محمد الولـي
يذهب إ. أ. ريتشاردز إلى أن للغة وظيفتين : إحداهما تعبيرية، تكشف عن إحساس الإنسان بالعالم؛ والأخرى معرفية تسعى إلى وصف العالم بعيدا عن الاستجابات الذاتية. نلتقي في الحالة الأولى بالوظيفة المعرفية؛ ونلتقي في الحالة الثانية بالوظيفة الوجدانية. في الحالة الأولى يسيطر الخطاب العلمي النَّــزَّاع إلى الوصف والموضوعية وإبعاد كل أشكال التأثر الذاتي؛ وفي الحالة الثانية نلتقي بالخطاب الفني أي بالأدب عموما وبالشعر خاصة. هنا لا تصبح أبواب التعبير عن العواطف مفتوحة وحسب، بل إن التعبير الشخصي يصبح مقياس الأصالة والإبداعية، ويصبح المجال مفتوحا للكشف عن الأسلوب وبهذا المعنى نستطيع أن نفهم العبارة التي أصبحت اليوم مأثورة، ألا وهي >الأسلوب هو الرجل<. ومع هذا كله فإن إدراك الأبعاد المتعددة للغة هو أمر أقدم مما قد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة. ألم يذهب أرسطو نفسه في كتابه الخطابة إلى >أن هناك ثلاثة أصناف من الخطابة؛ كما أن هناك ثلاثة أصناف من المستمعين، كما أن هناك ثلاثة أشياء ينبغي أن تراعى في الخطاب ألا وهي الخطيب وموضوع الخطاب والمستمع. إن الغاية النهائية هي هنا العنصر الأخير أي المستمع<(1). إن نفس الفكرة الأرسطية التي تنظر إلى الخطاب من هذه الزوايا الثلاث هي التي نصادفها عند أغلب اللسانيين والسميائيين المعاصرين. ولنستعر من ميشيل مايير هذا الجدول التوضيحي . (2)
الذات الموضوع الآخر
ياكبسون الباث الرسالة المتلقي
بوهليــــــر التعبير الموضوع الإقناع
أوستين المخاطِـب الخطاب المخاطَـب
أرسطو الخطيب النص المستمع
إن تشديد رسالة ما على أي عنصر من هذه العناصر السالفة يؤدي إلى تلون الرسالة بلون خاص، أي يؤدي، حسب عبارة ياكبسون، إلى تحقق وظيفة ما. وهكذا فإن التشديد على عنصر المتلقي يؤدي إلى بروز الوظيفة الإفهامية. الأمر يتعلق، من هذا المنظور، بإحداث أثر ما في المتلقي.
هذا التشديد على عنصر المتلقي هو الذي يؤدي إلى بروز الوظيفة البلاغية (سمها أيضا خطابية أوحجاجية أوإقناعية). هنا ينبغي أن نحذر من الوقوع في الالتباس. إن البلاغية هنا لا علاقة لها بالأسلوبية أو الشعرية. إن هذا المصطلح قد كان وما يزال يستعمل، إن في الشرق أوفي الغرب، وعلى نطاق واسع، بمعنى >الشعرية<. وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تفعله جماعة لييج في كل ما تكتبه. أنظر مثلا بلاغة عامة وبلاغة الشعر حيث تترادف كلمة >بلاغة< مع >الشعرية<. ومع هذا لا نعدم احتمال الوقوع في لبس أخطر مما سبقت الإشارة إليه. ويتعلق الأمر بتعذر الفصل بين الوظيفتين. إن جان كوهن، يؤكد في كتابه الكلام السامي صعوبة الفصل بين الوظيفتين. فإذا كانت البلاغية تسعى إلى التأثير في المتلقي وتعديل حاله النفسية والفكرية، فإن الشعرية (أي الشعر أوخاصية الشعرية) تسعى إلى نفس الغاية. إن متلقى القصيدة لا يظل هو نفسه بعد الانتهاء من القراءة. فإذا كان تغيير الأحوال النفسية والفكرية هو غاية الأقوال الحجاجية أوالبلاغية فإن الشعر نفسه يحقق هذا الغرض. هنا تلتبس الوظيفتان. ومع هذا كله فإننا نسلم هنا بأن الوظيفتين متباينتان ومتعارضتان. إن المتحدث بمجرد ما يقوى حرصه على الإقناع يبادر بشكل عفوي إلى تجنب استخدام الشعر.
إذا كان كل من الشعر والخطابة يستهدفان المتلقي، فإن ما يلتمسه الشعر من المتلقي شيء مختلف تماما عما تلتمسه الخطابة. الشعر في أجود نماذجه قد يترفع عن مهام الإقناع. وذلك لسبب بسيط وهو أن الرسالة تتحول بين يدي الشعراء إلى كيان لفظي سميك غارق في كل أنواع التعدد الدلالي. وربما كانت هذه من الأدوات الأساسية المعتمدة في الشعر. إننا لا نتصور قارئا للشعر متضايقا من هذا التعدد الدلالي. وحتى حينما نتصور أن هناك معنى ما، فنادرا ما يتفق الشعراء والقراء على المعنى المقصود في قصيدة ما. وهناك من يذهب إلى حدود أبعدمن هذه، لكي يقال إن الشعر لا يحيل على معنى ما.كل هم القصيدة أن تلفت نظرنا إلى وجودها وإلى جمالها. القصيدة حينما تنفلت من بين يدي صاحبها تعانق هوية جديدة ومستقلة عن إرادة مبدعها. والقارئ حينما يقرأها لا يستهلك احتمالاتها. إنها تغري في كل قراءة باحتمالية دلالية جديدة .
وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الخطابة. لم يمتدح أبدا الغموض في الخطابة، كما امتدح في الشعر. وقلما خطب الخطباء لمجرد إمتاع المستمعين. كما أن المستمع الذي يبحث عن المتعة الجمالية عند الخطباء يضل الطريق. وربما اعترض معترض لكي يقول : إن هناك خطباء يمتعنا أسلوبهم أكثر مما يفعل بعض الشعراء. إن هذا ممكن، إلا أن هذه الإثارة هي مجرد تكئة إقناعية. إن ما نعتبره مقومات شعرية في الخطابة هي في الواقع مقومات حجاجية. هي حجج. إن الخطيب، حينما يستخدم الاستعارات في الخطابة فلا يفعل ذلك لأجل الإمتاع، وإنما يفعل ذلك لأجل الإقناع. لقد ذهب شيشرون إلى التمييز بين ثلاثة وظائف في الخطابة وهي الإفادة والإمتاع والتأثير(3). ومع هذا فإن هذه المتعة ليست مقصودة في حد ذاتها. إنها وسيلة لا غير. لا يمكننا ونحن نتناول هذا الأمر التغاضي عن رأي بيرلمان في هذا الموضوع. إن أي محسن في الخطابة لا يسعى إلى مجرد إمتاع المتلقي. إنه بالأحرى حجة إقناعية ولا يصبح محسنا إلا حينما يقصر عن أداء وظيفته الحجاجية. إن الخطيب يعبئ كل الإمكانات التي تتيحها اللغة، متجها نحو غرضه الرئيسي ألا وهو الإقناع. إن هذه الحجج اللفظية، من قبيل الاستعارة والتمثيل والجناس والوزن والسجع الخ، لا تعود محسنات إلا حينما تفشل في أداء مهمتها الإقناعية.
هكذا يتضح إذن أن الخطابة تحرص على كسب المستمع إلى جانب الأطروحة التي يدافع عنها الخطيب. إن الغاية هي إذن تغيير حال المتلقي، وذلك بإخراجه من حالة المعارضة (أوعدم الإكتراث) لأطروحاته إلى حال قبولها والدفاع العملي عنها. الغاية هي إذن تغيير السلوك. وحينما يتم تغيير السلوك فهذا يعني أن الخطيب قد أنجز مهمته. إن البلاغة بهذا المعنى، قد تزامن ميلادها مع ميلاد الإنسانية، بل مع ميلاد الحضارة. إن الإنسان حينما قرر أن يستعمل اللغة كأداة لتغيير أحوال من يشاركهم في بناء المجتمع. وحينما قرر الاستجابة بالاستماع إلى أخيه الإنسان. وحينما قرر وضع كل شيء موضع حوار وتفاوض. وحينما رأى ضرورة معالجة الإختلاف وتعارض المصالح بالحوار، أي بالخطابة. في هذه الحالة كان الإنسان يحقق أخطر قفزة في حياته العقلية، وذلك بالتخلي عن استعمال العنف في معالجة مشاكله الحيوية. وبطبيعة الحال فإن اكتشاف الإنسان لطاقات اللغة الحجاجية لم تجعله يتخلى نهائيا عن نوازعه الهمجية، أي عن العنف. وليست الحروب بين الشعوب أوالحروب الأهلية أوبين الأفراد إلا ذلك الإرث الهمجي الذي كان فيه الإنسان يعالج التعارض مع أمثاله بالعنف لا بالعقل. ويبدو أن النهاية النهائية للعنف وتنصيب الخطابة بديلا للعنف، يحتكم إليها، هي وحدها، في حالات التعارض، هي نهاية بعيدة بل هي محال. ومع هذا فإن الإنسانية تحس في حالات كثيرة بأن هناك حاجة ماسة إلى التخلي عن العنف، واللجوء إلى الحوار أي إلى الخطابة). إن الإنسانية حين قررت اللجوء إلى الخطابة لمناقشة اختلافها لم تضع جانبا أدوات العنف، بل كثيرا ما نظرت إلى هذه الأدوات باعتبارها ضمانة لفعالية الخطابة. وفي هذه الحالات فإن الخطابة تصبح مجرد غطاء للتوحش. إن الخطابة لا تكون فعالة إلا حينما تتداول بين أطراف متكافئين في كل شيء بما في ذلك كفاءة الخطابة. وهذه الحالات المثالية لا يمكن أن تتحقق في مجتمع يقوم على التفاوت بين أفراده. إن التفاوت في الثروات يترتب عنه تفاوت في تملك وسائل الحوار والخطابة.
يبدو أن ميلاد الخطابة قد تزامن مع ميلاد اللغة. إذ أن المتكلم يحقق حينما يتوجه بخطابه إلى مستمع ما، وظيفة أساسية ألا وهي تحويل حال المتلقي. إلا أن نظرية الخطابة قد تأخر ميلادها بعهود. هناك شبه إجماع بين مؤرخي البلاغة على أن ميلاد نظرية البلاغة قد تحقق في اليونان. فإذا كان أرسطو يعتبر أب المنطق الصوري فإنه من الزاوية الأخرى يعتبر أيضا أب المنطق الطبيعي، أي أب علم الخطابة. يقول شايم بيرلمان : >لقد ميز أرسطو في الأوركانون نوعين من الاستدلالات، الاستدلالات التحليلية والاستدلالات الجدلية. إن الدراسة التي كرسها للأولى في التحليلات الأولى والثانية قد بوأته صفة أب المنطق الصوري. إلا أن المناطقة المحدثين لم يدركوا، لعدم معرفتهم أهمية ذلك، أن أرسطو قد درس الاستدلالات الجدلية في الطوبيقا والخطابة وتفنيد السفسطة. وهذا أيضا يجعله أب نظرية الحجاج. <(4). وبعبارة أخرى فإن أرسطو قد اكتشف أن هناك إمكانية لوضع نظرية المنطق الطبيعي أو اليومي الذي يستخدمه الناس لأغراض عملية أونفعية مرتبطة بالمصلحة الإنسانية وبعواطف الناس وأهوائهم. لقد سبق لأفلاطون أن عبر بشكل صريح عن موقفه إزاء هذا المنطق أي إزاء الحجاج أوالخطابة باعتبارها أفكارا متلونة ومتغيرة تند عن كل ضبط. فلنستمع إلى ميشيل مايير وهو يختصر رأي أفلاطون في الخطابة أو البلاغة : >وبالنسبة لآخرين، مثل أفلاطون، فإن البلاغة هي سفسطة، إنها لا تتوفر على أي شيء إيجابي. لقد كان السفسطائي يشبه المحامي القادر على اللعب على شتى معاني الكلمات والمفاهيم، إذا كان هذا يخدم أطروحته سواء أكانت صائبة أم خاطئة. إن السفسطة، بعيدا عن الالتزام بالصفات الأخلاقية للخطيب، تستطيع أن تبيع نفسها لكل القضايا، وقد تقدمت منذ البداية باعتبارها خطاب العاجزين، أولئك الذين لا يرون إلا النار وأولئك الذين لا يصنعون إلا الريح. إن التأهب للدفاع عن أي شيء يعني عدم معرفة أي شيء. وكرد فعل ضد البلاغة سيطور أفلاطون الفلسفة باعتبارها الخطاب الضروري (الأبوديكتيك) المتمركز على الصدق، الذ ي يجد معياره قبل أىة خاصية أخرى في إقصاء أي تناقض ممكن. ستصبح الميتافزيقا الجواب عن البلاغة، الجواب الذي يتجاهل أي تساؤل غير خاضع للصدق القضوي الضروري وغير المثير للنقاش. ماذا تصبح البلاغة في كل هذا غير الاستخدام (الآثم) للقضية ووهما بالصدق، وجهلا مغلفا؟ إن الخطاب الحقيقي أي اللوغوس لا يلتفت إلى الرأي والاحتمال واحتمال الحقيقة النقيضة، إن ذلك قد يكون بالتعريف خطأ. إن الصدق لا ينقسم وإلا فإنه لا يعود له وجود. إن الغموض وتعدد المعاني والانفتاح على تعددية الآراء لا تعود حينئذ إلا الكلمات الأساسية للعاجز الذي يجهد نفسه لكي يتحدث عن كل شيء ولكي يبعث الانطباع بأنه يعرف ما يتحدث عنه. إن الجدل حسب أفلاطون هو نظام من الأسئلة والأجوبة، وهو قبل كل شيء التعبير عن هذه الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن تنبثق من المناقشة، لأنها مفترضة فيه. إن هذا الانبثاق للمعرفة يقوم، بعيدا عن النقاش، على واقع ثابت، متكون من حقائق قائمة بشكل مسبق، أي أفكار يخضع لها الجدل والتي يكشف عنها هذا الجدل. إن البلاغة الحقيقية هي الفلسفة المحددة بهذه الطريقة. إن المشاكل الحقيقية لا تشكل موضوعا للمناقشة بالشكل الذي تتصوره البلاغة، إنها تشكل موضوع العلم إذ أنها لا تستسلم إلا لجواب واحد. إن الأجوبة المتعددة لا تعود إلى العلم لأنها تترك المشكل قائما، وتسلمه هو والإنسان الذي يقف عند تلك الحدود، إلى تسكع الآراء المتناقضة (5). يبدو من خلال هذا النص لميشيل مايير أن أفلاطون يدين البلاغة لأن مادتها الأولية التي تشتغل بها وتقوم عليها هي الرأي، ما يسمى في اليونانية >دوكسا<. وهو عبارة عن الأفكار التي تعتقد فيها عامة الناس وتتداولها في معاملاتها التي تجسد اجتماعية الناس. وبديهي أن الرأي لا علاقة له بما تعودنا عليه في المجال العلمي إن الرأي لا يقوم إلا لأن الناس يسلمون به ويقبلونه في ظل شروط عينية. وهو على كل حال لا يمكن أن يكون موضع إجماع الإنسانية. إن الرأي شديد الميوعة إنه يتلون بتلون الثقافات والمجتمعات واللحظات التاريخية والطبقات الإجتماعية. وليس لهذه الآراء أي سند غير أخذ الناس بها. وليس لها أيضا أي سند علمي أومنطقي أوتجريبي. إن رأيا ما قد يبدو أنه يرقى إلى مستوى الكونية من قبيل >ضرورة احترام الآباء< لا نعدم موقفا يتعارض معه إذ إن من الناس من لا يلتزم بهذا الاحترام. بل ولا يرى ضرورته. ومن جهة أخرى فإن مفهوم الاحترام حتى حينما نسلم به ونتفق عليه، سرعان ما نكتشف أن الأمور ليست بهذه البساطة. فما يفهمه شخص ما من الاحترام ليس ما يفهمه شخص آخر. فقد يعتبر الأول الاحترام مجرد عدم الإزعاج أوالمضايقة. في أن الثاني قد يعتبر الاحترام تقديم كل العون والدعم الذي يتوقف عنه الآباء في حياتهم اليومية. وما نقوله مثلا عن احترام الآباء يمكن تعميمه على احترام الأبناء. مثل هذه الميوعة والتلون غير المحدود في الرأي هو المادة التي تتغذى منها البلاغة. البلاغة تعيش إذن على هذه الاحتمالية. كل شيء يغدو في البلاغة قابلا للنقاش. ولا أمل في هذا الميدان في قيام نوع من الاتفاق ناهيك عن الإجماع. ولنتأمل ما يجري حولنا اليوم في عالمنا المعاصر. إن مبادئ هيئة الأمم مثلا هي محاولة لتوحيد هذه المبادئ أوالرأي على المستوى الإنساني. يتعلق الأمر بمحاولة تحقيق نوع من الإجماع الشبيه بالإجماع العلمي. ولكن كم هي المرات التي نلاحظ فيها أن هذا التوحد هو مجرد سراب. إذ سرعان ما نلاحظ أن هذه المبادئ تتعرض لتأويلات متعارضة، بل متناقضة. حدث هذا في حرب الخليج وحدث في البوسنة وحدث في فلسطين. هذه الوحدة هي مجرد بلسم لجروح الإنسانية التي لن تندمل أبدا .هذا شيء طبيعي بل هو جوهر الإنسانية. إن الحالات القليلة التي تتوج بالاتفاق بين الناس تدعو إلى الاستغراب. وذلك لأن الحالة الطبيعية هي التطاح. والغلبة هي بالضرورة لا تكون لمن يتملك القدرة على الحجاج بل الغلبة تكون لمن يملك وسائل العنف. يقول مشيل مايير : >إن الناس يتكاثرون باستمرار. وهم عرضة لانقسامات متزايدة. ولأجل حل مشاكلهم كثيرا ما لجأوا إلى الحرب. إلا أنهم بالإمكان أن يتحدثوا عن مشاكلهم لأجل التفاوض ومناقشة ما يجعلهم متعارضين. في هذه اللحظة يجدون أنفسهم في حاجة ماسة إلى البلاغة. إنها توهمهم بإلغاء الاختلافات بينهم، إلا أنهم مع ذلك، ينجحون وبشكل لغزي، في ذلك. كل أهمية البلاغة تكمن في هذا اللغز أوالسر< (6). وبما أن الإنسان لا يكون دوما في حالة تسمح له، لسبب من الأسباب؛ للعجز مثلا أو للاقتناع، باختيار الحرب أوالعنف فإن البلاغة تصبح هنا حاجة حيوية. البلاغة بديل عن العنف. وهذا البديل لا يستند أبدا إلى الإنصاف. الإنصاف نفسه مجرد وهم البلاغة هي في جوهرها تدبير الاختلاف. وتصريف التنازلات التي لا تكون أبدا عادلة. بل إن قياس عدلها يظل أمرا مستعصيا.
إن الوعي بضرورة البلاغة هو الذي قاد أرسطو إلى وضع نظرية في الحجاج بعد أن وضع نظرية المنطق الصوري. لقد أدرك أن هناك منطقا ما خفيا مختلفا عن المنطق المتعارف عليه عند العلماء. لقد ميز في سبيل ذلك الرأي من الحقيقة الأول هوأساس البلاغة أي الحجاج والثانية هي أساس العلم. فكما أنه من غير المقبول اعتماد الرأي في العلم فمن غير المقبول أيضا اعتماد الحقيقة في البلاغة. بل إن الأفكار بمجرد ما تتلبس لبوس الحقيقة تكف أن تكون مناسبة للبلاغة. البلاغة تظل مجال الاحتمالية لا الحسم. إن التأليف بين الآراء ينتج عنه الاستدلال الجدلي في حين أن التأليف بين الحقائق ينتج عنه الاستدلال التحليلي وهذه تمتاز بكونها برهانية وغير شخصية. إنها في غنى عن تزكية المتلقي. في حين أن الاستدلال الجدلي لا يكون فعالا إلا إذا كان متألفا من آراء مقبولة عند كل الناس أوعند الأغلبية أوعند الفلاسفة أي مقبولة عند الجميع، أوعند الأغلبية أوعند أخيارالناس وألمعهم.
يقول شايم بيرلمان : >إن الاستدلالات الجدلية تنطلق مما هو مقبول وهدفها هو العمل لأجل قبول أطروحات أخرى هي موضع نقاش أو يمكن أن تكون كذلك: إنها تسعى إلى الإقناع. وهي لا تكمن في الاستنتاجات الصحيحة والملزمة، ولكنها تقدم حججا مقبولة، إن قليلا أوكثيرا. إلا أنها لا تكون أبدا صورية. إن حجة مقنعة هي تلك التي تقنع ذلك الذي تتوجه إليه : إن الاستدلال الجدلي، على العكس من الاستدلال التحليلي، هو مشخص دائما، إذ أنه يثمن بحسب تأثيره في ذهن ما ( أي في شخص ما). وينتج عن هذا ضرورة التمييز تمييزا واضحا، الاستدلالات التحليلية من الاستدلالات الجدلية، إن الأولى تقوم على الصدق وتقوم الثانية على الرأي. إن كل مجال يتطلب نمطا خاصا من الخطاب، إنه لمن المضحك اكتفاء الرياضي بالحجاجات المعقولة، كما أنه من المضحك أيضا اعتماد الخطيب على البراهين الرياضية< (7). ومع هذا كله ينبغي أن نعمد إلى نفي بعض الالتباس ويتعلق الأمر هذه المرة بالتمييز بين الجدل والخطابة. لقد كان أرسطو ينظر إلى الخطابة باعتبارها نوعا من الجدل. إنهما معا ينتسبان إلى نفس الحقل ألا وهو حقل الرأي. ومع هذا لم يفت أرسطو التمييز بينهما. إن الجدل أعم من الخطابة. يقول لامبروس كولوباريتيس : >إننا نستطيع أن نقول إن الجدل يتجاوز عند أرسطو ،حقل الخطابة، إن هذه تمثل جزءاً وحسب من الجدل، في مقابل جزء آخر يخضع للنقد بمعناه الحصري. إن هذا الجزء الثاني هو وحده الذي يعود إليه فضل التفرغ للتحليل الفلسفي ولكل المعرفة ذات الطبيعة المبدئية لكي تشكل لحظة في المنهج الآبوريتيك. ولهذا نفهم لماذا عمد أرسطو في الميتافزيقا إلى التقريب بين الإجراء الفلسفي والنقد ولا يحيل نهائيا على الخطابة، التي تبدو بوصفها جدلا ينتسب إلى المجال الخاص للفعل< (8). إن التفكير الفلسفي الذي يمثل النوع الأعم من الجدل بالتعارض مع البلاغة، يقلص من احتمالات تدخل الذات من جهة ويقلل أيضا من احتمالات تسخير الخطاب لغايات التأثير على المتلقي لاستمالته وبالتالي التأثير على سلوكه. هذا هو جوهرالاختلاف بين الجدل وبين الخطابة. وبهذا المعنى نفهم قول أرسطو : >يبدو أن الخطابة قادرة على الكشف عن سبل الإقناع في أي موضوع< (9). وبطبيعة الحال فإن هذا الإقناع الذي يتحدث عنه أرسطو لا يتعلق إلا بجنس معين ألا وهو ذلك المتعلق بإصدار حكم ما. ولا يتعلق الأمر بأي حكم كيفما كان وإنما يتعلق الأمر بتلك الأحكام التي تروم النصح والزجر أوالمدح والتأنيب أو الاتهام والدفاع. أي بالأحكام المنتسبة إلى أنواع الخطاب الثلاثة المخصوصة في الخطابة ألا وهي الخطابة الاستشارية والقضائية والاحتفالية. في هذه المجالات إذن ينبغي استخدام القياسات المضمرة والشواهد لأجل إقامة ما هو مقنع بغاية أن نبعث في المتلقي حكما لصالح ما يلتمسه الخطيب. وهنا يصبح مجال الخطابة الخاص محصورا بشكل صريح : إنه يتعلق أساسا بالمسائل المنتسبة إلى المجال الخاص للفعل(10). وهذا العوامل المحايثة المساهمة في تحقيق الإقناع منها ما هو، كامن حسب أرسطو، >في الطبع الأخلاقي للخطيب، ومنها ما هو كامن في استعدادات السامع ومنها أخيرا ما هو كامن في الخطاب نفسه من حيث إنه يثبت أو إنه يبدو أنه كذلك.<(11).
أشكال الحجاج
تميز البلاغة التقليدية بين نوعين من الحجج. الأول يمثل حججا غير صناعية. بمعنى أنه لا دور للخطيب في ابتكارها لأنه يعثر عليها جاهزة. ومن قبيل هذا الوثائق المكتوبة أوالنصوص القانونية أوالاتفاقات أو الاعترافات التي نحصل عليها بالتعذيب مثلا أوالقسم أو الشهود. وهذه الحجج تمثل أضعف الحجج في نظر أرسطو، إذ لا دور لابتكارية الخطيب فيها. بل إن الخطابة قبل أرسطو كانت تهتم بهذا النوع من الحجج غير النصية أي غير الصناعية. ولأمرما يذهب أرسطو إلى القول إن علم الخطابة الحق ينبغي أن يوجه كل عنايته إلى الحجج الداخلية التي يختزلها إلى جنسين. أحدهما هو القياس والثاني هو الشاهد. وهاتان هما الحجتان الأساسيتان القائمتان في الخطاب نفسه، مقابل الحجج التي تعتمد على طبائع الخطيب أوعلى طبائع المتلقي.
– القياس
يقول أرسطو : >إنني أسمي المضمر قياسا خطابيا، وأسمي الشاهد استقراءا خطابيا. إن كل الناس يبرهنون على إثبات ما إما بالشاهد أو بالمضمر، ولا يوجد غيرهما لأجل هذه الغاية<(12). ويقول أيضا، إن أولئك الذين يكتبون اليوم عن الخطابة لا يهتمون إلا بجانب ضيق منها. إن الحجج هي وحدها التي تحظى بصفة الصناعية، وما عداها فهو مجرد أدوات مساعدة لا غير، والحال أن الدارسين لا يقولون أي شيء عن المضمر الذي يمثل جسد البرهان. وفي الكثير فإن تعليماتهم لا تتوجه إلا إلى أمور خارجية عن عمق المسألة (13). إن الذي يتوسل باللغة على سبيل الحجاج يجد نفسه مضطرا حينما يحاول أن يستعمل الوسائل الحجاجية الأصيلة في صناعة الحجاج مضطرا إلى استخدام جنسين من الحجج. يسمى الأول المضمر ويسمى الثاني الشاهد. ولا شيء يلزم الخطيب بهذا الجنس أو ذاك. إن هناك مقامات يصلح فيها الشاهد وهناك مقامات أخرى يصلح فيها المضمر. ولا يفوت أرسطو أن يجد هنا عمليتين مشابهتين للعمليات المنطقية أي الاستنباط والاستقراء. إلا أن الأمر يتعلق هنا باستنباط واستقراء خطابيين. إنهما بعبارة أخرى مقومان منتميان إلى دائرة المنطق العامي، لا العلمي. فإذا كنا في الاستنباط العلمي نجد أنفسنا أمام مثل هذه العبارات: ” إذا كان أ = ب ، وكان ب = ج، فإن ج = أ” التي تمثل البرهان المنطقي الذي يسمى القياس وهو يقوم على الانطلاق من مقدمة كبرى تليها مقدمة صغرى ثم الاستنتاج في الأخير، أو أمام مثل العبارة الآتية التي تعتبر هي أيضا من قبيل العبارات المنطقية، أوالعلمية : >كل الناس فانون، سقراط إنسان، إذن سقراط هو بالضرورة فان<. إلا أن القياس قد يغدو خطابيا لكي يعبر عما لا يكون بالضرورة صادقا، أوعما هو مجرد احتمال أو مقبول أومسلم به عند العامة.
إننا حينما نتناول المثال الآتي : >نفس سقراط قصير إذن هو محموم<. نقف على خاصيته المضمرة على مستويين وهما أولا إننا نستنتج من قصر نفس سقراط كونه محموما. والحال أن هذا مجرد احتمال. وثانيا إننا نلاحظ أن هناك أقوالا تم إضمارها ولم يصرح بها. ويحتمل أن تكون هذه الأجزاء هي التالية : كل إنسان محموم قصير النفس سقراط قصير النفس إذن سقراط محموم. إن هذه الأجزاء المحذوفة هي التي جعلت هذا القياس تلتصق به تسمية المضمر. ويبدو أن بعض الحجج قد تكون مقبولة من حيث الشكل إلا أنها من حيث المحتوى تعبر عن أمر مستنكر وليس مرفوضا وحسب. ومن هذا القبيل هذه العبارة التي وجهها إلى أبيه صبي في رواية تريستام شاندي للاورينس ستيرن : >لماذا لا أستطيع أن أنام مع أمك؟ والحال أنك أنت تنام مع أمي<. ومن الأمثلة على هـذا الـقياس الـمضمر هذا الشعار الذي رفعه الفرنسيون خلال الحرب العالمية الثانية في كفاحهم ضد النازية : >الأقوياء ينتصرون (المقدمة الكبرى) نحن أقوياء (المقدمة الصغر) إذن نحن منتصرون (النتيجة). >إن الخطاطة الكاملة لتأليف الأفكار الرئيسية والأفكار الحجاجية هي القياس الذي يتألف من الأجزاء الآتية :
1- القضية (تقديم الغاية البرهانية) >سقراط فان<،
2- البراهين وهي تسمى أيضا المقدمات (وهي جمل موضوعة قبل الاستنتاج) ويكون لموضوعاتها درجتان من الاتساع،
أ – المقدمة الكبرى والتي هي باعتبارها إضافة برهانية تفتتح بواسطة الأداة لأن وهي برهان لها موضوع ذو اتساع أكبر من موضوع القضية : >كل الناس فانون<،
ب – المقدمة الصغرى والتي هي متعارضة مع المقدمة الكبرى تفتتح غالبا بأداة عارضة، والحال أن، هي برهان يكون موضوعه ذا امتداد أصغر من موضوع المقدمة الكبرى،
3ــ الاستنتاج: > سقراط فان <.
وفي أغلب الحالات، فإن القياس يختزل إلى جملتين أوثلاث من الجمل الأربعة المكونة. ويعتبر مع ذلك قياسا تاما حينما نذكر لمرة واحدة الفكرة الأساسية (كقضية أو كاستنتاج) مجتمعا مع البرهانبن. (…) وإن اختزالا أكبر من هذا يسمى المضمر. وهذا الاختزال يكمن في :
1- اختزال الاتساع أي :
أ- في الاحتفاظ بالفكرة الرئيسية مع اختزال البرهانين في برهان واحد قد يقدم وقد يؤخر عن الفكرة الأساسية،
ب- وفي حذف الفكرة الأساسية، الشيء الذي يحول المضمر إلى تفخيم الفكرة.
2- وفي حال عدم إمكان الإحاطة بالبراهين، (بغاية التحسين أو الإمتاع الجمالي)، فإن هذه يمكن أن تتوفرعلى دليلين أوعلى دليل واحد. هذا النقص يمكن أن يتمثل أىضا في غياب الوظيفة البرهانية عموما. إن الوظيفة السببية لهي واحدة خاصة فقط من (هو أكثر شيوعا ونموذجية في التحليل البلاغي) التأليف المفهومي عموما الذي يمكن أن يمس مفاهيم أخرى (المقارنة، التعارض، الغاية، النتيجة، الشرط، العلاقة الزمنية (14). ومع هذا يبدو أن أبسط طريق لتحديد القياس هو تعريفه بالتعارض مع المقارنة، أوالشاهد.
– الشاهد
هناك التباس مصطلحي ينبغي تبديده قبل متابعة الحديث. يلتبس مفهوم الشاهد في الكثير بمفهوم التشبيه من جهة، وبمفهوم المقارنة من الجهة الأخرى. فإذا كان الأمر يتعلق عموما بالمشابهات، فإن هذه تستعمل في الشعر متجهة نحو إثارة المتعة لدى المتلقي من قبيل قول الشاعر بدر شاكر السياب : >ينساب صوتك إلي كالمطر الغضير<. إن مقارنة الصوت بالمطر لا يختلف من الناحية الشكلية عن الشواهد الخطابية. وذلك أننا ننتقل من خاص وهو >صوتك< إلى خاص آخر وهو>المطر<. وتظل الخاصية المشتركة العامة مضمرة هنا. إلا أنه هنا يتعالى عن الوظيفة الحجاجية لكي يتوجه إلى إثارة إحساساتنا وإمتاعنا جماليا. يستحسن أن نتحدث في هذه الحالة عن التشبيه. ونفرد مصطلح المقارنة بالاستعمال للدلالة عن هذا المقوم الذي يستخدم كأداة للمقارنة الكمية. إن المثال هو>أشقر مثل أبيه< لمن قبيل المقارنات الكمية التي لا مجال للاختلاف بصددها. إن الشاهد هو حسب العلامة الألماني هنريش لاوسبيرغ : >مجال محصور من التشبيه ويقووم على حدث ثابت تاريخيا (أسطوري أو أدبى) يوضع في وضع المقارنة مع الفكرة الموضوع. فإذا كان الشاهد مستعملا على سبيل الصدق باعتباره علاقة تاريخية دالة لواقعتين تاريخيتين فإننا في هذه الحالج نتحدث عن النمط.
يمثل الشاهد الجنس الثاني من الحجج التي يعتبرها أرسطو عمدة فن الحجاج. >فإذا كان التاريخ يعلمني أن الطاغية (س) قد أحاط نفسه بحرس شخصي واتخذ لنفسه مسكنا محصنا، وأن الطاغية (ي) قد فعل نفس الشيء وكذلك (ز) فإنني أستقريء هذه القاعدة العامة بأن السلطة الطغيانية تتكيء على امتلاك حرس شخصي وعلى مسكن محصن. وفي الحالة التي أريد أن أبين فيها بأن مواطنا يتخذ له حرسا شخصيا ويتخذ له مسكنا محصنا يهدد الديموقراطية، فإنني أستطيع أن أتوسل بالشاهد. إن فلان الذي يتخذ له حرسا شخصيا والذي يتخذ له مسكنا محصنا، ينزع إلى الطغيان، لأن هذا ما ما فعله (س) و(ي) و (ز). قبل أن يصبحوا طغاة. وبالإمكان أن أعتبر القاعدة العامة مقبولة فأعمد إلى القياس المضمر: إن فلان الذي يتخذ له حرسا شخصيا ويتخذ له مسكنا محصنا ينزع إلى الطغيان إذ دائما يقوم الطغيان بهذه الطريقة. < إن أهم أقسام الشاهد التي تحدث عنها أرسطو هي الشاهد التاريخي والشاهد الشعري والشاهد الاحتمالي. إن الشاهد التاريخي هو الذي يحصل في أغلب الأحوال، إذ أنه يعتمد على الحقيقة وهو تبعا لذلك الأكثر إثارة للتصديق. >لا ينبغي أن نترك ملك الفرس الأعظم يستولي على مصر إذ أن داريوس استطاع، بعد أن احتل مصر، أن يتمكن من أوروبا وكذلك فعل كركيس. < ويقوم الشاهد المبتكر على تخيل شبيه مماثل للحالة المطروحة للنقاش. إن القضاة لا يتم اختيارهم بواسطة القرعة إذ أنه لا يمكن تعيين ربان السفينة على سبيل القرعة، ولكن يتم اختيار ذلك الذي يتقن القيادة. إن الخرافة يتم اختيارها هي أيضا لتشابهها مع الموضوع المطروح. إن إيزوب، كما يحكى قد نهى شعب ساموس عن العقاب بالموت ديماغوجيا. واعتمد في نصيحته تلك على الخرافة الآتية في يوم من الأيام سقط الثعلب في إحدى الهاويات وبدأ لتوه القراد في مص دماءه إلا أنه رفض العرض الذي قدمه له القنفذ والـمتمثل في تخليصه من هذا القراد قائلا له إن هذا القراد قد أصبح الآن متخما، وإذا انتزعتها فإن أخريات جائعات سيحضرن لكي يشربن ما تبقى من دمائي .كذلك يستنتج إيزوب، فإن هذا الرجل لن يلحق بكم المزيد من الأذى، إذ أنه قد أثرى. وإذا تمت إدانته فإن آخرين فقراء سيحضررون، سيسرقونكم ويستهلكون آخرالأملاك العامة (15). والواقع أن الشاهد المبتكر هو الذي يسمى الاستعارة الترشيحية بل يسمى التمثيل. وتسمى في البلاغة الغربية الأليغورية أي الاستعارة المسترسلة التي تكون كل عناصرها مجتلبة من نفس الحقل الدلالي. إن المتنبي في البيت التالي :
نامت نواطير مصر عن ثعالبها قد بشمن وما تفنى العناقيد
لم يكتف باستعارة النواطير مفردة بل صاحبها بمجموعة متكاملة من الدلائل المشكلة لحقل متكون من الكروم وما يلازمها من الحراسة وتهديد الثعالب والتخمة وطلب المزيد بل وتوفر هذا المزيد وسكوت بل وتقاعس الأهالي عن رد الثعالب. إلا أن المتنبي لم يكن يقصد بطبيعة الحال وصف هذا الحقل، وإنما كان يقصد إلى وصف حقل آخر شبيه هو حقل السلطة والشعب والتسلط والاستكانة. إننا نجد أمام كل عنصر من هذه العناصر ما يقابله في الطرف الآخر. إن الثعالب تقابل المتسلطين من الحكام. والنواطير تقابل الشعب، والعناقيد تقابل الثروة. وبشمن تقابل الشبع. هذه هي الأليكوريا كتلتان من الدلائل المتماسكة والمشكلتين لحقلين دلالين تربطهما علاقة مشابهة ما يسهل إدراكها. ولهذا كثيرا ما اتخذت دعامة لتوصيل الأفكار. الشيء الذي لا يمكن أن تضطلع به الرموز. ومما يمكن أن يرتبط بهذا المقوم التي هي عبارة عن أليكوريات غامضة. ومن قبيل الشاهد المبتكر المقابل لما سمي سابقا الخرافة ما نجده عند أحمد شوقي في قصيدته سليمان والهدهد. هذا التقنية المسماة الشاهد بصيغتيه المعروفتين ألا وهما المبتكر والخرافي هما القنطرة القوية الرابطة بين الحجاج والأدب. إن الشاهد ليس مجرد أداة حجاجية وحسب غايتها الإفادة، بل إنها بالإضافة إلى الفائدة تضطلع بدور الإمتاع. وما الإمتاع إلا الأدب؟. في هذه الجناح من صرح الخطابة، يقوم هذا الكائن الغريب الذي يسمى الشعر. ولأمر ما يسمى هذا الشاهد تارة شعريا ويسمى طورا آخر مبتكرا. ولا يعني الابتكار في اليونانية إلا الشعر.
إن القياس المضمر، أوباختصار، المضمر والشاهد هما المقومان الأساسيان في الحجاج. يقول أرسطو >يبرهن كل الناس على إثبات ما باعتماد الشواهد أو المضمرات، ولا يوجد شيء خارج هذين المقومين< (16)
– المقومات العاطفية
تعرضنا فيما سلف للمقومات الحجاجية العقلية أو شبه المنطقية إذا صحت العبارة. أو بعبارة أخرى المقومات النصية. إلا أن الخطيب يلتجىء إلى نوع آخر من المقومات الذاتية أو المحايثة. وتتعلق هذه بالمقومات الذاتية أو الانفعالية. لا يتعلق الأمر هنا بالمقومات الذاتية للخطيب كما نعرفه في الواقع ولكن يتعلق الأمر بتلك الملامح الشخصية كما تتحقق خلال إلقاء الخطبة. وهذا الجانب الانفعالي للخطيب يختلف اختلافا جذريا عن ملامح الخطيب في حياته الواقعية. وذلك يعود بكل بساطة إلى كون هذه الملامح الواقعية الثابتة في الخطيب لا تمثل علامة من علامات الابتكار. الأحوال الانفعالية المقصودة هنا هي تلك المظاهرالشخصية أوالطبعية التي يظهر بها الخطيب خلال إلقاء خطبته. هذا المظهر الآني الذي يتكلفه الخطيب جزء مهم من الأدوات الإقناعية. إن تطويع مظهر الخطيب للغايات المقصودة من شأنها أن تسعف الغاية الإقناعية إذا تمكن الخطيب من الاستثمارالجيد لكفاءاته. بل إننا نستطيع أن نقول إن هذا المظهر قد يكون حاسما في بعض الحالات. إن مظهر الخطيب في حد ذاته بغض النظر عن حججه كثيرا ما عوض الحجة. بل إننا نستطيع أن نزعم إن المظهر هنا في حد ذاته قد أصبح حجة مقنعة. يقول جاك لوكومت : >لقد أظهرعديد من الدراسات في مجال علم النفس التجريبي أن الرجال والنساء ذوي المظهر الجسدي الجذاب يعتبرون في غالب الأحيان أذكياء وطيبين ومقتدرين، وهذا يرفع من قدرتهم الإقناعية. إن هذا الإقرار يتجاوز حدود المختبر وهو يوجد في الحياة اليومية. لقد كشفت دراسة كندية، بمناسبة حملة سياسية، بأن المرشحين الجذابين قد حصلوا على معدل من الأصوات يبلغ الضعفين والنصف مما حصل عليه الآخرون. ومع ذلك فإن 73% من المصوتين المستفسرين قد نفوا أن يكون اختيارهم متأثرا بالمظهر الفزيائي للمرشح. وبشكل أعم فإذا لم يكن الشخص المصدر جذابا فإن التأثير يظل خاضعا على وجه الخصوص لجودة الحجاج. وإذا كان جميلا، فإن المستمع يأخذ بعين الاعتبار هذه الخاصية أكثر مما يأخذ بعين الاعتبار محتوى الرسالة< (17). وهذه الحجة هي التي تسمى حجة السلطة. حيث أن فكرة ما تعتبر مقبولة لمجرد أن قائلها هو يتمتع بنفوذ ما سياسي أو اجتماعي أو علمي أو وراثي أو جسدي .
إن أطرف المباحث في البلاغة الغربية هو المبحث المتعلق بالمتلقي، أي بما يسميه أرسطو مبحث الباطوس. وهذا الأمر مفهوم إذ أن المسألة هي في النهاية إقناع المتلقي بأطروحة ما. إن تحديد البلاغة نفسها ينطوي على إعلاء من شأن هذا العنصر. إننا نكرس كل الأدوات لأجل الوصول إلى هذه الغاية التي هي تغيير حال المتلقي ودفعه في اتجاه تبني موقف ما. وربما إلى تطبيقه. بهذا يتضح أن هذا العنصر لا يمكن أن يقارن بأي عنصر من العناصر الأخرى إذ أنها كلها تصب فيه. والأهم من هذا وذاك أن البلاغة تطمح إلى إنجاز وظائف ثلاثة وهي الإفادة والإمتاع والتأثير. تتمثل الإفادة في شيئين اثنين. أولهما يتمثل في تلقي كل المعلومات المتعلقة بملف قضية ما. هنا نلتقي في الحقيقة بالمادة الخام للأحداث كما يتصور أنها قد وقعت. والواقع أن الخطاب يوجه هنا إلى العقل. ويطلب من هذا السرد أن يكون موضوعيا وصادقا. وثانيهما يتمثل في ما نضيفه إلى هذه المادة الخام من الحجج ووسائل الإقناع. ويتمثل الإمتاع في نفي كل عناصر الملل عن المتلقي. ذلك الملل الذي يمكن أن يتسبب فيه ثقل المادة المحكية وجفاف الحجج المخاطبة للعقل. إن تعاطف الجمهور مع الخطيب ومع موضوع الخطابة يحصل بواسطة رابط عاطفي متصل بموضوع الخطابة بين الخطيب والجمهور. إن كسب عطف الجمهور يكتسب أهمية بالغة في مقدمة الخطابة وفي نهايتها. ففي البداية يسعى الخطيب إلى جذب انتباه المتلقي باخراجه من حالة عدم الاكتراث وفي الخاتمة يسعى الخطيب إلى الدفع بالمتلقي في اتجاه تبني موقفه وترجمته إلى فعل وممارسة. إذا جاز لنا أن ندعي أننا قد استنفدنا مباحث البلاغة التي هي الباث والمتلقي والنص، فإن البلاغة في هذه الحدود تنفتح على مجال خصب وهو مجال بناء النص والصياغة اللغوية أي الأسلوب. ولعل الخوض في هذا المجال يتطلب حيزا أعرض مما نتوفر عليه هنا الآن .وتلك قصة أخرى.
——————————————-
الهوامش
1- Aristote, Rhétorique , livre de poche , 1991 , p. 93
2- Michel Meyer , Questions de rhétorique , livre de poche , 1993 , p. 23
3- Olivier Reboul , Introduction à la rhétorique , P U F , 1991 , p. 7
4- L’empire rhétorique , ed , Vrin. 1977, p . 15
5- Meyer , M , op. cit. p 14
6- المرجع السابق، ص. 5
7- شايم بيرلمان، المرجع السابق، ص ص. 16-17
8- De la métaphysique à la rhétorique, Ed.Université de Bruxelles, 1986 p. 116
9 -الخطابة ت. ع . بدوي، دارالشؤون الثقافية، بغداد، 1986، ص. 29
10- كولوبارتيس المرجع السابق ص 107
11- Rhétorique , p. 83
12- نفسه، ص. 85
13- نفسه، ص. 76
14- Heinrich Lausberg, Elementos de retorica literaria, Ed. Gredos, Madrid, 1975, pp.37-38
15- Michel Patillon: Eléments de rhétorique classique, Nathan, 1990, pp.37 -38
16- Rhétorique p 85
17-Emetteur, message, récepteur: les trois facteurs de la persuaion, in sciences humaines, n! 38, avril 1994, p .20
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6713