عبد الرحيم العلام
يشير جيرار جونيت في كتابه الهام >عتبات< إلى أن النص نادرا ما يقدم دون تدعيمه بمجموعة من الإنتاجات : (إسم المؤلف، العنوان، المقدمة…). وكلها تعيينات تحيط بالنص وتمدده، وبالضبط لكي تقدمه بالمعنى الاعتيادي للفظ. لكن أيضا في معناه الأكثر قوة : لأجل رده حاضرا، أي لضمان حضوره في العالم، >تلقيـ<ـه واستهلاكه في شكل كتاب. (1)
والمقدمة (La Préface)، باعتبارها خطابا قبليا على مستوى الفضاء النصي للكتاب وبعديا على مستوى زمن الكتابة، تبقى من بين أبرز عناصر مايمكن ترجمته مؤقتا بـ>الموازيات< (Le Paratexte)(2)، من منطلق ارتباط المقدمة -إلى جانب عناصر أخرى- بالوظائف الأولية التي سطرها جونيت في قوله السابق (أي على مستوى تقديم الكتاب وتجسيد حضوره وتلقيه واستهلاكه).
ومقدمات النصوص السردية المغربية الحديثة (روايات وسير ذاتية على الخصوص) لا تخرج عن هذه المرجعية الوظيفية، وهو ما تتوخى هذه القراءة تناوله وإبرازه إلى جانب محددات تحليلية أخرى تكشف عنها الخطابات المقدماتية الموازية للنصوص الروائية والسير ذاتية المغربية.
تجدرالإشارة، في البداية، إلى أن مقدمات النصوص السردية المغربية الحديثة لم يسبق لها أن تعرضت للمساءلة والدراسة، وربما يعود ذلك إلى طبيعة المقدمــات نفسها، وأيضا إلى عــدم انتظام صــــدور نصوص سردية متضمنة لخطاباتها المقدماتية. فـ>المقدمــة، يقول جونيـــت، ليست دائما إجبارية<(3). و نجيب محفوظ، باعتباره واحدا من أغزر كتاب الرواية العربية إنتاجا، لم يعر تقديم نصوصه الروائية أهمية كبرى، باستثناء ماجاء من كلمات الناشر على أغلفة رواياته، ولربما يكون شأنه في ذلك شأن فلوبير الذي يفسر في رسالة إلى زولا رفضه التقديم للأعمال الأدبية.(4) لكن هناك في المقابل ماريفو ( Marivaux) الذي تساءل حول مدى إمكانية نعت كتاب مطبوع لا يحمل مقدمة بـ >كتاب<. من هنا، إذن، تأتي ضرورة كتابة المقدمة لدى البعض وعدم إجباريتها لدى البعض الآخر.
لكن بالنسبة للنصوص السردية المغربية (روايات وسير ذاتية) متى تكمن ضرورة أو عدم إجبارية كتابة المقدمة ؟
إن الرواية المغربية، كما هو معروف، حديثة العهد في أدبنا المغربي والعربي، وجل كتابها لا يتجاوز إنتاجهم النص الواحد أو النصين، مع بعض الاسثتناءات. لكن المأزق الأساسي بالنسبة لجل الروائيين ولرواياتهم هو غياب النقد و المتابعة النقدية.
من هذا المنطلق، إذن، تأتي أهمية وضرورة كتابة المقدمة (أو التذييل)، باعتبارها >خطابا مساعدا< بتعبير ديريدا (5)، سواء على مستوى تلقي الأعمال وتقريبها إلى القارئ، أو على مستوى خلق حوار نقدي، أو ما شابهه، ربما يكون هو الوحيد مع النص المقدم له… وقراءة في طبيعة المقدمات الروائية والسيرذاتية المغربية تستوجب، في البداية، إقامة بعض التصنيفات الأولية بخصوصها :
أول تصنيف يمكن القول به هو التمييز بين >المقدمة الذاتية< التي يوقعها كاتب النص نفسه، و>المقدمة الغيـرية< التي يتكـفل إسم آخـــر بكتابتها، بناء على طلب من كاتب النص ذاته أو من غيره، كما هو الشأن بالنسبة لمقدمة أحمد عبد السلام البقالي لنص >في الطفولة<، وهو التقـديم الذي جاء بناء على طلب من ابن كاتب النص (المتوفى). ونقول بـ>الإسم< في حالة المقدمة الغيرية، انطلاقا من كون الوضع الاعتباري لكاتب المقدمة يمكن أن يختلف من نص لآخر، سـواء كان موقع المقدمة >كاتبا<، بالمفهوم التداولي للكلمة، أو غير كاتب. والحالة الثانية (أي حالة المقدم غير الكاتب) نادرا ما تحصل، إلا في بعض الحالات، كتلك التي يتم فيها التقديم لنص معين من لدن >ناشر< غير كاتب …
تصنيف ثان يمكن إقامته بين مقدمة أصلية Préface orignale ومقدمة لاحقة Préface ultérieure. ويقصد بالأصلية تلك المقدمة التي صدرت بموازاة مع النص في طبعته الأولى، أما المقدمة اللاحقة فمناسبتها الملائمة، حسب جونيت، هي الطبعة الثانية. وهي المقدمة التي يمكن أن تتبع عن قرب المقدمة الأصلية، لكنها توفر في أحيان كثيرة مناسبة تداولية أكثر خصوصية (6). وهي تقريبا حال المقدمة الثانية لنص >أوراق< لعبد الله العروي ومقدمة أحمد عبد السلام البقالي للطبعة الثالثة لنص >في الطفولة<، بعد أن استنفدت مقدمة الطبعة الثانية وظيفتها المرجعية الموازية.
تصنيف ثالث يمكن إقامته من خلال التمييز بين مقدمة موقعة من لدن إسم محلي وأخرى من توقيـع إسم غير محلي : (مقدمــة محمد سعيد العريان لرواية >وزير غرناطة< لعبد الهادي بوطالب، ومقدمة محمـــد مندور لرواية >سبعة أبواب< لعبد الكريم غلاب).
تصنيف رابع يخصل النصوص المتضمنة لمقدمة واحدة، وتلك المتضمنـة لأكثر من مقدمة : (رواية >المغتربون< لمحمـد الأحسايني ورواية >أوراق< لعبد الله العروي في طبعتها الثانية).
تصنيف خامس، وهو الأهم، ويخص طبيعة الخطابات المقدماتية ذاتها. فهناك مقدمات تأتي إما في شكل دراسة جزئية للنص المقدم له : (مقدمة سعيد يقطين لرواية >جسد ومدينة< لزهور كرام ومقدمة محمد برادة لروايـة >فراق في طنجة< لعبد الحي مودن)، أو في شكل دراسة شاملة للنص : (مقدمة أحمد اليابوري لرواية >المرأة والوردة< لمحمد زفزاف)، أوفي شكل خطاب تراسلي : (مقدمة محمد برادة لنص >زمن الأخطاء< لمحمد شكري)، أو في شكل تداخل بين الخطابين المقدماتي والحكائي : (المقدمة الأولى لـرواية >أوراق<، وتقديم مبارك ربيع لروايته >برج السعود<)، أو في شكل حديث عن السياق الذي كتب ونشر فيه النص، هذا الذي يأتي صدوره كنتيجة لنفس السياق: (مقدمة ليلى أبو زيد لنصها >الرجوع إلى الطفولة< ومقدمة محمد الاحسايني لروايته >المغتربون<)، أو في شكل حديث عام ليست له علاقة مباشرة بالنص (أو لايخص النص) المقدم له : (مقدمة محمد زفزاف لرواية >الزمن المقيت< لإدريس الصغير)، أو في شكل حديث عن طبيعة المكتوب (على مستوى تجنيسه : مقدمة محمد سعيد العريان لرواية >وزير غرناطة<، أوعلى مستوى تجنيسة وتحليله : مقدمة أحمد بوزفور لـرواية >وهلم شرا< لمحمد حجو)، أو في شكل تلخيص للنص : (مقدمة محمد مندور لرواية >سبعة أبواب< لعبد الكريم غلاب)، أو في شكل دعوة مباشرة إلى قراءة النص : (مقدمة سعيد البشري لرواية >أوراق الصفصاف< لعلي أفيلال)، أو تم ذلك في شكل حديث عـــن سيـرة كاتب النص : (مقدمة أحمد عبد السلام البقالي لنـص >في الطفولة<)، أو في شكل إضاءة لجوانب معينة من النص : (مقدمة عبد اللطيف النـكاوي لرواية >شجـرة التين< لعلي أفيلال)، أو في شكل طرح لقضايا لها علاقة بكتابة النص وبالكتابة الروائية عموما : (مقدمــة اسماعيل البوعناني لروايته >إنها الحياة< ومقدمة عبد القادر السميحي لـروايته >أشياء لا تنتهي< ومقدمة محمد شيكر لروايتـه >التجال<).
غير أنه لابد من الإشارة، هنا، إلى أنه بقدر ما تتعدد المقدمات بقدر ما تتعدد التصنيفات وطبيعة وأشكال الخطابات المقدماتية الموازية للنصوص الروائية وغير الروائية. إلا أن أغلب هذه المقدمات تبقى لها ارتباطات مباشرة بالنص المقدم له، إما أنها تضيء جوانب مـنه أو مــن سيـرة مؤلفه، أو تــدرسه، بحيث لا يمكن الإقرار، في الأخير، بنهائية هذه التصنيفات أو بشموليتها وانسحابها على مختلف المقدمات، بل يمكن أن يقع، في كل مناسبة مقدماتية، نوع من التداخل بين تلك الخطابات، كما يمكن إيجاد أنواع أخرى من التصنيفات لخطابات أخرى خارج هاته، حسب ما تطرحه كل مقدمة من قضايا داخل أو خارج نصية (7).
لكن ماهي الدلالات الممكنة التي تكون مقدمــات الـروايات المغربية قد قدمتها، في مجموع نماذجها التي أشرنا إليها، للنص ولكاتبه ولقارئه ولتلقيه ولديمومته؟
إن قراءة متأنية في مجموع تلك المقدمات سوف تدفع بنا إلى إقامة تمييز آخر بخصوصها، وذلك بين مقدمات ذات تأثير ووظيفة معينة، ومقدمات غير ذات تأثير أو وظيفة ما، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون المقدمة، في مرحلة سابقة، وثيقة حول نظرية الجنس الروائي، وهي كذلك جنس من الخطابات(8). فوظيفة المقدمة لا ترتبط بفضاء تلقيها فقط، بل إن لها ارتباطا أيضا بكاتب المقدمة نفسه، خاصة وأن عددا من المقدمـات الروائية الذاتية والغيرية، تكشف انطلاقا من تساؤلات كتابها، عن الغاية من كتابتها، كالتساؤل الذي طرحه شــوقي بغدادي في تـقديمه لـرواية >المصابيح الزرق< لحنامينة ، في قوله : >لا أدري لماذا تكتـب المقدمات ومع ذلك فنحـن نكتـبها<(9). أو في قول عبد اللطيف النكاوي في تقديمه لرواية >شجرة التين< لعلي أفيلال : >التمهيد بقدر ما هو ضروري ومساعد على فهم النص النظري أو العلمي بقدر ما يصبح عائقا وموجها لقراءة النص الإبــداعي. فالتمهيد قراءة تستمد قوتها وسلطتها من اتصالهـا المادي بالنص الممهد له<(10). كما أن من بين ما يمكن تسجيله من خلال قراءتنا لمجموعة من الخطابات المقدمـاتية، في ارتباطها زمنيا بنصوص روائـية متنوعة ومختلفة من حيث القيمة الفنية ومن حيث صدى التلقي والمتابعة النقدية، حضور نوع من الوعي المبكر لدى كتاب الـرواية بوضع مقدمات لنصوصهم الروائية. وخير دليل على ذلك كون ثاني نص روائي (أو شبه روائي) مغربي، بعد >الزاوية< للتهامي الوزاني، ويتعلـق الأمر بـرواية >وزير غرنــاطة<(1950) صدر محملا بخطاب مقدماتي من توقيع محمد سعيـد العريان بالقاهرة. تلت >وزير غرناطة< نصوص روائية أخرى جاءت متضمنة لخطاباتها المقدماتية ، كـ >سبعة أبواب< و>دفنا الماضي< لعبد الكريم غلا ب، و>غدا تتبدل الأرض< لفاطمة الراوي.
ومادام جيرار جونيت يتحدث في كتابه >عتبات< عبر صيغ الاقتراح، فإن تنظيم بعض عناصر >موازيات< الرواية المـغربية، والعربية عموما، يستدعي منا التوقف عند بعض الإشكالات التي ماتزال تعرقل سؤال الخطاب النقدي. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى سؤال >الميثاق النصي<، باعتباره السؤال الذي مازال يسير جنبا إلى جنب مع سؤال الكتابة السردية والخطاب النقدي. فمنذ >الزواية<، مرورا بـ >سبعة أبواب< فـ>كان وأخواتها< و>دليل العنفوان< و>زمن الأخطاء<… ، وصولا إلى >سفر التكوين< لازال سؤال الميثاق النصي يتجدد طرحه في كل مناسبة يتم فيها الحديث عن كيفية قراءة أو إعادة قراءة بعض النصوص السردية المغربية، سـواء كـ>رواية< أو كـ>سيرة ذاتية< أو كـ>سيرة ذاتية روائية<، أو كـ>رواية سير ذاتية<. ولابد من الإشارة، أيضا، إلى أن الخطابات المقدماتية تساهم من جهتها في الإجابة أو بالأحرى في إضاءة جوانب من ذلك السؤال، انطلاقـا من التصريحات والتصورات التي يقدمها كتاب المقدمات الذاتيون حول طبيعة الميثاق المؤطر لنصوصهم، باعتبارهاخطابات مساعدة على قراءة النص دون اللجوء، في حالة انتفائها( أي التصريحات )، إلى تغيير زاوية القراءة، وبالتالي تغيير المنظور النقدي، كما حدث بخصوص قراءة نص >لعبة النسيان< لمحمد برادة، أو غيره من النصوص السردية الأخرى(11).
ومن بين ما يلفت الانتباه أيضا بخصوص مقدمات الروايـات العربية، بالنظر إلى طبيعتها غير النظرية وغير النقدية -مع بعض الاستثناءات- هو الغياب الملحوظ، إلى حد الآن، لأي شكل من أشكال التفاعل بين الخطاب النقدي اللاحق والخطابات المقدماتية؛ بمعنى أن هذه الأخيرة لم يسبق لها أن شكلت مرجعا نقديا واضحا وذا تأثير معين على الخطاب النقدي، باستثناء ما قد يمس من وظائفها توجيه فعل التلقي وفعل القراءات البعدية لنفس النص. بخلاف بعض مقدمات الروايات الغربية (والعربية ) الكلاسيكية التي سبق لها أن شكلت أرضية خصبة للتنظير وإغناء الخطابات النظرية والنقدية اللاحقة. ويكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى الدور الذي قامت به مقدمات هنري جيمس فيما يخص توفير أرضيات نظرية شكلت منطلقا للتنظير لـ>وجهة النظر< على الخصوص، وأيضا ما كشفت عنه مقدمات النصوص شبه الروائية، والروائية العربية الأولى، من معطيات تاريخية عن >مفهوم الرواية<. وتبقى الكتب النقدية التي تفاعلت مع الخطابات المقدماتية العربية قليلة جدا، نذكر منها، على سبيل المثال، كتاب الدكتور عبد المحسن طه بدر: >تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1938-1870)<(12). وكتاب د. أحمد إبراهيم الهواري >نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر<(13) الذي قام فيه المؤلف بـ>استخلاص مهمة الرواية وطبيعتها عند هؤلاء النقاد التقليديين على المقدمات النقدية التي حررها الروائيون الرواد والمترجمون، إذ أن معظم الروائيين كانوا يقدمون لأعمالهم بمقدمات يكشفون فيها عن تصورهم لمهمــة العمل الأدبي<(14). في حين بقيت جل المقدمات الروائية العربية المعاصرة بدون مساءلة أو متابعة، ربما لكونها مقدمات لم تعد تطرح من القضايا النظرية ما يسعف القارئ أو الناقد على استجلاء طبيعة تصور الروائيين لمفهوم الرواية أو لغيره من القضايا، انطلاقا من تحول جل المقدمات إلى مجرد قراءات نقدية أوانطباعية في النصوص المقدم لها. كما أن منظري هذا النوع من الخطابات يبدو أنهم وجدوا ضالتهم النظرية والتحليلية في مقدمات النصوص القديمة : (هنري ميتران اختار مقدمات القرن19، واخـتار جونيت نفـس الفترة إلى جانب فترات أخرى…).
المقدمة، إذن، هي مناسبة وفرصة بعدية للقول ولتمرير أفكار ووجهات نظر ولاستدراك أشياء، وهي أيضا مناسبة للتصريح بأنه لم يعد هناك مــا يمكن قوله أمام ما قيل في النص (ديكنز في مقدمته لـ>دافيد كوبرفيلد <). في مثل هذه الحالة، إذن، قد يتحقق التداخل بين الأنا التي تقدم العالم والأنا التي تحكي العالم وقد يقع التباعد بينهما. وتبقى الحالة الأخيرة (أي حالة التباعد) هي الغالبة على مستوى طبيعة المقدمات الروائية المغربية، بحيث تصبح وظيفة المقدمة، من بين عدة وظائف أخرى، محددة أساسا في تقديم تصور كاتبها حول بعض القضايا العامة التي لها صلة بالفضاء العام الذي انكتبت فيه الرواية أو السيرة الذاتية. ومقدمة عبد الكريم غلاب لروايته >دفنا الماضي< لا تخرج عن هذا الإطار، حيث يدرج فيها مفهومه للرواية، وهو بذلك يقدم تصورا ما تزال استمراريته سائدة لديه، من ذلك قوله في مقدمته لنفس الرواية : >ليست أهمية الرواية في السرد القصصي، ولكن أهميتها في تحلـيل النفسية التي وراء الحادث<(15). وهو نفس التصور، تقريبا، الذي لازالت روايات غلاب تعمل على تجليته، باعتباره روائيا ظل وفيا لتيار روائي معين، في حين تحول من جاء بعده من الروائيين إلى تجريب أشكال روائية جديدة. نفس الأمر تقريبا نستشفه من مقدمة محمـد شيكر لروايته >التجال<، سواء ما يتصل منه بمفهوم الرواية التي >هي من جهة اختزال للواقع وصورة مصغرة له، وهي من جهة أخرى تركيب لهذا الواقع تحمل بصمات الصانع أو المبدع وتعكس إلى حد ما منظور الكاتب. فهي لحظة اجتماعية وتاريخية يتداخل فيها الذاتي بالاجتماعي ليعكسا واقعا من موقع المبدع داخل المجتمع وليفرزا استنتاجات يمكن توظيفــها للتأثيــر على الواقع وتصحيح مساره<(16)،أو ما يتصـل منه أيضا بمطـارحة تصـورات ومفاهيم أخرى، كمفهوم الواقعية والقارئ والنقد وطبيعة الأحداث الروائية.
يمكن من ناحية أخرى أن يقع التنويع في نصوص كاتب معين بين التقديم الذاتي والتقـديم الـغيري (روايـتا غـلاب : >دفنا الماضي< و>سبعة أبواب< كنموذجين).وفي غياب تراكم هام في المقدمات الروائية المغربية تبقى أية محاولة لتتبع تحولات الخطاب المقدماتي عملية صعبة ولا يمكن أن تفضي إلى نتائج معينة، بخلاف بعض الروائيين العرب الآخرين الذين حققوا تراكما لافتا في هذا المجال، سواء على مستوى التراكم النصي أو على مستوى التراكم في الخطابات المقدماتية. وخير دليل على ذلك ما حققه الروائي حنا مينة من تراكم روائي بموازاة مع تراكم مهم في مقدمات رواياته التي تبقى في مجملها مقدمات غيرية.
وفي قراءة سابقة في المقدمات الروائية الموازية لنصوص حنا مينة (17)، تبين لنا ما توفره هذه المقدمات من أسئلة تخص النصوص الروائية المقدم لها. وحتى في حالات غياب المقدمة فإن التذييل يأتي كمكون آخرمن مكونات الموازيات. والروايات المغربية لم تغيب التفكير أيضا في تضمين التذييلات في أواخرها. وبما أن >التذييل هو تنويع للمقدمة< -على حد تعبير جونيت- فإن استحضاره ضمن هذه القراءة لا يلغي أهميته، هو أيضا، على مستوى الوظيفة أوالتأثير.
وقراءة متأنية في طبيعة التذييلات الروائية المغربية تظهر لنا عدم وجود فوارق كبرى بينها وبين المقدمات، سواءعلى مستـوى الوظيفة أوعلى مستوى التأثير في القراءات المتعاقبة للنص.
وبالنظر إلى المستوى التواصلي نجد أن من سلبيات المقدمات -يقول جونيت- كون كتابها يقترحون على القارئ تعليقا سابقا على النص الذي لم تتم معرفته به بعد، وهو ما يجعل بعض القراء يفضلون قراءة المقدمة بعد قراءة النص، أي بعد أن يكونوا قد عرفوا >بم يتعلق الأمر<. ومنطق هذه الوضعية، حسب جونيت دائما، يقتضي اقتراح كتابة >تذييل<. وفي هذا الإطار يمكن إدراج بعض التذييلات الروائية والسيرذاتية المغربية، تلك التي لم تخرج، بدورها، عن سياقات الحديث عن النص وعن كاتبه : (التذييلات الغيرية لنص >كان وأخواتها< لعبد القادر الشاوي)، أو قراءة النص المذيل له (حالة تذييل صبري حافــظ لنـص >زمن الأخطاء< لمحمد شكري في طبعته الخارجية). كما أن التذييل يشكل لدى البعض مناسبة لإنجازقراءة في جميع نصوص الكاتب المنشورة : (التذييل الذي خص به يحيى الشيخ رواية >الآن… ياهند< لعلي أفيلال، ومن خلاله يدرس باقي نصوص الكاتب)، أو مناسبة لإضاءة بعض الجوانب المتصلة بقراءة النص : (التذييل الوارد في رواية >الغربة<، الذي هو في الأصل -حسب كاتبه العروي- فقرة من مقدمة كتبها سنة 1962وهو ينوي نشر هذه القصة)(18).
وظيفة أخرى يؤديها التذييل في روايتي : >الغد والغضب< لخناثة بنونة و>المنعطف< للحبيب الدائم ربي، ويتعلق الأمر، هنا، بالحديث عن السياق العام الموازي لنشر كلتا الروايتين؛ وهو حديث يبرز من خلاله الروائيان المقدمان جانبا من المعاناة التي يعيشها الكاتب قبل إيصال إنتاجـه إلى القارئ. وبذلك يأتي التذييل مجسـدا لجوانب مــن تلك المعانـاة، وكأن طبيعتــه، هنا، لا تتوخى إلغاء مشاركة القارئ في فعل القراءة أو إلغاء مشاركته في فضاء ما قبل القراءة أيضا. وبذلك تتناوب المقدمات مع التذييلات في أشكال توريط القارئ، هذا الذي تفكر فيه الكتابة السردية في جميع مراحلها.
إن الإمكانيات النظرية الهامة التي كشفت عنها تنظيرات جونيت للمقدمة، من بين عناصر أخرى مشكلة للموازيات، هي نتيجة الإمكانات الهامة التي وفرها له التـراكم المقدماتي العام، حتى لا نخصص طبيعته وأنواعه، الشيء الذي مكنه من إقامة شبكة من الفرضيات النظرية والتحليلية المتعددة، بحيث لا تكاد المقدمات الروائية المغربية، والعربية عموما، تشغل منها سوى الشيءالقليل، سواء على مستوى التصنيف أو الـوظائف أو تشغيل المفاهيم. وليس من الضروري أن يتم إخضاع أية مقدمة، كيفما كانت طبيعة النصوص المرتبطة بها وكيفما كانت مرجعيتها الجغرافية، لمثل فرضيات جـونيت، نظرا لنسبيتها من ناحية ولمحدودية امتدادها التطبيقي من ناحية ثانية. لكن الشيء الأكيد بالنسبة للمقدمات الروائية، المغربية والعربية، هو كونها تركز من حيث وظائفها على القارئ بالدرجة الأولى، كما تستهدفه في مجمل صوره : (القارئ المستهلك، القارئ الناقد، القــارئ الراهن، القارئ الآتي، القارئ الضمني، القارئ الحقيقي)، انطلاقا من كونها مقدمات تعقد مع كل واحد من هؤلاء القراء مواثيق معينة للقراءة : قراءة النص كرواية أو كسيرة أو كرواية وسيرة في الوقت نفسه، أو>كنوع جديد لم يقاربه النقد< (تقديم أحمد بوزفور لرواية >وهلم شرا<)، أوكـ >كتاب أدب وفن< أو>كتاب تاريخ وسياسة< : (تقديم محمد سعيد العريان لرواية >وزير غرناطة<)، أو كـ>قصة< (تقديم عبد الله ابراهيم لرواية >غدا تتبدل الأرض<)، أو التنصيص على أهمية النص الكامنة في تحليل نفسية أبطاله وليس في السرد القصصي…
المقدمة الروائـية المغربية هـي أيضا منـاسبة لدى البعض للقول والنقد الجريئين. ويبقى تقديم محمد زفزاف لرواية >الزمن المقيت< من بين أبرز المقدمات الروائية المغربية، نظرا لجرأتها النقدية في تقويم الإنتاج الروائي المغربي في مرحلة زمنية معينة، وهي جرأة أصبحنا نفقدها اليوم على مستوى خطابنا النقدي والانطباعي حول الرواية المغربية(19).
بموازاة مع هذه الجرأة النقدية هناك >التشويه< الذي يطال قراءة بعض النصوص، وهو مايجعلها تلجأ إلى الاحتماء ضد أي شكل من أشكال التشويه أو القراءة المغرضة، وذلك بإدخال خطابات مقدماتية بمـوازاة النص، وكأن هذا الخطاب القبلي يقوم >بتوجيه القراءة ويدافع عن النص ضد عدم الفهم وضد التأويلات الخاطئة<(20). وهو الوضع الذي يجسده نص >المرأة والوردة< لمحمد زفزاف، حيث ينتقل الخطاب النقدي من فضاء فزيائي معين : (قراءة أحمد اليبوري لنفس الرواية في دراسة معنونة بـ : >قراءة جديدة في المرأة والوردة< نشرت في المحرر الثقافي 17 يونيو 1979) إلى فضاء نصي آخر: (حيث نشرت نفس الدراسة كـمقدمة لنفس الرواية السابقة سنة 1981)، ثم وقع تحويلها -دون أن تغادر إلى حد الآن رواية >المرأة والوردة<- إلى دراسة منشورة ضمن كتاب >دينامية النص الروائي< لأحمد اليبوري(21)، مع إدخال تعديلات هامة عليها. وإذا كانت رواية >المرأة والوردة< قد استشعرت ضرورة أن تحمل معها مقدمة ضمن طبعة جديدة، فلربما اعتبارا لكونها بمثابة >دراسة (…) من أنصف الدراسات وأعمقها تحليلا لهذا العمل…<(22)
إن قراءة شبه شمولية في المقدمات الروائية و السيرذاتية المغربية لا يمكن أن تساعدنا، في كل الأحوال، على تكوين تصور جزئي أو كلي عن تاريخ وتطور الرواية المغربية، وأيضا عن تاريخ وتطـور النقد المرتبط بها، نظرا لقلة التراكم المقدماتي من ناحية(23)، ونظرا أيضا لعدم وجود تصور قبلي يتحكم في عملية كتابة المقدمات، هذه التي أصبحت لها في مجملها وظيفة استهلاكية أكثر منها معرفية…
لكن إذا كان الناس نادرا ما يقرأون المقدمات، حسب والتر سكوت(24)، فإن المقدمات الروائية المغربية تبقى مقروءة، انطلاقا مما سبقت الإشارة إليه من قبل فيما يخص غياب النقد والمتابعة النقدية من ناحية، وأيضا فيما يتصل بارتباط تلك المقدمات -وخاصة في حالة المقدمات الغيـرية- بأسماء لها وضعها الاعتباري في الساحة الثقافية المغربية والعربية من ناحية ثانية.
—————————————–
هوامش
1- Gérard Genette, Seuils, Coll. Poétique, Ed. Seuil, 1987, p.7
2- نعمد في هذه المرة الى اقتراح ترجمــــة مصطلـــح (le paratexte) بـ>الموازيات< في صيغة الجمع، مثله في ذلك مثل ما تم اقتراحه بالنسبة لمصطلح >اللسانيات< (linguistique) و>السرديات< (narratologie) بناء على كون مفهوم (le paratexte) يبقى عبارة عن مجموعة من العناصر (éléments) الموازية والمحيطة بالنص. ومن ثم فهي >موازيات< نصية : (إسم المؤلف، العنوان، العنوان الفرعي، الميثاق، إسم السلسلة، إسم الناشر، تاريخ النشر، المقدمة، التذييل، كلمة الغلاف، الاستجواب، الحوار، الإهداء…)
3- Gérard Genette , op: cit, p. 152
4- Ibid . p . 213
5- d’après Henri Mitterand , Le discours du roman , 1er ed . puf , Paris,1980, p. 32.
6- Gérard Genette , op . cit . p . 162 .
7- أنظر مقالنا : >الخطابات المقدماتية : محاولة في التصنيف<، في : العلم الثقافي، السبت 23 يوليوز 1988، ص. 6 .
8- Henri Mitterand , op . cit . p . 21
9- شوقي بغدادي، في : مقدمة روايـــة >المصابيح الزرق< لحنا مينة، ط. 4 ، تشرين الثاني، نوفمبر 1982، ص. 5.
10- عبد اللطيف النكاوي في : تقديمه لرواية >شجرة التين<، مطبعة النجاح الجديدة ، 1996 ، ص. 7 .
11- نشير في هذا الإطارإلى تبدل المنظور النقدي عند الأستاذ أحمد اليبوري – بخصوص >لعبة النسيان<- في كتابه : >دينامية النص الروائي< ، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، ط. 1، 1993 ، ص. 56 .
12- د. عبد المحسن طه بدر، >تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1938-1870)<، ط. 4، دار المعارف.
13- د. أحمد ابراهيم الهواري، >نقد الرواية في الأدب العــربي الحديث في مصــر<، دار المعارف، ط. 2، 1983.
14- نفس المرجع، ص. 25 .
15- عبد الكريم غلاب، في : مقدمة >دفنا الماضي<، مطبعة الرسالة، ص. 6، 1996.
16- محمد شيكر في: مقدمة >التجال<، دار النشر المغربية، 1986، ص. 3.
17- راجع مقالنا : >الخطابات المقدماتية : محاولة في التصنيف< (2)، في العلم الثقافي ، السبت 7اكتوبر 1989 ، العدد 944 ، ص 8 .
18- عبد الله العروي، >الغربة<، دار النشر المغربية، البيضاء يوليوز 1971.
19- إلى جانب المقدمة الجريئة هناك التذييل الجريء، ولا أدل على ذلك من التذييل النقدي الذي خص به أحمد المجاطي ديوان >حب< لابراهيم السولامي الصادر سنة 1967.
20- Inroductions aux Etudes littéraires, méthodes de textes, ouvrage collectif, éd. Duculot, Paris, 1987, p. 210
21- أحمد اليبوري ، >دينامية النص الروائي<، مرجع مذكور، ابتداء من ص 69 .
22-لحميداني حميد، >في التنظير والممارسة، دراسات في الرواية المغربية< ، منشورات عيــــون ، ط. 1، 1986 ، ص. 111.
23- أصبحت بعض دور النشر ترى في المقدمة الروائية ضرورة مرجعية موازية للنصوص الروائية وغير الروائية، كدارالنشر التونسية التي تصدر >سلسلة عيون المعاصرة<، حيث إن مجموع النصوص الروائية التي صدرت عنها، ضمن نفس السلسلة ،جاءت موازية لخطاباتها المقدماتية، التي هي عبارة عن دراسات نقدية، في النص المقدم له، تتجاوز عدد صفحاتها العشرين صفحة وقد تصل إلى الأربعين. نذكر من بين هذه النصوص على مستوى التمثيل لا الحصر : (>اللجنة<، و>نصيبي من الأفق<، >مريـود<، >الياطر<، >حدث أبو هريرة قال<، >موسم الهجرة إلى الشمال<، >المتشائل<، >شرق المتوسط<، >من حكايات هذا الزمان<، وغيرها…). كما أن من بين كتاب مقدمات هذه النصوص من ارتبط انتاجه النقدي العام بالمقدمات. وتوفيق بكار-مدير السلسلة المذكورة- لا يخرج عن هذه القاعدة.
24- Walter Scott, d’après, seuils, op.cit, p.160.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6818