الصورة، والذات و المعنى والعلامات بعض الأسس المفهومية لسميائيات بارث “الفينومينولوجية” حول الصور الفوتوغرافية

Bengrad
2021-06-04T22:10:50+00:00
العدد الخامس
13 أغسطس 2020373 مشاهدة

عبد الرحيم كمال – كلية الآداب – مكناس

تقـديم

مر الفكر السميائي البارثي عبر مراحل ثلاث تحدث عنها هونفسه بتفصيل في محاضرته المغامرة السميائية (L’aventure sémiologique)(1). وستليها مرحلة رابعة وأخيرة سيسميها إيكو بمرحلة moralité (2). وإذا كانت مثل هذه الكلمة تستعمل إجرائيا لتحديد فترة زمنية ما في سيرورة فكر ما، فإن هذا ما سيدفعنا إلى تحديد الخصائص المميزة لكل حقل أو موضوع داخل هذا الفكر. إن ما يهمنا في هذا العمل هو استخراج ومناقشة بعض المفاهيم التي كونت أسس المرحلة الرابعة وخاصة في حقل الصورة الفوتوغرافية، أسس يمكن استنباطها من كتابين سبقا بسنوات عدة كتابه الموسوم: الغرفة البيضاء(La Chambre claire) (3)، ويتعلق الأمربـ: إمبراطورية العلامات (L’Empire des signes)(4) وبارث بقلم بارث (Barthes par Barthes)(5). ونريد أن نبين كيف أن مكونات ما يسميه “فينومينولوجيا عابثة” (phénoménologie désinvolte) هي مفاهيم فلسفية شرقية وإعادة قراءة للذات/الجسد، إذ لا يمكن فهم الغرفة البيضاء إلا على ضوء الكتابين المشار إليهما.

1- إمبراطورية العلامات : فلسفة تقصي المعنى والذات.

إن من يقرأ إمبراطورية العلامات لا بد وأن يتساءل حول “النوع الأدبي” لهذا الكتاب. لنقل مبدئيا إنه عبارة عن “مذكرات سفر” تحكي اللقاء الفكري والجسدي بين الغرب والشرق. لقاء تتبع فيه الناقد خصوصية العقل الشرقي (الياباني)، الشيء الذي سيدفعه إلى التشكيك في “عالمية” القيم والمقاييس والمفاهيم السميائية الغربية، والكتاب محاولة لتكسير هيمنة السميائيات الغربية (La sémiocratie occidentale) ومحاولة لتعلم طرائق جديدة للتعامل مع العلامة ومع الإنسان والصورة واللغة. وهذا ما سيؤدي به إلى نوع جديد من المعرفة (السميائية) لا تقوم حتما على استخراج دلالة الأشياء، ولا تقوم حتما عى ذات مجردة، بل تهتم فقط بالصفة المرئية/الخارجية للشيء وللدال. وتبعا لهذا المنظور سيقرأ بارث “الحكاية-اليابان” على أنها موضوعا مرئيا أوفرجة (spectacle) يتكون من أيقونات لا دلالة لها سوى موضوعيتها خارج الذات المشاهِدة.

بهذه المقاربة سيتحول بارث من سميائي الدلالة (اللغوي التكوين) إلى سميائي اللادلالة، أو بالأحرى “منع الدلالة”، وسيأخذ الصمت اللغوي (يقصد اللغة الداخلية -المونولوغ- ولغة التواصل) مكان المعنى. وهذه المقاربة في حد ذاتها تكسير للفكر السميائي الغربي الذي ينبنى في جوهره على البحث عن دلالة الأشياء والعلامات، وعلى فكرة أن ذاتا مجردة وتاريخية هي التي تمنح الدلالة لهذه الأشياء وهذه العلامات. وهنا يتعلم بارث من الشرق حدود الفكر الغربي، وعي سيدفع به إلى التشكيك في أسس هذا الأخير، يقول الناقد : >حان الوقت للتشكيك في الإيديولوجية التي تنطوي عليها لغتنا (الغربية)<(6).

من هذا المنطلق قام بارث بمقاربة كشفت عن التحول العميق الذي لحق تصوره السميائي. فإذا كان الغرب يحافظ على سيرورة منظومته الإيديولوجية بواسطة الأسطورة، أي بعض العمليات الدلالية التي تعمل على تطبيع التاريخ والثقافة، فإن الشرق يؤمِّن سيرورة فكره بالتقليص الكبير من تدخل الذات المانحة للدلالة (أي اللغة) : فالعلامات موجودة هناك، أمام العين، معروضة في طبيعتها المرئية، ولا شيء وراء سطحية مشهدها. وبعبارة أخرى، إذا كان الغرب >يبلل كل شيء بقليل من الدلالة<(7)، فإن الشرق يأخذ الأشياء وعلاماتها بصفتها معطيات مرئية محضة. وهذا الاختلاف يقابل -من منظور الباحث في ميدان العلامات- بإجراءين متعارضين : إما أن يُدخل المرء الدلالة كُرْها في الشيء المنظور إليه (effraction de sens) وهي طريقة الغرب في تناول العلامات، وإما أن يعفيه من الدلالة (exception de sens) وهو المبدأ الذي ينظم فلسفة “السميائيات” الشرقية.

2- العالم فرجة دائمة

إذا دققنا النظر في المفردات المستعملة و المهيمنة في إمبراطورية العلامات سنلمس مدى تسرب هذه الفلسفة داخل المنظومة اللغوية للناقد. فكل مكونات المشهد الياباني يقرؤها بارث على شاكلة أيقونات ذات نسق جمالي معين تنتهي وظيفتها في ذاتها أي في تناسق سطحي محض لعناصرها التشكيلية : ألوان، خطوط، أشكال.

وسنقتصر على بعض الأمثلة. فالطبخ الياباني مبني أصلا على جمالية تعطي الأهمية للألوان والخطوط، إذ يصبح الصحن عبارة عن إطار تنتظم داخله ألوان وأشكال وخطوط الماكولات(8)، والعلبة بدورها مجموعة من التأطيرات اللامرئية بين الشيء المعلب والإنسان(9). أما بالنسبة لآداب المعاشرة كالتحية مثلا، فإن هذا البروتوكول عبارة عن أسْنُن فارغة من أية دلالات اخلاقية : فالانحناءة، على سبيل المثال، تشكيل خطي وليس علامة خضوع أوخنوع (10). تلك بعض الأمثلة التي تبين هذه التصورات الجديدة عند بارث المبنية على التعاطي مع الظاهرة كسطح محض، وتقف عند الرؤية الخالصة للعالم. وهنا لا بد من توظيف مفهوم جديد سيلعب دورا هاما في تركيبة هذه “الفلسفة” ألا وهو مفهوم “الساطوري” الزيني الأصل (من zen).

3-مفهوم الساطوري والصمت اللغوي الدلالي

تشير هذه الكلمة إلى حالة المتلقي أمام حدث ما، حالة يُتلقى فيها الحدث/الشيء في جانبه الحرفي والمحايد والصامت دلاليا : حالة ذهنية شعورية تتوقف فيها اللغة وعملياتها الدلالية وكأن >العلامة تُلغي نفسها قبل أن تبدأ أي دلالة بالالتصاق بالحدث<، إذ يكتفي المتلقي/الرائي بملاحظة وجود الشيء/الحدث أمام عينيه ولا يسعى إلى إعطائه معنى ما لأن هدف العلامة في هذه الحالة هو الإشارة فقط إلى الوجود المحض (l’être-là) وليس الدلالة على شيء ما.

يمكن القول إذاً إن فلسفة “الزين” (zen) التي يرتبط بها مفهوم “الساطوري” لا تقدم للباحث ميتافيزيقا تنظم داخل جدلية ما الإنسان والآلة والدلالة، أي تغيب فيها اللغة التي تُوجِد الآلة والإنسان والدلالة. وبالفعل، وإذا نحن تابعنا هذه المفاهيم إلى حدودها القصوى، سنجد أنها تتضمن تصورا خاصا لمسألة الوجود تنبني على قلب العلاقة بين العالم الخارجي والإنسان، إذ أنه بإقصاء الذات (المجردة ولكن المانحة للمعنى) والدلالة سيصبح الوجود معكوسا لأنه مبني على منظور معكوس : من هذه الزاوية، ليست الذات هي التي تُحَين العالم وعلاماته عبر الكلام، بل العكس، إن العالم وعلاماته هي التي توجد وتحين الذات. وبعبارة أخرى ليست الذات هي التي تنظرإلى العالم وتقرأ علاماته بل العكس، إن العالم وعلاماته هي التي تنظر إلى ذات الإنسان وتوجده عبر ما تحدثه داخله من فراغ لغوي (الساطوري) أوامتلاءه.

انطلاقا مما سبق، يمكن للقارئ أن يفهم معنى الاستعارة التي يفتتح بها بارث كتابه إمبراطورية العلامات : >إن الكاتب (يقصد نفسه) لم يسبق له في أي وقت أن صوراليابان فوتوغرافيا، بل العكس هو الصحيح : لقد “أصقعه” اليابان بومضات ضوئية عديدة، أوبالأحرى، لقد وضعه اليابان في وضعية تسمح له بالكتابة<(11). ويكررالناقد نفس الفكرة في آخر صفحات كتابه إذ يقول : >ليس الحائط الكبير هو الذي يحدد المكان (الذي أوجد فيه) ولكنه التجريد الحاصل عن اللقطات (البصرية/الضوية) التي تؤطرني<(12). وهكذا يصبح وجود الذات رهينا بالصور الضوئية التي يؤطر بها العالم هذه الذات.

4- الهايكو الفوتوغرافي

إن هذا التصور الفوتوغرافي للوجود لا يكتمل فهمه إذا لم نتحدث عن عنصر آخر أساسي في الثقافة اليابانية. عنصر أملى على بارث بعض الأسس النظرية حول الشكل المتزامن : ألا وهو فن الهايكو (haïko). وقد سمي بالفوتوغرافي لاحتواء هذا النوع الأدبي على خصائص فوتوغرافية محضة. ومن مميزات هذا “الأدب” أيضا صفته المباشرة وشكله المقتضب : ثلاثة “جمل” قصيرة تكون صورة شبيهة بالومضة الضوئية الخاطفة، وتستقي موضوعاتها من الواقع اليومي العادي حيث تلتصق بحرفية الشيء/الحدث. وتكمن أدبيته (littérarité) في حرفيته (littéralité). والهايكو لا يحتوي على معنى مضمن ما لأنه لا يسمح بأي تعليق أو تحليل ولأنه، كما يقول بارث، >يُسمع مثل النوطة الموسيقية< لا دلالة لها سوى ماديتها الظاهرية. وإذا كان الهايكو يسجل الأحداث البسيطة والدقيقة فهو عبارة عن ظهور عابر يشبه >طَيَّة تقع، بسرعة الومضة، في صفحة الحياة وفي “حرير” اللغة< (13).

الهايكو صورة فوتوغرافية إذا استثنينا جزئية بسيطة، يقول بارث >إن ومضة الهايكو لا تضيء أي شيء و لا تكشف عن أي شيء، إنها ومضة الصورة الفوتوغرافية التي نأخذها بدقة (يابانية) ولكن دون أن نكون قد حشونا جهاز التصوير بالشريط الحافظ للصور<(14). الهايكو إذا صورة فوتوغرافية بدون شريط حافظ، هو صورة معلقة في العين (أي بدون وعي أو ذات أولغة أومعرفة، بدون جسد) وتُلغي المعنى لأنها تعرض نفسها كرؤيا خالصة وكخطاطة عابرة بدون أثر.

5- رولان بارث بقلم رولان بارث : استرجاع الذات /الجسد

خمس سنوات بعد إمبراطورية العلامات، سيكتب بارث سيرة ذاتية من نوع خاص جدا ،بارث بقلم بارث. وستشتمل هي الأخرى على بعض العناصر الذاتية التي ستسهم في تبلير الفكر الفوتوغرافي البارثي الذي سيتشكل نهائيا في كتابه الغرفة البيضاء.

ففي هذه “السيرة الذاتية” سيميز بارث بين المكتوب والمرئي. فالمكتوب لايمكن له أن يُكوِّن سيرة ذاتية ما دام يعتمد على اللغة (أي سننا من نسيج الجماعة أي الإيديولوجيا)، وهذا ما حذا به إلى التمييز بين متخيل الكتابة (النص) وبين متخيل الصورة (الفوتوغرافيا). وبعبارة أخرى تبدأ مرحلة الكتابة (العقلنة، الجماعة، الإيديولوجيا) حيث تنتهي مرحلة الصورة (الانبهارالبريء، الأنانية، اللذة، الرؤيا الجسدية). وهذا ما يفسرالخاصيات الشكلية والموضوعاتية لسيرة بارث. وإذا كانت السيرة الذاتية الحقيقية مصورة فقط، فنحن عندما نكتب سيرتنا الذاتية كتابة نكتب سيرة فقط، أي نوعا من النصوص يتموقع بين ما هو روائي وما هو واقعي. لهذا السبب يكتب بارث في الصفحة الثانية من رولان بارث بقلم رولان بارث هذه العبارة : >يجب اعتبار كل ما كتب هنا وكأنه قيل من طرف شخصية روائية<. وعلى هذا الأساس تكون الصورة الفوتوغرافية عند رولان بارث تمثيل للجسد/الذات. الجسد بكل تواريخه، والكتابة اندثار للجسد وظهور ذات جماعية مؤدلجة، مجهولة .

وخلاصة القول، إذا كانت فكرةإلغاء الذات والمعنى وفكرة الوجود المعكوس و”فلسفة” ظاهراتية الحدث/الشيء هي من مكتسبات إمبراطورية العلامات، فإن النتائج المميزة لـرولان بارث بقلم رولان بارث هي استرجاع الكاتب لذاته/الجسد التي تعطي الدلالات لما يحيط بها ويحركها. وكما سبقت الإشارة، فإن هذه التصورات الجديدة تشكل الصرح المفهومي لكتابه الغرفة البيضاء وخاصة لما سيسميه بالمعرفة الخاصة (Mathesis singularis) أوالمتفردة. فكل تلك العناصر سينظمها الكاتب تحت ما يسميه بــ”الفينومينولوجيا العابثة”. وهي مقاربة يُؤخذ فيها الجسد منطلقا لتحديد طبيعة الصورة الفوتوغرافية ومكوناتها الشعورية والجمالية. بل أكثر من ذلك، ستأخذ صورة أمه (الجسد الأصل) دور المحرك الأول لهذه المغامرة الفكرية الفريدة. يقول بارث متحدثا عن صورة معينة لأمه >كان يطفو على هذه الصورة شيء ما مثيل بجوهر الصورة الفوتوغرافية فقررت إذ ذاك أن “أُخرج” كل الصورة الفوتوغرافية (أي نظريتها) وطبيعتها من هذه الصورة الوحيدة التي اعتبرها فعلا صورة وأن أستعملها بشكل ما كمرشد لهذا المبحث الأخير<(15).

———————————————-

الهوامش

1- انظر “”L’aventure sémiologique في كتابه الذي يحمل نفس العنوانL’Aventure sémiologique . وفي هذ النص يميز بارث بين مرحلة الانبهار ومرحلة العلم ومرحلة النص

2- انظر Eco ,Umberto et Isabella Pezzini: La Sémiologie des mythologies ; in Communications n! 36, 1982, pp.19-42

3-Barthes Roland: La Chambre claire, Cahiers du cinéma , Seuil, Gallimard

1980

4- Barthes Roland:L’Empire des signes,Flammarion-Skira, collection champs, 1970

5- Barthes Roland: R Barthes par R Barthes , Seuil , 1975

6- L’Empire des signes, p. 16

7- نفسه ص.90

8- انظر مثلا ص. 58 وما يليها

9- انظر ص.71 وما يليها

10- انظر ص. 88 وما يليها

11- L’Empire des signes, p. 145

12نفسه ص. 145

13- نفسه ص. 101

14 نفسه ص. 111

15-نفسه ص. 114