المستعجلة لا يحس بها أبدا بنفس الطريقة. فمن وجهة نظر لغوية كان المعجم مرتبا والنحو قائما. لقد أصبح تفسير القرآن والحديث علمين مزودين بكل الأدوات الضرورية، وراكمت الكتابة التاريخية موادها وأنتجت كميات هامة. وباختصار فإن الشعر لم يعد موضوع رهانات أساسية تفرض إصدار قواعد آمرة. إننا نشهد إذن على نوع من إعادة تقويم الخطاب، حذر حقا، إلا أنه حساس.
ولنلاحظ بدءا، موقفا فكريا. إن الجرجاني وهو قاض سام، شأنه شأن ابن قتيبة، يستعمل مثله ألفاظ العدل والإنصاف. إنه يتبنى بدوره تهمة سوء الظن الموجهة إلى اللغويين الذين يكفون عن الإعجاب ببيت شعري بمجرد معرفتهم بأنه لشاعر معاصر (ص. 50). وهو إذ يميزالأزواج من التقابلات قديم – محدث، وعربي – مولد، فلا يفعل ذلك لنسبة التفوق لهذا الطرف أو ذلك، ولكنه يفعل ذلك لتوضيح أسباب تطور تنبغي مراعاته منذ البداية.
يبدأ الجرجاني بتصريج مبدئي ذكي متعلق بالقدماء. إنه يباشر دراسة الأغلاط التي يقترفها الشعراء. ينبغي أن نلاحظ هنا أن الاستيطيقا الوسيطة أداة أساسية للبحث عن الخطإ. وأول سؤال يوجه إلى الشعر ليس هو : بأي شيء يكون هذا شعريا وجميلا؟، ولكنه : بأي شيء يكون هذا خاطئا؟ إذ إن الانزياح في علاقته بالمعيار المقبول ينال بالضرورة من كل جمال ممكن. إن الجودة والحسن يصدران عن نص يند عن الطعن من أين أتيته. يميز الجرجاني بهذا أربعة مواطن للخطإ في البيت وهي الكلمة نفسها ومكان الكلمة في البناء الأسلوبي (ترتيب وتقسيم) والمعنى والإعراب.
إن الاتفاق بصدد هذه النقطة الأخيرة عام فلا يفلت أي شاعر من اللحن، كما يعترف الآمدي في موازنته (ص. 28) بما في ذلك المتقدمون. والجرجاني هو أوضح من ذلك حينما يؤكد أن احترام الآباء المؤسسين وحده منع من تسجيل الأخطاء في هذا الميدان، وهو يلقي نظرة نقدية على المدونة المرجعية، ويلاحظ أن النص المنصب كمعيار يحتوي في طياته كثيرا من الأخطاء ويقدم أمثلة على ذلك من أشعار امرئ القيس ولبيد وزهير والفرزدق وآخرين من الأساتذة بنفس الأهمية.
إن الخطأ المتعلق بالمعجم يشير إلى نقص في التمكن من المعنى ومن الإحالات الثقافية التي تشكل محيط الكلمة. ينبغي التوفر على معرفة واسعة لاستخراج الخطإ، أو الإقرار به والتصريح أن البيت يشكو من نقص بالنظر إليه في علاقته بشيء في الواقع. إن المعرفة تسهر على تناسب دقيق بين طرفين : فاللغة لا يمكنها أن تقدم إلا على تضعيف دقيق للمدلول. إن الدقة الأداتية واحترام السنن الثقافية هما الصفتان اللتان ينبغي للشاعر أن يتمكن منهما، إذ إنه لا يستطيع أن يقدم صورة عن واقع مدرك في لحظة عدم التميز، حيث المعجم الذي يغمره التعدد الدلالي وغير المنتظم يحيل على واقع غير متميز ويدرك بشكل عام وفضفاض، ويكون هذا الواقع بهذا مشوها ومغدورا. هذا المأخذ الذي يسجله الأصمعي على امرئ القيس حينما ينتقد معجمه في الخيل (الآمدي الموازنة، ص. 36-37) ويعدد الجرجاني بدوره (ص. 11-15) أخطاء من هذا النمط.
إلا أنه يبدو في هذا المجال أن الشعراء المتأخرين لم يعودوا يتوفرون على هذه الثقافة البدوية بشكل أساسي وهذه المعرفة اللتين تسمحان بالعثور على الذات من جديد في لوينات الإيحاءات المختارة. فلوصف فرس ما أو جمل أو نبات أوالسماء أوالأرض أو الرياح أوالكواكب أو الماء أوالأحجار الكريمة إلخ، ينبغي أن تكون لدنيا علاقة وجودية مع الواقع وهي العلاقة التي لم تكن عند المعاصرين. فمن الكلمة يمكن للخطإ أن يمتد إلى قول بأتمه وإلى الصور البلاغية وعلى الخصوص إلى التشبيه والاستعارة. هذا النقد للمعنى هو الذي ألح اللسانيون على دراسته. لقد انتهوا بهذا إلى تحديد ما يسمونه علم الشعر أي مجموع المعارف الضرورية للتعبير عن معيش مشعرن. ومن هذا الإلحاح على ضرورة تملك هذه المعارف اعتمادا على الرواية.
ويبين الجرجاني على امتداد هذه البرهنة أن القديم، شأنه شأن المولد، ليس بمنأى عن هذه الأخطاء التي يلتذ بتصيدها اللغويون. إلا أنه يبين في هذه الحالة هدفه الحقيقي وهو التميز عن اللغويين. إن هؤلاء لا يرون في الشعر إلا كونه مجرد مستودع حجج لغوية، وقائمة من النماذج المطلوبة لأنها تشكل قولا نموذجيا أو تثبت في الذاكرة قاعدة نحوية، أقل مما يعتبرونها شعرا. إلا أن الجرجاني يقوم بإدخال إعادة تقويم لصفاء المدونة المرجعية ولدور عالم النحو. إنه يعبر عن قلق معين، وهو قلق عالم الشعر إزاء الحكم الصادر عن وجهة نظر النحوي أو اللغوي وحسب. إلا أنه يتجاوز هذا حينما يربط تطور الشعر بحالة المجتمع وحينما ينتقد التحقيب الزمني للإنتاج الشعري. وهذه المراعاة للبعد الأدبي في التحليل هي واقعة أساسية : >ولذلك تجد شعر عدي وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما آهلان لملازمة عدي الحاضرة وإيطانه الريف< (ص. 18). لا يعود اختلاف الكتابات إذن، في رأيه، إلى واقعة زمنية ولكنه يعود إلى هذا النمط من الحضارة أو ذاك. فالبداوة تفرض لغة خشنة تعكس عادات البدوي، في حين أن التحضر يتصف بكتابة رقيقة ودقيقة موصوفة بشكل جيد بلفظ رقة. إن الاعتراف بأن عدي بن زيد، شأنه شأن شعراء الغزل الكبار، يمثل هذا النمط من الكتابة يعني شيئين وهما ضرورة الكف عن مراعاة التحقيب الإيديولوجي الصرف لشعر يقطع حسب انتشار الإسلام؛ وعن اعتبار شعر القصيدة بوصفها الكتابة المرجعية الوحيدة وضرورة المراعاة في التحليل لكل جوانب الإنتاج التي أقصاها عن قصد اللغويون بحثا عن نموذج لغوي.
تشمل الرقة مجموعة من الملامح المحددة لشعر الرقة واللطف والخفة -وهنا نلاحظ إيحاء قدحيا خفيفا- الذي يتعارض مع ما تمكن تسميته شعرا جزلا بمعنى العظمة والقوة والأبهة .يخصص الجرجاني صفحتين (18-19) هامتين لتحديد هذه الكتابة وبتدقيق أكثر لوصف اللغة التي يتوسل بها. إن انتشار الإسلام أدى إلى تطور الحاضرة وأدى نتيجة ذلك إلى تطور التأدب والتظرف. لقد اختار مستعملو اللغة أسهل ما توفره وأسلسه وأشده تناغما. فمن بين مترادفات عديدة ينصب الاختيار على ما هو أسهل في النطق وفي السماع. ومن الاستعمالات اللغوية المختلفة عند العرب يتم اختيار أسلسها.
ولم يكن هذا الميل نحو السهولة والخفة سائرا بغير عوائق. لقد أدى إلى اللحن والركاكة والعجمة. إلا أن الجرجاني يضيف : إذا استطاع الشاعر تجنب هذه القيود فإنه يبرز المحاسن الأساسية لكتابة التوليد ألا وهي اللين واللطف والرشاقة والصفاء والرونق. إننا نجد هنا، في آخر تحليل أكثر تفصيلا، الكلمات ذاتها التي استعملها ابن طباطبا لوصف الشعر المولد. إلا أن الجرجاني يعمق استنتاجاته ويؤكد أن شاعرا محدثا لا يمكنه أن يكتب على المنوال القديم دون أن يكون متكلفا. فالتصنع والتكلف يعنيان الاستعمال المصنوع للوسائل اللغوية المهملة. ليس صدفة أن ينكب المؤلف على حالة أبي تمام، وهو يكرس بعيد هذا صفحتين أساسيتين (24-25) ليبين ضرورة إقامة خطاب أدق حول الشعر وتعذر تصور كتابة وحيدة، قد تفرض على كل السجلات، وثابتة لا تتغير من شاعر إلى آخر.
الآمدي أو أدب الموازنات
هناك حدث عيني يبين أن الأشياء هي أعقد مما يظهره لنا تطور الخطاب النقدي إلى بداية القرن الرابع. لقد سلم الجمحي في الطبقات بمبدإ إجماع العلماء بوصفه أمرا قارا. وقد نقل بموجب هذا التأكيد إلى النقد الشعري الحل الذي تبناه الفقه. لقد بذل مجهود ابتداءا من القرن الثالث لتحديد معايير موضوعية للحكم والتقويم. استطاع قدامة أن يقترح مجموعة من القواعد المكونة لعلم الجيد والرديء من الشعر. وهكذا كانت تحدد كتابة عمودية ونمط التحليل الذي ينبغي تطبيقه عليه في إطار التفضيل في نفس الآن. إن أي إنتاج شعري كان بدءا خاضعا للتقويم أي لاختبار الامتثال للعمود، ثم يقارن بعد ذلك مع إنتاجات أخرى. والمقارنة هي دوما ثلاثية، إذ تقوم بين أثرين ونموذج نظري.
ففي هذا القرن الرابع يطرح الآمدي دوما نفس السؤال : وهو أيهما أشعر؟ إنه إذن إطار التفضيل الذي يدرج فيه كتابه. وبطبيعة الحال فلا يمكن أن يتحقق هذا المشروع دون الإحالة على سلم القيم. وبنفس الطريقة التي تم بها التحديد “علميا” لمعايير تقويم موضوعي ينبغي تنظيم تطبيق هذا الحكم. ومن هنا نشهد تطورا مدهشا في هذا القرن لأدب الموازنات التي تعتبر الموازنة والوساطة صرحين ذائعين. يتعلق الأمر بوضع حد للاستجابات المستطلعة لعلماء القرنين الأول والثاني، وهي الاستجابات التي أنكرها ابن قتيبة، وأنكرها على وجه الخصوص الجرجاني. إن إنكارهم اللاذع لم ينتقد لأنه كذلك، فالحكم هو واحدة من الوظائف الأساسية للخطاب النقدي. بل انتقدت لأنها لا تحيل على هذه المعايير الموضوعية التي تم التسلح بها حينئذ، والتي تصون المشروع من أي سوء الظن. إن ادعاء الحكم يتم بكامل الحق. هذا الهوس نحو الموضوعية والإنصاف هو مكون ثابت في الثقافة العربية الإسلامية. إنها ضرورة العلوم الكبرى الدينية بطبيعة الحال. ولكن هل يجب أن نندهش من رؤيتها تستقر في الخطاب حول الشعر، في حين أن المنظرين الذين ندرسهم هم كلهم قضاة أو موظفون كبار؟ توظف الثقافة، في مرحلة الإسلام الوسيط نفس الأدوات في كل حقول المعرفة. هنا يكمن تماسك عميق لم يكشف عنه بما فيه الكفاية.
الأمر يتعلق إذن بهوس الموضوعية والإنصاف. وذلك ما يعبر عنه الآمدي بدوره وهو يلاحظ أن الاختلاف تام فيما يتعلق بالآراء في شعراء كل العصور (ص. 5). يمكن لقراءة سريعة لهذه الفقرة أن تجعلنا نعتقد أن الطموح إلى إقامة علم دقيق للشعر إمكانية لم تر التحقق. إلا أن تحليلا أدق لهذا النص يؤدي إلى تدقيق هذا الاستنتاج. ينبغي أن نشهد أن الكتابة لا تعتبر هنا مغامرة فردية، وأقل من ذلك فإنها لا تعتبر تجربة يعمد خلالها الشاعر إلى إعادة التحديد باستمرار وبشكل مستقل لمعاييره الخاصة. والحقيقة الأكيدة أن الحاصل هو نقيض ذلك، والتحليل المقارن هو وظيفة جوهرية للخطاب النقدي. وهذا يؤدي إلى نتيجة حاسمة على صعيد التاريخ الأدبي. فالإنتاج الشعري لا يعتبر تعاقبا لآثار مستقلة ومنغلقة على ذاتها، ولكنه يعتبر نصا متصلا لا يحقب تاريخيا إلا بشكل غامض.
فإذا باشر الآمدي المقابلة بين شعر البحتري وشعر أبي تمام فإنه يسعى إلى فرض منهاج للتحليل كما يسعى إلى فرض نمط للكتابة. المنهج يتعلق بمقابلة موجهة بين قصيدة وأخرى بنفس القافية والوزن والأغراض. وهو يقيم بهذا انتظاما للمقارنة ويقيم قاعدة عدم مقارنة إلا ما يقبل ذلك. انطلاقا من هنا يبسط وصفه المسهب للكتابة العمودية التي يمتثل لها البحتري وينوه بها الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعون والبلاغيون. وهذا التعداد هام جدا لأنه يعرفنا بالحاجات التي يستجيب لها الشعر العمودي :
– إنه يؤمن وظيفة تربوية بتوفيره مقررا دراسيا للكتاب.
– وهو يؤمن دوام نمط شعري محدد ثقافيا ومقيم لعلاقة مع البداوة.
– وهو يقترح نموذجا للكتابة “طبيعية”، وهو مفهوم يحيل على طرق قديمة جدا لإنتاج المعنى. وهكذا يؤمن دوام ممارسة ضامنة لتماسك نص شعري شامل.
– وهو يثبت بلاغة واستعمالا للمحسنات البلاغية المستجيبة للمعايير المقبولة عند البلاغيين.
إننا نفهم بهذا لماذا لا يرقى أبو تمام إلى إنجاز هذه الوظائف الأساسية المنسوبة إلى الشعر. لا يمكن بدءا، أن يدرج ضمن مقرر دراسي لتكوين اللغويين. وهذا المشروع التربوي لا يعني الكتاب وحدهم، رغم أن التصريح بهؤلاء الأخيرين يبرهن على أن هم تكوين محاسبي الدولة، وهو شيء سبق أن عبر عنه ابن قتيبة، ما يزال حيا. ينبغي التفكير إذن في مشروع تربوي لمجموع الثقافة العربية. والشعر يحتل موقعه بوصفه ممارسة لغوية نموذجية : فهو يفيض بأقوال قابلة للخزن في الذاكرة. إلا أن كتابة أبي تمام تؤكد طابعها غير النموذجي. بالإمكان أن نستعمل بصدده لفظ الشذوذ، بمعناه البصري حيث تتزحزح الصورة في علاقتها بالصورة الواقعية. إنها لا تعمد إلى التضعيف الذي يجعل من القول ملفوظا مطوعا تماما لموضوع فعل التلفظ. وهناك اختلال وتيه خارج السبيل الذي يؤدي إلى المعنى.
إلا أنه ينبغي أن يقدم إلى المتعلمين نماذج للتواصل المنطقي حيث اليقين – الشفافية يتحكم في علاقات اللغة والواقع. ومن جهة أخرى فإن البداوة تتشكل في موضع أسطوري حيث يختزن النموذج اللغوي. إنها تقوم بوصفها صرح الإحالة الكبرى. إن الأوائل أو القدماء هم الآباء المؤسسون الذين اعتبرت ممارستهم اللغوية نموذجا مثاليا. الأكيد كما هو معروف أن هذا النموذج قد روجع وصحح بعناية. هذا قليل الأهمية، ففي القرن الرابع لم تعد الشرعية موضع سؤال. والنتيجة هي أن أبا تمام، الذي لا يمتثل لمطالب هذه الكتابة العمودية، يكسر استمرارية ما ويتحدى الإجماع. ففي حين كان شعر البحتري مؤسسيا، إذا جاز القول، نجد شعر أبي تمام يندرج ضمن استيطيقا غير مناسبة، ينبغي استكناه واستسنباط المعنى الذي يعبر عنه. إذ إن هذا المعنى يند عن التوصيل، كما ينبغي، في القصيدة. إنه يظل فالتا فيها، مختفيا في ثنايا مقوماتها اللغوية. وهو ينكشف عن طريق مفاجآت متعاقبة. يمكن القول إن أبا تمام يوصل من الدلالات أكثر مما يوصل معنى واحدا. ومن هنا الأهمية التي يوليها له أهل المعاني أي الاختصاصيون في المعنى في ذاته وفي إنتاجه. في حين تعرض لنقد عنيف صادر عن البلاغيين الحريصين من جهته على القول الفعال.
هكذا تتأسس التقابلات القائمة بين الكتابتين: جمود/ قرب، تعقيد/ سهولة، تكلف/طبع، وهي تقابلات توزع جودة ورداءة الكتابة حسب إحالة ثابتة على نموذج معياري canonique
المرزوقي أو علم المختارات
إنه لمن الأهمية بمكان التأكيد أن الأمر يتعلق هنا بمرب وبمعلم الأمراء البويهيين. إن اهتماماته هي لهذا السبب من طبيعة تربوية وهي تتحكم بقوة في خطابه. إنه يكتب شروحا لكتب مخصصة للمعجم والنحو ويدرس لغة بعض آيات القرآن والحديث والأمثال، إلا أن عمله المفضل يظل هو تحليل وشرح المختارات ومن بينها المفضليات وحماسة أبي تمام. كل تفكيره مكرس لما تمكن تسميته علم المختارات. وهذه تعود إلى تقليد عتيق وتستجيب لإرادة اللغويين الذين أقاموها. إن عمل المختارات يعود إلى إعداد متن ما. يتعلق الأمر بتقديم اختيار يعتبر نموذجيا. إن النموذجية هي إسقاط مباشر للقاعدة، والنماذج تأتي لتوضيح قانون. والرابط الذي يشد نظرية ما لممارسة ما يبرز بشكل مباشر.
يقدم المرزوقي في مقدمة حماسة أبي تمام على التحقق من قيمة الشعر الذي تحتويه هذه المنتخبات. إنه يقدم على هذا انطلاقا من خطاب نقدي أقيم قبله وما كان له ما يضيفه إليه. إن مدخله هوفسيفساء من نصوص أخذها كلمة كلمة من سالفيه، وهي نصوص معروفة إلى حد لم ير معه ضرورة ذكر أصحابها، إذا استثنينا حالة واحدة. فلنبين ذلك : في الصفحة 3، نهاية الفقرة الأولى، يستشهد بابن قتيبة لتحديد أهمية الشعر عند العرب؛ وفي الصفحة 7 يستشهد بابن طباطبا وفي الصفحة 8 يستعير من قدامة بن جعفر تحديده للشعر، وفي الصفحة 10 السطر الأول يلخص الجاحظ (البيان 1/ 67.65 )، وفي الصفحة 11يحيل على مفهوم الإجماع العلمي الذي وضعه الجمحي، وفي نفس الصفحة يكرر بنفس الألفاظ عرض قدامة بن جعفر لسلم الجودة؛ ص.11-12، عرض حول النقاش الشهير : “أحسن الشعر أصدقه أو أكذبه”، وهو يحيل صراحة على التراث المديد لنقاش ذي مضمرات نظرية هامة؛ ص. 13 الفقرة الأولى المخصصة للمحدثين منسوخ من وساطة الجرجاني ص. 14-15، وعرض الصفات الضرورية للتقويم الجيد للانتولوجي -هيمنة المعرفة على الذوق- مستوحى من الجمحي.
إن سلوك المرزوقي مفهوم، إنه يصوغ عرضا ينبغي أن يوضح المكتسبات التي لم يعد يخاض فيها. ولن يكون ضروريا بعد ذلك مصدر أحكام عامة. إن المعجم التقني المستعمل يبين أنه في نهاية القرن الرابع، كان المصطلح تام الوضوح. هذا التركيب لمواقف الكلاسيكية مفيد في حد ذاته. إلا أنه ينبغي الاعتراف للمرزوقي، بالإضافة إلى الوضوح، بدقته المتناهية بشأن مشكلتين: مشكلة أبي تمام أولا، ومشكلة العلاقات بين النثر والشعر من جهة أخرى.
فلنذكر أن الأمر يتعلق بمدخل إلى اختيار كبير ألفه الشاعر حسب أذواقه وإعجابه. ومن جهة أخرى فهذا الاختيار لا ينفك عن إنتاجه الشعري ويطرح نفس المشاكل التي يطرحها شعره. إننا نعرف ردود الفعل القوية للغويين وخصوصا ابن الأعرابي، إزاء كتابة أبي تمام. يمكن القول إن هذه “المسألة” قد شغلت الخطاب النقدي مدة ما يقرب من قرنين وأنها قد أثارت مواجهات عنيفة وألهمت كتابا أساسيا مثل موازنة الآمدي. هذه حالة نموذجية لأثر يرغم النقد على التحليل. يسعى المرزوقي إلى إعادة إغلاق هذا الملف بإصدار حكم منصف وبدوره سيتجه جاهدا لتدقيق، ما أمكنه ذلك، مفهوم عمود الشعر بالإحالة على التحديد الذي سبق أن قدمه علي الجرجاني في الوساطة. فحول هذا المفهوم تدورالمعركة التي أرغمت المنظرين على تجاوز الأوصاف الغامضة للقرنين الثاني والثالث، لكي يصلوا إلى تنظير حقيقي للكتابة الشعرية.
تتعلق المشكلة الثانية التي طرحها المرزوقي بشكل جيد بعلاقات الشعر والنثر. ولقد كانت هذه العلاقات، إلى حدود القرن الثالث، مطروحة في صيغة التعارض بين نظم ولا نظم؛ بين كتابة مبنية هي الشعر وكتابة غير منتظمة هي لا شعر وحسب. هذا التعارض بدائي، اختزل إلى لا شيء بقرنين من التطور الحاسم. فمقابل الكتابة المقننة التي هي دوما الشعر، تشكل نثر ليس أقل منه اتصافا بالنظم. إن المرزوقي يؤكد هذا التطور في صيغة دالة (ص. 8)،إذ إنه يستعمل لفظ نظم نفسه بصدد النثر. إلا أنه يتخطى هذا ويؤكد أن التفوق ينبغي أن يتوجه إلى هذا الأخير. وما هو أكثر دلالة هو كون العرض المخصص لهذا التفوق يحتل كل الصفحات الأخيرة من هذا المدخل إلى هذه المختارات الشعرية.
يسجل جان بييرفرنان ملاحظة بصدد الثقافة الهيلينية وهي تنطبق على مجالنا: >لا تشكل الكتابة نثرا -مختصرات طبية وحكايات تاريخية ومرافعات الخطباء وإنشاءات الفلاسفة- طريقة أخرى للتعبير وحسب، بالعلاقة مع التراث الشفوي والكتابات الشعرية، ولكنها تشكل صورة تفكير جديد. إن انتظام الخطاب المكتوب يتصاحب مع تحليل أدق، وتنظيم أضبط للمادة المفهومية. (الأسطورة والمجتمع في اليونان القديمة، علل الأسطورة، 1981، ص. 197).
لقد سبق للجاحظ أن لاحظ هذا التغيرفي الثقافة العربية. في النثر تتدقق المفاهيم وتتضح المصطلحات. إن العقل ينتصر على العاطفة، والنثر يصوغ الأداة المنطقية التي يسخرها العقل. أليس هذا في عمقه نهاية لمعركة قديمة بين ما قد يكون لوغوس الفكر ولوغوس الصورة؟ وكيف لا نلاحظ أنه يسند إلى العقل مهمة تقويم الشعر، وبعبارة إخرى إنه يعيد إلى نظام الفكر ما هو من طبيعة صورية؟ ومن هنا تصدر طريقته التي هي نفي الخصوصية في المعنى عن الشعر، وذلك لكي لا نترك له إلا خصوصية الأشكال العروضية والإيقاعية المصوغتين في شكل الكلام لا غير. هكذا تنتهي بالانتصار أطروحة الجاحظ عن المعنى. لم يكن بإمكان المرزوقي أن يتجاوز هذا في التحليل؛ ويبدو أنه لم يقرأ الفارابي والمناطقة.
إلا أنه أكد قرارالجرجاني بالقيام بإعادة تحليل وضع الشاعر المحدث. لقد اتخذ قرارإدماج إنتاج المولدين في مدونة الشعر العربي، ولو أنه قليل الاحترام للقواعد الأساسية للكتابة العمودية. لم يعد ممكنا الاكتفاء بالمتعارضة قديم/حديث التي شدد القول بها في عصورالمهام المستعجلة حيث كان العلماء يسعون موفقين إلى البناء الثقافي للجماعة الإسلامية. كان ينبغي إذن مراعاة التطور السوسيوثقافي مع الكف عن المعاندة في التصريح بأن الشعر قد توقف مع ذي الرمة. الانزياحات التي كانت مقبولة هي الانزياحات التي تسمح بالمراقبة. ما أصبح يوضع موضع تعارض هوالحديث المندرج في خط الكتابة الكلاسيكية والحديث الذي يفرض بقوة قواعده وليس القديم والحديث.
هذا التعارض أجيد التعبير عنه بشكل خاص بالزوج المتقابل: الطبع والتكلف وهما المصطلحان اللذان نعين معناهما قبل أن نعود إليهما عبركتابنا. لقد عرفت كلمة مطبوع تطورا ينبغي التذكير به. فقد كانت تعني في البداية شاعرا متصفا بموهبة طبيعية وبجبلة. لقد انتهى مفهوم الموهبة هذا إلى استلزام الراحة العفوية. يشار بهذا أيضا إلى القدرة على الإنتاح السريع لقصيدة ما، أي إلى الارتجال. وبسرعة لم يعد هذا المعنى التبسيطي يجد مكانا في الخطاب النقدي. إن صفة المطبوع تفهم بالتعارض مع صفة المتكلف. الأولى لم تعد تعني شاعرا موهوبا وكفى؛ كما أن الثانية لا تصف شاعرا مرشح الجبين وبطيئا. إن الخاصيتين لا تصفان جبلة ولا سرعة البديهة في الاستجابة ولكنهما تصفان كتابة. إنهما لا تفهمان إلا في إطار تحليل المعنى.
إن الكتابة الكلاسيكية تبحث، كما قلنا، عن الملاءمة التامة للقول مع الشيء. لقد فقدت بسرعة علاقة الصدق التي تربط أحدهما إلى الآخر التلوين الأخلاقي المرتبط بمفهوم الحقيقة. وكما يشير بوضوح قدامة بن جعفر، فإن الصدق لا يصف إخلاص الشاعر ولكنه يصف فعالية قول يلائم جيدا المعنى المقصود. ومهما كان الموضوع، إحساسا أم موقفا أم شخصا إلخ، فإنه يشكل الهدف. إن أفضل قول هو الذي يقترب أكثر من واقعية هذا الشيء، والقول الصائب هوذلك الذي يقدم نسخا أمينا بشكل مطلق. ومن هنا الفضيلة النموذجية للصدق وللأبيات التي تستجيب له. الشعر يعيد الحياة للواقع، يمسك به في صيغ، ويسقطه على صور في الذهن.
إلا أن رؤية مثالية للغة تؤدي إلى استدلال بسيط : وهو أن الشيء الوحيد ينبغي أن تكون الصورة التي تعيد إنتاجه وحيدة أيضا. إن قولا واحدا يمكن أن يركب بدقة على هذا الشيء، وإصابة مركز الهدف بالضبط. إن مفهوم الإصابة في الوصف يحيط بهذه الرؤية. ينبغي لكل الوسائل أن تكون في خدمة البيت لكي يقطع هذه الطريق المرسومة بشكل مناسب، أي الطريقة الوحيدة التي تقوده إلى المعنى-الهدف. هذه العلاقة بالواقع اعتبرت طريقة أساسية للطبع لأن هذا الرابط بين القول والشيء اعتبر الرابط الطبيعي الوحيد، إن الخط المستقيم اعتبر الأسرع والأكثر اقتصادا لبلوغ المعنى.
إن الامر يتعلق باعتقاد يرى أن القول المناسب يتحدد باعتباره موضوعا لشيء ما بشكل طبيعي. وهذه الفلسفة لغة خلقها الواقع، حيث يجد كل شيء الكلمات والأقوال والصور التي تناسبه جوهريا. الشاعر المطبوع هو ذلك الذي يكتشف اللغة المثالية لكل شيء. ومن هنا فإن معجم الجودة يصبح واضحا شأنه شأن معجم التكلف الذي ينفصل بالضرورة عن الطبع. الصنعة والتكلف لا يعنيان في الحقيقة وبطريقة مبسطة الجهد والتكلف، والأقل من ذلك لا يعني العمل المتعب للشاعر بطيء ومحروم من الراحة. إن القول الموصوف بالتكلف هو الذي يتبع طريقا أطول قبل بلوغ المعنى المقصود. إنه يستهلك في المنعطفات ويتيه ويفقد الفعالية. إنه يثقل بالصور من كل نوع. وهو لا يختار الكلمة الأكثر ملاءمة، والصيغة التركيبية الأكثر مناسبة والأشد فعالية والصورة الأقرب إلى الواقع. إنه يعارض مبادئ عمود الشعر المقعد. إن نصا معروفا في الوساطة للجرجاني هو الذي يستعمل هذا المصطلح “عمود” (ص. 34-35) ويختصر بطريقة مثيرة أهم استخدامات الخطاب النقدي بصدد هذا الموضوع. حينما سئل البحتري، حسب رواية الآمدي، عن قيمة شعره بالمقارنة مع شعر أبي تمام، أجاب أن هذا الأخير يعمق أكثر الدلالات في حين أنه هو كان يمتثل لقواعد العمود. ولهذا فإن التعارض يشتد في قلب شعر الشعراء المولدين بين أثر هذين الشاعرين، بالإحالة على مجموعة من القواعد الدقيقة إما قليلا أو كثيرا، التي كانت موضع احتفاء عند العرب. يتعلق الأمر بهذه الكتابة العمودية التي يحيل عليها كل المنظرين ابتداءا من القرن الثاني، وذلك بطريقة ضمنية بدءا وصريحة لاحقة، هذه المجموعة من القواعد تجد علتها في نوع من الكتابة -النموذج يسمى تاريخيا الجاهلية وصدر الإسلام.
وفي الحقيقة تطرح مسألة الحقوق في الإبداع عند الشعراء الذين ولدوا بعد مرحلة الجودة المثالية. فبظهور أبي تمام والمتنبي أصبحت معالجة التوليد ممكنة. وحينما فرضت نظرية كتابة كلاسيكية ومعالجاتها الممكنة وجب تقويم موافقة الإنتاج المعاصر للمعاييرالمحددة بهذا الشكل. إن النظرية تسائل الأثر، إلا أن الإبداع يريد استنفار الخطاب النقدي. وهذه المطاوعة تؤمن دينامية مثيرة في التحليل. وحينما سينتهي هذا المجهود، الذي بذلته جماعة المنظرين والشعراء لتحديد كتابة ما فإن هذه ستصبح متكلسة لا محالة. والمثير أن الشعر يتبع نفس الطريق ويتكلس لقرون في التقليد. لقد دخل في نوم طويل حيث الظلال المسماة شعراء تتفرغ لممارسة تسمى مع ذلك شعرا. ففي رسالة إلى م. ديشام مؤرخة ب 1941 كتب ف. راموز: لا توجد إلا الكلمات التي هي بدءا صور وينتهي بها المطاف لكي تصبح مجرد صيغ. وحينئذ تتجمع في كتل وفي جمل جاهزة، بدونها لا نكون إلا أمام واقع جاهز وميت، لم يكن معيشا و لم نعد نواجهه”.
ترجمة: محمد الــولي – حنون مـبـارك – امحمد أوراغ
——————————————
الهوامش
1 – طبقات الشعراء، بيروت 1982، ص : 20
2- Les Grecs ont-ils cru à leurs mythes ?, Seuil ,1983
3 – طبقات … ص : 28 وما يليها
4 – نفسه، ص : 26، الملاحظة 3
5 – طبعة بيروت، دون تاريخ، ص : 7
6 – نفسه، ص : 11
7 – عيار… الإسكندرية، 1980، ص : 146
8 – ينظر مقالنا “من القوالب اللسانية إلى الأساليب الشعرية: ابن خلدون وماهية الشعر”، أعمال ندوة ابن خلدون، الرباط 1979، ص. 47 – 56
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6707