سعيد يقطين
1 0- تتطور نظريات السرد باستمرار، وغدا شبه مستحيل أن يواكب المرء هذه الاجتهادات المتعددة والمتراكمة. وفي الثقافة العربية تم التعرف على بعض هذه الأعمال، وتحققت في هذا المضمار دراسات عديدة، وأنجزت ترجمات لبعض الإنجازات السردية الغربية. لكن الملاحظ هو أن الأعمال السردية العربية تفتقد إلى ما يعطي لمختلف هذه الأعمال قيمتها الخاصة، ويحقق لها مصداقيتها، ذلك لأنها ظلت في أغلب الأحوال عبارة عن اجتهادات ذاتية، أو فردية. وعمل كل دارس أو مترجم يتم بناء على رؤية صاحبه أو اقتناعه، الشيء الذي طبع هذه الإنجازات بالاختلاف القائم على الخلاف، والتعدد الذي يصل حد التسيب. فلا حوار بين المشتغلين بالسرد العربي، ولا رؤية توحد الاهتمام، ولا لقاء بينهم لتوحيد لغتهم، أو مناقشة اصطلاحاتهم، التي هي في أغلب الأحيان مقابلات لم توجد في المصطلحات الغربية، بل الأدهى من ذلك والأمر، أن أحدهم، وهو يدخل عالم نظريات السرد لأول مرة من خلال اطلاعه على مقال أو كتاب أجنبي لا يكلف نفسه عناء الإشارة إلى مصادر سابقة، أو دراسات أنجزت في المضمار نفسه، فيقدم عمله، وكأنه كشف جديد، ويقترح مصطلحات لا تساهم إلا في إشاعة نوع من الاضطراب، ومزيد من فوضى الاستعمال.
1.1- هذا الوضع الذي يخلو من الإنصات إلى أعمال الآخر، وإلى الحوار العلمي الصريح والواضح في وضعنا الثقافي العربي، لا يمكن أن يؤدي نهائيا إلى إنتاج معرفة علمية أو إلى تطوير معرفتنا بالسرد العربي القديم أو الحديث. قد تكثر الدراسات والترجمات لكن الحصيلة كلام قد يملأ بياض الصفحات، لكنه لا يمكن أن يسهم، وبأي صورة، في جعلنا ذات يوم نتحدث عن >الإنجازات< السردية العربية، ودورها في تعميق الفهم والإدراك، وخلق الأسس الملائمة لتأسيس تقاليد علمية رصينة عميقة.
إن أي تأخير في التوقف الآن لقراءة ما تراكم ومناقشة ما أنجز من دراسات وترجمات عربية في نطاق السرد، لا يمكنه إلا أن يضع المزيد من العراقيل، ويخلق المزيد من المشوشات التي تساهم في تعطيل نمو الفكر العلمي والنقدي في الثقافة العربية الحديثة. كما أن عدم الإقدام على ممارسة النقاش بصدد ما أنجز لا يمكنه إلا أن يصب في مسار التسيب المهيمن، والفوضى السائدة.
2.1- أقدم في مايلي مساهمة متواضعة، من خلال التوقف عند بعض المصطلحات-المفاتيح، أو المصطلحات الأصلية أو الأساسية التي تنهض على قاعدتها نظريات السرد وعلومه الحالية، ذلك لأني أومن إيمانا قويا أنه بدون تدقيق فهمنا، ووعينا بالأسس لا يمكننا إلا أن نقيم بناءات واهية.
إننا ما دمنا لا ننتج هذه المفاهيم والمصطلحات فإنه لا يمكن إلا أن نختلف في فهمها، ونقلها إلى لغتنا العربية. والنقل إلى لغة أخرى لا يمكن أن يتأتى بالسهولة التي يتصورها البعض : شرابا سائغا للشاربين! الذهاب إلى العين مهم، لكن للوصول إلى الرأس. وما أصعب الدخول إلى الرأس لمعاينة كيف يشتغل. إنه بدون فهم طريقة اشتغال المفهوم، وبدون تحديد خلفيته، ومقاصده، لا يمكننا أن نستوعبه. وبدون الاستيعاب الجيد، لايمكن النجاح في الاقتراح المناسب.
2- في المصطلح السردي
0.2- إن مصطلحات أي اختصاص كيفما كان نوعه تكتسب دلالتها الخاصة من الاختصاص نفسه، إنه يحددها وفق ما يمليه عليه السياق الذي يضعها فيه، وهذا هو مرد اختلاف دلالات المصطلح الواحد باختلاف الاختصاصات والتصورات. إذا اتفقنا على هذه القاعدة، يمكن أن نذهب إلى أن هناك نظريات عديدة ومختلفة لتحليل السرد. وطبيعي أن نجد المشتغلين بهذه النظريات، يستعملون دوال مصطلحات معينة، لكن كل اختصاص يحملها بمدلولات تطابق التصور الذي ينطلق منه. إذا اتفقنا على هذه القاعدة كذلك، لا مفر من الذهاب إلى أن الدال السردي (المصطلح) الواحد له مدلولات سردية (اصطلاحية علمية) متعددة بتعدد النظريات والاجتهادات. ويقتضي هذا، إذا ما حصل التسليم بذلك، أن أي مصطلح من المصطلحات السردية لا يمكن أن نضع له مقابله المناسب ما لم نفهم جيدا، ونستوعب جيدا مدلوله داخل الإطار الموظف في نطاقه.
تتصل هذه القاعدة بالمصطلح الأصلي في اللغة الأجنبية. ولا بد من قاعدة موازية ترتبط هذه المرة بـ >المصطلح< المقابل الذي نود >اقتراحه< من داخل اللغة العربية، بعد تمثل القاعدة الأولى ووضعها في الاعتبار : فهم المدلول الخاص بالمصطلح فهما دقيقا.
تقدم اللغة إمكانات مهمة في الاستعمال، وعلينا انتقاء الأنسب، والأقرب، والأجمل من المفردات التي نعتزم اقتراحها. وعلينا أن نحسن اقتراح كلمة معينة من وسط شبكة من الكلمات المتقاربة، وفي تقديرنا الضمني أن بعضا منها قابل للاستثمار للدلالة على مصطلح قريب. وبمراعاة هذا التوزيع يمكننا في حال انتقاء بعضها أن نحمل مجاورتها دلالة قريبة، ولكنها تكون أخص، وأعم، أو ما شاكل هذا من العلاقات التي تنظم الوحدات المعجمية المشتركة (عام-خاص/ كل-جزء/ تراتب-تدرج …) بذلك، وتبعا للاقتضاء والاستعمال، يمكننا تقديم >المصطلح< المقابل، والقابل للتميز عن المصطلحات القريبة منه، بمقوم ذاتي أو أكثر.
1.2- لا نود من هذا الاقتراح أن نحل مشكلة المصطلح، وإذا نكون نروم ذلك، فإننا نتوهم، لكن ما نود الوصول إليه، وهذا ممكن هو أن تتوفر لدينا رؤية واضحة، وأسس دقيقة للاجتهاد والعمل. إنه في غياب الأسس والرؤية الخاصة لا يمكن أن تكون لدينا إمكانية للاختلاف والحوار والنقاش. إن العمل الاعتباطي وغير المؤسس على أية قاعدة أو تصور غير قابل للنقد أوالنقاش. ويهمنا توفر إمكانات للحوار بناء على رؤيات مختلفة، وتصورات محددة، لأن ذلك هو الذي يضمن تحقيق التراكم والتطور.
2.2- هناك مصطلحات سردية عديدة تروج في ما ينشر من دراسات وترجمات. إنها من الغنى والتنوع والتعدد الذي يمكن أن يشي بالإيجاب، ولكنه للأسف يغدو مظهرا سلبيا يدل على التسيب، وعدم التقيد بأي ضابط محدد. وهذا المظهر السلبي علاوة على أنه يخلق ارتباكا لدى المشتغلين لأنهم يصبحون غير قادرين على التواصل فيما بينهم، رغم أن الموضوع الذي يشتغلون به واحد، يؤثر بشكل أكثر سلبية على القارئ الذي يجد نفسه بصدد كل دراسة أمام ترسانة من المصطلحات السردية المتضاربة، والمختلطة، التي تتكرر أحيانا، ولكنها في كل مرة تظهر له بوجه. ومن المؤسف أن يغدو المشتغل والقارئ معا >كالمنبت لا ظهرا أبقى، ولا أرضا قطع< ! وهذا وصف حال!…
3- في الموضوع السردي
0.3- نريد أن نبدأ من البداية. مع البدء تولد المشكلات. وإذا لم تتوضح لنا مشكلات البداية، لا نورث اللاحقين من بعدنا إلا المشاكل. والرجوع إلى البدايات محاولة لتدقيق رؤيتنا إلى التطورات وما صاحبها من تراكمات كانت بمنأى عن مواكبة دراساتنا أو وعينا لها.
منذ اجتهادات الشكلانيين الروس النظرية، ودعوتهم إلى ضرورة ميلاد علم جديد يعنى بـ >أدبية< الأدب، أسموه >البويطيقا<، الجديدة، وأعمال فلاديمير بروب حول الحكاية العجيبة، وصولا إلى السرديات (كما اقترحها تودوروف)، وسيميوطيقا >السرد< ونظريات لسانيات النص، وتحليل الخطاب، مرورا باجتهادات الانثروبولوجيين (ستروس)، وعلماء الأديان (م. إلياد)، وعلماء الأساطير (كايوا-دوميزيل…)، نجد الاشتغال بـ>السرد< يحظى بمكانة متميزة، سواء تجلى من خلال الخطاب اليومي، أو الصحفي، أو التاريخي أو الأسطوري، أو الأدبي، وسواء ظهر من خلال المستوى اللفظي أو الصوري أو الحركي… تعددت المقاربات، واختلفت باختلاف المدارس والاختصاصات.
ولعل أهم الإنجازات في هذا النطاق يبرز في ما يمكن اختزاله بكلمة في ظهور علوم عديدة تعنى بـ>السرد< أي أننا صرنا منذ أواسط هذا القرن أمام علوم سردية خاصة لها مناهجها، وقضاياها الخاصة >بالسرد< الحديث (الرواية، القصة…) أوالقديم (الحكايات العجيبة، الأساطير، الأشكال البسيطة …)
تبلورت هذه العلوم مجتمعة في الحقبة البنيوية (منذ أواسط الستينيات وأوائل السبعينيات). لكن للأسف الشديد، هو أننا بانتباهنا في أواسط السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى >النقد الجديد< لم يثر اهتمامنا إلا الطابع >البنيوي< العام والمشترك الذي وسم هذه المرحلة، لكننا لم ننتبه إلى الطوابع العلمية المختلفة بين كل الاجتهادات، وما يتميز به بعضها عن بعضها الآخر، وهذا ما جعل التمييز لدينا يصبح بين نقد بنيوي وآخر إيديولوجي. ولم يكن يدوربالخلد التساؤل عن معنى بنيوي وفي أي اتجاه؟!…
1.3- إن العلوم السردية التي تبلورت في الحقبة البنيوية، شأنها في ذلك شأن أي اختصاص علمي، قامت أولا على أساس تحديد موضوعها بدقة. وعلى غرار الشكلانيين الروس الذين حددوا موضوع >البويطيقا< في >الأدبية< باعتبارها الخاصية التي تجعل من عمل ما عملا أدبيا، نادى المشتغلون بـ >السرد< من منظور علمي بضرورة تحديد موضوع >علم السرد< فكان هو Narrativité,Narrativity إن الموضوع واحد، لكن كل علم سيعطيه دلالة خاصة تتماشى مع إجراءاته ومقاصده.
هذا الموضوع في نقله إلى اللغة العربية أخذ ترجمات غير دقيقة تنم عن سوء الاستيعاب والفهم. فهو مرة يستعمل بمعنى >السردية<، ومرة بمعنى >الشعرية < على ما بينهما من اختلاف. كما أن >السردية< كانت تستعمل مرة للدلالة على العلم Narratologie، ومرة على الخاصية التي يتميز بها العمل السردي Narrativité ويعود هذا الفهم أو ذاك إلى طبيعة استيعاب مفهوم >العلم< و>موضوعه< وما يتصل بهما. وفي كل الحالات كان هناك اضطراب وخلط، لا يرتبط فقط بـ >الترجمة< ولكن بفهم النظريات، بسبب الاختزال والتسرع. ودون الدخول في سجال مع الترجمات والاستعمالات، نرى ضرورة تحديد >الموضوع< الذي جعلته مختلف العلوم مدار اهتمامها، لتتاح لنا إمكانية تدقيقه، بتدقيق المفهوم الذي يطابقه في هذا الاستعمال أو ذاك، وذلك بقصد توضيح مدلولات الدوال وتدقيقها على النحو الأمثل والأنسب.
2.3- يمكننا الوقوف عند دلالتين مختلفتين جذريا، لتبيين اختلاف >الموضوع< من خلال تباين منطلقات وإجراءات علمين سرديين، فرضا نفسهما بشكل قوي هما : سيميوطيقا >السرد<، و>السرديات<. ظهر هذان العلمان في أواسط الستينيات، ويمثل الأول منها غريماس، والثاني جرارجنيت بامتياز.
هذان العلمان يحددان معا موضوع اشتغالهما من خلال مصطلح واحد Narrativité، وعلينا أن نوضح أن كلا منهما يستعمله بمعنى مخالف للآخر، وهذا الاختلاف عندما لا نفهمه حق الفهم، لا يمكن لاستعمالاتنا للأشياء، في لغتنا، إلا أن تظل مضطربة ومشوهة وغير دقيقة. وأي اضطراب أو تشويه أو انحراف لا يمكنه إلا أن يسهم في تعطيل تحقيق المعرفة العلمية أو تطويرها بالصورة التي تقدم دراستنا وتحليلاتنا.
أبدأ أولا بسيميوطيقا >السرد< وبعد ذلك بالسرديات، وبعد التوضيح أقدم الاقتراحات المناسبة للعلم وموضوعه بحسب ما يقتضيه كل علم وما يتميز به عن غيره.
4- السيميوطيقا والحكي
0.4- ينطلق السميوطيقيون على اختلاف مشاربهمم من تحديد موضوعهم باعتباره >المحتوى< الحكائي، وذلك بناء على أنهم يحددون العلامة تبعا لتمييز يلمسليف للعلامة اللسانية. والعلامة >الحكائية< تتمفصل إلى دال (التعبير) ومدلول (المحتوى) وبتركيزهم على المدلول (المحتوى) يلغون الدال من دائرة اهتمامهم.
يبرز ذلك في تأكيد شميدت على أن المهمة الأساسية للسرديات (وهو يقصد علم السرد سيميوطيقا) هو تحليل المحتوى بصفة عامة (1) كما أن غريماس في مختلف أعماله يشدد على البعد نفسه، وذلك بناء على أن المحتوى هو الذي تشترك بواسطته مختلف الخطابات التي تقوم على الحكي. والهدف من التحليل السيميوطيقي هو الإمساك بالمعنى أو الدلالة بغض النظر عن مختلف التجليات (التعبير) التي يتخذها (2). ولقد مكن الاهتمام بالمحتوى السيميوطيقيين من الوصول إلى نماذج خاصة في التحليل. ويبدو لنا الاهتمام بالمحتوى جليا من خلال تعريف جماعة أنتروفيرن لـ Narrativité : >إنها مظهر تتابع الحالات والتحولات المسجل في الخطاب، والضامن لإنتاج المعنى< (3) ويسير كورتيس في الاتجاه نفسه بذهابه إلى أن الحكي يرتبط ارتباطا وثيقا بNarrativité، لأن ما يحددهما هو كون الحكي >يتعلق بالانتقال من حالة إلى حالة أخرى<(4)، وبواسطة هذا الانتقال يحدث التحول من حالة أو وضع إلى آخر عن طريق التتابع.
نلاحظ بجلاء من خلال هذه التحديدات أن الأمر يتعلق بـ ”المحتوى” أو ”المادة الحكائية”، أو ”الفابولا” والمحتوى تبعا لذلك أعم وأشمل من >التعبير<، لأن وجوده هو الذي يحدد جنس الخطاب، لذلك فهو الثابت والمشترك بين مختلف الأشكال أوالأنواع الذي تتضمنه. وهو الذي يمكن أن نجده في العمل الأدبي وغيره، وفي سائر الفنون، وكل أجناس الكلام. إنه بكلمة أخرى >المدلول< الذي تختلف دواله في تقديمه.
– المحتوى ثابت وعام. نضع مقابلا له مفهوم >الحكي< ذلك لأن الحكي عام، وهو الذي يمكن أن نجده من خلال اللغة والصورة والحركة والإيقاع… أما السرد فهو أخص منه لأنه يتصل فقط باللغة. وبهذا التحديد يصبح >الحكي< مقابل (récit) باعتباره يتصل بالمحتوى، ويغدو >السرد< مقابلا لـ (narration) لكونه يرتبط بالتعبير. إن الحكي شديد الصلة بـ ” الخبر”، لذلك نجده يتضمن مايوحي إليه المحتوى من خلال حضور >المادة الحكائية<، أو القابلة أن تحكى. أما السرد فيتعلق بطريقة تقديم الحكي. وفي مختلف دلالاته في العربية يعني >النظم< أو >التركيب< أو >النسق< القائم على الترتيب …ويمكن أن نلمس الفرق من خلال قولنا : – فلان يحكي، وفلان يسرد. إذ يوحي التعبير الأول إلى >نوع< الخطاب (الحكاية)، في حين يومئ الثاني إلى الطريقة . هذا التمييز يمكن أن يجسد لنا بعض الفروقات البسيطة بينهما (الحكي- السرد)، وإلا فإن التداخل بينهما وارد، والتفريق بينهما صعب للغاية. هذا الوضع لا يعرفه الاستعمال العربي فقط، فالاستعمالات الغربية بدورها لمختلف هذا النوع من المفاهيم لا تخلو من التباس، وإبهام.
1.4- لقد شهدت المصطلحات ”السردية” اختلافات عديدة بين مختلف المشتغلين ب ” السرد” أو ”الحكي”. وأثيرت سجالات عديدة بشأنها. وعندما لا نعي خصوصية هذه الاختلافات، وما تتخذه في هذا الاستعمال أو ذاك، ونأخذ منها موقفا واضحا، نضاعف الاختلافات في التوظيف والاستعمال. لقد دافع كل المشتغلين بـ ”السرد” عن الدلالات التي يخصون بها بعض المفاهيم، وعملوا على دفع الاستعمالات الأخرى.
إن السيميوطيقيين وبعض الفلاسفة (بول ريكور) حاولوا حصرالموضوع في المحتوى. وفي هذا النطاق تقول آن هينو : >يمكن أن نتحدث عن Narrativité، عندما يصنف نص ما من جهة أولى، حالة بداية، على صورة علاقة امتلاك أو فقدان لموضوع ذي قيمة، ومن جهة ثانية، فعلا أو متوالية من الأفعال التي تنتج حالة جديدة، مخالفة لحالة البداية< (5)، وهو نفس التحديد الذي تقدمه في كتابها اللاحق الذي يحمل عنوان، >السرديات، والسيميوطيقا العامة<(6)، هذا التحديد يبدو لنا بوضوح من خلال اعتبار بول ريكور >السرديات< : >حقا عاما يُضمن لكل من الحكي التاريخي، والحكي التخييلي<(7)، وأن كل التاريخيات (Histographie)، إذا كانت تهتم بالأفعال فهي أيضا سرديات<(8).
إننا هنا أمام اختلاف بشأن الاختصاص >السرديات< وموضوعه (الحكائية أم السردية) وهذا ما جعل جيرار-دينس فارسي، يرى بأن >لا إجماع حول أي منهما< (9) وإذا كان السيميوطيقيون يتخلون أحيانا عن استعمال >السرديات< فإنهم يتشبثون بمصطلح Narrativité، ويحدده غريماس سواء في مختلف أعماله، أو في المعجم (10) بقوله : >إن نظرية الحكي تسعى إلى الاهتمام بالشكل السميوطيقي للمحتوى<(11)، وهي من هذه الناحية لا علاقة لها بالأدبية(12). إنها كما يلاحظ بول ريكور مقابل : Muthos عند أرسطو، وهو تحريك الأحداث(13).
2.4- نتبين من خلال كل هذه التحديدات والنقاشات المختلفة التي أثيرت بشأنها في المنظور السيميوطيقي، ولدى الذين يحاولون توسيع المفهوم ليشمل الروائي والأدبي وسواهما من أجناس الكلام، ومختلف أنواع العلامات (لفظية أو غير لفظية)، حتى وإن توحدت المصطلحات المشتقة أو المتصلة بـ ( récit-narration-narrative) سواء بشأن الاختصاص أو الموضوع، أن المقصود هو >المادة الحكائية< أو المحتوى أو القصة. وحسب ما نذهب إليه، فإن المصطلح المناسب الذي نضع هنا بسبب طابعه الثابت هو الحكي، وليس السرد. إن الحكي عام، والسرد خاص. فالحكي هوالذي ينسحب عليه مصطلح récitو narrative، وهو الذي يمكن أن نجده في الأعمال التخييلية وفي الصورة، والحركة وسواها. أما السرد فلا يمكن أن يتحقق إلا في الأعمال اللفظية (14). وأجدني في هذا المضمار أتفق مع ما ذهب إليه جيرار- دونيس فارسي إلى اقتراح مصطلح ”récitologie” مقابل >Narratologie< للتمييز، لولا أن اقتراحه جاء متأخرا كما يقول (15). وفعلا فإن مصطلح >الحكايات< يمكن أن يدل دلالة أخرى على الطابع الشمولي والواسع لما يمكن أن يتصل بما هو حكائي، كيفما كان وحيثما وجد، ويكون موضوع >الحكائيات< هو >الحكي< أو >الحكائية<. ولما كان السيميوطيقيون يوظفون >السيميوطيقا الحكائية< أحيانا تمييزا لها عن السرديات، أرى أن الأنسب، وبسبب اهتمامهم المنصب على >المحتوى< أن نقابل كل ما يتصل لديهم بـ Narration بالحكي، لأنهم لا يهتمون، عموما، بالتعبير (السرد) وبذلك نغدو أمام الحكائيةNarrativité والبنيات الحكائية والبرنامج الحكائي، والملفوظ الحكائي، والمسار الحكائي، وما شاكل هذا من الاستعمالات المتصلة لديهم بالمادة الحكائية، الموضوع الأساس لاشتغالهم وتحليلاتهم.
إن السيميوطيقيين، وهم يشددون على المحتوى يريدون الإمساك بالعنصر الثابت في أي عمل حكائي لأنهم يعنون بشكل خاص بـ ”المعنى” أو “الدلالة” ولا يمكن بروز هذا العنصر الثابت إلا من خلال >المحتوى<، لأنه أساس الحكي.
5- السرديات والسرد
0.5- إذا كان السيميوطيقيون يشتغلون بـ”المحتوى” فالسرديون يهتمون بـ ”التعبير” وإذا وظفنا مصطلحية السيميوطيقيين، أوالخطاب كما يستعملون كمقابل للقصة أو الفابولا. إن ما يهم السرديين بشكل خاص هو الاختلاف المتعلق بالعمل الحكائي، ومكمنه في الخطاب، لأن المحتوى الواحد يمكن أن يقدم من خلال خطابات متعددة لكل منها خصوصيته لأن ما يهمهم هو العنصر الجمالي الكامن في هذا الاختلاف.
هذا العنصر الجمالي هو الذي يصل Narrativité لدى السرديين بالأدبية، ويجعلها مختلفة عن نظيرتها لدى السيميوطيقيين. يقول جيرارجنيت موضحا : > إن الخاصية الأساسية للسردي (السردية) توجد في الصيغة، وليس في المحتوى، إذ لا وجود للمحتويات الحكائية. هناك تسلسل أفعال أو أحداث، قابلة لأن تتجسد من خلال أي صيغة تمثيلية < (16). واضح هنا أنه يركز على التعبير إذ هو الذي بواسطته تتجسد الأفعال أو الأحداث. ولذلك يذهب إلى أن لا وجود للمحتوى الحكائي. وبما أن الخطابات تتعدد بتعدد الصيغ التمثيلية، يحصر مجال اهتمام السرديات، ويقصره على ما يتحدد فقط بواسطة صيغة السرد ( وليس الحكي) بقوله : > ولا نسم ما هو سردي Narratif، إلا ما يقدم إلينا بواسطة التمثيل السردي < (ص. 13)
1.5- إن جنيت، كما نلاحظ هنا بجلاء، يضيق مجال السرديات بحصر موضوعها من خلال صيغة السرد (الخطاب) أما المشتغلون بالحكي والحكائية، فيوسعون مجال اهتمامهم بانطلاقهم من >المحتوى<، لذلك نجد غريماس على سبيل المثال، يقول عن >الحكائية< بأنها سابقة عن التجلي (التعبير) أو التحقق من خلال خطاب معين، ويربطها >بمستوى سيميويطيقي متميز عن المستوى اللساني، وهي منطقيا سابقة، كيفما كانت اللغة المختارة لتحققها< (17).
2.5- لقد تباينت التصورات بشأن تحديد المصطلحات نفسها. ورغم الرجوع إلى أصول وجذور المفاهيم (18) لمقاربة الهوة ومحاولة ردمها، تظل الحدود والفواصل قائمة. إنها حدود الاستعمال المرتهن إلى هذا التصور أو ذاك. وهذا ما يجب الانتباه إليه، إذا ما أردنا فعلا تحقيق الفهم المناسب والاستيعاب المطابق لما نتلقاه من نظريات واتجاهات.
تتحدد Narrativité بحسب الاختصاص والمقاصد، وبتمييزنا بينها نعتبرها عند السيميوطيقيين تناظر ما أسميناه بالحكائية لاتصالها بالقصة، أو المادة الحكائية أو المحتوى، ونربطها بمبدأ الثبات وتتصل بالجنس. ونرى أنها عند السرديين مقابل لما نسميه بـ “السردية” لارتباطها بالخطاب أو التعبير، ونسمها بمبدإ التحول وتتعلق بالنوع. وكل ما يرتبط بالموضوع من مفاهيم يجري مجرى طبيعة الموضوع، ونوع الاختصاص الذي يعالجه.
إن تحديد تصور دقيق للمصطلحات النظرية ضرورة يمليها علينا الوضع الثقافي الذي نعيشه. وأي تخلف أو تأخر عن الوعي بهذه الضرورة لا يمكن أن يسهم إلا في استمرار التسيب وعدم التواصل ليس فقط بين المشتغلين فيما بينهم، ولكن كذلك في علاقتهم بالقارئ والمتلقي. وآن الأوان لفتح الحوار الجاد والعميق لتطوير وعينا وممارستنا النقدية.
—————————————
الهوامش
1 S. J. Schmidt, اThéorie et pratique d’une étude scientifique de la narrativité littéraireب in Sémiotique narrative et textuelle, Larousse, 1973, p. 149
2- A. J. Greimas, Du Sens II, Seuil, 1983, p. 157
3– Groupe d’Entrevernes, Analyse sémiotique des textes, Presses universi taires de Lyon, 1984, p. 14
4- J. Courtès, Analyse sémiotique des discours, Hachette, 1990, p. 70
5- A. Hénault, Les Enjeux de la sémiotique, PUF, 1979, p. 145
6- A. Hénault, Narratologie. Sémiologie générale, PUF, 1983
7- P. Ricoeur, Temps et récit, T. II, Seuil, 1984, p. 230
8- P. Ricoeur, Temps et récit, T. I, Seuil, 1983, p. 203
9- G.- Denis Farcy, Lexique de la critique, PUF, 1991, p. 68
10- A. J. Greimas, J. Courtès, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette, 1979, p. 249
11- A. J. Greimas, 1983, p. 62
12- G.- Denis Farcy, 1991, p. 72
13 P. Ricoeur, 1983, p. 62
14- انظر التمييز بين الحكي والسرد في : سعيد يقطين ، تحليل الخطاب الروائي ، ط 1 ، 1989 ، المركز الثقافي العربي، ص 4
15- G. -Denis Farcy, ا De l’obstination narratologiqueب, in Poétique, N. 68, Nov. 1986, p.491
16- G. Genette, Nouveau dicours du récit, Seuil, 1983, p. 12
17- A. J. Greimas, Du Sens, Seuil, 1970, p. 158
18 M. MAthieu-Colas, اFrontières de la narratologieب in Poétique, N. 65, Fév. 1986, p. 91
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6746