جوزيف كورتيس
ترجمة: عبد العلي اليزمي
تقديم
هناك تصور نظري يقول بالتلازم بين مستويي تجلي الدلالة ووجودها : يتعلق الأمر بالوحدات الخاصة بالتعبير من جهة، وبالوحدات الخاصة بالمضمون من جهة ثانية. فكل تغيير يلحق المستوى الأول سيؤدي حتما إلى إحداث تغيير على المستوى الثاني. إن المادة في الحالتين الأولى والثانية تظل بمنأى عن التغيرات، مادامت الوحدات في المستوى الثاني والأول هي التي >تبلغ< وهي التي ” تخلق” التواصل بين المستويات وبين الأفراد. إن هذا الترابط سيكون هو المدخل الرئيسي لتناول السردية باعتبارها أحد أشكال التوسط بين مادة الدلالة وأشكالها. فما دام المستوى السردي لا يشكل سوى عنصر التوسط بين شكلين في وجود الدلالة، فمعنى هذا أن المادة الواحدة قابلة لأن تظهر عبر متواليات تعبيرية متعددة؛ وكل تحقق، أي كل توزيع جديد للمادة المضمونية، سيؤدي إلى الكشف عن أبعاد دلالية جديدة. ونتيجة لما سبق، فإن جوهر المضمون وكذا جوهر التعبير لا يدركان ولا يتم التعرف عليهما إلا من خلال الوحدات التي تخبر عنهما أي من خلال شكليهما.
ونقدم فيما يلي نصا يرصد هذا الترابط عبر تحليل >موضوع سميائي<، يقوم بدراسة الطريقة التي تشتغل بها الدلالة في واقعة حياتية محسوسة تمثل للوجود الإنساني من خلال حديه : الموت/الحياة. إن الأمر يتعلق من جهة بالنظر إلى الموكب الجنائزي باعتباره كلية (أي الإمساك به ضمن المتصل غير الدال)، ثم إخضاعة لتجزيء عبر التوزيع الفضائى (مقدمة الموكب ومؤخرته)، ثم توزيع المشيعين (الأقرباء ثم الأصدقاء ثم من يأتي بعدهم)، ثم اللباس (أشكال اللباس وكذا الألوان)، ويأتي في النهاية >سلوك< أطراف الموكب (سلوك من في المؤخرة ومن في الوسط وسلوك من في المقدمة). إن دلالة مجموع هذه العناصر تتحدد في علاقتها بالميت أي بالنعش الذي يحدد لمجموع العناصر دلالاتها. إن النص الذي نقوم بترجمته مأخوذ من كتاب جوزيف كورتيس Analyse sémiotique du discours, de l’énoncé à l’énonciation الصادر سنة 1991 ، من ص. 29 إلى ص.37
المترجم
النص المترجم
لتوضيح نظام الترابط بين التعبير والمضمون، يبدو لنا من المفيد أن نقدم -بطريقة مقتضبة وواضحة-تحليل موضوع سميائي ملموس يمكن لكل واحد أن يعرفه عبر التجربة ويتعلق الأمر بـ>الموكب الجنائزي< كما كان يجري في فرنسا القروية خلال القرنين 19و20 وقبل أن يعمم استعمال السيارات في الجنازات (خصوصا في المدينة).
إن محاولة الوصف هاته -وسنحاول أن نفصلها بشكل دقيق- ستأخذ بعين الاعتبار الأشخاص الذين يمشون وراء النعش فقط، وستتجاهل عمدا سرب أطفال الكورال وأعضاء الكنيسة الذين يشكلون مقدمة الموكب، وذلك لتجنب السقوط في مشاكل أنتروبولوجية لا مجال للخوض فيها هنا.
لنأخذ الترسيمة التالية :
موكب نعش
لنسجل أولا أن هذا الموكب التقليدي الذي غاب عن الأنظار في المدن لازال موجودا في العديد من القرى بالبادية الفرنسية -مثال القرية التي يسكن بها كاتب هذه السطور- ولاشك أيضا أنه لازال شائعا في جزء كبير من حوض المتوسط بما في ذلك بلدان المغرب العربي، وإن كانت الطقوس الجنائزية تتغير حسب الثقافات. ولتبسيط حديثنا، نفترض وجود ملاحظ يتوفر على إمكانية مشاهدة الجزء من الموكب الجنائزي الذي يشكل موضوع دراستنا تتابعيا وتزامنيا.
في البداية نعتبر أن الموكب الذي يهمنا يشكل ما يشبه لغة، بمعنى أن مدلوله (= المضمون) ذو طبيعة مغايرة لـ داله (= التعبير). وهكذا، فإننا نشعر منذ البداية بأن الموكب الجنائزي يتوفر على وجهين: هناك من جهة موقع الناس الذين يشكلون >الموكب<: ما يعود إلى الدال، ومن جهة ثانية هناك >دلالة< أعمق تعود إلى المدلول، غيرظاهرة ولا مدركة مباشرة، ولكن يمكن لأي مشاهد التعرف عليها، على الأقل في ثقافتنا : إنه الوجه >الجنائزي< للموكب المشار إليه.
إذا أخذنا بعين الاعتبار موقع الناس بالنسبة للميت (الموجود في النعش) يمكنناأن نكشف عن تعارض يمفصل متصل (continum) الموكب حسب العلاقة : قريب (م*) بعيد. إن موقع أعضاء الموكب (قريب/بعيد) يدخل في نطاق الدال والتعبير، وهو مرتبط من وجهة نظر المدلول بالقرابة الاجتماعية لكل فرد مع الميت : وهكذا فإن أقرب الأقرباء هم الذين يتبعون مباشرة النعش، وبعدهم وبشكل تدريجي أبعد الأقرباء ويليهم بانتظام الأصدقاء ثم المعارف ثم -كما جرى الحال بذلك مرارا- ممثلو كل العائلات التي تشكل الجماعة القروية. من المسلم به أنه لا يليق بأحد أقرباء الميت أن يحتل موقعا في مؤخرة الموكب كما أنه من غير اللائق أن يتبع النعش مباشرة أحد المعارف البعيدين. هكذا نرى أن الفضاء يستعمل للحديث عن شيء آخر غير الفضاء، إنه يستعمل هنا للحديث عن طبيعة الرابطة الاجتماعية التي تجمع أعضاء الموكب الذي يرافقون الميت إلى مثواه الأخير؛ ويوازي الدال الفضائي مدلول اجتماعي : ومن هنا إمكانية مقاربة أولى من نوع :
قريب رابطة اجتماعية قوية
بعيد رابطة اجتماعية ضعيفة
لندع جانبا النعش هنا ولنتفحص فقط الموكب الذي يتبعه، فإذا اعتبرنا الموكب بمثابة جوهر التعبير، فمن حقنا أن نرى في الموقع الفضائي الذي يحتله المشاركون بالنسبة لبعضهم البعض (وليس بالنسبة للميت) شكلا للتعبير. إن الملاحظ الذي سيمر أمامه الموكب الجنائزي، سيلاحظ فعلا نوعا من التعارض بين الصفوق الأولى والصفوف الأخيرة : في مقدمة الموكب يكون الناس قريبين من بعضهم البعض طوليا (الصفوف متقاربة) وعرضيا (أعضاء الموكب يمشون جنبا إلى جنب)، وعلى العكس من ذلك فإن المسافة في مؤخرة الموكب تكبر سواء بين صف وآخر أو بين شخص وآخر من نفس الصف. إننا نمر تدريجييا من توزيع فضائي إلى آخر ومن قطب إلى آخر؛ من /المتقارب/ إلى /المتباعد/.
هناك ملاحظات أخرى مرتبطة بما سبق، وهكذا فإننا نلاحظ أولا أن الأشخاص الموجودين في مقدمة الموكب يقومون بالحد الأدنى من الحركة التي يتطلبها السير ويتقدمون في استقامة دون تحريك الرأس على سبيل المثال، وعلى العكس من ذلك فإننا نلاحظ في مؤخرة الموكب حركة متزايدة، وبشكل متوازي فإننا نلاحظ تعارضا آخر بين /الصمت/ المخيم على الصفوف الأولى، و/الصخب/ السائد في الصفوف الأخيرة، وكل المواقع الوسيطة تبقي ممكنة هنا، كما يمكن كذلك أن تتميز مقدمة الموكب بـ /بكاء/، في حين أن مؤخرة الموكب تعج أحيانا بـ/الضحك/. ومن المعروف، عبر التجربة أنه يحدث أحيانا في مؤخرة الموكب أن يحكي أحدهم وبشكل مسموع بعض مغامرت الميت أو حتى مغامراته هو نفسه. لنضف ملاحظة أخرى تتعلق هاته المرة بما هو بصري وليس بما هو صوتي (سمعي): بالنسبة للملابس يسود /السواد/ في الصفوف الأولى (وهو إلى جانب /الأبيض/ شكل لـ /اللالون/ ألا يعبر /الأبيض/ عن الحداد في الشرق الأقصى؟)، في حين أن الصفوف الأخيرة تكون /ملونة/ بمسحات وسطية : الرمادي يسبق الألوان الداكنة غير الساطعة. لنلخص هذه التعارضات التي يمكننا أن نربطها بالتمفصل الفضائي : مقدمة/مؤخرة الموكب الجنائزي :
مقدمة (م) مؤخرة
متقارب (م) متباعد
حد أدنى من الحركة (م) حركة
صمت (م) صخب
بكاء (م) ضحك
أسود (م) لون
سنلاحظ أولا أن هاته التعارضات مرتبطة فيما بينها : سيكون من غير اللائق بالنسبة لشخص يوجد في وسط الموكب وبالأحرى في المؤخرة أن يبكي أو أن يبدي حدادا مبالغا فيه، كما أنه من غير اللائق بالنسبة لشخص يوجد في الصفوف الأولى أن يضحك أو يشوش أو يشير بأطرافه أو يرتدي ملابس ذات ألوان ساطعة وزاهية؛ بمعنى آخر فإن /الضيق/ و/حد أدنى من الحركة/ و/الصمت/ و/البكاء/ و/السواد/ تشكل كلا متجانسا كما هو الحال بالنسبة للتعارضات الأخرى.
ومع ذلك، فإن هاته المقولات، التي نعتقد أنها لاتستنفد الموضوع، لا تهم سوى التعبير أي الدال كما تسجله عين أو أذن الملاحظ؛ وهكذا فإن مشكل المدلول الموازي يطرح للتو، وبالملموس هناك تأويلان دلاليان ممكنان ثقافيا، وهما متكاملان تماما : ولا يوجدان بالطبع على نفس المستوى.
ويمكن القول إن التأويل الأول يدخل في مجال الظاهر البين، وإذا كان جوهر المضمون يتطابق هنا عامة مع شيء هو >الوجود الإنساني<، فإن الشكل العام للمضمون يعود إلى التعارض : /حياة/ (م) /موت/. من الواضح أن الموت يتطابق مع الموكب الجنائزي؛ ومن وجهة النظر هاته فإن /الملتصق/ و/الحد الأدنى من الحركة/ و/الصمت/ و/الدموع/ و/الأسود/ بمثابة أسناد دالة على فكرة /الموت/. فمن جهة نلاحظ أن مختلف الدوال قابلة للاستبدال (بالمعنى المحدد سابقا) بعضها ببعض، ولأنه من الطبيعي أن حضورها كلها ليس ضروريا للتعبير عن المدلول /موت/. وعند الضرورة، فإن أحدها يكفي (لنتذكر مثلا دقيقة /صمت/التي تستعمل لتحية الأموات) . ومن جهة أخرى، فإن تكرار الدوال في الموكب للتعبير عن طابعه >الجنائزي< لا تصلح فقط لرفع اللبس، كما تذكرنا بذلك عن حق نظرية التواصل (ومن بعدها النظرية الوظيفية) : إن إعادة نفس المدلول (الموت هنا) عبر دوال مختلفة يشبه بعض الشيء الخطاب الرمزي الذي يقدم نفس المعطى المفهومي عبر تعبيرات تصويرية مختلفة. لا يمكن الحديث عن /الموت/ إلا مقارنة بـ/الحياة/. وربما أمكن للتحليل السميائي -بأدواته الأولية الأولى- أن يساعدنا على فهم أحسن لتصرفات الصفوف الأخيرة للموكب، هذه التصرفات التي كانت قديما تثير حفيظة الفولكلوريين المتزمتين. ويجب أن نعترف بأن هناك فعلا ترابطا وثيقا بين مستوى التعبير (المشكل من مجموع المقولات المذكورة أعلاه، والتي ليست محصورة تماما) ومستوى المضمون الذي نمفصله في /حياة/ (م) /موت/. وإذا انتبهنا إلى أن مقدمة الموكب قريبة من الميت، فإننا سنستخلص أن /القريب/، /الحد الأدنى من الحركة/، /الصمت/، /الدموع/ و/السواد/ يجب أن توضع في خانة الموت؛ وفي نفس الوقت، فإن طرف الموكب الآخر، والسمات التي ألحقناها به، يجب أن تقرأ بمثابة تعبير عن /الحياة/ : /التباعد/، /الحركة /، /الصخب/، /الضحك/ و/اللون/ دوال -قابلة لاستبدال بعضها البعض- لنفس المدلول /حياة/.
وهكذا فإننا نفهم جيدا طبيعة الترابط الموضوعي بين مستويي اللغة، تعبير ومضمون : فإذا كنا ننتقل مثلا على مستوى الدال من جذر إلى آخر (من العمود أ الى العمود ب، أوعكس ذلك من أ إلى ب) فإننا، وبشكل مترابط، نضطر لإجراء تغيير مماثل على مستوى المدلول : وهذا بشكل ملموس هو نمط اشتغال العملية المسماة استبدالا.
أ ب
دال ( تعبير ) متقارب (م) متباعد
حد ادنى من الحركة (م) حركة
صمت (م) صخب
بكاء (م) ضحك
أسود (م) لون
مدلول ( مضمون) موت (م) حياة
لنعد مرة أخرى إلى المكون الفضائي لإبداء ملاحظة تعود إلى مستوى التعبير. لقد أشرنا أعلاه إلى المحور/الطولي/ للموكب : إن هذا المحور يمكن أن يتمفصل بالنسبة للنعش حسب : /إلى أعلى/ (م) /إلى أسفل/. إنه يشمل إذن مجموع أعضاء الموكب حتى وإن كان يميل إلى الإمتداد إلى الوراء أخذا بعين الاعتبار التباعد المتزايد باستمرار بين الصفوف.
إن عملية التحرك ضمن محور الميت تموقع كل واحد بالنسبة لـ/الموت/ كان /بعيدا/ أم /قريبا/ منها : ومن جهة النظر هاته، فإن الموكب >جنائزي< في كامل طوله. ومن جهة أخرى فإن المحور /العرضي/ -الذي قلنا عنه إنه مرتبط بـ/الحياة/- أقل ظهورا في بداية الموكب مادام أنه أقل بروزا في الصفوف الأولى. وعلى العكس من ذلك فإنه أكثر بروزا عندما يتضخم في الصفوف الأخيرة، ويتم تبادل الكلام أكثر في المحور العرضي : (يسار/يمين) عنه في المحور الطولي (إلى أعلى/إلى أسفل) : كما لو أن الناس في هذه الحالة، وحتى الأكثر ثرثرة، يحسون ببعض الحياء أمام الميت الذي يرافقونه.
إذا كان المحور/الطولي/ أكثر بروزا في /مقدمة/ الموكب، والمحور /العرضي/ أكثر بروزا في /المؤخرة/، فإن الذي يتبع الموكب يتحدد فضائيا عبر هذين المعيارين مهما كان الموقع الذي يحتله إزاءه : مهما كانت زاوية نظرنا، فإن الموكب الجنائزي ليس مرتبطا فقط بـ/الموت/ ولكن بـ/الحياة/ أيضا وقبل أي شيء آخر. صحيح أنه على المستوى الأخلاقي يمكن للبعض أن يستنكر في مثل هذه الحالة -كما ذكرنا ذلك أعلاه- تصرفات أعضاء مؤخرة الموكب، وهو ما يتم استنكاره مرارا في بوادينا. ورغم ذلك، فإن تمظهر /الحياة/ هذا -الذي يعتبره البعض غير لائق- هو بمثابة ضرورة على المستوى البنيوي : إنه يذكرنا في الأخير بأن الوجود الإنساني يتكون في نفس الآن من /الحياة/ و/الموت/ ويستحيل الفصل بينهما. إن الموكب ليس >جنائزيا< إلا اعتبارا لذلك الذي سيتم دفنه، ولكنه سيظل متشكلا من أحياء.
وموازاة مع الزوج : حياة/موت، الموجود على المستوى الاستبدالي المتعلق بالإدراك الحسي، هناك تعارض آخر يمكن أن يكون مرتبطا بالتعارض الأول ويشكل على مستوى وجداني عميق، تأويلا مختلفا ومدلولا آخر للموكب الجنائزي، وهو التعارض : فرح/حزن.
أ ب
متقارب (م) متباعد
حد أدنى من الحركة (م) حركة
صمت (م) صخب
بكاء (م) ضحك
أسود (م) لون
مضمون 1 حياة (م) موت
مضمون2 فرح (م) حزن
وهكذا، يدخل في نطاق /الحزن/ -ضمن علاقة استبدالية متبادلة- /القرب/ وكذلك /الحد الأدنى من الحركة/ و/الصمت/ و/البكاء/ و/السواد/، كما أن /المتباعد / و/الحركة/ و/الصخب/ و/الضحك/ و/اللون/ ستكون بمثابة مظاهر للفرح.
من المسلم به أنه توجد مواقف وسطية بين /فرح/ الصفوف الأخيرة للموكب و/حزن/ الصفوف الأولى : وهكذا إذا كان أقرب المقربين مطالبا بإبداء /الحزن/، فإن الأصدقاء سيكتفون بإظهار التجهم. وهنا بالضبط تقع كل التمييزات الممكنة : إن المرور من قطب إلى آخر على مستويي التعبير والمضمون يتم بالطبع بطريقة تدريجية، فالبسمات الخاطفة مثلا تسبق القهقهات. ومن جهة أخرى سنلاحظ أنه لا يمكن أن تكون هناك علاقة مبهمة بين هذا الدال وذاك المدلول : إذا كان /البكاء/ في هذه الحالة مرتبطا بـ/الحزن/ فمن الممكن أن يكون في حالة أخرى مرتبطا بـ/الفرح/ (مثال : >البكاء من شدة الفرح<. ألم يقل باسكال : >غبطة، غبطة، دموع الغبطة<). وبشكل معاكس، فإننا اعتدنا أن نرى في /الضحك/ تعبيرا عن الفرح، ولكن الحال ليست كذلك دائما، وكمثال على ذلك تعبير >ضحكة صفراء<، وهذا يعني ببساطة أن نفس الدال يمكن أن يحمل مدلولات مختلفة بتنوع السياق : ونعثر هنا على ما يسمى في اللسانيات التقليدية : التناظر (سواء تعلق الأمر بالتناظر الصوتي، أو التناظر الكتابي).
وفي اتجاه مغاير، كما لاحظنا ذلك بخصوص إمكانيات الاستبدال، فإن نفس المدلول يمكن أن يجسد عبر دوال عديدة (كما هو الحال في الترادف). في تحليلنا للموكب الجنائزي نجد أن العنصر الذي يدرك مباشرة وقبل أي عنصر آخر هو التمفصل الفضائي /مقدمة/ و /مؤخرة/. ولنستبدل الآن هذا المحور الفضائي بمحور زمني ينطلق مع /البداية/ ويصل إلى /النهاية/ : ويمكننا أن ندرس على سبيل المثال >المأدبة الجنائزية<؛ صحيح أن تقاليدنا تدعونا إلى اكتشاف علاقة قرابة بين التنظيم الخاص بالموكب الجنائزي وسير المأدبة الجنائزية وهو ما تثبته المقارنة السميائية بطريقتها الخاصة : في /بداية/ المأدبة، كما في /مقدمة/الموكب، يخيم الحزن ويسود الصمت، والكل يشارك الأقارب في مصابهم (إن صح القول) ؛ وتدريجيا، ومع التقدم في >الأكل< (أو عندما ننتقل نحو /مؤخرة/ الموكب)، تتحرر الألسن من عقدتها تدريجيا، وتتحرك بطريقة خفيفة جدا في البداية وتصير تدرريجيا أكثر جرأة. ويلي البكاء المحتمل في بداية المأدبة أو الموكب نظرات خاطفة تسبق بدورها السمات التي تعلن /الحياة/، ولم يكن من النادر أن نرى في بوادينا المأدبة الجنائزية تنتهي بالفرح (والخمرة تساعد على ذلك) : وسواء تعلق الأمر بالمأدبة الجنائزية أم بالموكب الجنائزي، وهما معا احتفاء بالموت، فإن الكلمة الأخيرة تعود للطرف المناقض في نهاية المطاف، أي /الحياة /.
إن هذا الوصف المختصر للموكب الجنائزي يدفعنا إلى إثارة ملاحظة منهجية. إن الحديث عن الشكل يفترض، كما قلنا، وجود شبكة من العلاقات والبنيات على مستويي التعبيير والمضمون، وإن تحليلنا المتواضع كان يرتكز، كما رأينا ذلك، على المرور من المتصل الموكبي إلى تمفصله حسب التعارضات التي سجلناها. والمعنى -كما يعلمنا ذلك سوسير- لا يدرك في نهاية المطاف إلا عبر عملية التعارض هاته. فمن المؤكد أن مفصلة المتصل (= الجوهرالهامسليفي العديم الشكل) يعني اقتراح وحدات منفصلة تطابق التقطيعات التي يمكن إحداثها في المتصل نفسه، وهذا يدفعنا إلى التأكيد على خاصية أخرى للغة : إنها ليست فقط ذات مستويين (دال/مدلول أو تعبير/مضمون) ولكنها أيضا قابلة للتمفصل : ومن هنا إمكانية تحليلها، أي حرفيا تفكيكها (باليونانية analusis )، إلى عناصر مكونة سواء على مستوى الدال أو على مستوى المدلول.
إن القول بأن الموكب الجنائزي يشكل كلا، يعني التشديد على طبيعته المتصلة والتأكيد على وجود معنى، ويعني بالضرورة إسقاط المتقطع على المتصل. وعبر تعرفنا على مجموع العلاقات المترتبة عن هذه الوضعية، ربما استطعنا فهمها. إن التعرف على علاقات يتضمن وجود عناصر تجمع هاته العلاقات بينها. ومن وجهة النظر هاته، فإن مثال الموكب الذي أعطيناه هو بالتأكيد أكثر أهمية من مثال لساني ما دام وصفنا يمكن أن يسمح لنفسه بأن يكون أكثر سذاجة وأكثر بساطة أيضا : في هاته الحالة، وعلى عكس التقليد اللساني، لا تكون الوحدات معطاة دفعة واحدة، بل يتم بناؤها انطلاقا من مجموع العلاقات المحددة تجريبيا.
ولنكتف هنا بالمستوى الخاص بشكل التعبير، ومع تعارض واحد، /بكاء/ و/ضحك/. إن الأمر يتعلق هنا بعلاقة واضحة تحدد، إذا جاز ذلك، مقطعين مختلفين ومتعارضين في >المتصل الموكبي<. في الحقيقة، وكما أشرنا إلى ذلك، إننا لا ننتقل مباشرة من /البكاء/ إلى /الضحك/؛ وبصيغة مغايرة : ما دمنا في مجال الإدراك الشامل للموكب، فإن الانتقال من قطب إلى آخر يتم تدريجيا؛ ولكن بمجرد ما نود الحديث عن الموكب فإننا نضطر إلى تحليله وإدخال تقطيع ملائم. نفترض إذن بأن المتصل الذي يمتد من /البكاء/ إلى/الضحك/ قابل للتمفصل، وبأن المرور من قطب إلى آخر يتم فعليا بطريقة تدريجية : كل >خطوة< (باللاتينية gradus) تكون في نفس الآن متميزة وقريبة نسبيا من تلك التي تليها. ليكن على سبيل المثال التوزيع التالي :
/مقدمة / موكب /مؤخرة/
/ ضحك/ (م) / بكاء/
(أسبقية المحور الطولي : في اتجاه الميت ) (أسبقية المحور العرضي : في اتجاه الاحياء)
دال : بكاء وجوه متجهمة وجوه ساكنة ابتسامات / ضحك
مدلول : /حزن/ / تجهم / / وقار/ / فرح/
إن تقطيعا من هذا النوع، ومهما كان اعتباطيا، يريد أن يظهر على مستوى الدال والمدلول، (على الأقل) الاتجاه الذي يجب أن يأخذه التحليل السميائي : إن وضع الوحدات مهما كانت نسبيتها هو من أولى غايات المنهج، ومن الطبيعي أن تعريفها مرتبط بالعملية المزدوجة التي أشرنا إليها أعلاه وهي تبادل/استبدال. أكيد أن هذا التمفصل قابل للنقاش وإن تعلق الأمر فقط بالتسميات التي استعملناها (وهي مرتبطة بإمكانيات المعجم في اللغة الفرنسية) لكنه على الأقل يحاول وضع ترابط وثيق بين مستويي اللغة بطبيعة الحال. إن الإخلاص للعلاقة دال/مدلول هوالعلامة المميزة ،وسيظل كذلك، لكل تحليل يطمح لأن يكون سميائيا. بل إن التشاكل المفترض بين مستوى التعبير ومستوى المضمون، وكما يظهر ذلك جدولنا، يسمح بتجنب نسيان هذا المستوى أو ذاك خلال مختلف مراحل الوصف.
رغم أن تحليلنا للموكب الجنائزي يتوقف عند هذا الحد نظرا لكوننا لازلنا لم نقدم بعد الأدوات المنهجية التي تسمح لنا بمتابعته، فمن الضروري أن نشير إلى الامتدادات الممكنة. عندما نكون قد تعرفنا على الوحدات، وكما قلنا ذلك، فمن الواجب أن ندقق العلاقات المتبادلة التي تربط فيما بينها. لنأخذ مثالا يعرفه القارئ جيدا، وهو مثال النحو التقليدي : نعرف أنه ينقسم عامة إلى جزئين أساسين : الأول مخصص لدراسة المورفولوجيا (التي تدرس الكلمات والتغييرات التي تمسها) والآخر مخصص للتركيب وهو باختصار دراسة العلاقات القائمة بين الكلمات داخل الجملة، والوحدات المعينة، وما هو أبعد من ذلك أي دراسة روابط العلاقات : الروابط بين أقسام الجملة على سبيل المثال.
إن موكبنا الجنائزي يمكن أن يدرس بنفس الطريقة. لقد اقترحنا في مرحلة أولى مورفولوجيا حقيقية بفضل مفصلة المتصل إلى وحدات منفصلة، وكان على وصفنا أن يستمر-في إطار تركيب يسمى سرديا- ليحلل موقع كل وحدة في علاقتها مع الأخريات : ذلك أن هذا الموكب ليس فقط مجموعة من التعارضات (توجد على المستوى المسمى استبداليا) ولكنه أيضا >حكاية<(على المستوى التركيبي) تحكى للمارة وللملاحظ. هناك مسار يتم وفق قوانين، يبدأ مع /الحزن/ ليصل إلى /الفرح/. وسيصعب علينا مثلا أن نتصور توزيعا مغايرا للموكب تكون فيه المقدمة مرتبطة بـ/الضحك/ و/الفرح/ وتكون فيه المؤخرة (التي ستكون سابقة مباشرة للنعش) مرتبطة بـ/البكاء/ و/الحزن/ : في هذه الحالة سننتقل من الحياة إلى الموت. وبالملموس، ومن جهة نظر الملاحظ والكل قادر على التأكد من ذلك، فإن الموكب الجنائزي يبدأ بـ/الموت/ وينتهي بـ/الحياة/ : وهذا التوجه ليس بلا معنى، فهو نفسه الذي نعثر عليه في الحكايات العجيبة حيث تبدأ الحكاية بوضعية بئيسة وصعبة وتختتم بحالة نهائية تتسم بالفرح، وعلى خلاف أنواع أخرى من الحكايات التي تنطلق من السعادة في البداية لتصل في النهاية إلى وضعية مأساوية (مثلا >حدث يومي< ينتهي >بمأساة<). إن موكبنا الجنائزي في خاتمة المطاف بمثابة حكاية >نهايتها سعيدة<
* (مقابل)
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6752