الصــورة الثـابتة محاولة تحديد *

Bengrad
2021-06-04T22:11:23+00:00
العدد الخامس
13 أغسطس 2020424 مشاهدة

غـي غوتـيـي

ترجمة عبد العلي اليزمي – كلية الآداب – مكناس

تحتل الصورة المسماة “ثابتة” مجالا أقل تحديدا من الصورة المتحركة رغم قدمها، والتسمية المعطاة لها مستمدة أساسا من تعارضها مع نظيرتها المتحركة، وهذا يعني الشيء الكثير: إن الثبوت لا يصبح سمة مميزة إلا إذا كانت هناك في المقابل حركة. وهكذا فالصورة عبرت قرونا -حوالي الثلاثين- دون أن تُدرك باعتبارها مجموعة موحدة؛ وكان من الضروري انتظاراختراع السينما لتحصل، ظاهريا على الأقل، على وحدة.

هل يمكن الحديث فعلا عن وحدة الصورة؟ إن المعنى الشائع يتحفظ في هذا الشأن باعتباره يلغي من تسمية “صورة ثابتة” كل ما يتعلق بالرسم الصباغي وبشكل أعم كل ما يتعلق بالصورة التي تستمد مشروعيتها من الثقافة. والصورة الثابتة هي الصورة الفوتوغرافية والإعلان (المكتوب أوالفوتوغرافي) والرسم الصحفي وربما النحت الخشبي والأشرطة المصورة (متوالية من الصورالثابتة،) ولماما ما تكون-والأمر يتعلق هنا بجنوح عاطفي- لوحة لسيزان أوماتيس. وإذا قبلنا بهذا التصنيف التبسيطي فإننا نجد أن الصورة الثابتة بالمعنى الشائع دائما تتحدد تارة انطلاقا من مادة الدال وتارة أخرى من خلال مادتها، مرة بالتقنية المستعملة في إنتاجها ومرة أخرى باعتبارها مادة سردية. والحقيقة أنها ليست سوى غشاء عملي يسمح خصوصا بالحديث عن أي شيء كان باستثناء الصورة. والمتخصصون أكثر دقة من غيرهم؛ فهم يكتفون في غالب الأحيان بتحديد يمليه تخصصهم (سوسيولوجيا، تاريخ) ويستعينون لدعم برهنتهم، عند الضرورة، بعنصر معزول أُخذ من مجال قريب لتخصصهم. وعلى سبيل المثال، فإن الصورة الإشهارية التي كانت وراء العدد الكثير من الدراسات ليست في الحقيقة سوى إرسالية ضمن شبكة تواصلية معقدة تحتل داخلها المعطيات الاجتماعية والنفسية موقعا متميزا يغطي على خصوصيات الدال الأيقوني. والعديد من الدراسات لا تميز قط بين الصورة الثابتة أوالمتحركة ولا بين الإعلانات الإذاعية والشعارات المكتوبة وهو ما يعني أن المنتوج المقدم،أوالتأثير على المستهلك، يهم أكثر من بنية الإرسالية أوخصائص الوسيلة المستعملة في الإشهار.

أمام هذا التواطئ بين المعنى الشائع والمقاربة العالمة يمكننا أن نتساءل عن جدوى هذا التحديد : الصورة الثابتة، وهي تسمية يكتنفها الغموض ليست لديها أية قيمة إجرائية، وبالتالي فلن تكون لها أية صلاحية لتشكل موضوع دراسة. إن اللسانيات قادرة على التعبير عن بعض مظاهر اللسان سواء كان مستعمله سارتر أو ابن السنتين؛ وليس هناك علم يمكنه بالطريقة نفسها أن يعرف بالصورة الثابتة. السينما وحدها استطاعت أن تتخلص من وضعها الصُّوري (نسبة إلى الصورة) بفضل عامل الزمن، وبهذا تستطيع أن تشكل موضوع علم مستقل؛ وما تبقى فلن يكون في أحسن الأحوال سوى مناسبة لإبداء ملاحظات ميتافيزيقية أوجمالية.

وباختصار لا معنى داخل الفضاء، المعنى يوجد داخل الزمن وحده، هذا تأكيد فيه مبالغة وإجحاف خصوصا إذا تذكرنا المالاحظات الثاقبة لباحثين مرموقين بدءا بـ لوروا گورهان مرورا بـ فرانكاستيل ووصولا إلى بارث،. لكن هذه الأسماء تذكرنا أن الذين تحدثوا عن الصورة جاءوا إليها من ميادين أخرى : ما قبل التاريخ وسوسيولوجيا الفن، السميولوجيا. فالصورة توفر أمثلة وتوضيحات بعيدة، إنها ليست موضوعا في ذاته.

وسيكون السؤال هو : هل يمكن للصورة، في تنوعها، أن تكون موضوعا للدراسة في ذاته؟ وهل يمكننا أن نؤسس علما عاما للصورة الثابتة، هذه الصورة التي لا تتوفر سوى على بعدي الفضاء لنشر المعنى.

إن حضارتنا، تلك التي تسمى غربية، ذاك الخليط الموروث للحضارتين اللاتينية والأنكلوساكسونية تجد صعوبة في تمييز الصور البصرية عن العالم المرئي؛ وعلى ما يبدو، فالصور لاتوجد سوي لتكرار العالم بشكل أقل إتقانا مما هو عليه في الأصل، ويسمح لها بالانزياح قليلا عن الأصل ما دامت لا تستطيع تقليده بإتقان. وعلى أية حال، فالعودة إلى النموذج الأصلي تمكن من الحسم في نهاية المطاف. إن الإدراك البصري لايستطيع تقطيع مجالين مستقلين فعلا وهو منبع خلط دائم. وسنفهم أحسن هذا الخلط الذي يبدو لنا أمرا عاديا إذا نحن انتقلنا إلى العالم الصوتي. فالأصوات المستعملة في التواصل-الألسن، الموسيقى- ليس لها سوى علاقات متباعدة مع الضجيج المحيط بنا. إن تقليد أصوات الحيوانات وخرير المحرك أو دوي الرعد مسألة تتعلق أساسا بموهبة ليس إلا. فالموسيقي الأكثر تقليدا لا تطمح إلا لماما لهذا النوع من المحاكاة. اللسان حالة نموذجية : إنه نسق مستقل تماما وليس له عمليا أي تقاطع مع محيطنا الصوتي؛ إنه لا يبحث قط -أو لم يعد يفعل ذلك- على إعادة إنتاج هذا المحيط الصوتي؛ لكن من السهل عليه أن يتحدث عن المرئي، أن يعبر عن الأفكار والأحاسيس. هناك من سيعترض بالقول إن التقنية قد قامت بنقل نفس الظاهرة إلى البصري ما دامت القراءة تعنى النظر وليس السمع. لكن هذا الشكل من التواصل البصري لا يستمد صلاحيته إلا من اللسان. وقد حاولت قديما بعض المجتمعات أن تتصور الكتابة باعتبارها وسيلة للتواصل مستقلة عن اللسان؛ لكنها فشلت في ذلك وآل بها المطاف في النهاية وعبر طرق مختلفة إلى تبني طريقة النقل اللساني. وهكذا، فباستثناء الكتابة، وهي نسق ثان، فإن التواصل البصري يكاد يميز الإرسالية عن المرجع. ويجب على كل مقاربة للصورة أن تتوفر على الأدوات التي تسمح لها بإجراء هذا التمييز بشكل واضح.

إذا نحن استثنينا بعض المناظرالطبيعية، وهي تتقلص باستمرار، نجد أن تدخل الإنسان قد مفصل كل مقطع من الفضاء ليلتقطه مجال بصرنا. إن إعادة ترتيب المنظر الريفي الفرنسي مثلا تطلبت قرونا طويلة.

ويتضح الأمر أكثر في المجال الحضري الذي يشكل تركيبا لأشكال وألوان حاول المهندسون المعماريون، بنجاح كلي أو جزئي، السيطرة عليها. إن الحدود بين النصب والنحت -المعبد الهندي عبارة عن نحت ضخم، في حين أن بعض المنحوتات العصرية هي نُصُب صغيرة- حدود هشة. بقيت مسألة القطيعة التي يمكن أن نناقش مدى أهميتها ولكنها على الأقل غير قابلة للمناقشة على مستوى المعاينة؛ وهي المتعلقة بالمرور إلى السند ذي البعدين الذي يلغي الأحجام. إن حيطان مغارات ما قبل التاريخ، وهي بدون شك أولى أشكال السند المعروفة، لا زالت تثير نوعا من النزوع نحو العمق. والأمر كذلك بالنسبة للنقش المحدودب والنقش الخفيف اللذين سيخلقان دائرة للتردد. إن مفهوم السند هذا، عدا التحديد الموضوعي الذي يسمح به، يحيل، هو والأداة المنتجة، على كل التكنولوجيا، وبالتالي على تنظيم قوى الإنتاج في حضارة معينة.

وهكذا فإن المساحة المنبسطة بتغيراتها المختلفة (بدءا من الرسم الصباغي على الحيطان ووصولا إلى الطابع البريدي) والتي تتأثر بانزلاقات (الحيطان) وتعرجات (سقوف)، تبتعد موضوعيا عن مفهوم الحجم وتزج بنا في عالم مستقل له تنظيمه الخاص وعلى درجات متفاوتة من التقارب من الواقع. إن هذا التقارب يطرح بالطبع مسألة الدال : هل هو معلل أم اعتباطي حسب التمييز القديم والراسخ لسوسير.

إذا كان اللسان ينحو نحو الاعتباطي، فالصورة تنزع أكثر إلى التعليل. فالمُعَلل، على عكس رأي شائع، هو أيضا نتاج توافق باعتبار أن مسارات التخطيط لا تعد ولا تحصى : هكذا فمن غير المفيد أن نتكلم عن >علامات موضوعة< مادامت كل العلامات موضوعة بطريقة أوبأخرى. وبالمقابل، فإن المعلل ليس مرتبطا بالضرورة بما هو ملموس، والاعتباطي بما هو مجرد : يمكنني أن أشير في خريطة إلي قصر باستعمال شكل لا علاقة له بالقصر، وعلى العكس من ذلك يمكن اختيار تخطيط مستمد لاشعوريا من الأشكال المقولبة لثقافة ما، للتعبير عن فكرة معينة. إن التعارض الأصلي قائم إذن بين أربعة أطراف : الملموس-المعلل/ المجرد-الاعتباطي، مع كل التنويعات الممكنة. فالتعليل من جهة يذكر بوجود نوع من “التشابه”، أو على الأصح قرابة بنيوية بين مجال البصر والصورة: إننا هنا نتموضع كلية في مجال الإدراك البصري. ومن جهة أخرى، فإن التعليل يدعونا إلى استكشاف المسلمات -دوافع، خصائص ثقافية مستبطنة- التي تؤثر على الذات المتلفظة دون علمها في الكثير من الأحيان. هناك تداخل بين هذين النوعين من التعليل : إن صورة الأشياء معللة بشكلها (وهذا ظاهريا معطى موضوعي) وكذلك ببعض الخصائص الثقافية للإدراك؛ إن الإرساليات البصرية التي تنحو نحو التجرد لاتخلو بدورها من نزوع إلى استعمال وساطة الأشياء المحيطة بها. فالإرغامات الخارجية (وهي إلى حد ما موضوعية) والإرغامات الداخلية (وهي ليست ذاتية كلية) تتداخل فيما بينها. لا يمكن إذن تصور سميائيات للإرساليات البصرية الثابتة إلا في إطار نسق ثقافي أشمل. إذاك سيصبح الأمر يتعلق بمسألة المنهج : كيف يمكن كشف أمارات هذين الصنفين من الإرغامات؟

ونجد أنفسنا، لوهلة من الزمن، نتحسر، دون جدوى، لعدم كوننا صينيين في مثل هذه المناسبة؛ عندما يرسم الخطاطون الصينيون (وبالتالي الرسامون، مادام الشعر والخط مرتبطين بشكل وثيق في التقليد الصيني) فوق الورق الخط الأول من الحرف فإنهم مقتنعون بأنهم يعيدون خلق العالم. وعلى ما يبدو فقد خرجنا من عنق الزجاجة. والمسألة تتعلق بفلسفة وبتصور للعالم. كل الأمور تبدأ، بالنسبة لنا بالفوضى العارمة : يجب علينا الاشتغال انطلاقا من تعقد العالم المرئي لنجعله يخضع لنظامنا ولننتقي منه علاماتنا. وفي نهاية المطاف لايفضل سوى خط واحد، ويشكل هذا الخط بالنسبة لنا نهاية على عكس ما هو الأمر في التقليد الصيني. وليتمكن هذا الخط من استثارتنا وتحريك أحاسيسنا يجب عليه أن يكون مختلفا بشكل دقيق عن ملايين الخطوط المسطرة قبله. إنهاالحركة نفسها نعيدها ونصححها دون كلل. إن الصيني ينطلق من الشكل ليصل إلى الشيء في حين أننا ننطلق من الشيء لنصل إلى الشكل. ومهما كانت الزاوية التي ننظر منها إلى الأمور فإننا لن نخرج عن هذه الثنائية.

مادمنا لم نستفد من هذه الثنائية، فإننا أردنا عقلنتها (وهذا قبل السميولوجيا التي هي موضوع اتهام منذ 20 سنة من طرف بعض خفاف العقول) ورأينا فيها شيئا ما يقارب التمفصل المزدوج. المستوى الأول للتمفصل : الشيء. المستوى الثاني للتمفصل : الأشكال البسيطة المتكررة. وللأسف فإن هذا التمييز غير صالح، أولا لأنه يمكننا قلب طرفي المعادلة : إن الشيء لا يتجلى أحيانا إلا بشكل ضعيف في مجموع الأشكال القوية. وثانيا لأن الأمر يتعلق بعالمين متوازين يتطابقان دون أن يتمفصلا. فتارة تكون الغلبة للشيء عبر وظيفته الواقعية و/ أو الرمزية، ويغمر الأشكال. وتارة أخرى فإن الشكل يهيمن لدرجة أن نفس اللون أونفس الخط يضم أشياء كثيرة غير متمايزة ويحور معناها، هذا عندما لا يعلن عن تعبيريته الخاصة والمستقلة تماما.

لهذه الأسباب كلها فإن الصورة لم تثر منذ العمل النظري الضخم لعصر النهضة أي علم خاص بها، وتستمر، تبعا للعادة، في الإحالة على هذه الفترة المجيدة وعدا ذلك ، فإنها ترقع وتستعير من علم النفس والتحليل النفسي ومن اللسانيات ومن المعلوميات.

*النص المترجم مأخوذ من كتاب :

Guy GAUTHIER, Vingt leçons sur l’image et le sens,Ed. edilig, Paris, 1986, pp. 5-8