جوليا كريستيفا
ترجـمـة: بنيونس عميروش
إذا كانت طبيعة الفوتوغرافيا والسينما تعالج في الغالب من جهة نظر فينومونولوجية، فإن النهج -الذي ينظر إليها باعتبارها لغات- حديث جدا. في هذا الصدد، أمكن ملاحظة الفرق بين بنية الفوتوغوافيا وبنية السينما فيما يتعلق بطريقتهما في الإمساك بالواقع. وهكذا، رأى بارث في زمنية الفوتوغرافيا مقولة جديدة للمكان/الزمان : >تتأطر بكونها حيزا مباشرا وزمنا سابقا<، >ربط لامنطقي “للهنا” و”الذي كان”<. إن الفوتوغرافيا تقدم لنا واقعا سابقا، وحتى حينما تعطي انطباعا بالمثالية فهي لا تحس باعتبارها وهما محضا : إنها وثيقة لواقع “نحن في منأى عنه”.
وعلى العكس من ذلك، فإن السينما تستدعي إسقاط الذات فيما تراه. ولا تقدم نفسها بكونها استحضارا لواقع مضى، بل بوصفها خيالا تعيشه الذات. وهناك من يرد هذا الانطباع الذي تثيره السينما ونتلقاه كواقع خيالي إلى قدرتها على تمثيل الحركة، الزمان، الحكي، الخ.
من جهة أخرى، اهتم المخرجون أنفسهم بخصائص السينما منذ بداياتها بعيدا عن النقد الفينومينولوجي، وكانوا السباقين في استخراج قوانينها. ومن هؤلاء : إيزنشتاين وفيرتوف. فنحن مدينون مثلا لإيزنشتاين بالدروس الأولى حول الشكل والدلالة التي يبرهن فيها على أهمية المونتاج في الإنتاج السينمائي، ومن ثم في كل إنتاج دال.
إن السينما لا تنقل واقعا معينا بطريقة “موضوعية” وطبيعية أومتصلة؛ إنها تجزئ مقاطع وتعزل مستويات، وتعيد تركيبها عبرمونتاج جديد. إنها لا تعيد إنتاج الأشياء، بل توجهها وتنظمها وتبنينها. ولا تتخذ هذه العناصر معنى إلا في البنية الجديدة المحصل عليها عن طريق المونتاج. إن مبدأ التركيب هذا، أو بالأحرى مبدأ الربط بين عناصر منفصلة، متشابهة أو متناقضة، التي يحدث تلاقيها دلالة غير موجودة في تلك العناصر نفسها هو المبدأ الذي وجده إزنشتاين (1) في الكتابة الهيروغليفية. فالرجل معروف باهتمامه بالفن الشرقي، وتعلمه للغة اليابانية…
وحسب رأيه، فالمفروض أن يكون الفيلم نصا هيروغليفيا، حيث لا يكون للعنصر المنعزل معنى خارج التوليف السياقي، وفي ارتباط مع موقعه في البنية. نسوق في هذا المجال الصورالمختلفة للتماثيل الثلاثة للأسد في فيلم “المدرعة بوتمكين”، لقد كانت هذه الصور منفصلة وفق مستويات مستقلة ومرتبة واحدة تلو الأخرى، فهي تمثل ملفوظا فيلميا يكون فيه المعنى قائما على تمثيل قوة الأسد للثورة البولشفية.
وهكذا، فالسينما تعتبر نفسها، منذ بداياتها الأولي، لغة تبحث عن تركيبها الخاص، ومن ثم يمكن القول، إن هذا البحث عن قواعد التلفظ الفيلمي كان أكثر بروزا في الحقبة التي كانت فيها السينما تبنى خارج الكلام : كانت السينما وهي صامتة تبحث عن لسان ذي بنية مختلفة عن بنية الكلام.
إن ثمة اتجاها آخرمعارضا للمونتاج، يميل إلى سردية سينمائية لا يتم فيها تجزيء المستويات وترتيبها بعد ذلك، يمثل المستوى فيها مقطعا، حركة حرة للكاميرا؛ كأن الفيلم يتخلى عن إظهار تركيب لسانه (ترافلينغ أمامي، ترافلينغ خلفي، بانورامي أفقي، بانورامي عمودي، الخ) ، ليكتفي بالحديث بلغة ما. ذلك ما نعثر عليه عند أنطونيوني وفيسكونتي (2)، وآخرين (أرسون ويلز وگودار). ويبدو أن الأسلوبين معا مقبولان بنفس الدرجة.
إن هذه الملاحظات السريعة تشير مسبقا إلى أنه لا يمكن اعتبار السينما لغة بناء على وحداتها وقوانينها فحسب، بل هي لغة قبل كل شيء. ولقد أمكن الكشف عن الاختلاف بين التصور الذي يجعل من السينما لسانا وذاك الذي يجعل منها لغة. وهناك حاليا دراسات كثيرة مخصصة للقواعد الداخلية للغة السينمائية. بل هناك من الدراسات ما يتجاوز إطار الفيلم بحصر المعنى، لتهتم بدراسة لغة الشرائط المرسومة. إن تعاقب الرسوم هذا الذي يحاكي ترتيب الصور السينمائية بدون شك، يتجاوز سكون الصور الفوتوغرافية وسكون الرسم ليدمج الزمن والحركة في الحكي.
إن الصورة (أو الصورة الفوتوغرافية) عندما تكون معزولة تصبح ملفوظا، وتنتج سردا إذا كانت مرتبة مع غيرها. وهنا يمكن تلمس مجال جديد للبحث : العلاقة بين اللغة السينيمائية والشرائط المرسومة من جهة، والنص اللساني (الكلام الفعل) الذي يطابق هذه اللغة ويترجمها ويمثل سندا لها من جهة أخرى.
بيد أنه لا يتعلق الأمر هنا بالاستعمال اللساني لمصطلح “لغة”. إنه يتعلق باستعمال قياسي : مادامت السينما نسقا للفوارق يبث خطابا يمكن تسميته لغة. إن المشكل يعود إلى معرفة ما إذا كان التصور اللساني للغة قابلا لأن يصلح كأداة في تحليل الفيلم بعد الدراسات النفسية التي أقيمت حول الظاهرة السينمائية، وذلك في أفق تأسيس سميائيات للسينما.
يلاحظ كريستيان ميتز في كتابه “حول دلالة السينما” (1968) عدم وجود شيء يمكن مقارنته بالمستوى الفونولوجي للغة في النسق السينمائي، فالسينما لا تمتلك وحدة من نوع الفونيم. ولكن ليس لديها أيضا “كلمات”. عادة ما تعتبر الصورة كلمة والمقطع جملة، لكن الصورة عند ميتز تعادل جملة أو مجموعة من الجمل، ويعتبر المقطع جزءا مركبا من الخطاب. والحال >أن الصورة هي دائما كلام، وليست وحدة لسان<. بناء على ذلك ، إذا كان هناك تركيب خاص بالسينما، فسيقوم على أسس تركيبية غير مورفولوجية.
إن سميائيات السينما تتحدد إما كسميائيات للإيحاء وإما كسميائيات للتقرير. ففي الحالة الثانية ندرس التأطير، حركات الآلة، تأثيرات الضوء، الخ، أما في الحالة الأولى، فيتعلق الأمر بتفكيك الدلالات المختلفة “، الأجواء، الخ ، التي يحدثها الجزء التقريري. وتنتظم سميائيات السينما، من جهة ثانية، بوصفها سميائيات مركبية (دراسة تنظيم العناصر داخل مجموعة تزامنية) لا بوصفها سميائيات استبدالية : إن لائحة الوحدات القابلة للظهور في مكان معين خلال سلسلة فيلمية ليست محددة دائما.
من الممكن تصور الطريقة التي يمكن بواسطتها تقديم هذه السميائيات الخاصة بالسينما باعتبارها دراسة لتركيبها، ولمنطق نسق وحداتها. وكمثال على هذا المنطق هو المركب الاستبدالي : صورة تمثال مصري، صورة فرن عالي، صورة تمثال مصري، صورة فرن عالي، الخ. إن التصادم المتكرر لهذه الصور المرئية من مختلف الزوايا والمقدمة من جوانب مختلفة، يمكن أن يبني في اللغة السنمائية حكاية بأكملها، كان الأدب سيضطر إلى إدراجها بين المركبين المتقابلين (تمثال، فرن) لشرح سبب تعالقهما. ففي مثل هذه الحكاية يحتوي المركب الاستبدالي (الاختياري) قصة هي قصة حضارة البحرالأبيض المتوسط Méditerraneé de Jean-Daniel Pollet.
إن الإشكال في التحليل التوزيعي للفيلم، عندما يتعلق الأمر بالإمساك بنمط التدليل الخاص بالسينما هو، كما نرى معقد، : كيف ستكون الوحدة الدنيا للنموذج المصور سينمائيا؟ كيف يتم تمفصل المكونات : صورة-صوت-كلام في وحدة أو مجموعة وحدات تتآلف ذاتيا،الخ؟. من البديهي أن تحويل مبادئ اللسانيات إلى التحليل السينمائي لا يعطي نتائج إلا بإعادة تأويلها وتكييفها مع النسق الخاص بالفيلم. سيتعلق الأمر باستعمال المفاهيم اللسانية وليس المناهج اللسانية : تمييز بين دال/مدلول، التقطيع، الواصل، الملاءمة، الخ . إن أهمية الدراسة السميائية في هذا المجال ،كما في المجالات الأخرى، تكمن في كونها تكشف قوانين نظام الأنساق الدالة الأخرى، وهو ما لا يبدو في اللسان اللفظي. انطلاقا من هذه القوانين، قد نستطيع استقبالا إعادة النظر في اللغة للكشف عن مناطق دالة تعد في الوضع الحالي للسانيات محجوزة ومكبوتة : يتعلق الأمر بتلك المناطق التي يستحوذ عليها الفن لينتشر فيها وليستكشفها.
——————————————-
الهوامش
* النص مأخوذ من :
Julia Kristeva: Le langage visible, “la photographie et le cinéma” in le langage cet inconnu, une initiation à la linguistique , éd Seuil, coll Point , 1981.
1- سيرغاي إزنشتاين مخرج روسي ارتبط بالواقعية الاشتراكية، من أشهر أفلامه “المدرعة بوتومكين” وإيفان الرهيب”
2- فيسكونتي مخرج إيطالي من مؤسسي الواقعية الجديدة مع “روسيليني” و “فليني” و”أنطونيوني” وبعدهم بوزولوني وبرتولوتشي.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6773