أحمد الفوحي – كلية الآداب مكناس
وضع النسق الصرفي العربي أوزانا يزن بها الكلم المتصرفة، فقيل إن كتب على وزن (فَ.عَ.لَ) وقفْل على وزن (فُ.عْ.ل ) ودرهم على وزن (فِ.عْ.لَ.ل) وفرزدق على وزن (فَ.عَ.ل.ل.ل)*. والناظر في هذه الأوزان يجد أن التجاوز فيها يتم من جهة اللام فحسب، فلم يذكر الصرف العربي أوزانا من قبيل (ف.ع.ف.ل) لزنة الرباعي أو (ف،ع،ف.ع.ل) للخماسي وهلم جرا . فما السر في هذا يا ترى ؟ وما تفسيرهذا الأمر ؟ إنه ما اهتدينا إليه بعد تمحيص وسميناه، ” نظرية الامتداد في الصرف العربي”.
0- إن كل نظرية علمية عند تشومسكي : > تستند إلى عدد نهائي من الملاحظات؛ وتسعى إلى الإتيان ببيان عن الظواهر الملحوظة والتنبؤ بظواهر أخرى جديدة من خلال وضع قوانين عامة في صورة مفاهيم افتراضية<(1). ويرى أن أهمية معطيات الملاحظة تكمن في كونها ذات تأثير كبير في اختيار نظرية من النظريات الممكن الأخذ بها (2).
غير أن صياغة نظرية ما تشتمل على مخاطر إذ كانت النظرية رهانا. ويبقى على التجارب أن تؤدي إلى قبول نظرية ما أو ردها. ومن ضوابط تقويمها معايير التساوق أو الإنسجام مع عدد لا يستهان به من المعطيات، وقيمتها التفسيرية وانسجامها الداخلي وتساوقها مع نظريات أخرى في ميادين قريبة من ميدانها، وجماع أمرها البساطة والتعميم.
إن ما نحن بصدده لا ينطبق عليه قول صاحب >منطق الاكتشاف العلمي (3) < القاضي بأنه ليس من الممكن أبدا التحقق من صحة نظرية ما، وإنما الممكن البرهنة على زيفها. وإنما سنأتي بالأمثلة التي تدعم هذا الافتراض وتقويه.
1- مما يوحي به لفظ ( الامتداد ) التوسع والتوسيع. وهذا التوسيع لابد له من أن ينطلق من نقطة ما. ومفهوم الامتداد هذا مستعار من مجال آخر غير الصرف. إنه مجال النظم والتركيب. فقد ذكر مارتيني (4) أن من بين الوحدات الدالة التي تكون الملفوظات وحدات قد تحذف دون أن يمس هذا الحذف ويؤثر في العلاقات القائمة بين الوحدات الباقية. ويسمي الوحدات الأولى توسعات expansions نواة مكونة من وحدتين لا يمكن حذف إحداهما دون أن يختل بناء الجملة. وقد كان ضرب لهذه التوسعات في مجال التركيب أمثلة على النحو التالي: (5)
– اذهب! va
– اذهب بسرعة va vite !
– اذهب للبحث عنه va le chercher
– إذهب عند الجارة va chez la voisine
– إذهب للبحث عنه عند الجارةva le chercher chez la voisine
فلابد لكل امتداد من نقطة انطلاق وإلا لما صح نظرا أن يقال له امتداد أو توسيع. فما نقطة الامتداد في الصرف العربي ؟ وكيف ذلك ؟
2- لما نظر علماء الصرف إلى مفردات العربية لوضع مقياس موحد توزن به وتخضع له ويكون وسيلة لتحديد الأصول وما طرأ عليها من تبدل وتغير، وجدوها ثلاثية ورباعية وخماسية. فجعلوا لكل واحد من الأصول وزنا خاصا به على النحو التالي :
– ف ع ل
-ف ع ل+ ل
– ف ع ل + ل ل
ويتبين من هذا أن الثلاثي هو نقطة الانطلاق ومصدر الامتداد والتوسع فكيف كان ذلك ؟ وهل في الأمر بعد نظر وسلامة منطق؟
من المعلوم أن الحركات في العربية نوعان: حركة بناء وحركة إعراب. والمقصود بحركة البناء الحركة التي تهم بناء الصيغ وتخص حروف الكلمة ماعدا الحرف الأخير الذي تختص به حركة الاعراب الدالة على وظيفة ومعنى نحويين.
فإذا نظرنا إلى الاحتمالات الممكنة وجدنا الثلاثي يحتمل من الناحية النظرية اثني عشر وزنا، وجداء الثلاثة في الأربعة (6) يولد اثني عشر وزنا. إلا أن ما يتحقق منها عشرة أوزان وتكون نسبة االتحقق عشرة من اثني عشر، أي بنسبة مائوية تفوق ثلاثة وثمانين من المائة (83.3%).
وأما الرباعي فيحتمل من الناحية النظرية ثمانية وأربعين وزنا يسقط منها ثلاثة لتعذر التقاء الساكنين في العين واللام الأولى، فيبقى خمسة وأربعون وزنا لم يتحقق منها إلا ستة فقط. وهذا ما يوافق نسبة نيف وثلاثة عشر من المائة (13.3 %).
وإذا انتقلنا إلى الخماسي وجدناه يحتمل نظرا اثنين وتسعين ومائة وزن (192) يسقط منها واحد وعشرون لتعذر التقاء الساكنين، فيبقى واحد وسبعون ومائة (171) لم تحقق منها العربية غير أربعة. ونسبة أربعة من واحد وسبعين ومائة لا تفوق اثنين من المائة بكثير (2,33 ) (7).
إن هذه الاحصاءات تبين بجلاء هيمنة الثلاثي على قسيميه، فكان بحق الاستعمال وقوة المنطق منطلق وضع الميزان الصرفي. فإذا وجدت كلمة تفوق أصولها الثلاثة جاءوا إلى اللام فضعفوها وثلثوها، وفي هذا موافقة منطقية لمفهوم الامتداد الذي يقع من جهة الطرف لا غير. فكيف يصح هذا الزعم ويقوى؟ وما الداعي إليه؟
3- جاء في الكتاب باب سماه سيبويه ” باب الزيادة من غير موضع حروف الزوائد”(3) يقول فيه:> ويلحق من موضع الرابع فيكون الحرف على مثال (فعَلَّل) وذلك : سبهلل وقفعدد< (9). وقد ذكر صاحب الكتاب تضعيف اللام في غير ما عينه ولامه من موضع واحد فقال (10) : > وذلك قولك : قردد، لأنك أردت أن تلحقه بجعفر وسلهب ”. وجاء في سر صناعة الاعراب لأبي الفتح قوله (11): >وكذلك لو بنيت من “قرأت ” مثل ” دحرج” لقلت ” قرأى” وأصله ” قرأأ ” <. فواضح أن الامتداد والتوسيع إنما يقعان من جهة اللام. وقد تناول علماء اللغة الظاهرة في باب الملحق. قال ابن جني في الخصائص (12) : > وقال أبو عثمان في الالحاق المطرد : إن موضعه من جهة اللام نحو : قعدد ورمدد. وشملل وصعرر، وجعل ا لالحاق بغيراللام شاذا لا يقاس عليه …. قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان : لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبني بإلحاق اللام اسما وفعلا وصفة لجازله، ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك : خرجج أكرم من دخلل، وضربَبَ زيد عمرا، ومررت برجل ضربب وكرمم.
وأما الغرض من هذا فمرده إلى أن اللغة كائن حي. والكائن الحي يمتاز بالحركة والتبدل والتغير. وإن من مهام اللغة تسمية العالم، أي وضع أسماء للأشياء الموجودة، وما كل الأشياء وجد دفعة واحدة.
ومن خواص العربية (شأنها شأن اللغات الطبيعية ) أن لها نسقا صرفيا يمكنها من وضع ألفاظ جديدة تكون خاضعة لمقتضياته. ولا بد للمحدث المولد في الدلالة والمعجم أن يراعي تلك المقتضيات وذلك النسق. أفرد ابن جني في الخصائص بابا للغرض في مسائل التصريف يقول فيه (13) : > وذلك عندنا على ضربين : أحدهما الادخال لما تبينه في كلام العرب والالحاق له به. والآخر التماسك للرياضة به والتدرب بالصنعة فيه. الأول نحو قولك في مثل جعفر من ضرب : ضربب ومثل حبرج : ضربب. ومثل صفرد : ضربب … فهذا عندنا كله إذا بنيت شيئا منه فقد ألحقته بكلام العرب < . فكلام ابن جني يجب أن يؤخذ على أنه تمثيل وتجريد لما يحتاج إليه العربي في حياة لغته ليولد ألفاظا جديدة، ولا يهمه أن تكون العرب قالته من قبل شريطة أن يوافق القياس ولا يعارضه سماع. لهذا رأينا ابن جني يبسط المبدأ الذي وضعه الخليل في القياس على كلام العرب ويوسعه باعتبار كل ما قيس على كلام العرب كلامهم ولو لم يسمع عنهم . فقد قال (14) : > ولا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ(15)، لأن الدليل إذا قام على شيء كان في حكم الملفوظ به وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله <. ولما كان الغرض من الامتداد والتوسيع الحاق بناء ببناء فقد امتنعت العرب من ادغام الملحق. جاء في باب الامتناع من نقض ا لغرض (16) قول ابن جني : > فمن ذلك امتناعهم من ادغام الملحق نحو جلبب وشملل وشربب ورمدد ومهدد، وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكرير البلوغ إلى مثال معلوم<.
4. قد يقول قائل إن الزيادة في المعنى تقتضي الزيادة في المبنى وتستلزمها، وإن العربية حددت حروف الزيادة والمعاني التي تزاد من أجلها ، فلم كان الحديث عن الامتداد والالحاق بتكرير اللام أو تثليثها؟
إن الجواب عن هذا يتمثل في كون اجتماع حروف معينة في صيغة ما ينعقد عليه معنى معين ، فإذا أردنا أن نوسع في هذا المعنى بإضافة وحدات دلالية صغرى (سيمات) وجب أن يكون الحرف الزائد من جنس أحد حروف الصيغة لاعتقادنا بفساد القول باعتباط العلامة اللسانية كما جاء عند سوسير ومن سبح في فلكه . وقد وجدنا من المعاصرين من انبرى لرد الاعتباط ووسم كتابه بوسم يدل على قوة الاعتراض(17) .
وأما المتقدمون فنجد من بينهم صاحب نظرية الاشتقاق الأكبر والتقاليب الستة الذي يرفض فكرة الاعتباط. ذكر ابن جني الاشتقاق فذكّر بأن الاصغر هو المعروف عند الناس وفي أيديهم وأما الأكبر (18) > فهو أن تأخذ أصلا من الاصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه … وإنما ذلك لأنها مادة واحدة شكلت على صور مختلفة، فكأنها لفظة واحدة <. فالمعنى الواحد الذي تحدث عنه أبو الفتح هو ما يمكن أن نطلق عليه “المعنى النووي” الذي لا يبرح أي صيغة مهما اختلفت التقاليب. فإذا كان ذلك كذلك صح الالحاق باللام لسببين اثنين: أولهما كونها حرفا من الحروف التي يجتمع عليها ذلك المعنى النووي، وثانيهما كونها طرفا وكون الامتداد يقع من جهتها دون أختيها الفاء والعين. فمن فصيح العربية نجد زمهرت عيناه : أي احمرتا من الغضب ووجه مزمهر (من الزمهرير) كالح، وقمطر: الجمل القوي السريع واقمطر : اشتد وانتشر؛ ومنه اليوم العبوس القمطرير الذي يعبس الوجه فيجمع ما بين العينين، وحص الشعر وانحص : تناثر وانجرد وحصحص الحق : بان بعد كتمان وعس يعس عسسا وعسا طاف بالليل والعسعس والعسعاس : الذئب يعس بالليل ويطلب، وعسعس الليل أقبل بظلامه. ودم رأسه : ضربه فشدخه وشج، ودمدم : إذا عذب عذابا تاما فأهلكهم (19).
5- إن مما يدعو إلى الامتداد والالحاق عملية الترجمة التي يقف المرء فيها على ضرورة إحداث ألفاظ جديدة توافق من حيث مدلولاتها مدلولات الالفاظ في اللغة الاجنبية. والناظر في ما يقوم به أهل الحل الذين لا يعقدون، يرى أن القوم استحدثوا ألفاظا وصيغا ما أنزل النسق الصوتي الصرفي العربي بها من سلطان. ومن الأمثلة على ما نحن بصدده الألفاظ المرتبطة بعالم المثل في اللغة الفرنسية التي قالت idéal فقال المترجمون : مثالي وقالت idéalité فقالوا : مثالية : وقالت idéaliser فقالوا : أمثل؛ وقالتidéalisation فقالوا أمثلة؛ وقالت idéalisé فقالوا : مؤمثل. فإذا نحن علمنا بصحة اللفظين الأولين معنى ومبنى فإن الأمثلة الثلاثة الأخيرة هي بيت القصيد ومحط النظر وموضع الطعن.
إن صيغة (أمثل) وقعت بزيادة الهمزة التي تسمى همزة الجعل والتعدية وتكون للسلب أيضا (20) وأما مصدرها فيصاغ على (إفعال) لا على أفعلة وكذا اسما فاعلها ومفعولها اللذان يصاغان بناء على المضارع بحذف الهمزة. فلم تقل العربية أكرم يؤكرم فهو مؤكرم ومؤكرم وأكرمة. ولو انتبهوا قليلا لوجدوا أن الصياغة السليمة هي أن يقولوا : مثلل مثللة فهو ممثلل وممثلل مثلما قيل دحرج دحرجة … وجاءوا إلى catégorisation فقالوا : مقولة من مقولة catégorie، وليتهم انتبهوا فقالوا : قوللة، فإنها عربية فصيحة كأنها من وضع الشنفرى أو شوقي.
وأما الطامة الكبرى فما ابتلينا به من ترجمة privatisation التي تعني ( عندنا في المغرب الأقصى) تفويت المال العمومي إلى الخواص، بـ: الخوصصة، فما أنكر هذا الإحداث وما أشنعه. لقد جعلت العربية ” التخصيص ” لاخراج شيء ما من دائرة العموم إلى دائرة الخصوص، فلو استعملوا مصطلح > التخصيص < لكان أفضل وأسلم وأليق؛ إذ من المعلوم أن المشترك من وسائل التسمية في اللغات الطبيعية. أما الخصخصة فلم يرد بها سماع. وإنما القياس الخصصة بالالحاق من جهة اللام من (خ،ص،ص) غير أن ما يمنع هذا التوليد استثقال التضعيف وخصوصا عندما تكون العين واللام حرفين مثلين. قال سيبويه في باب التضعيف (21) : > اعلم أن التضعيف يثقل على ألسنتهم وأن اختلاف الحروف أخف عليهم من أن يكون من موضع واحد… وذلك لأنه يثقل عليهم أن يستعملوا ألسنتهم من موضع واحد ثم يعودوا إلىه < وهذا ما يمنع الخصصة وما شابهها .
6. مما سبق يتبين أن نظرية الامتداد في الصرف أمر وارد أكدته نصوص اللغويين المتقدمين ونافحت عنه الامثلة والمعطيات اللغوية المقدمة. ولن نقول مثل ما قال صاحب “بؤس التأريخية ” : >إن النظرية، أي نظرية كانت، واردة بقوة قبولها النقض وعدم البرهنة على صحتها<. إن ما قيل سلفا يؤكد هذه النظرية التي نعتبرها وسيلة من وسائل التوليد المعجمي يجب الأخذ بها متى ما دعت الحاجة إليها .
———————————————
الهوامش:
* فككنا الادغام لتبيين الخماسي وهو منتهى الأوزان .
1- CHOMSKY (Noam) -1957- Structures syntaxiques, Trad. française, Paris, Seuil, 1969, p.55
2- CHOMSKY (N) -1964- Current issues in linguistic theory; La Haye Mouton, p.98
3- POPPER (Karl) -1959- The Logic of scientific discovery, New York, Basic Books; p.27
4- MARTINET (André) -1985- Syntaxe générale, Paris, Armand Colin p.86، وهذه التوسعات هي ما يعرف في النحو العربي بالفضلات التي تأتي لتخصيص الحدث وما يتعلق به من عمد.
5- انظر مارتيني 1960 Eléments de linguistique généraleص 128وقد اعتبر روفي (1967ص 53) Introduction à la grammaire générative, Paris, Plonهذه المسألة ضربا من الابداع اللغوي عند صاحب مبادئ اللسانيات العامة .
6- أما الثلاثة فهي الحركات الثلاث التي تحتملها الفاء. وأما الاربعة فهي الحركات السابقة مضافا إليها السكون في عين الكلمة ، وتعطينا عملية التوليف بين الفاء والعين اثني عشر احتمالا.
7- ينظر في أمر الأوزان أبواب التصريف في مصادر العربية .
8- الجزء الرابع ص 276
9- المصدر السابق ص 299
10- المصدر نفسه ص 424
11- الجزء الثاني ص 672
12- الجزء الأول. باب ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب . ص 358 وأبو عثمان هذا هو المازني صاحب كتاب التصريف الذي شرحه ابن جني في كتاب المنصف في شرح كتاب التصريف للمازني .
13- الجزء الثاني ص 487 .
14- الخصائص ، ج 2 ص 343 .
15- أي المحقق فعلا ، وسمى اللفظ لفظا لأنه ملفوظ محقق .
16- الخصائص . ج 3 ص 232 .
17- إنه موريس توسان Maurice Toussaint, Contre l’arbitraire du signe, Didier Erudition,1983
18- الخصائص ،ج،ص 134
19- لا ننكر أن هذه الأمثلة لا توافق الامتداد والالحاق اللذين نحن بصددهما وإنما جئنا بها تقوية وتأكيدا لمسألة الزيادة في المبنى للزيادة في المعنى.
20- ينظر في هذه المسألة سر صناعة الاعراب، الجزء الأول صفحات 39-38-37
21 – الكتاب الجزء الرابع ص 417 .
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6767