عن الترجمة وتحليل الخطاب

Bengrad
2021-06-04T22:03:14+00:00
العدد السابع
13 أغسطس 20201٬961 مشاهدة

أحمد الفوحي – كلية الآداب – مكنـاس

تقديـــــــم

يقال إن طبيعة الموضوع تحدد المنهج المتبع، وإن اختلاف جهات النظر يؤدي إلى اختلاف كيفية تناول موضوع ما وطرقه.

وإذا اعتبرنا الترجمة موضوعا من مواضيع الدراسة وجدنا المناهج المعتمدة في تناولها متعددة بتعدد المدارس، ومن مناهج الترجمة تحليل الخطاب. فما الخطاب؟ وما تحليله؟

إن لفظة >خطاب< متعددة الدلالات والمفاهيم بتعدد الجهات التي تناولته، حتى أصبح في الأدبيات اللسانية، من قبيل المشترك. فهو عند البعض مرادف للكلام، عند سوسير، التحقيق الفردي لملكة اللغة ضمن نسق لساني معين. وهو عند البعض الآخر وحدة لسانية تفوق الجملة. ويدخل عند هاريس ضمن قواعد تسلسل مجموعة من الجمل المكونة للملفوظ. وهو في عرف المدرسة الفرنسية لتحليل الخطاب يقابل الملفوظ، إذ الملفوظ متوالية من الجمل تنتهي بانتهاء المعنى؛ وأما الخطاب فنتاج دراسة لسانية لشروط وظروف إنتاج النص. ولدى نظريات التلفظ يقتضي التلفظ تحويل اللغة إلى خطاب، وكل تلفظ يفترض متكلما ومتلقيا ونية التأثير.

وإذا كان اللسان ثابتا ونهائيا، فإن الخطاب مجال الإبداع ومراعاة السياق وما ينتج عنه من قيم جديدة للوحدات السانية.

إن تعدد مفاهيم الخطاب يجعل تحليله يعارض اعتبار الجملة الوحدة اللسانية النهائية، كما يجعل مناهج تحليله متعددة. فهناك المقاربة المعجمية لمجموعة المدرسة العليا بباريس، والمقاربة التركيبية الهاريسية القائمة أساسا على مبدإ التوازي وتقسيم النص إلى وحدات تظهر في سياقات متماثلة. ومن مناهج تحليل الخطاب المقاربة التلفظية ومقاربة نحو النص ثم مقاربة تداخل الخطابات والحوارية ضمن ما يعرف بدائرة أو حلقة باختين (1). وتحليل الخطاب هو ذلك الجانب من اللسانيات الذي يحدد القواعد التي تحكم عملية إنجاز متوالية من الجمل. والأصل في هذا، التمييز الذي أقامه سوسير بين اللسان والكلام. فقد جعل الكلام محكوما بالصدفة والفردية وغير خاضع لدراسة محكمة، وهذا ما دفعه إلى الاهتمام بلسانيات اللسان دون الكلام الذي سيصبح موضوع الدراسات اللسانية فيما بعد.

لقد كانت اللسانيات، قبل تحليل الخطاب تشتغل بالملفوظات المجموعة في نصوص والقابلة للتحليل، في حين كانت قواعد الخطاب، أي دراسة السيرورة الخطابية التي تسوغ تسلسل الجمل، مرتبطة بنماذج ومناهج أخرى، وخاصة المنظور الذي يأخذ بعين الاعتبار المتكلم كالتحليل النفسي (2).

وهذا الأمر هو الذي دفع بنفنست إلى تناول الخطاب تناولا لسانيا، فرأى بأن الجملة، الوحدة اللسانية، لا تربطها بالجمل الأخرى العلاقات التي تربط الوحدات اللسانية الأخرى فيما بينها (فونيمات،مورفيمات، لكسيمات)، وهي وحدات من مستوى آخر. فالجمل لا تكون مجموعة صورية لوحدات تتقابل فيما بينها كما هو الشأن بالنسبة للوحدات الأخرى. وانطلاقا من الجملة نترك مجال اللسان نسق العلامات إلى مجال الخطاب الذي تشتغل فيه الجملة وسيلة للإبلاغ والتواصل. وهنا لم تعد الجملة أمرا نهائيا وإنما أصبحت وحدة من وحدات الخطاب. وهكذا انتهى تحليل الخطاب، بانطلاقه من الجملة وإدراجه المتلفظ والتكوين الإيديولوجي للمتكلم المستمع الأمثل، عند شومسكي، إلى الوقوف على ضرورة إعادة دراسة العلاقات بين اللغة والمجتمع (3).

I – مجال المنهج وطبيعة النص المترجم

يعني استيعاب لغة أجنبية من الوجهة اللسانية استبطان نسق من القواعد ومعجم؛ في حين تقوم الترجمة على الربط بين مفاهيم اللغة المصدر ومفاهيم اللغة الهدف في مستوى أعلى من التطابق، فبتعلم لغة أجنبية نتزود بأداة إبلاغ إضافية، وبترجمة نص ما يتحقق فعل الإبلاغ والتواصل. ومما تجدر الإشارة إليه أن الفرق بين لغتين لا يتحدد في مستويات الأصوات والدلالة والصرف والتركيب فحسب، وإنما، أيضا، في كون أعضاء المجموعتين اللسانيتين لا يفصحون عن أفكارهم ولا يعبرون عن أحاسيسهم بالزاد اللغوي الواحد. فكل مجموعة طورت عادات لغوية انطبعت، بفعل الزمن، في اللغة وخصت ببعض الخصائص. فما يميز الترجمة حق الميز، سياق العلاقات بين ثقافتين، بين عالمين للفكر والإحساس. إن التحول البيلساني القائم على معنى خطاب ما، هو تحليل واستخلاص لعلاقات هذا الخطاب الدلالية. فهذا المسعى التأويلي المتمثل في تحليل الخطاب هو فعل رفيع لا ينحصر في مقابلة بسيطة بين نسقين لسانيين، وإنما يستوجب ملكة فهم كبيرة مضمومة إلى القدرة على التلعب باللغة. وهذا ما يجعل النصية (علم النص) التي يقوم موضوعها على دراسة الخطاب، توضح عملية الترجمة أحسن مما تفعله اللسانيات العامة التقليدية.

1- أسئلــــة الترجمـــة

هناك زعم يقول بأننا نولد شعراء أو نولد مترجمين فلا داعي إلى تلقين كيفية الترجمة ما دامت هذه الأخيرة عبارة عن مهارة. وهذا الزعم يقودنا إلى إثارة مجموعة أسئلة تدور حول الأمور التالية :

-هل ترجمة نص ما في حصة تدريسية هي الطريقة المثلى لتعليم هذا الفن (فن إعادة التعبير والقول)؟

– وهل تصح المزاوجة بين تعليم الترجمة وتعلم الكتابة؟

– وماهي معايير تحديد صعوبة نص خاضع للترجمة؟

– وماهي الصعوبات التي تتكرر في نصوص تنتمي إلى جنس واحد؟

– وهل يمكن تصور كتاب تعليمي في الترجمة؟

– وما هي شروط الترجمة الناجحة عدا الشروط اللسانية؟

– وألا تختلط دراسة الترجمة بدراسة اللسانيات التقابلية؟

2- طبيعـــة النص المترجــم

إن صعوبة الترجمة قد تنجم عن طبيعة النص المترجم، وهنا نميز بين نوعين من النصوص؛ النصوص الأدبية والنصوص البراغماتية (4). هناك ستة برامترات (وسائط) لتحديد النص الأدبي.

1) الكاتب يعبر عن نظرته إلى العالم وعن تصوره الخاص للحقيقة التي يختار وصفها، فهو يعبر عن إحساسه وانفعاله وردود فعله. فالوظيفة التعبيرية هي المهيمنة في النص الأدبي.

2) كل عمل تخييلي خلاق يشتمل على طاقة إيحائية. فلا يتم التعبير عن المحتوى كله في الخطاب، إذ يبقى جانب من المعنى غير معبر عنه.

3) إن العمل الأدبي يجعل الأولوية للشكل أو الصورة. فاللغة ليست وسيلة الإبلاغ والتواصل، بل قد تكون غاية في ذاتها. ومن هنا كان هدف النثر الفني والشعر منحصرا في التأثير أكثر من الإبلاغ، فكثرت الاستعارات وتعددت.

4) كلما كان العمل الأدبي غنيا، تداخلت المستويات وتراكبت وأمكن تأويله تأويلات متعددة، وتعددت معانيه بتعدد القراء على شاكلة المشكال (Kaléidoscope)

5) العمل الأدبي يمتاز باللازمنية وهذه ميزة الأعمال الخالدة. وهذا ما جعل كيتس يقــــــــول A thing of beauty is a joy forever

6) الأعمال الأدبية خالدة لاشتمالها على قيم إنسانية كونية، كالحب والموت والعقيدة والبؤس وكل ما يهم العلاقات الإنسانية (5).

وأما في النصوص البراغماتية فننتقل من خطاب إيحائي إلى آخر تقريري. وفيها تتقلص الذاتية وترتكز الترجمة على نقل الخبر أو المعلومة، وتحيل على حقيقة موضعة (objectivée) إلى حد ما، ولا تسمح أحيانا إلا بتأويل واحد، وتصاغ أحيانا بلغة مقننة.

ومن صعوبات ترجمة النصوص الأدبية تميز هذه الأخيرة بالفنية والجمالية المضافة إلى المحتوى المرجعي. فاللغة الأدبية أكثر تنميقا وأصعب انقيادا،وتبعد بخصوصياتها المعجمية والأسلوبية عن اللغة العامة وصيغ الكتابة المعهودة؛ فلا بد من قدرة أدبية لدى مترجم النصوص الأدبية تضاف إلى مستوى مقبول من التحليل اللساني. ويقاس نجاح الإبلاغ الجمالي بالتطابق القائم بين الشكل والمحتوى من جهة، والانعكاسات الإدراكية والعاطفية على القراء من جهة ثانية. وأما ترجمة النصوص البراغماتية فيتم فيها التخلي عن الاقتضاء الجمالي لصالح ضرورة الوضوح ودقة العبارة ومراعاة قواعد الكتابة.

II – الأسس النظرية للمنهج

إن المنهج المعتمد في الترجمة هنا هو منهج تحليل الخطاب المعتمد في المدرسة العليا للترجمة بجامعة باريز III(السربون الجديدة)(6) ويقوم على إرساء أسس نظرية تأويلية للترجمة والبرهنة على أن نظرية حقيقية للترجمة يجب أن تمتد وتتسع إلى نظرية عامة للخطاب، وتقوم على مقاربة خطابية قائمة على تحليل المعنى الذي يستفاد من الخطاب. وقد جاء هذا التوجه ردا على نظريات أخرى للترجمة.

1- النظرية السميائية

تقوم هذه النظرية على محاولات عقلنة وتقنين حركة الترجمة. ويتصور ليودسكانوف (7) الترجمة حالة خاصة لتألية automatisation الأنشطة الخلاقة للإنسان، وخصوصا في مجال الترجمة التي يحاول وصف عملياتها وصفا علميا رياضيا، ويكون هذا الوصف المصورن (Formatisé) صالحا للإنسان والآلة معا، ويسهم في تجلية إوالية العلاقات بين الفكر الإنساني واللغة، وتدور هذه النظرية حول الأهداف التالية :

1) التحليل العميق لبنيات اللغة.

2) وصف هذه البنيات بالاعتماد على الخوارزمات.

3) وضع الموافقات البيلسانية.

4) تصور خوارزمات لسانية (متعددة) للترجمة الميكانيكية.

ويتوخى منها تأسيس نموذج عام للترجمة ضمن نظرية علمية للتحولات السميائية. فاللغة في عرف السميائيات سنن من بين أسنن أخرى، وعليi فإن مفهوم الترجمة يتجاوز مجال اللغات الطبيعية.

2- النظريــة اللسانيــــة

ينطلق كاتفورد في >نظرية لسانية للترجمة< من المسلمة التالية : بما أن الترجمة عملية لغوية فإن تحليل عملية الترجمة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المقولات المعتمدة في وصف اللغات وبعبارة أخرى يجب عليها أن تقوم على نظرية اللغة، أي نظرية لسانية عامة. وفي هذا الصدد فإن عملية كلمة/كلمة مدانة لأن كلمات اللغتين لا تتوفران على الدلالة الواحدة في كلا السننين. وعليه يجب أن تتأسس معادلات الترجمة على السياق لا الكلمات.

وعيب هذه النظرية محاولتها تفسير دينامية الخطاب انطلاقا من المقولات التي تصلح لوصف اللغات فحسب. فالنصية أو لسانيات النص لا تكتفي بمقولات اللسانيات العامة أو الوصفية لاختلاف الموضوع.

3- النظريــة اللسانيـــة الاجتماعيـــة

تعود هذه النظرية إلى أوجين نيدا (8) الذي اشتغل بالترجمة ونظريتها. لقد تم التنصيص في هذه المدرسة على وقائع الثقافة بسبب طبيعة نصوص الكتاب المقدس وتعدد اللغات التي ترجم إليها. فمعرفة اللغات بمفردها لا تكفي، وإنما يجب مراعاة الاستعمال والتقاليد والحضارة. وبهذا يكون نيدا قد خرج من الدائرة اللسانية التي رسمها كاتفورد، وربط النظرية اللسانية بنظرية الإبلاغ والتواصل. كما نص على مطابقة النص المقدس لذهنية كل شعب بتجديد عالم الرمز عند الحاجة شريطة ألا ينفصل عن معناه الأصيل وطبيعته المقدسة. وهذا الطابع الانتروبولوجي للنظرية لا يلغي الخلفية اللسانية.

ومن عيوب هذه النظرية أنها قائمة على نوع واحد، واعتمادها مبادئ النحو التحويلي في تحليل العلاقات النحوية القائمة بين كلمات بعض الفقرات.وتقضي هذه التقنية بتقسيم الملفوظ إلى سلسلة من الوحدات تصلح لترجمة التوراة فحسب.

4- المنهج الأسلوبي المقارن

أساس هذه الطريقة عمل J.P. Vinay وJ.Darbelnet (Stylistique comparée: du français et de l’anglais) الذي تم فيه اقتراح La stylitrad أو نظرية الأسلوبية المقارنة، أو النظرية الحقيقية للترجمة وتقوم على تقنيات الترجمة أساسا (إنجليزية فرنسية) وتوجيه المترجم نحو طريقة وكيفية الترجمة، وتتساءل عن المقارنة في عمل المترجم وعن اعتبارها منطلق عملية الترجمة، وهل يقوم تحليل وتصنيف معادلات الترجمة مقام نظرية للترجمة، وهل يمكن عد الأسلوبية المقارنة منهج ترجمة حقيقي.

فما دور السياق في الترجمة؟ إنه يرجح معنى ما بتحديد مدلولات كل علامة، وكما أن ترابط الوحداث المعجمية يجعل لكل واحدة منها قيمتها المفهومية (9) في النسق السميائي للغة كانت للملفوظات داخل نص ما، معانيها التي لا تتغير. وبما أن الترجمة تقتضي إعادة صياغة معنى ما لإعادة إنتاج تسلسل تركيبي لكلمات ذات احتمالات دلالية متعددة فإن السياق يضاعف الإمكانات اللسانية المتاحة للترجمة لإعادة صياغة معنى النص الأصلي في اللغة الثانية وهذا من مسلمات النصية، ودليل حرية المترجم الخلاقة. فالتأويل هو الطريق المؤدية إلى معنى كلمة أو ملفوظ أو نص ما، والترجمة عمل تأويل وتحليل رفيع للخطاب. إذ القدرة على تفسير ظاهرة ما تقوم أولا على التمكن من تفكيك مكانيزماتها.

III- تفكيك عملية الترجمة

تقوم عملية الترجمة على الفهم وإعادة الصياغة والقدرة على التحكم في اللغة والتلعب بها(10).

1- الفهم

إدراك المعنى مرحلة أولى في سيرورة يبحث خلالها المترجم عن الوصول إلى إدراك مراد الكاتب (مراد القول). وقراءة أولية للنص لا تكفي لإدراك المعنى. بل لا بد من أن يصاحب ذلك عملية ذهنية تتمثل في التفسير أو التأويل الذي ليس إلا حوارا هرمينوطيقيا بين المترجم والنص الأصلي. وللفهم درجات منها إدراك المدلولات وإدراك المعنى (11). فكل كلمة من ملفوظ ما تحيل، في الآن نفسه، إلى نسق اللغة الذي تستمد منه دلالتها وإلى مجموعة من البرامترات (الوسائط) غير اللسانية التي تخولها معناها. وإدراك المدلولات، في استقلال عن المحتوى الإحالي الذي ترمز إليه، عملية فك للرموز تتم بالإحالة إلى النسق اللساني. ويتمثل هدف هذه العملية في استخراج المحتوى المفهومي للكلمات بوساطة تحليل معجمي-نحوي. فمعرفة معجم اللغة الأجنبية تمكن المترجم من استحضار دلالة الألفاظ المنفردة. والتوليف الميكانيكي بين مجموعة من الدلالات لا يقدم إلا إشارة عامة عن المعنى. فليست الدلالة إلا معيارا من المعايير التي يمكننا منها النسق اللساني لتحليل المعنى.

وإدراك المعنى هو الشق الثاني من عملية التأويل. ويقوم على رسم المدار المفهومي لملفوظ ما، وإغنائه بالسياق المرجعي الذي يسبح فيه. وانطلاقا من دلالة العلامات اللسانية في النسق يتم الوصول إلى اكتشاف دلالاتها داخل النص. فالترجمة لا تقوم على إعادة التعبير عن العلامات وإنما عن المفاهيم والأفكار؛ وهذه العملية هي الشرط الوحيد لتجاوز الهوة الفاصلة بين اللغات. وعلى هذا تتحدد الدلالة بين عالم اللسانيات وعالم آخر غير لساني. إنها ذلك > القسم من اللغة الذي ننتقل فيه من البنيات اللسانيـــة المنغلقة إلى بنيات التجربة التي تبـــقى مفتـــوحة أبـدا.< (12)

إن نص رسالة ما لا يشتمل على المعنى وإنما يدل على طريقه، ذلك أن العلامات التي تكونه لا تحيل على نفسها وإنما على شيء آخر. فالمعنى يقع إذن، في ملتقى الإحالات البنيوية والمقامية. ويوافق التأويل حسب Maurice Pergnier (13)، الوعي المتبصر بدينامية العلاقات بين المراجع والعلامات اللسانية المؤلف بينها في النص؛ وضرورة التأويل نابعة من ظاهرة الترادف والمشترك وعدم اعتبار اللغات الطبيعية مدونة من الكلمات توافق الحقائق والأشياء الموجودة في العالم الخارجي. فتأويل الكلمة أو الجملة يتم دائما حسب وسائط التلفظ المقامية. وبالخطاب تخرج اللغة من ذاتها لترتبط بالواقع.

2- إعادة الصياغة

إن تفكيك الميكانزم الإدراكي لعملية الترجمة يؤكد أن مقارنة اللغتين لا محل لها في التأكد من صياغة النص الثاني: فلا يقوم المترجم بمقاربة العلامات في اللغتين وإنما يبحث عن مطابقة الكلمات التعبيرية للسياق البلاغي الذي يندرج فيه الخطاب. ومن الملحوظ أن نقطتي الإنطلاق والوصول في الترجمة هي النصوص، وأن التأويل يقع على مقاطع نصية، ملفوظات الخطاب المتتالية. هذه الملفوظات لا تحلل في المخبر وإنما في الواقع، أي في النص المجموع الدال المهيكل (المبنين). والهدف من هذه العملية إعادة تكوين نص ثان له وظيفة النص الأول نفسها من منظور الإبلاغ والتواصل.

3- التلعب باللغة

الترجمة عملية تقوم أساسا على الخطاب الذي يصل اللغة بالفكر. فليست وصفا للغات، وإنما هي دراسة وتحليل لتمفصل أفكار نص ما ثم إعادة صياغتها في لغة ثانية. والتلعب باللغة يقتضي قدرة مزدوجة : قدرة الفهم، لإدراك مراد كاتب النص الأصلي (تفسير/تأويل )، وقدرة إعادة التعبير لإعادة كتابة النص الأول ونقله إلى اللغة الثانية. وهذا الأمر يستوجب الإلمام بمواضعات الكتابة أي مقتضيات النحو عامة، والقدرة على التأويل المعجمي المتمثل في معرفة دلالة الألفاظ واستحضار السياق.

ومن التلعب باللغة تأويل الحمولة الأسلوبية. فالأسلوب طريقة للكتابة. وفي النص تحضر العناصر الأربعة التالية، الكاتب والموضوع المطروق والموجه (نوع النص، الإمكانات اللسانية المعتمدة) والمتلقي. فالأسلوب، في المعنى العام، ليس إلا موافقة القيود التي تنتج عن حضور هذه العناصر الأربعة، وهو غير منفصل عن مقتضيات التواصل والإبلاغ. إنه لباس اقتضته شروط التواصل والإبلاغ، يرتديه النص ليكون مطابقا لقواعد الجنس الأدبي أو يصيب مشاعر المتلقي.

ومن التلعب باللغة انسجام النص وتماسكه، عبر تسلسل الملفوظات في النص المترجم واتباع حركة الفكر المولد للنص الأصلي. فعضوية Organicité النص بمثابة هيكل النص والأسلوب واجهة الهيكل الخارجية، وتحيل إلى ترابط مكونات النص، إلى ما يسمى بدينامية النص العامة، وتتم دراستها من منظور البنية. وتقتضي هذه العضوية تسلسل الملفوظات ووضوح العلاقات القائمة بين مكونات الخبر، وتقدم سيرورة الأفكار والأحاسيس حسب أنماط الخطاب (حجاجي، وصفي، سردي..). إن إعادة تنسيق المفاهيم حسب مقتضيات النص الأصلي تستوجب (في الترجمة) قدرة كبيرة على التلعب باللغة ومرونة فكرية كبيرة أيضا، ويتم اختيار البنيات النحوية وفق دينامية الخطاب الثاني الداخلية لا نحو وتركيب النص الأصلي.

خـــــاتمة

إن الترجمة عملية حكم وتنسيق تقوم على التوليف بين المقتضيات الدلالية والأسلوبية لخطاب ما، مع مراعاة قيود قواعد الكتابة والتماسك النصي. إن تحليل الخطاب مجال البلاغة، وهو يعلو تحليل اللسان مجال اللسانيات، ويمكن من اكتشاف أوجه التلعب باللغة من منظور نصي لا لساني فحسب. فعلى المترجم أن تتوافر فيه شروط الكاتب المجيد وميزة الترجمة المتمثلة في أن من يمارس >فن إعادة القول< يجب عليه أن يتمثل مراد غيره ويعيد صياغة فكر أجنبي في لغة أخرى.

—————————————-

الهوامش

1- لمزيد من التفصيل ينظر كتابا مانغونو: Initiation aux méthodes de l’analyse du discours Nouvelles tendances en analyse du discours

الصادران عن دار هاشيت سنتي 1976 و 1987

2- كان هذا هو النهج الذي سلكه لاكان في تناول الخطاب بدراسة وظيفة الكلام واللغة ومجالهما في التحليل النفسي 3- من المعلوم أن من الأهداف الرئيسية لتحليل الخطاب في المدرسة الفرنسية العلاقة بين المتكلم وعملية إنتاج الجمل (التلفظ) أو العلاقة بين الخطاب والمجموعة الموجه إليها هذا الخطاب، وهنا يبرز دور اللسانيات الإتماعية.

4- يراد بالنصوص البراغماتية المقالات الصحافية والمراسلات العامة، والوثائق المتعلقة بالسياحة والتقارير والوثائق الرسمية، وكل نص عام يتناول الصحة والاقتصاد والرياضة . الخ.. ينظر : Jean Delisle: L’analyse du discours comme méthode de traduction, Univ.d’Ottawa- Canada 1982 – P 22

5- الوسائط الثلاثة الأخيرة أقل أهمية من الأولى في منظور الترجمة باعتبارها عملية تقوم على اللغة.

6- من أعلام هذه المدرسة Danica Seleskovith و Karla Dejean le Féal و Maurice Pergnier صاحب كتاب الترجمة والنظرية اللسانية و Marianne Lederer و Jean Delisle صاحب تحليل الخطاب منهجا للترجمة

7- Alexandre Ljudskanov – Traduction humaine et traduction mécanique cité par Delisle Op, cit, P 52

8- اشتغل نيد بترجمة الكتاب المقدس وحاول وضع نظرية للترجمة في كتابيه Toward a Science of Translation (1969) و The Thery and Practice Of Translation (1969)

9- هذه القيمة محصلة من الائتلاف والاختلاف مع العناصر الأخرى. ينظرسوسير ص. 163.

10- يراد بالتلعب باللغة ما يعرف لدى البعض بالحدس اللغوي. إلا أننا فضلنا الاقتراح الأول لأنه يوحي بأن من يتلعب بشيء يملكه ويحكمه، وعليه تكون اللغة طيعة في يد المترجم سهلة الانقياد إليه. وهذا ما يعرف في الأدبيات الفرنسية : Maniement du Langage

11- Danica Seleskovitch Traduire : de l’expérience aux Concepts P 87 cite par J.Delisle Op cit P 70

12- Géorges Mounin, Les Problèmes Théoriques de la Traduction, P 138

13- Traduction et Théorie linguistique, cité par Delisle, Op, cit , P 73