سعيد بنگـراد
لم تنبثق السرديات (بجميع فروعها ومنطلقاتها) انطلاقا من نصوص معزولة، كما أنها لم تكن نتاج قراءات انطباعية تختفي وراء المظاهر الانفعالية للقارئ والمقروء. إنها، على العكس من ذلك، ولدت بين أحضان تصورات معرفية ذات أبعاد فلسفية تعد في الوقت الراهن من أهم الإنجازات التي عرفتها العلوم الإنسانية هذا القرن. ولعل هذا الأساس الفلسفي هو الذي أضفى على هذا النشاط المعرفي صفة العلمية ومنحه الاستقلالية في النمو والتطور والاشتغال، وأبعده عن الفوضى والتسيب في المصطلحات وفي التحليل.
ولهذا فإن الاختلافات بين الدارسين “هناك” لا تعود إلى الطاقات الانفعالية التي تختزلها ذوات الباحثين، وإنما تعود إلى اختلافات في التصور الذي يملكه الباحث عن المعنى وعن طرق الكشف عنه وطريقة التعامل معه وعن موقع الذات القارئة منه.
لقد كان التعميم أساس ميلاد النماذج النظرية الكبرى، وكان التخصيص سبيل الباحث للعودة من جديد إلى معانقة النماذج المحسوسة. فمن >وحدة الظاهرة وعموميتها< (النصوص السردية) تنبثق خصوصية الفعل الإبداعي وتتجلى دلالاته. إن وحدة النموذج لا يمكن أن تؤدي إلى وحدة للتصور أولا ولا يمكن أن تؤدي إلى وحدة في دلالات النصوص ثانيا.
فهذه >اللغة الكونية< التي تختفي في ثوب >الوقائع الصغيرة< و>الأشياء< و>النصب التذكارية< و>الروايات الكبيرة< و>نغمات صوت الجدة التي تروي ما جرى للأولين<، تعود من جديد لتغرق في الخصوصية من خلال قوانين النوع أولا، ثم من خلال التنويعات داخل النوع ثانيا، ثم عبر النمط الإبداعي الخاص بالذات المبدعة ثالثا. فالمعنى لا يوجد في الأشكال الكونية بل تحتضنه النسخ المتحققة، أي في النصوص ذات الطابع الخاص والمتميز، والحل لا يوجد في النماذج النظرية، بل في مردوديتها التحليلية.
إن النموذج في المتن وفي المنهج لا تتحدد مردوديته إلا من خلال نوعية الأسئلة التي يثيرها حول النصوص وحول أدوات التحليل. فـ عمومية المتن إجراء لا يلغي النص المخصوص، إنه هنا لكي يغني معرفتنا بالعنصر المتحقق.
إننا أمام نشاط إنساني لا يمكن أن يختزل في >تقنيات< ستظل جوفاء إذا هي لم تستطع تجاوز مستويات التمظهر الخارجي للنص إلى ما يشكل مدخلا لمعرفة خاصية شعب في الحياة وفي الموت، في الحزن وفي الفرح. ألم يكن هاجس المقاربات الأولى هو المضي بالنماذج النظرية إلى حدود تكوين قاموس للوحدات الدلالية التي تغطي مناطق من النشاط الإنساني من نوع الثنائيات المحددة للشيء ونقيضه : حياة-موت، ظلام-نور؟
من هذه الزاوية يحاول هذا المحور عبر مجموعة من المقالات المتميزة، أن يجيب عن عدد من الأسئلة الخاصة بالنص وتكونه وبالأدوات القارءة له. وبعبارة أخرى، إننا أمام تساؤلات تخص النص وتخص المناهج المؤدية إلى معرفته. إن الأمر يتعلق بالتساؤل عن جدوى المناهج وقيمتها إن لم تكن أداة لمعرفة أعمق بالنصوص عبر التساؤلات عما يجعل من النص وحدة قابلة للاستهلاك.
وليس غريبا أن يكون المقال الافتتاحي لهذا المحور خاصا بالإيديولوجيا، لا باعتبارها نظرية تستعصي على الفهم، ولكن باعتبارها شكلا من أشكال وجود المعنى. إن الأمر يتعلق بالتصور الذي دعا إليه ودافع عنه أحد أقطاب الدراسات السردية المعاصرة -باختين- (ويعرضها هنا كريزينسكي في مقال >انتقادي< و>حواري< إلى حد كبير). لقد رأى باختين في الإيديولوجيا منبعا لكل مكونات النص : إنها في النص وخارجه وفي السبل المؤدية إليه. فالعلامة كيان إيديولوجي، داخل هذا الكيان تولد وداخله تدل، وداخله تموت أيضا. فـ>الأصوات< و>الأبعاد< و>المواقع التلفظية< و>أجزاء الكلام< هي في واقع الأمر تمظهرات متنوعة للإيديولوجيا. إن الإيديولوجيا حسب هذا التصور هي الموَحِّد والمُوحَّد داخل النص وخارجه.
ولعل هذا التصور الأخير هوالأساس الذي سينطلق منه كريزينسكي لإثارة سلسلة من التساؤلات المشككة في سميولوجية باختينية سجينة قمقم إيديولوجي. فهي في رأيه >سميولوجية إيديولوجية< وليست أبدا >سميولوجيا دارسة للإيديولوجيا<. فالبحث عن الوجه الإيديولوجي للمعني لا يمكن أن ينطلق -حسب كريزينسكي- من أدوات إيديولوجية كما يفعل ذلك باختين.
وإذا كانت الإيديولوجيا هي تمظهرات متنوعة للمعنى ومنبع الشروط المؤدية إلى وجوده، فإنها هي أيضا ما يحكم الأسناد التي تخبر عنه وتؤدي إلى الكشف عن الأثواب التي يتزيى بها. فلا يمكن تصور >مضمون< يعيش معزولا عن أشكال تعد وسيلته الوحيدة في الوجود وفي الظهور. وفي هذا الاتجاه، فإن كل التساؤلات التي يثيرها المحور سواء تلك الخاصة بتحديد مفهوم >السرديات< ذاتها وعلاقتها بمجموع التصورات التي يحتضنها هذا المصطلح كما يفعل ذلك بعمق سعيد يقطين، حيث يشكل عنده ضبط المصطلح وسلامة استعماله الخطوات الأولى نحو قراءة أفضل لنصوصنا السردية، أو تلك التي تجعل من الخطبة والخطيب وأدواته مجموعة من الممثلين الذين يتحركون داخل فعل سردي يتصوره محمد الولي شكلا من أشكال الإقناع سيؤدي إلى استخراج قاعدة للفعل، أو تعلق الأمر بالتساؤلات عن >الميثاق الشكلي< للسيرة الذاتية وأدوات تصنيفها والآثارالدلالية المتولدة عن هذا التصنيف كما يقدم ذلك حلي، أوذلك الجرد الشامل للممارسات النقدية في بلادنا كما فعل ذلك أقضاض، فإن كل هذه العناصر لا تخرج عن دائرة >قلق المعنى وانفعالاته< وسبل التحكم فيها وكذا عن الوسائل الناجعة المؤدية إلى الكشف عن مدلول دال نصي يستعصي على الفهم. كما لا يخرج من جهة ثانية عن دائرة تحديد موضوع الدرس وأدوات ولوج النص.
إن مجموع هذه التساؤلات يحكمها هاجس الوصول -عبر أدوات صلبة في المنطلق والتطبيق- إلى إدراك أفضل للنصوص السردية بشتى أنواعها، ولا يمكن لهذا الإدراك أن يقوم إلا على أساس الاعتراف بوجود >غائية< موحدة للنص دون أن تكون بالضرورة موحدة للمعنى.
ونفس الهاجس يحكم التطبيق أيضا ويتحكم في أدوات إنجازه والنتائج التي وصلت إليها مجموع القراءات التي يشتمل عليها المحور. ألا تبحث هذه الدراسات في سبل إدراك >وقع القلق< الذي يثيره الموت (الموكب الجنائزي) ويثيره الجنس (رواية الضوء الهارب) ويثيره الجسد الممزق بين اللذة -العبد- وبين السلطة -شهريار- (مسرحية شهرزاد) ؟. إنها كانت تبحث عن إيديولوجيا تختفي في ثنايا >الجزئيات< و>الترتيب< و>اللباس< و>اللون<.ولم تكن هذه الدراسات تبحث عن مضمون جاهز تقدمه نصوص جاهزة، ولم تكن تبحث أيضا عن مادة-مضمون يستعصي على الضبط والتصنيف المسبق، فتلك مهمة شاقة لا يدرك كنهها إلا الفلاسفة، بل كانت تبحث عن أشكال نصية مؤدية إلى استشراف آفاق معنى دائم التبدل والتغير والانفلات من التصنيف : إن أي تغيير في نظام الموكب سيؤدي إلى تلوين المعنى بلون جديد، وأي تغيير في الزاوية التي >تحكي لذة الجنس< سيؤدي إلى تصور جديد لثنائية المذكر والمؤنث. وأي تغيير في >المواقع العاملية< التي يقوم عليها النص المسرحي سيؤثربالضرورة على الفجوات التي ينساب منها المعنى.
إن التساؤلات حول الحدود الشكلية في البناء وفي المضمون، هي تساؤلات حول الدلالة وأشكال ظهورها. وهذه الأشكال ليست سوى وقع إيديولوجي يحدثه الشكل في التكون والسيرورة وفي نمط التلقي.
لقد حاولت مواد هذا المحور أن تثير أسئلة حول النصوص وتكونها وحول النماذج النظرية ومردوديتها، وحول الممارسات النقدية وإنجازاتها، وحول المعنى وأبعاده الإيديولوجية، وقد لا تكون الأجوبة التي تقدمها هذه الدراسات مقنعة ولا مقبولة ولكن الاسئلة وحدها تبقى خالدة.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6737