عبد الفتاح الحجمري
– أسئلة للبحث –
(1) حين نتحدث عن تخيل السرد، هل نتحدث عن العوالم الممكنة؟ ثم ماذا توفر العوالم الممكنة للصيغ التشخيصية للخطاب الأدبي؟ هل ثمة حدود نظرية أو وصفية قائمة بين تصور العوالم الممكنة وإشكالية المرجع أو الإحالة من جهة، وإشكالية الاحتمالية من جهة ثانية؟
يكاد الإجما ع يكون حاصلا بين الفلاسفة والمناطقة (على وجه الخصوص) حول التطورات التي حققتها نظرية العوالم الممكنة في السنوات الأخيرة بدءا من تصور ليبنز مرورا بتصورات كل من هنتيكا وكريبك، (1) وهي تصورات جاءت بتجديد في الطرح وفي الحل للعديد من القضايا، كما نفذت إلى مجالات أخرى غير فلسفية : أدبية وعلمية تمدنا بأسباب الكشف أوالتحليل أو الوصف أو التنظير. (2)
بهذا المعنى يظل تصور العوالم الممكنة مستندا إلى إشكالات محورية تخص المرجع أو الإحالة، الاحتمال والصيغة التشخيصية. وهي إشكالات علينا أن نبحث عن منطقها التركيبي ضمن الخطاب الأدبي عامة، والسردي منه على وجه الخصوص. وهي بذلك تبدو مفيدة عند تناول التحققات التخييلية التي غالبا ما تقابل العالم الواقعي بالعالم الممكن في صوغ الوحدات النصية وفي تحديد وظائفها. إن تأكيد هذا التقابل يستند في أساسه إلى مستويات التفاعل بين >بنية الإدراك< و>بنية الاعتقاد< ودورهما في تخصيص طبيعة معرفة العالم. ولذلك، فإن العالم الذي ندعوه بالواقعي وبالعالم >الموضوعي< ليس سوى العالم الذي ندركه والذي نعتقد أنه كائن كما ندركه. فالقول مثلا بأن هذه الشجرة داكنة، ليس بكل تأكيد هو القول بأن هذه الشجرة هي موضوعيا داكنة، إذ من الممكن أن تكون في الواقع خضراء، وأن تأثيرا بصريا هو الذي جعلني أراها داكنة.(3)
(2) من الواضح أن تصور العالم الممكن، بهذا الفهم، يقوم على أساس نظري يبحث فيما يميز الخطاب السردي التخييلي عبر توفير إمكانية الاستفادة من الدراسات الخاصة بمنطق الصيغ وفلسفة المنطق والسميائية النصية وغيرها من المقاربات.
في دراسة مركزة عن >المنطق واللغة والحجاج< سعى ميشال مايير (4) إلى مساءلة العديد من القضايا التي تخص اللغة والمنطق من جهة، واللغة والسياق من جهة ثانية، مساءلة تنفتح على تصورات فريجه، روسل، فتغنشتاين، هنتيكا، مثلما تنفتح على موضوعات التركيب والدلالة والتداولية وأسس الحجاج التي تتناوله في ضوء نظرية التساؤل ( théorie de questionnement). وتهمنا هذه الدراسة لكونها تخصص للبحث في العالم الممكن حيزا مركزيا من خلال تحليلات هنتيكا عبر إبرازها لطبيعة علائق المنطق باللغة (5). والتأكيد على أن البحث في العالم الممكن يستمد العديد من مقوماته من طبيعة تلك العلائق التي نلحظها قائمة بين المنطق واللغة. ومهما بدت تحليلات مايير تجريدية، فإنها استطاعت أن تثير أسئلة مركزية بخصوص أهم التحققات النظرية التي ترتبط بالعالم الممكن وفق ما يشكل أساس تحليلات هنتيكا، مثلما استطاعت أن تركب مصادرها المرجعية المتعلقة بالتركيب والدلالة والتداول. فالمصدر التركيبي يدرس العلاقات الداخلية التي تقيمها العلامات فيما بينها. والمصدر الدلالي يعتني بعلاقة العلامات مع ما تدل عليه، بينما يرتبط المصدر التداولي بالعلامات ضمن علاقاتها مع مستعمليها. وعلى العموم، فإن المصطلحات الأساسية لهذه المصادر هي : النحو، الأنتولوجيا والاستعمال، إنها أيضا الشكل، الدلالة والسياق (6).
في ضوء ما سبق، يعد الاهتمام بتصورالعالم الممكن قاعدة لتفصيل العلائق المنطقية التي تربط بينه وبين العالم الواقعي. وهي علائق لا يمكن إدراكها إلا استنادا إلى ما يميز وحدات الخطاب السردي ووظائفه، أفعاله وطريقة صياغته للملفوظات. ولذلك فإن كل ملفوظ سردي يستمد تحققاته الفعلية من طبيعة المواقع التي تسمح بإقامة تقابل أو تعالق محتملين بين العالم الممكن والعالم الواقعي، علما بأن العالم الواقعي نفسه ما هو إلا عالم ممكن من بين العديد من العوالم الأخرى (7). وإذا كان هذا التوضيح يختص بالانتماء إلى معرفة أنماط الوجود عبر التحولات الممكنة التي تعرفها حالة الأوضاع الافتراضية وحالة صوغ النمط التي يتحقق عبرها الملفوظ السردي، فإن الافتراض الحاصل الذي يستتبعه العالم الواقعي هو وجود عالم ممكن آخر، أما إذا كان هناك عالم ممكن آخر. فإن العالم الواقعي ليس هو العالم الممكن الوحيد (8).
إن الإسهام الأولي الذي تمدنا به هذه الاعتبارات يتلخص في ما يمكن لنظرية العوالم الممكنة أن تقدمه من تحديدات لفهم طبيعة الخطاب/الملفوظ السردي ومن ثم يحق لنا أن ننتبه إلى أنه بواسطة نظرية العوالم الممكنة، يكون من الجائز المرور إلى عالم المعتقدات وعالم الذات بصفة عامة، وإلى عالم ترجح فيه الحقيقة ولا ترجح فيه فقط إمكانيتها (9).
بهذا المعنى، فإن تحليل تركيب السرد بالعديد من المقولات التي تظل أسئلة تصور العالم مستحضرة لها من موقع ذات التلفظ وسجلاتها الكلامية باعتبار طبيعة >الالتزام الأنطولوجي< للمفارقة بين الحقيقي والمزيف ضمن العالم الممكن. من المؤكد أن اعتبار هذا الالتزام يظل محافظا على خاصية الاحتمالية وإن كان يخضع لمقتضى تغيرات المرجع وتنوع سياقاته على نحو توضحه مثلا الجملة الموالية : >إن الشجرة كبيرة<، وهي جملة تحيل على عالم (حيث توجد هذه الشجرة بخاصيتها المميزة). بيد أن هذا العالم يمكنه أن يتغير من غير أن تتغير الجملة التي ستصبح حتما جملة مزيفة. فلا شيء في هذه الجملة يشير إلى أنه يجب عليها أن تحيل على عالم واقعي (10).
هذه مواضيع أساسية تدخلنا في صميم أسئلة فلسفية تقترب من مجال التداول والتأويل في الوقت الذي تحافظ فيه على مقتضيات التنظيم المنطقي للنظرية العامة للتواصل.
(3) صحيح أن من يقول العالم يقول إمكانيات العوالم، أي يقول العوالم الممكنة(11). هذه ضرورة أولى، لذلك تقدم بعض القواعد التي عرض لها توماس بافيل في بحثه حول >عالم التخييل<(12) تأسيسا نظريا شموليا. والظاهر أن تصور العالم الممكن، عليه أن يجد تخريجاته ضمن نظرية الأدب بشكل عام، خاصة وأن الاهتمام بالتخييل انفتح أيضا على إنجازات التفكير الفلسفي المعاصر للغة والمنطق (13). وهذا ما يتجلى واضحا في طموح بافيل نحو صياغة مبادئ لفلسفة التخيل التي ظلت محتفظة بالإشكال الذي يثيره الاهتمام بمرجعية الأدب وعلائقها بالعوالم التخييلية، إشكال يستدعي، بدوره، فهما جديدا للحقيقة الأدبية وللطبيعة التخييلية من غير أن يهمل المسافة أو التشابه بين الأدب والواقع (14).
لقد كان بافيل مصيبا حين أشار إلى أنه على نظرية التخيل أن تستدير نحو العوالم التخييلية، وهي إشارة تتضمن البحث في العوالم التخييلية عن العوالم الممكنة. ولكن أليس العالم التخييلي عالما ممكنا، والعالم الممكن عالما تخييلا؟ إن اعتماد بافيل على بعض النتائج التي حققها المنطق الصيغي في تحليل القضايا، قد مكنه من محاولة صوغ نظرية داخلية للتخييل تركز على العوالم التخييلية في الوقت الذي تعتمد فيه على البحث في صيغ عوالمها الممكنة. لذلك لم تعد تعني الواقعية لديه مجموعة من الاتفاقات الأسلوبية والسردية، ولكنها موقف يخص العلائق بين العالم الواقعي وحقيقة النصوص الأدبية : فكيف يصبح العالم التخييلي عالما ممكنا؟ (15) إن التقدير الذي ينطوي عليه هذا السؤال يقرن نص التخيل بالعالم الذي يمظهره، ومن ثم كانت أغلب التخيلات تستخدم أنساقا مزدوجة تشتمل على عناصر واقعية ممكنة وتخييلية(16).
(4) شكلت إمكانية البحث في تصور العالم الممكن إحدى الحوافز التي اعتمدها إمبرتو إيكو في تحليلاته للحكاية السردية، وتميزت بتشغيله للعديد من المطالب النظرية والتحليلية التي تجعلنا نشرح كيف >نفهم< نصا ما، لا بالضرورة كيف نفهم >عملا فنيا< وفي هذا الصدد يستنتج إيكو >إنه لأمر ضروري أن ندرس كيف أُنتج النص وكيف أن كل قراءة لهذا النص لا ينبغي لها أن تكون شيئا آخر غير العمل على توضيح سيرورة تعميم بنيته… وأظن أنه من الضروري دراسة كيف يمكن أن يكون كل وصف لبنية النص في ذات الآن وصفا لحركات القراءة التي يفرضها. هذان المظهران متكاملان في ما يبدو لي، وبالتالي، فإن سميائية النص ينبغي لها أن تأخذهما بعين الاعتبار< (17).
يأتي المستوى المركزي الذي يمنحه، إيكو أهمية خاصة، مرتبطا بمحفل القارئ النموذجي وبالتوقعات التي ينجزها انطلاقا من الحكاية نفسها، وهذا ما يضعنا أمام فرضية مركبة : هل تكمن معطيات العالم الممكن ضمن البنيات الخطابية والنصية للحكاية، أم ضمن لحظة الانتظار التي تشكل الأفق التوقعي للقارئ النموذجي؟ وبتعبير آخر : هل لتصور العالم الممكن علائق بمستوى الكتابة أم بمستوى القراءة؟
حين يتم ربط محفل القارئ النموذجي بالتوقعات التي تدخله في صميم التطور الحكائي باستشراف مراحله الآتية، فإنه من الممكن اعتبار تلك التوقعات تمثيلا للعوالم الممكنة، خاصة وأن استشراف القارئ يشكل بدوره جزءا من الحكاية التي عليها أن تتطابق مع ما سيقرؤه(18).
يتعالق هذا المستوى المركزي للنشاط التوقعي للقارئ مع مستوى آخر لا يقل أهمية من سابقه، وذلك لما للتوقعات من امتداد على الصيرورة التأويلية التي ينجزها القارئ والتي يتحقق من خلالها فعله التوقعي. بيد أن إشكال صيرورة التأويل -التي تختلف حتما من قارئ إلى آخر- يظل مراقبا باستمرار من قبل النشاط التحييني للبنيات الخطابية(19). كل المعطيات السالفة تمدنا بفرضيات موازية :
1- ندعو >العالم الممكن< ما هو متشكل من قبل التوقعات المعبرعنها،
2- تستدعي التوقعات المعبر عنها من قبل القارئ أن يُكون جملة من الاستدلالات وأن يذهب بعيدا للبحث عن مقدمة منطقية من المقدمات التي يرجحها قياسه الإضماري الخاص.
3- لكي يدفع القارئ بافتراضه إلى الأمام، عليه أن يلتجئ إلى سيناريوهات مشتركة أو تناصية من قبيل : ما جرت به العادة، في كل المرات التي، كما يحدث في سرود أخرى، حسب تجربتي، كما يعلمنا علم النفس (20).
هكذا يبدو من الضروري تأكيد الفرق القائم بين التفسير الدلالي والتوقع السردي. وهو فرق ينزع نحو اجتلاب مواضعات عالم التجربة وموسوعة القارئ، كما يسعى أيضا إلى استحضار العوالم الواقعية التي لا يمكن إقصاؤها إلا بتدخل من المؤلف، لأنه جزء من اعتمادات السرد، من مرجعيته الممكنة ومن مفترضه الاحتمالي(21).
لأجل ذلك كله، فإن الهدف من مجمل المواقع المحددة لقصدية القارئ يخصص بعدم النظر إلى العالم الممكن بما هو مجموعة ممتلئة، أو بتعبير آخر عالم مؤثث، وهذا ما يوضح اعتماد إيكو على اعتبار العالم الممكن حالة من الأشياء المعبر عنها بواسطة مجموعة من القضايا، وبالنسبة لكل قضية هناك (ب) وهناك (لا ب)، وبالتالي، من الممكن النظر إلى العالم الممكن بوصفه مسارا أو مجرى للأحداث يرتبط بالمواقف القضوية للقارئ. ويندرج ضمن نفس الإمكانية مقترح هنتيكا القاضي بإمكانية بناء عدة عوالم ممكنة انطلاقا من مختلف التنظيمات لنفس المحتوى من الخصائص. وبإمكان الخائص الموالية : دائري – أحمر- غير دائري – غير أحمر أن تنتظم حسب :
أحمر دائري
س1 + +
س2 + –
س3 – +
س4 – –
من ثمة بإمكاننا أن نتخيل عالم >و1< حيث توجد س1، ولا توجد س3 وس 4، وأن نتخيل >و2< حيث توجد فقط س 3 و س 4 (22).
(5) العالم الممكن، إذن، بناء ثقافي، ولذلك عادة ما يوجهنا النص السردي نحو الموسوعية التي تحدد العالم >الواقعي<. إننا حين نقارن مسارا ممكنا للأحداث بالأشياء كما هي، فإننا نتمثل، بالفعل، الأشياء كما هي في شكل بناء ثقافي. في حين يعمد القارئ إلى مقارنة حالة معطاة من الحكاية بعالمه الخاص للمرجعية أو بعالم انتظاراته الخاصة، فإنه يثبت أن تلك الحكاية هي عالم ممكن. وهذا ما يمكنه أن يتحقق لأنه لا يتوفر بعد على العالم السردي الممكن في كليته، ولأن القارئ واثق بأن حالة الحكاية عليها أن تكون متممة بشكل أو بآخر، فإنه ميال إلى تقديم توقعاته(23).
تقربنا هذه الأبعاد ،بالتحديدات العامة التي حاولنا رصدها لتصور العالم الممكن، من خلاصة مبدئية تكاد تكون مختفية وراء الإشكال الذي يفتح التحليل السردي على تصور العالم الممكن، خلاصة تخص اشتغال النص واشتغال الأفق التوقعي للقارئ :
1- يتقدم النص كآلية استدلالية على القارئ أن يشغّلها بفضل افتراضاته الخاصة، آرائه المسبقة، نياته وقيمه.
2- يمثل النص دائما عالما ممكنا -على غرار النص المقدس والنص الموسيقي- متفتحا على الانتشار >الكلي لمتقبليه<(24).
————————————————
الهوامش
1- Rastier , François : Sens et textualité , Hachette , 1989 , p 84
2- انظر طه عبد الرحمن : تجديد النظر في إشكال السببية عند الغزالي ونظرية العوالم الممكنة، ضمن : المناظرة، السنة الأولى، العدد الاول، يونيو 1989 ص. 25.
انظر أيضا تحليل د. محمد مفتاح في مجهول البيان، دار توبقال، 1990، ص.117 – 118
3- KLEIBER ( G) : La sémantique du prototype, catégories et sens lexical , P U F , 1990 , p 41
4- MEYER , Michel : Logique , langage et argumentation , Hachette , 1982
5 -نفسه، انظر الفصل الرابع من القسم الأول ، ص. 81- – 104
6- نفسه، ص. 105
7 – نفسه، ص. 88
8 – نفسه، ص. 93
9 – نفسه، ص. 93 ، يطرح إشكال الحقيقي والمزيف حتى على مستوى العلم التجريبي، من ثمة فإن حقيقة وزيف ملفوظ ما لا يمكنها أن يقوما إلا بالالتجاء إلى التجربة، أي بطريقة مباشرة إلى الملاحظة، وهنا تكمن المصادرة الأساسية لكل علم تجريبي انظر Robert , Blanché : L’épistémologie , P U F , que- sais- je ? 1983 , p 108
10- ميشال مايير م ، م س ص. 94
11 – نفسه، ص. 103
12 – PAVEL , Thomas : Univers de la fiction, ed Seuil 1988
13 – نفسه، ص. 7
14 – نفسه .ص.15
15 – نفسه، ص. 68
16- نفسه، ص.121
17- ECO , Umberto: Lector in fabula , Le rôle du lecteur , Grasset , 1985 , p 8
18- نفسه، ص. 145
19- نفسه، ص. 145
20 – نفسه، ص. 151
21 – نفسه، ص.157 ، خاصة وأن إيكو يقر بأن أسئلة تمثل الرواية للواقع، بمعنى الواقعية الساذجة، تندرج في إطار مشاكل جمالية خالصة، بينما اهتمامه هو ينصب على مشاكل أخرى من طبيعة دلالية، راجع بهذا الشأن ص. 163
22 – نفسه، ص. 167
23- نفسه، ص. 199
24- AFFERGAN , Francis : Textualisation et métaphorisation du discours , in Communications 58 , 1994 , p 31
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6807