مشهد من الأرض المشاع

Bengrad
2021-06-04T22:10:37+00:00
العدد الخامس
13 أغسطس 2020313 مشاهدة

كمـال بلاطـة

ترجمة خالد التوزاني: كلية الآداب فاس

إنني على يقين أن عمل الإنسان ليس إلا رحلة طويلة لاسترجاع، صورتين أو ثلاث صور بسيطة وعظيمة نفذت إلى قلبه أول مرة، من خلال منعطفات الفن. البيــر كامـــو.

لقد اقتحم معنى عبارة >الأرض الحرام< أجواء حياتي وأنا دون العاشرة. ولم يمر آنذاك وقت طويل على تقسيم القدس، مسقط رأسي، إلى عالمين منفصلين. فمن جهة شرع السكان اليهود في العيش في دولة كلها خاصة بهم. ومن جهة أخرى كان العرب، وبغض النظر عن انتمائهم الديني يترنحون تحت وطأة أنقاض حياتهم المحطمة حديثا. فالأسلاك الشائكة رسمت الحدود التي كان يمنع علينا تجاوزها. وأصبحت المناطق التي أطلق عليها الكبارالأرض الحرام الرابط الوحيد بين الشطرين المنفصلين في مدينتنـا. ومن خلال لفائف الأسلاك الشائكة بدأنــا نشاهد ما يشبه أرضــا خرابا، أرضا عضالا، شبحا ينتاب حارتنا. إن اختراق النباتات البرية لاسترجاع كرة شردت كان بالأمس يعني البحث في حقل أحد الأقارب وأصبح اليوم يعني المجازفة بالحياة: المشي على لغم أوالسقوط ضحية لرصاصة قناص.

وخلال عقد من الزمن ضمت إسرائيل ما تبقى من مدينة القدس. وبإعلان القدس >العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل< فقد حكم على كل فلسطيني مثلي أن يكون غريبا في مدينتنا، مسقط رأسنا. وتحركت الجرافات الإسرائيلية لطمس معالم الأرض الحرام، تلك الأرض التي كانت من قبل جماعية وجعل الإسرائيليون منها حيزا من اللامكان. ثم تحولت المنطقة إلى الرمز الدائم لحالة النفي التي وجدت فيها نفسي. ومع ذلك، فإن انصهار هاتين التجربتين الجوهريتين في حياتي ليس في نظري من قبيل المجاز. إن حالة التوجس الناتجة عن تقسيم القدس بالإضافة إلى الأوضاع اليومية المزرية لهذه التجربة تؤكد حتمية منفاي الفعلي، وحينما انصهر الترابط بين الحالتين في اليوم الذي أزيحت فيه الأرض الحرام من القدس، أصبح المنفى واقعا مركزيا في حياتي.

وبدخولي حالة المنفى تضخمت الانقسامات وتراكمت الانقطاعات أثناء سنوات تكويني فأضحت مجموعة مختلفة من الانكسارات والشظايا وأصبح الانطواء وسيلة غريزية للبقاء من أجل تحمل المحن العويصة المترتبة عن النزوح. إن العالم الخارجي بعد أن أصبح خاضعا للتقسيم بين اليهود والعرب قد جعل الآن من عالمي الداخلي قطبين متنافرين. وكان القطب الأول متجذرا في الذاكرة المعذبة لمسقط رأسي وثقافتي. بينما علق القطب الثاني على توقعات مسترسلة ولا نهائية في مكان إقامتي. وأثناء رحلتي المحفوفة بالمخاطر والتي ذكرتني بمجازفاتي أيام الشباب في الأرض الحرام أصبح وعيي بالحضور المتزامن للمتناقضات يتنامى. وانطلاقا من الوضعية الشاذة المشرفة على شطري عالمي بدأت ملامح وإمكانيات التعبير عن منظور جديد تظهر إلى الوجود.

وبما أنني اعتبرت “غريبا” في مسقط رأسي فإن ذلك يعني أن تحديد هويتي “بالآخر” في مكان إقامتي أمر حتمي. هذه الثنائية طبعت محاولتي للرد على التحديات السياسية التي طرحتها كل من السلطة الثقافية في مكان منفاي وحالة الهيمنة في ثقافتي الأصلية. ذلك أن كل مركز ثقافتي ولّد هوامشه الخاصة به: ففيما يخص الثقافة الغربية، فقد حصل التمركز الأوربي الكامن في الخطاب المهيمن على الشرعية المؤسساتية وذلك على امتداد حقبة طويلة من الزمن. ويعود تاريخ هذا التمركز إلى اللقاءات المبكرة بالشعوب الأخرى خارج أوربا. وهكذا فمازال النتاج الفني المعاصر غيرالغربي كما هو الشأن بالنسبة لي يصنف >إلى أشكال ثانوية أو إثنية<. وسواء أنتجت هذه الأشكال التعبيرية في مستعمرة سابقة أو في مدن غربية كبرى، وبعض النظر عن القيمة الذاتية للفن، فإنها تبعد إلى أقصى هامش الذات المركزية.

أما فيما يخص الثقافة العربية، فإن الهيمنة المطلقة للتعبير الشفوي على الأشكال التعبيرية الأخرى قد تحكمت لقرون عدة في مسارالهيمنة الثقافية. إن الشرعية المؤسساتية للثقافة الشفوية تستمد سلطتها من المكانة الجوهرية للكلمة في الفكر الإسلامي والارتباط التاريخي للكلمة بالوحي الإلاهي، وكنتيجة لهيمنة >كل ما هو لغوي< فإن البصري سواء داخل أو خارج العالـــم العربي، سواء أنتجه العرب أو غيرهم، لايزال يقابل عموما باللامبالاة. وفي أحسن الأحوال، يعد الإنتاج الفني للعرب المعاصرين هامشيا بالقياس مع هيمنة الكلمة.

وبالرغم من إقصائي من المركزين اللذين يكونان أفق ثقافتي، وربما بسبب ذلك، فإن ابتعادي عن مركز ثقافتي الأصلية واقترابي من مركز الثقافة الغربية لم يقطعا أواصر ذاكرتي الثقافية ولم يجعلاني أقرب إلى التيار الغربي المهيمن. بل إن الموقع الفريد الذي يمكنني من مشاهدة المركزين في نفس الآن قد منحني منظورا كالذي عرفته في الأرض الحرام. ومن هذا المنظورالنقدي، ألح اليوم على عدم قابلية انقسام الجانبين اللذين يكونان رؤيتي في المنفى.

وفي الفضاء اللامحدود بين المركزين لا تسعى أعمالي إلى جعل الهوامش التي تتحدد داخلها شيئا مثاليا ولا إلى جعل أحد المركزين الذي يمكن أن تدورفي فلكه شيئا رومنسيا. وكل من الهوامش والمراكز، كما يقترح جيل دولوز وفيليكس غواتاري في دراستهما للأدب الثانوي، ثابتة ومحدودة بالنسبة لهذا النوع من الرحلة البدوية التي تسمح بميلاد ما يسمى بالفن الهامشي كما هو الشأن بالنسبة لفني.

وقبل رسم المسار الذي اتخذه فني بين الهامش والمركز، أقدم، أولا العناصر التي تحدد عملي كشكل فني ثانوي، وأثناء بلورة هذا المفهوم، ركز دولوز وغواتاري على كتابات كافكا، وهواليهودي الذي كان يكتب باللغة الألمانية ولكنه كان يعيش كمغترب في مدينة براغ. فإن الأدب الثانوي، كما يشرحانه: >لا ينتج عن لغة ثانوية، بل يتعلق الأمر بما تنشئه أقلية داخل لغة رئيسية<(1). ويمكن الاستفادة من اقتراحهما بحيث يطبق على الفن البصري الذي ينتجه فنانو العالم الثالث المقيمون في العواصم الغربية. وفي سياق اغترابهم يستعمل هؤلاء الفنانون أدوات ووسائل الاتصال ولغة الصور التي لم تطور في بلادهم الأصلية، بل طورت في ثقافة يعتمد فيها الخطاب التمثيلي المهيمن على صمت الذات الممثلة. وهكذا يحدد دولوز وغواتاري لاتوطينية اللغة deterritorialization of language كأولى الخصائص الثـلاث التي تميز الأدب الثانـــوي(2)، وفيما يخص الفن البصري، يحيل اللاتوطين على الطريقة التي يتعامل بها فنانو العالم الثالث مع اللغة البصرية التي تنفي وجودهم.

إن المطالبة بالوطن الذي >حكم عليهم فيه بتخيل مشهد الموت في عزلة إلى الأبد<(3) هي الوسيلة الأولية لفناني العالم الثالث لإثبات حياتهم والاحتفال بحريتهم. ويعرف دولوز وغواتاري الخاصية الثانية للأدب الثانوي بوصفه العلاقة اللازمة للفنـان-الفرد >بالآنية السياسية<. بمعنى أن تمام المعنى الفني يتحقق في الفضاء الضيق أوفي هوامش عالمي الفنان كرد فعل على النفي. وبين هذين العالمين، يتعلم الفنان أن يكون دائم التنقل ومهاجرا وغجريا في علاقته بلغته(4). وينتج عن هذا الدورالحاسم ما يعتبره دولوز وغواتاري الخاصية الثالثة للأدب الثانوي: >التركيبات الجماعية< المفتعلة بطريقة انتقائية من عالمي الفنان.

وبالاعتماد على الإطارالنظري الذي بناه دولوز وغواتاري سأحاول الآن وصف أعمالي الخاصة. وسأركز على أمثلة من اللوحات التجريدية العهد وسأحاول اقتفاء أثر انتقالي من الذاكرة إلى الخيال وعبوري من الهامش إلى المركز داخل فضائي الضيق بالأرض الحرام. وتوحي هذه السيرورة كيف أن لاتوطينية لغة الصورللثقافة المهيمنة حولي تمر عبر إعادة توطين إيقونوغرافية بصرية لذاكرتي الثقافية. ويتوصل إلى هذا التركيب بواسطة اللغة المحايدة للأشكال الهندسية الأساسية. وحياد هذه اللغة البصرية جعل منها الأداة الشاملة لقوانين التجريد الهندسي في الغرب. واستعملت نفس اللغة الهندسية طيلة القرون الماضية للتعبير عن التراث التجريدي في ثقافتي الأصلية(5).

وفي هذين التراثين البصريين يقوم شكل أساسي، مثل المربع بوظيفة أساسية. يحتل المربع في التراث التصويري الغربي موضعا رئيسيا في نشأة التجريد الحديث. إن الفنانين الرواد لهذا القرن من موندريان إلى مالينتش ومن آلبيرز إلى أنوسكيفيتش قد وجدوا أنفسهم مسكونين بالمربع. كما أن المربع قد لعب دورا مركزيا في تخليد التراث التجريدي الإسلامي، ولكن بطريقة مختلفة. وانطلاقا من زخارف قصر الحمراء في القرن الرابع عشر إلى التطريز في شكل القطبة المتصالبة للنساء الفلسطينيات ومرورا بالإيقونوغرافية البيزنطية في قدس صباي أستعمل الشكل الأولي للمربع كوحدة هندسية أساسية للمحافظة على نسيج التجريد الذي يشكل اليوم العامل الحاسم في ذاكرتي الثقافية. وقبل التطرق إلى مناقشة مجموعتي اللوحات التجريدية الحديثة العهد قد يكون من الأفيد التعليق باقتضاب على كيفية استرجاع الظروف المحيطة بلغتي البصرية وذلك من خلال الشكل الهندسي للمربع.

لقد ظهر المربع لأول مرة في أعمالي منذ خمس عشرة سنة مضت بوصفه وحدة ضمن خانات كنت قد بدأت أخطط فيها التجليات الهندسية للكلمات العربية. وبمرورالزمن فإن عملية إبداع رسوم خطية انطلاقا من الخانات أيقظت في ذاكرتي بعض الرسوم المبكرة التي أنجزتها في شبابي وأنا في القدس. وأثناء تلك الحقبة، كان خليل حلبي، رسام الأيقونات يدرسني التراث البيزنطي فيما يخص الصور، وهو الذي علمني الانتباه إلى الخطوط العريضة للأشكال المقوسة من خلال البنية الصارمة للخانات. وتنبهت، وقتئذ إلى أي حد كنت مهووسا بثبات تلك العيون المحملقة وهي تنظر إلي بشدة من خلال الأيقونات القديمة لكنيستنا. كما استحوذت علي التحديدات الخطية والهندسية التي لاحظتها في الأنساق الإسلامية خاصة أنساق قبة الصخرة التي فتنت بها طوال حياتي. وفي البيت، كنت أملأ المربع تلو المربع على خانات صفحات بأشكال دائرية وأنساق ذات زوايا مستعملا أقلاما ملونة ذات ظلال شاحبة. ومرت فصول الصيف دون أن أشعر بها وسنوات بعد أن أنهيت دراستي الأكاديمية في روما وواشنطن، كنت أستحضر تمارين الطفولة وأجد فيها نافذة على مستقبل فني. وباستعمال التشكيلات التي تقوم على المربع وتشريحه بدأت أعيد النظر في محاولاتي المبكرة في مجال التعبير البصري. فوقفت على انبثاق علاقات بين حضور الأعمال المعاصرة للتجديدات الهندسية التي شاهدتها في المدن الغربية الكبرى وذاكرة فني الهندسي التي كنت أشاهدها على أسوار المدنية العتيقة للقدس.

وبتأليف بعض العناصر المنتقاة من التراث البصري الذي ورثته مع عناصر اللغة التي تبنيتها، لم يكن قصدي هو خلق ترقيع لعنصرين متماثلين في اللغتين. بل كان قصدي من وراء هذا التأليف هو تحقيق اندماج حساسيتين بصريتين متباعدتين تكونان وحدة عالمي. إن لغة الهندسة المحايدة والشائعة في الاستعمالات القروسطية والحديثة أصبحت هي الجسر بين الحساسيتين البصريتين لعالمي.

يشتمل تركيب هاتين الحساسيتين البصريتين على خصائص مستمدة من وسيلتين للتعبير عرفتا اتجاهين متباينين في تطورهما التاريخي، ولقد تطورت الوسيلة الأولى نتيجة للتبجيل السامي للكلمة على حساب التعبير البصري. وتطورت الوسيلة الثانية بوصفها تمثيلا بصريا وصارت في نهاية المطاف، عن طريق الصورة الأيقونية، تجسيدا للكلمة ذاتها ثم حلت محلها لاحقا.

إن محاولتي لاختراق الحدود بين وسيلتي التعبير البصري أنتجت أعمالا تجووزت فيها الحدود الجمالية بين الصورالجمالية وبين الصور البصرية والقطبية. إن تأليف العلاقات الهندسية “تعطى” جسدا للبنيات الهيكلية التي وصفت تشكلاتها لأول مرة في الذاكرة السردية. والنتيجة هي أن التمثيل البلاغي يوظف في كل عمل من أعمالي بوصفه جسرا بين الصورة والمعنى. والمضمون السياسي للدلالة ليس ظاهرا بل يتم تسنينه ضمن التمثيل البلاغي للصورة. ويوحي عنوان العمل بالسياق حيث يمكن أن نتوصل إلى المعنى عن طريق التفاوض معه. ويوصف العمل كنص بما أنه يدعو المشاهد إلى توفير الإحالات الخارجية. هكذا ومن خلال التجاوب الإيجابي للمشاهد يصبح العمل كاملا. وبالتالي، كلما حاول المشاهد إعادة بناء العلاقات التمثيلية البلاغية بين التشكل الهندسي المدرك والسرد المسترجع أوالمتخيل، يصبح نوع جديد من الخطاب ممكنا. إذ ذاك يلتقي عالم الفنان بعالم المشاهد لبرهة من الزمن ليفترقا في البرهة اللاحقة وذلك في حلقة تواصل حميمي صامت، فيما آمـل.

إن الرسوم التي أعطيناها كمثال هنا تنتمي إلى مجموعتين من الأعمال الحديثة العهد. أربعة منها تنتمي إلى مجموعة “أبواب القدس”، واثنتان منها إلى مجموعة “الصعود” وتتأسس هندسة هذه الرسوم بنيويا على شكل المربع. إن استكشاف المربع يتحقق في المقام الأول من خلال التشريح الماثل و/ أو من خلال عملية تضعيف تدريجي. ويولد هذا النظام البسيط والعقلاني متوازيات وفواصل انكسار متناسبة، التي غالبا ما تعكس العلاقات الفضائية والهندسية طبقا لقاعدة الاعتدال (العدد الذهبي) (6) في النظام الرياضي القديم الذي ابتكر لخلق الانسجام بين الأطـراف المتباعدة. وتفيد هاتان المجموعتان من الرسوم تجاوز حدود طرفين متباعدين في تقاطعهما. لأول وهلة، تقتفي العين ذلك التقاطع عن طريق العلاقات الهندسية الناتجة عن تشريح المربع، وتضعيفه أو عن طريق الإحساس بتواز ظاهري وبتدرج الألوان أو بتفاعلاتها المتعارضة. ويكون لتقاطع الحدود الهندسية صدى عندما يؤخذ العنوان بعين الاعتبار. ومن خلال الإحالات السياقية التي يوحي بها عنوان العمل يتزامن تقاطع الحدود الهندسية ذاك وتقاطع العلاقات البصرية واللفظية. ومن خلال عنوان العمل نستشف أن التقاطع التمثيلي يحصل بين الداخل والخارج في فضاء طبيعي أو ميتافيزيقي، وذلك في مجموعة “الأبواب”. أما في مجموعة “الصعود” فإن التقاطع التمثيلي يحصل بين الفضاء الطبيعي والزمان الميتافيزيقي.

وتشتق بعض العناوين في المجموعة الأولى من أسماء الأبواب التي لها دلالة خاصة بالنسبة لي في مدينة القدس : مثلا “باب يافا” “باب دمشق” و”الباب الذهبي”. وبما أنني ولدت وترعرعت داخل أسوار المدنية القديمة بجوار “باب يافا”، فقد رأيت البحر الأبيض المتوسط لأول مرة من هذه الباب التي تقابل الغرب. وبعد تقسيم القدس منعنا من الذهاب إلى البحر. حيث أغلقت هذه الباب الرئيسية. ووقعت الأرض الحرام خارج أسوارها. وهكذا، أصبحت “باب دمشق” التي توجد في أقصى الشمال الغربي لمدينة الأسوار المنفذ الرئيسي للمدينة المؤدي إلى العالم الخارجي. وعن طريق هذه الباب كان سفري إلى العالم العربي وأخيرا إلى المنفى. أما بالنسبـة للباب الذهبي، فإنه يحيل على باب من أبواب القدس المطلة على الشرق. وقد ظل هذا الباب موصدا دائمـا. وحسب ما يروى فإن هذه الباب ستفتح يوم القيامة ومنها سيدخل المسيح. إن الهضاب والسهول المقابلة للباب الذهبي هي الأماكن المفضلة تقليديا لدفن يهود ونصارى ومسلمي القدس. ذلك أن أبي وبعض أفراد أسرتي دفنوا هناك.

أما العناوين الأخرى من لوحات أبواب القدس فقد اقتبستها من التقاليد المسيحية. فـ”ـباب غتسمان” و “باب فيفس لابيدبوس” مثالان على ذلك. فالباب الأولى تحيل على المكان الذي يسبق طريق الصليب المؤدي إلى “غلغوطة”، أما الثانية فتحيل على “بـاب الأحجار الحية” الأسطورية، وهو إسم مقتبس من رؤيا القديس سان جون لسفر القيامة للقدس الجديدة. وكلاهما يتكاملان لأن لهما نفس البنية الهندسية لكن مع تغيير متفاعل في كثافة تركيب الألوان.

ويمثل المثالان الأخيران في مجموعة أبواب القدس الأبواب المؤدية إلى المذيـــع في الكنيسة الأرثوذكسية، وهكذا فعنوان “iconostasis” مستعار من اللفظة الإغريقية التي تعني الستار، المزين بالأيقونات، والذي يفصل الحرم عن باقي الكنيسة. ويمثل هذا الستار الخط الفاصل بين العالم الطبيعي والعالم المتافيزيقي. تنكب مجموعة الأبواب على ماكان غاستون باشلار يسميه بـ”جدلية التقسيم” بين “الخارج والداخل”. وتمثل كل صورة مجردة من خلال الغموض الفضائي ما أسماه باشلار >دراما الهندسة الحميمية<. وفي كنف ذلك الغموض >يفقد الفضاء الحميمي وضوحه في حين يفقد الفضاء الخارجي فراغه< وتقحم الألوان في الأمام وفي الخلف على شكل متواليات متناوية، وقد يتحول المربع فيكون أقرب أو أبعد من المشاهد للوحة الباب. ومن ثم فإن الداخل والخارج كما تستشعرهما المخيلة لا يمكن أن ينظر إليهما في إطار علاقتهما التبادلية فقط.(7)

توحي رسوم مجموعة الأبواب بالتقاطع التمثيلي لحدود طرفي موقع ثابت، الباب. بينما تشير رسوم مجموعة “الصعود” إلى التقاطع التمثيلي لحدود الفضاء والزمان. ونجد أن المكان، في مجموعة الأبواب، سواء كان طبيعيا أو ميتافيزيقيا، دائم الارتباط بالقدس، وفي مجموعــة “الصعود” ترتبط الأمكنة بالرحلات الميتافيزيقية التي تربط الرحلة بطوبولوجية فلسطين، وسواء تعلق الأمر بـ”سلم يعقوب” أو “المعراج” أو “ايليجاه” أو “نوفيتشيلا” أو طريق “هاجر”، يحاول التقاطع التمثيلي الاستعاري أن ينجز موضوعاتيا ما سماه والتر بنيامين: >وثبة النمر في الماضي<.(8) فهذه الوثبة توحي بأن لحظة تاريخية أو أسطورية من ماضي فلسطين، سواء تعلق الأمر بالسرد التاريخي اليهودي، المسيحي أو الإسلامي، تعتبر لحظة رمزية فريدة في الحاضر الفلسطيني وذلك نتيجة لانصهارها في الذات.

وفي مجموعة “الصعود” ، يحيل “سلم يعقوب” إلى حلم عيسو الأخ التوأم ليعقوب وهو ذلك الحلم الذي يحكي أن يعقوب قد رآه عندما توسد حجرا ليستريح من عناء السفر . ويتسم مكان الحجر بداية Dethel. وموضوع الرسم الثاني في مجموعة “الصعود” هو صخرة أخرى ذات أهمية بالنسبة للقدس. ويحيل المعراج إلى صعود الرسول العربي إلى السماء، إن الصخرة التي انطلق منها الرسول إلى رحلته السماوية هي موقع أهم مسجد في القدس. ويحيل عنـوان “ELIE” إلى النبي الذي يعتقد اليهود والنصارى والمسلمون أنه حارب عبادة “عجل” من قبل بني إسرائيل. ويعتقد أنه صعد إلى السماء في عربة من نار. وجبل “الكرمل” في حيفا هو الموقع التقليدي الذي به يرتبط إسم هذا النبي في التراث الشعبي الفلسطيني. والإسم اللاتيني ” novacella” مستعار من الإسم الذي يطلق على الأيقونات التي تصف عادة معجزة مشي المسيح على سطح بحر الجليل ، ويحيل “طريق هاجر” على رحلة زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل عندما نفاهما إبراهيم وسارة إلى الصحراء. بئر شيبا هو المكان الذي يرتبط بهاجر، المرأة التي يعتقد أنها أم كل العرب.

وعلى امتداد الخمس وعشرين سنة الأخيرة بعيدا عن القدس، تبدو كل أعمالي ذات صلة بالقدس كما تعيش في مخيلتي. وكانت لغة الهندسة بالنسبة لي هي العصر الذي قادني إلى استكشاف مواطن تجعل من مركز الدائرة وهامشها والمربع شيئا واحدا… وبدأت تتشكل معالم أندلس جديدة من التوازيات. هذه التوازيات تعكس آثار للهندسة الحميمية التي برع فيها اليهود والعرب في إسبانيا. وهناك التقى قديما قطبان متباعدان كنصفي عالم واحد. إن وجودي في الأرض الحرام ومحاولتي اختراق حدود نصفي عالمي المنكسر لم أقصد به أبدا استرجاع نصف القدس الذي فقدت بما أنني قد عوضته بالأندلس التي عثرت عليها في أعمالي. وفي غضون ذلك ليس لي إلا أن أتسـاءل عما إذا لم يكن الغرباء، الذين حلوا محلنا في مدننا وقرانا، مسقط رأسنا، في المنفى مثلنا.

ولد الشاعر يهودا أميشاي في دورسيروغ بألمانيا وهاجر إلى فلسطين قبل ولادتي. وصارت القدس موطنه الجديد الموضوع الرئيسي في شعره. واليوم أميشاي يتغنى بالقدس كما لو كانت “فينيس الإلاه Venise de Dieu وأنا ابن القدس أبعدت منها، من خلال الهندسة أحاول أن أعيد بناء وحدة المكان في ذهني، لتبرزالأندلس أغنية بعيدة.

وبعد نصف قرن من الزمن، ينظرمَن وُلد في ألمانيا يوميا إلى القدس فيرى Venise وفي الطريق الآخر من العالم مَنْفيُ القدس ينظر إليها في مخيلته فيرى الأندلس . وتبقىVenise غرب القدس وتظل الأندلس شرق المنفى.

——————————————

الهوامش

1- Gilles Deleuze and Felix Guatari : What is Minor literature ? in Out there : marginalisation and contemporary cultures , ed R Ferguson, M Gever, T Minha and C. West ( New york -Cambridge , M A , New Museum of contemporary Art, MIT Press 1990) pp 59-69

2-يستعمل أ. شماس تعبير دولوز وغواتاري للحديث عن كتاباته باللغة العبرية. >ما أحـاول القيام به هو إخراج اللغة العبرية من موطنها، أو بعبارة فجة، سحب اليهودية عن اللغة العبرية وجعلها لغة الخطاب السردي الشخصي< انظر دولوز وغوتاري.

-Critical Fictions : The Politics of Imaginative Writings, Ed. Philomena Mariani (Seattle : Bay Press, 1991, pp..75-79 .. وللاطلاع على مناقشة اقتراح دولوز وغواتاري حول الخطاب الثانوي وما بعد الفن الحديث، انظر :

Caren Kaplan, “Deterritorialization : The Rewritings of Home and Exile” in Western Feminist discourse! Cultural Critique, n!6, spring, 1987,pp.87-98

Hal Foster, “Readings in Cultural Resistance”, in Recordings : Art, Spectacle, Cultural Politics (Seattle : Bay Press, 1985), pp.157-179

3- -انظـر: Edward Said, “Reflexion on Exile” in Out There…, p.362 4- انظـر Deleuze and Guatari , in Out There… , p . 62

5 – كتب أبولينير: >إن الهندسة بالنسبة للفن التشكيلي هي بمثابة النحو بالنسبة لصنعة الكاتب< نقلا عنFairefeild Porter, “Constructivism” , Art in its own Terms : Selected criticism 1935-1975, Ed. , Rackstraw downes ( New York , Taplinger, 1979 ) p.66

انظر كذلك دراسة حول الاستعمال التقليدي للهندسة في الفن الإسلامي.

Keith Critchlow, Islamic Patterns, An analytic and cosmological Approach (New York : Taplinger, 1979), p.66

Isaam El Said and Ayse Parman, Geometric Concept in Islamic Art (London : World of Islamic Festival Publishing Co, 1976)

6-العلاقة بين الجزء الأكبر والجزء الأصغر: تساوي العلاقة بين الكـــل والجزء الأكبر. ونكتب (أ + ب) = أ: ب الجزء الأكبر (أ + ب ) يجب أن تكون كلا أو وحدة متكونة من مجموع الجزأين الآخرين .

انظــر :

Robert Lawloz, Sacred Geometry (London : Thames & Hudson, 1982) p.45

ويمكن الرجوع إلى مناقشة أعمق “للعدد الذهبي” وعلاقته بالفن، انظــر:

Jay Kappraff, Connections : The Geometric Bridge beteween Art and Science (New York : Mc Craw Hill, 1991), pp.75-103

7- Gaston Bachelard, La Poétique de l’espace, PUF, Paris, 1978

8- Walter Benjammmin, “Theses on the Philosophy of History” Illummintions, tr., Harry Zohu,(New York,The New Museum of Contemporany Art & Boston : David Codine Publisher,Inc, 1984) pp.203-235

9 – القصيدة الشعرية التي يصف فيها أميشاي القدس كفينيسيا “الإله” قد كتبت سنة 1967، حينها كانت قد مرت 31 سنة على إقامته في القدس، المدنية العربية لقرون عدة، وقد كان سنه 43 سنة، أما ولادته فقد كانت في ألمانيا. وبعد ضم القدس >المدنية الوحيدة في العالم التي يعطى فيها حق التصويت للأموات< حسب أميشاي الذي صرح قائلا : >الآن يجب أن أتعلم اللغة العربية< . أنظـر:

“Jerusalem, 1967”, in Selected Poetry of Yahuda Amichai, Ed. and tr. Chana Bloc