حوارالأفضية في رواية “الضوء الهارب”*

Bengrad
2021-06-04T12:00:23+00:00
العدد الثامن
13 أغسطس 2020284 مشاهدة

حميد لحمداني – كلية الآداب- فاس ظهر المهراز

>إنه ينبغي لك أيها القارئ والكاتب أن تعلم أني لا أكتب لك أو عنك، إلا لأني وجدت أحلامك أو خربشاتك تستهوي توهماتي وتداعب شغب أقلامي على بياض الورق، وإني لا أطلب منك إلا مبادلة الشغف بالشغف، أما زبد البحر فلا شأن لنا به.< صوت ما سها البال قط عنه.

لمفهوم >الفضاء< أهمية خاصة في الدراسات السردية المعاصرة لأنه يتجاوز مدلول المكان، فالفضاء يحتوي المكان وكل ما يتصل به من تأثيث وأشخاص متخيلين وأحداث ومواقف(1)، بل يشمل الجو العام الذي تخلقه اللغة السردية في تفاعلها مع ذهن القارئ بكل ما يحمله أيضا هذا الذهن من ثقافة وأوهام شخصية.(2)

دراسة الفضاء في أي عمل سردي لا تعفي إذن -بسبب ما يتميز به المفهوم من شمولية- من النظر إليه كوحدة مندمجة بمجموع عالم النص، خصوصا إذا كان هذا الفضاء مشكّلا من عوالم لها ارتباط ملموس بأمكنة واقعية.

هكذا تبدو المقارنة الآلية مثلا بين فضاء فاس الواقعي، وأفضية النصوص الروائية التي قد توحي بأنها استلهمت مادتها البانية من هذه المدينة عملا خاليا من الحس الإبداعي في النقد، وخاصة إذا انطلقت هذه المقارنة من فرضية كون هذه الأعمال الروائية قد اكتسبت قيمتها الإبداعية لمجرد أنها نقلت بعض معالم هذه المدينة. فصحيح مثلا أنه يمكن التمييز بين المدن والمراكز الحضرية في إطار دراسة تاريخية أو حضارية، وقد نخلص إلى أن مركزا حضاريا ما هو أكثر غنى من مراكز أخرى، إلا أنه لا يمكن تطبيقه أبدا في مجال الإبداع إذ لا يكتسب الفضاء التخييلي بالضرورة كل القيم التاريخية والحضارية التي تكون لفضاء واقعي ما لمجرد أن الأول شُكل على غرار الثاني. فالمسألة متعلقة بصياغة جمالية وتصورية تدمج مكونات واقعية في عالم تخييلي باعتبارها علامات (signes) ليست قابلة لأن تأخذ مدلولاتها إلا في سياق علاقاتها مع مجموع المكونات التي تحيط بها في هذا النسق التخييلي نفسه، وهي لذلك معرضة كثيرا لأن تفقد قيمها ودلالتها في الحقل الثقافي والاجتماعي واستبدالها بقيم جديدة أو مغايرة أقل قيمة أو أكثر.(3)

هكذا ففضاء مدينة فاس، أو فضاء أي مدينة من مدن العالم العربي بالنسبة لأي إبداع سردي محتمل، لا يمكن أن تكون إلا رمزا >محايدا<، لا يخرج عن حياده إلا ساعة اندماجه في النص السردي مع فضاءات أخرى تغايره أو تدخل معه في علاقة تنافر أو تماهي أو مجرد علاقة اختلاف.

نحن بالطبع لا نستطيع أن نعاين حالة حياد صورة فضاء مدينة ما لأننا لا يمكن أن نتعرف على موضوع له حضور وجودي إلا من خلال تجربتنا الخاصة أو من خلال تجارب الآخرين، بمعنى أننا نُكوِّن عن هذا الموضوع صورة مرتبطة بنوعية علاقتنا، في مراحل حياتنا، به وبمدى التلوينات الفكرية والعاطفية التي انطبع بها في أذهاننا. غير أنه قد يحدث أثناء حوارنا الفكري المباشر مع بعضنا البعض أن نتفق على خصائص ومزايا فضاء ما واقعي بمقارنته مع أفضية أخرى. ولكننا لا نصل إلى هذا الاتفاق إلا لأننا حاولنا التخلص من تلك الذكريات الخاصة التي تميز تجربتنا مع هذا الفضاء، وإزاحة مجموع تلك التلوينات العاطفية والفكرية التي تعطي لتجربتنا معه فرادتها وخصوصيتها.

لكن هل نضمن، حينما يتعلق الأمر بإبداع أدبي، أن ننجح في التخلص من كل هذه الخصوصيات؟

إن الخصوصية والفرادة هما ما يعطي للفضاء في النص الإبداعي قوة التميز والاختلاف عن صور الفضاء الواقعي، لأن قيمته حينئذ لا تكون مستمدة من خارج النص بل من داخله أو على الأصح من السياق التخييلي الذي وضعنا فيه هذا الفضاء.

لذا ليس هدفي مثلا أن أتحدث في هذا البحث عن مدينة فاس كقيمة مطلقة تعلو على الصياغة الفنية ذاتها ولكن كقيمة قابلة للتوظيف في الفن في شتى الاتجاهات المحتملة، مثلها في ذلك مثل جميع الفضاءات الواقعية التي ساهمت في تشكيل عوالم بعض الروايات العربية (القاهرة مثلا في روايات نجيب محفوظ).

والحق أن رواية >الضوء الهارب< لـ م. برادة تسعف كثيرا في توضيح هذه القيمة النسبية لفضاء ما بالمقارنة مع أفضية أخرى تشاركه الحضور في النص وتنازعه وينازعها السيطرة عليه، فلن تكون العلاقة هنا إلا علاقة حوارية، ونعني بها التفاعل وتبادل التأثير الذي يجعل كل القيم نسبية، بل إن كل قيمة لا تحدد أبدا إلا في علاقتها مع قيم أخرى وبحضورها إلى جانبها.

غايتنا من هذه التوضيحات هي إبعاد ذلك الوهم الذي يجعل الإبداع مجرد تابع للواقع الحياتي وخادم له بحيث لا يستمد قيمته إلا من القيم الواقعة سلفا. يعيد الإبداع السردي صياغة العالم الواقعي لغاية أساسية هي تطوير الوعي به، بمعنى إدراك أبعاده الخفية التي تدركها حواسنا وملكاتنا الواعية، وهو لذلك يغني الواقع بإضاءة مناطقه المعتمة وتحريك سواكنه(4). لوكان الفضاء الواقعي يكفي نفسه بنفسه لما كانت هناك حاجة لإعادة صياغته في إطار جمالي ضمن الأعمال السردية.

بينت سابقا أن دراسة الفضاء كمجال مكاني منعزل عن مؤثثاته الخاصة وعن الأحداث وتصورات الأبطال وكل القيم التي تحيا فيه من شأنها أن تفرغه من دلالته العميقة، لذلك سنقارب هذا الموضوع في ارتباطه بالشخصيات الأساسية من جهة، وبالإطار العام الذي يجمع الأفضية المختلفة مع بعضها البعض.

نجد في رواية >الضوءالهارب< شخصيتين تحتلان مركزا متميزا بسبب أنهما تتناوبان القيام بمهمة السارد في إطار ما يدعى بالرؤية مع (vision avec) غير أنهما تتخليان في مواقع عديدة عن هذه المهمة للسارد الخارجي المفترض ليُحول فعل الحكي إلى الرؤية من خلف (vision par derrière).

هكذا ترتبط شخصية فاطمة بأفضية متعددة : فضاء فاس وفضاء طنجة وفضاء باريز، بينما تتفاعل شخصية الرسام العيشوني مع فضاء طنجة على الخصوص، وتقدم رأيها في فضاء آخرهو فضاء مراكش. هناك إمكانية للحديث أيضا عن الفضاء من زاوية نظر شخصية أساسية أخرى وهي غيلانة حيث يمكن المقارنة بين ثلاثة أفضية : فاس وطنجة ومدريد.

هذا بالنسبة للشخصيات التي لها حضور أساسي وفعلي في مسرح الأحداث، أما الشخصيات الأخرى فيبقي دورها مكملا للصورة العامة، ولذلك فمعالجة >حوار< الأفضية من زوايا نظرها لا تسعف كثيرا في نقل الصورة الحية التي تصورناها بدورنا لحقيقة الحوار الفضائي في الرواية.

تتشكل إذن خطاطة الحوار الفضائي في رواية >الضوء الهارب< من ثلاث علاقات أساسية كل علاقة تمثل ارتباط شخصية بأفضية تعيش فيها وتتحاور معها وتحاور بينها.

العلاقة الأولى :

التنوع الانفتاح فضاء الإبداع الانغلاق الروتينية

طنجة العيشوني مراكش

العلاقة الثانية

القيود الدعارة المال

فاس غيلانة مدريد

طنجة

موطن الذكريات تجربة الحب والخيبة موطن العودة

العلاقة الثالثة

الخيبة في الحب والزواج تجربة الجنس والانتقام من الأم

فاس فاطمة طنجة

باريز

الحرية الزواج نسيان الوطن

هذه العلاقات الثلاث ترتبط أيضا فيما بينها لتكون الخطاطة الإجمالية لحوارية الأفضية في رواية >الضوء الهارب<. ونتعرف أولا على كل علاقة على حدة ولكننا سنقيم في نفس الوقت صورة عن العلاقة الكلية لمجموع الأفضية في النص.

العلاقةالأولى

يجري فيها حوار دينامي مباشر بين فضاءين : فضاء طنجة وفضاء مراكش، ولا يدرك هذا الحوار إلا من خلال شخصية الرسام العيشوني الذي كان مشدودا تاريخيا ومصيريا إلى طنجة التي يراها متعددة الوجوه (التنوع) ومنفتحة على العالم الخارجي وفضاء صالحا للإبداع :

– التنوع : جاء في دفترالعيشوني عن مدينة طنجة :

بعض المدن لم تعرف أكثر من مالك أكثر من عاشق، أكثرمن تاريخ… لكن طنجة ألفت تعدد العشاق ونجوم التاريخ(…) ستصبح منذ مطلع هذا القرن هدية لكل الأجناس والشعوب مدينة مشاع، امرأة هلوك. فضاء يضيق بالقيود والحدود. أليس هذا التعدد في أزيائها وتواريخها وألسنة المقيمين بها هو ما يقربها إلى النفس التواقة دوما إلى أكثر من لبوس وقناع، إلى أكثر من عشق وجسد إلى أكثر من لسان وفضاء (ص. 154).

الانفتاح : تستجيب مدينة طنجة المرسومة في الرواية، بانفتاحها على أوروبا لهواجس العيشوني المشدودة في نفس الوقت إلى حرية الإبداع وهو لذلك يرى طنجة مثل اللوحة المستعصية على القبض هكذا تبدو لي حقيقة الرسم الممتزجة بحقيقتي : دائما أؤجل إعلان الإمساك بها لأنها زئبقية متعددة، كلما اقتربت منها انفلتت، وقد أقول نفس الشيء عن طنجة ذات الوجوه المتناسلة المتحولة التي لا تُخلص لحالة من حالاتها ( ص. 170).

ويتضاعف انشداد العيشوني إلى فضاء طنجة عندما يجد نفسه في مراكش محاطا باهتمام كنزة التي حاولت أن تدخله في نطاق حياة روتينية منظمة. لذلك كان أول ما خطر بباله هو بحر طنجة برحابته وامتداده عبرالمضيق إلى شساعة لا يحدها شيء.

قد يكون ذلك وراء الشعور الكاسح الذي انتابني بعد أشهر من إقامتي بمراكش، بأنني لا أستطيع العيش بعيدا عن البحر، ليس أي بحر، بل بحر طنجة الذي رسخ لدي انطباعا بأن جهةالشمال، عبر المضيق، عبر اسبانيا تفضي إلى فسحة، انفتاح، مدى، شساعة، رحابة فضاء لا تكون فيه الأشياء كما عهدناها ( ص. 63).

فضاء الإبداع : لم يستطع العيشوني أن يجد نفسه في فضاء مراكش رغم أنه حاول التقاط الألوان والموسيقى لوضع رسوماته وبعض تخطيطاته الأولية، عالم مراكش كان يشعره بالغربة داخل الوطن (ص. 62)، غير أنه عندما يواجه بحر طنحة تتحرك عناصره المتنوعة لتوقظ في نفسه الرغبة الجامحة في مزج الخطوط والألوان :

… سألتها (أي غيلانة) هل تحس شفافية الماء وصقل الحصي وإيقاع أجنجة النوارس الغادية الرائحة تكاد تلامس الماء… كل ما تقع عليه عيناي الآن أستبطنه بأشكال مختلفة وأحار كيف أعطيه وجودا مستقلا داخل اللوحة التي سأرسمها. أرى اللون الوردي والأرجواني، الأزرق الفاتح، والفيروزي الأحمر الفاتح والمرجاني، وبقع الضوء المتناثرة في أشكال هندسية متحررة من صرامة الخطوط… (ص. 10).

لو بحثنا عن الأسباب التي جعلت العيشوني يقيم علاقة حوارية بين فضاء طنجة وفضاء مراكش ثم يعطي للفضاء فرصة الظهور لاحتلال المكانة الأولى، لوجدنا الإجابة عن ذلك متصلة بحيثيات ذاتية لها علاقة بطفولة العيشوني وبانطباعاته الخاصة التي ساهمت في تكييفها علاقته بالرسام الإسباني خوسيه. فهل نجد هنا مكانا لأي حجج عقلية تفسر لنا هذه القسمة التفاضلية بين فضاءين، لو استخذمنا منطقا جغرافيا لنقيم مقارنة بين موقع التقاء الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط وخاصة عند نقطة المضيق وبين المحيط الأطلسي عند نقطة تواجه القارة الأمريكية، فإنه سيؤكد لنا أن الشساعة والرحابة والامتداد كلها خصائص يتميز بها البحر الثاني بالقياس إلى الموقع الأول. إلا أن العيشوني باستخدام منطق الذكريات الطفولية والأحاسيس والانطباعات التي خلفتها العشرة الطويلة لفضاء البحر الأبيض، يؤكد أن الشساعة والرحابة لا يجسدها لديه أي بحر بل بحر طنجة عند المضيق بالذات، إنها إذن ليست رحابة مكانية فقط بل هي كل تلك المكونات الملتبسة بالمكان من أشياء وذكريات ولحظات عاشها العيشوني خلال مراحل حياته.

هكذا يتأكد لدينا ما قلناه في مدخل هذه الدراسة وهو أن الفضاء الواقعي عندما يحول إلى فضاء تخييلي في النص الروائي لا يأخذ دلالته إلا من خلال السياق الجديد الذي وُضع فيه من زاوية نظر تجربة خاصة، وهي هنا تجربة العيشوني كما رسمها المؤلف. تجربة العيشوني، إذن هي التي جعلته نافر المزاج من فضاء مراكش لأن هذه المدينة اقترنت لديه باختيارعلاقته مع كنزة التي أرادت أن تُدخل النظام على حياته.

خلال إقامتي بمراكش كانت كنزة تغريني بالدخول إلى نظام “اليومي” المكرور : تستيقظ قبلي، تحضر الفطار وتحمله إلى الفراش تدغدغني لأفتح عيني تملأ حوض الحمام وتضع البابوش تحت قدمي(…) كل شيء يوحي بالنظافة والأمان والاستقرار، وأبدأ أتململ(…) والحقيقة أنني كنت أتضايق كثيرا عندما أفكر بأنني يمكن أن أصبح جزءا من ذلك الديكور أو من أي ديكور آخر…(ص. 81).

هل تريد العلاقة الأولى في رواية >الضوء الهارب< أن تُظهر لنا من خلال الحوار بين فضائي طنجة ومراكش، الطبيعة الخاصة لشخصية الرسام العيشوني الذي لا يجد فنه فضاء يستمد منه معينه الخاص سوى في مدينة طنجة موطن التنوع والانفتاح والإلهام، وأن فضاء مراكش بحكم انغلاقه وروتينيته يسد المنافذ في وجه التفجر الفني القابع في كيانه؟ هذا على وجه التقريب ما تحصل من قراءتي لهذه العلاقة الأولى.

العلاقة الثانية

وهي أكثر تعقيدا لأن الحوار فيها يجري كما تَبَيَّن من الخطاطة بين ثلاثة أفضية. أما الشخصية المحركة لهذا الحوار فهي غيلانة، المرأة التي تنتمي لطنجة وتعيش تجربة الحب الأول والأخير مع العيشوني، ولكنها عندما تتزوج تنتقل إلى فضاء فاس. وحيث إنها كانت مثل العيشوني مسكونة بعوالم مجهولة تنتظر الاكتشاف فإنها لم تستطع أن تتكيف مع قيود الزواج في فضاء فاس : >كنت أحس أن عوالم مجهولة تنتظرالاكتشاف، ولم أكن أسأل عن الغرض من ذلك، بعد الزواج وانتقالي إلى فاس أحسست أنني أخطأت الطريق وأنني لن أقوى على العيش داخل قفص< (ص. 87).

العامل المحرك لتنقل غيلانة من فضاء إلى فضاء هو الخيبة المتتالية. خيبتها في حب العيشوني والزواج منه عندما صرح لها بأنه ليس مثل كل الناس وأن حياته الحرة معها أفضل من الزواج (ص.58). بعد هذا لم تتردد في قبول الزواج من أول متقدم، وفضاء فاس يجسد لديها جميع قيود الزواج الذي كان من الطبيعي أن ينتهي أيضا إلى الخيبة عندما قررت الانطلاق إلى فضاء أوسع جريا وراء المال. وهنا أيضا في هذا الفضاء الواسع تواجه الخيبة مرة ثانية :

بدأت أدرك أهمية المال والجاه وأردت أن أستثمر جمالي لولوج تلك الحياة لكنني لم أكن أريد أن أصبح عاهرة محترفة كانت لدي صورة أخرى عن هجرتي إلى إسبانيا وجاء مشروع الروبيو ليغير كل شيء وما كان بوسعي عندما اكتشفت خدعته أن أتراج (ص. 87)

لم تجد غيلانة في نهاية المطاف سوى أن تقرر العودة إلى فضاء طنجة، بعد أن أصبحت مفجوعة في الحب وفي بنتها فاطمة التي غادرتها دون إخبارها عن مكانها، ومفجوعة أيضا في عمرها، فجسدها غدا يحمل هموم السنين.

تكاد حوارية الأفضية بالنسبة لغيلانة تتكافأ، فكلها مواطن خيبة ولكن طنجة تتميز بأنها موطن الحب والذكريات والملاذ الأخير بعد رحلة العمر الخائبة. فضاء طنجة بالنسبة لهذه العلاقة يبدو أقل تألقا لو قارناه بصورته التي رسمها العيشوني وهذا ما يؤكد أن صور الأفضية تتجاوب بالضرورة مع تصورات الشخصيات التي تعيش فيها. وهي كذلك تقدمها لنا من خلال تجاربها الخاصة فليس لطنجة نفسها صورة واحدة في الرواية.

العلاقة الثالثة

هنا أيضا نجد حوارا بين ثلاثة أفضية، أما الشخصية التي تقيم هذا الحوار فهي فاطمة ابنة غيلانة. أول فضاء تفتح عليه فاطمة عينيها هو فضاء فاس وفي هذه العلاقة تتوسع الرواية في رسم صورة لمدينة فاس نظرا لأهميتها في حياة فاطمة.

وعلى خلاف روايات غلاب التي اهتمت بالحضورالمكاني للمدينة العتيقة وأنماط الحياة التقليدية العالقة بالذاكرة، فإن رواية >الضوء الهارب< لم تكد تلتفت لهذا الجانب، ففضاء فاس المرسوم بلغة فاطمة هو فضاء الجامعة وبالتحديد كلية الآداب التي كانت >تضج بكل الأصوات، شعوبا وقبائل ومحاورات وخصومات وأحيانا معارك يسيل فيها الدم(…) إضرابات الاحتجاج، الخطابات متنوعة مستفزة للمشاعر(…) هذيان جماعي رائع من الصعب مقاومة الانجذاب إليه<(ص.101)

يأخذ هذا الفضاء قيمته من زاوية نظر فاطمة لكونه حضن أول تجربة للحب ففتحت عينها على عالم ساحر وعلى أفضية أخرى. ويشكل فضاء الجامعة الطفرة الأولى للوعي وتحقيق الذات في الحب. غير أن علاقة فاطمة بالطالب >المناضل< الداودي تسمح بالاتصال بفضاء آخر يُكتشف فيه الجسد وتتداعي أمامه جميع القيم التي تلقتها سابقا. تحكي فاطمة فيما بعد للعيشوني عن زيارتها لمدينة تفلت:

داخل غرفة متوسطة ينضح منها بياض الجير، وعلى زربيات تختلط فيها الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية وتكسوها فتائل صوف قصير، كنت أنا وزميلتان من الكلية جالسات نتتبع رقصات أربع شيخات ومعهن الداودي وطالبان آخران يرافقان زميلتي(…) أذكر لك هذا المشهد لأني أحسست خلاله بانهيار مسافة ما كانت تفصلني فزيائيا عن النساء -الشيخات وأيضا عن المومسات- مسافة تؤثثها فكرة متقززة عن الصفاقة والفجور والوقاحة والجسد المبتذل( …) أريد أن أُفهمك سقوط حواجز مصطنعة وبداية حالة فضول مثير للتعرف على جوانب أخرى من الحياة. ما كنت أقرأه أخذ يشتغل في ذهني ومخيلتي بطريقة مخالفة(…) كأنما تلك الليلة انفكت كل القيود اللامرئية فأمسيت جامحة أتحدث بتلقائية وجرأة أوزع القبلات على الشيخات وعلى صديقتي وصديقيهما وأعانق الداودي وأهمس له باشتهائي لجسده…(ص. 107).

في رواية >الضوء الهارب< لا ينفصل فضاء >تفلت< عن فضاء الجامعة. العلاقة التي تصل بينهما هي التحرر من القيم التقليدية، في الجامعة تتحرر السياسة من كل القيود وفي تفّلت تتحرر الأجساد التي تصنع السياسة. ولكن هذا اللقاء الغريب بين معركة السياسة ومعركة الجسد هو الذي سيفجر الخيبة التي واجهتها فاطمة ابنة غيلانة. فبعد أن تكون الجنين في بطنها ودخل الداودي السجن بسبب نشاطه السياسي، بدت لها علامات دالة تقول إن الداودي سيتخلي عنها، وتحقق بالفعل حدسها، فقد فضل الداودي أن يغادر السياسة وفاطمة وبنتها، ليرعى مشروعا لتربية الدجاج بتمويل من أبيه.

بعد هذه الوقائع يضيق فضاء فاس حول فاطمة إذ يصبح موطن السأم والانتظار : >كيف أستأنف حياة الانتظار، وفي كل صباح أواجه نفس السؤال … حاولت الانشغال بالمطالعة وقراءة الصحف ومع ذلك استمر سأمي وقلقي< (ص. 115).

هنا يبدأ فضاء طنجة بالنسبة لفاطمة بالامتداد على حساب فضاء فاس وتجربة الحب والجسد فيه. فهذا اللقاء الجديد لا تتشكل صورته في ذهن هذه الشخصية إلا بالمقارنة مع صورة الفضاء الأول مما يؤكد أن حوار الأفضية متواصل، وأن كل واحد منها لا تتحدد معالمه إلا بحضور ومشاكسة الأفضية المغايرة.

…كنت أكتب رسائل للداودي عن تجربتي في طنجة وعن اكتشافي لتلك الفئة من البنات والنساء، كنت أكتفي بالوصف ونقل مشاهد من جلساتنا. لم أكن قد كوّنْت رأيا عنهن لكنني كنت شبه مسحورة بذلك السلوك الذي يضفي وجودا حيا على عالم المرأة مقارنة مع العالم التقليدي الذي كنت أرفضه خلال فترة تمردي وأنا بالكلية (ص. 117)

فضاء طنجة بالنسبة لفاطمة هو نقيض الصورة الخاصة التي كونتها عن فضاء فاس الذي عاشت فيه تجربة قاسية ذابت فيها كل حلاوة عشقها للداودي : التجربة الأولى مع الأم التي غادرتها تاركة إياها فريسة الشكوك حول سلوكها : >كانت لدي شكوك حول طبيعة عملها، وكنت بدأت أضيق بكلامها الموارب غير الحقيقي معي …< (ص. 111)

والتجربة الثانية مع الداودي الذي تخلى عنها لمشروع تفريخ الدجاج.

فضاء طنجة أتاح لها إذن جميع إمكانات التحرر من جميع القيود والخيبات السابقة، بل إنها كانت تريد الانتقام من أمها التي خدعتها في حقيقة شخصيتها : >هل كانت تجربة أمي تسكنني وتجذبني، أم هي كبرياؤها استيقظت بأعماقي عندما قررت أن ألجأ إلى التحدي (ص.121).

أول خطوة رسمتها فاطمة في طريق التحدي هي الانتقام من الأم عن طريق انتزاع العيشوني منها، وهي تعترف للعيشوني فيما بعد قائلة >أقول لك بأنها (أي أمها) تحدثت عنك بإعجاب ولّد لدي ساعتئذ بذور الغيرة فقررت أن أنتزعك منها< ( ص.113). وتؤكد نفس الفكرة قائلة : >عندما زرتك ذلك المساء بطنجة منذ أكثر من سنة ونصف كنت أفعل ذلك بدافع من الفضول، لأنني كنت راغبة في أن أستكمل صورة أمي من خلال التعرف على عشيق شبابها< (ص. 122). وفضاء طنجة هنا يجسم ذلك الإطارالذي تستطيع معه فاطمة استحضار تجربة الأم وإعادة أدوارها مرة أخرى.

يمكننا أن نلاحظ منذ الآن أن الفضاء المركزي في هذه الرواية ليس هو فضاء فاس ولكنه فضاء طنجة الذي يشد إليه، بحكم تجارب الشخصيات الرئيسية، كل خيوط الأفضية الأخرى ويتبلور بالقياس إليها ليحتل مركز الصدارة فيها. وتتضاعف الأهمية الاعتبارية لهذا الفضاء في كونه صوِّر بملامح متعددة فلطنجة ثلاثة ملامح، ملمح من زاوية العيشوني وهو الذي ينظر إلى فضاء طنجة كشيء غير قابل للقبض، إنه بالفعل ذلك الضوء الهارب باستمرار، وتتم تقوية هذه الصورة بعلاقة توازي كنائية (علاقة المجاورة) عنصرها الثاني هو عالم الرسم واللوحات المستعصية هي بدورها على الإمساك. والملمح الثاني هو صورة طنجة في ذهن غيلانة… إنها مرتع الطفولة والشباب وموطن العواطف المتأججة والخيبة. والملمح الثالث هو عالم طنجة المفعم بالتحرر من القيود وتجربة الجنس وأخذ الثأر من الأم، وهو كما رأينا ملمح تكون بالتحام مع تجربة فاطمة.

تتأكد مركزية فضاء طنجة عندما نتتبع تجربة فاطمة وما يلتبس بها من حوار الأفضية، يبدو أولا أن سفر هذه الشخصية إلى باريز هو تعبير عن هروب كامل من جميع الأمكنة السابقة : فاس، طنجة بل والوطن بكامله : >كنت معلقة هاربة -كما قلت لك- من ذاكرتي متشبثة بالأمور التافهة، مدمنة على التجوال عبر شوارع باريز باحثة عن وسيلة تمكنني من البقاء بها وقطع الصلة مع الماضي وبلدي<(ص. 130).

غير أن هذه المحاولة في الهروب كانت تتعثر لأن فضاء باريز مفعم إلى حد التخمة بالحرية الفردية وهو ما جعل الأفضية السابقة تقتحم ذهن البطلة في غربتها لإفشال تحديها : >في باريز، رغم الاتساع والامتلاء وتوافر محافل الالتقاء بالناس، شعرت لأول مرة أنني أحمل حريتي على كتفي، وأن ثقلها رازح، خانق، لا أستطيع منه فكاكا، لا أحد يعينك على حريتك، وإذا لم تستطع حمل عبئها فلا مكان لك ضمن فضائك وهو شعور لم يخالجني، لا في فاس ولا في طنجة، فضاؤهما يظل مشوبا بالأنس والرحمة، فتتوهم أن الآخرين مستعدون لأن يحملوا عنك عبء حريتك< ( ص.124).

من الملاحظ هنا قبل مواصلة قراءة رحلة فاطمة إلى باريز أن فضاء فاس قد تغيرت معالمه واتخذ صورة إيجابية، على النقيض مما رأينا سابقا، وهذا ما قد يوحي بأن التحليل السابق لم يأخذ بعين الاعتبار مجموع آراء فاطمة حول فضاء فاس، غير أن المسألة راجعة بالأساس للتطور الحاصل في تجربة هذه الشخصية ثم للسياق الجديد الذي أخذت تنظر منه للأفضية التي لم تعد تربطها بها هنا في باريز سوى الذكريات. فقد كانت فاس في سياق طنجة بالنسبة لهذه الشخصية فضاء يحمل تجربة مرة مشبعة بالخيبة والتقاليد البالية، أما فاس في سياق باريز فهي رمز للحنين للوطن وللأنس والرحمة. هذا الجانب بدوره يؤكد لنا القيمة النسبية لكل فضاء، أولا بالنسبة للأفضية المتحاورة وثانيا بالنسبة لنوعية التجربة التي تمر بها كل شخصية في مرحلة من مراحل تطورها.

وإذا ما واصلنا الحديث عن الفضاءات الجديدة التي انتقلت إليها فاطمة سنجد أن انبهارها وسعادتها بباريز لم يتجاوز شهرا واحدا وبعده أحست أنها تحمل حريتها على كتفها… وأن جميع المآثر والمشاهد لم تعد تثير فضولها (ص. 128). حتى فضاء متحف رودان الذي جعلته مسرحا لإلقاء شباكها على الرجال لم يكن يهمها بقدر ما كانت منشغلة بخطط حبائلها (ص. 133). ومن اليسير أن نلاحظ بأن وصف فضاءات باريز الذي جاء في الرواية على لسان فاطمة نفسها كان يتميز في أغلب الحالات بالحدة وكأنها كانت تؤدي مهمة نقل الأجواء العنيفة التي مرت بها للعيشوني في رسالتها، وأبرز نموذج على هذا النقل الخاص للمشاهد ما قدمته عن مدام شنطال. التي ستصبح حماتها، وما قدمته عن ابنها : >وجهها المستطيل الصارم بتجاعيده المغمورة بطبقات من المراهم والمساحيق، نظرتها المقتحمة، أساورها وخلاخلها الفضية، ألوان ثيابها الفاقعة، كل ذلك يندمج ويتوحد بإطار البيت وأثاثه، بيت قديم مشيد بالحجر فوق تلة تحفها أشجار الصفصاف والمطاط، والزيزفون ونباتات متنوعة الألوان تعرشت بسطح البيت وأعمدته، والصالون الفسيح الذي استقبلتنا به مكتظ بالكراسي والطاولات القديمة، بالتماثيل والنحاسيات، بخزائن خشبية وطناجر عتيقة معلقة على الجدران وثلاث ساعات حائطية ذكرتني بساعات بيتنا في فاس ثم القطط والكلاب، ومدام شنطال وسط كل هذا تبدو هي البؤرة التي تتحرك من حولها الأشياء، لا يكاد لسانها يتوقف داخل فمها، جمل حاسمة ناضحة بالهزء والسخرية، وكلامها مرصع بإحالات على أيام العز في گواديلوب والمغرب، احترت كيف أسلم عليها وأحسست برجفة وأنا أمد إليها يدي…< (ص. 146).

يخالج فاطمة مع ذلك حنين إلى طفولتها بفاس، وخاصة عندما سمعت مع طلائع الفجر دقات الساعات الحائطية في بيت شانطال التي تشبه صوت الساعة البنية القديمة بمنزل أبيها بفاس. لكنها في هذه اللحظة بالذات داهمها إحساس خاص : >كنت أحسني على عتبة فاصلة أتطلع لاجتيازها حتى أنهي صِلاتي بذلك الماضي الذي قررت أن أنساه< (ص.148).

هل كانت فاطمة تريد فعلا أن تنسى كل شيء عن وطنها أم أنها تريد أن تنسى بالتحديد طفولتها وشبابها بمدينة فاس وعلاقتها بأمها؟ الواقع أن أحاديثها عن طنجة بالخصوص ملتبسة، فهي تعد العيشوني بأنها إذا رتبت أمورها بعد موت حماتها فإنها ستزوره، ولكنها في نفس الوقت تؤكد أنها بدأت تفقد صلاتها بالناس في الماضي : >الآخرون كل الآخرين، حتى أنت الذي ألهبت مني الجسد والنفس فترة قصيرة من الزمن، تتلاشى ملامحهم وكلماتهم من ذاكرة حسها مفرغة ملساء< (ص.151). غير أن وعدها بزيارة العيشوني يبقى دائما قائما، هذا فضلا عن أنها حين فكرت في الاتصال مع بلدها لم يخطر ببالها أن تكاتب أباها أو أمها، وإنما كاتبت العيشوني بالذات، فهذه كانت هي وسيلتها الوحيدة لتحدي فضائها الجديد الذي حولها إلى >روبو< متحرك استجابة لتصميم داخلي (ص. 151) ، أو أنها >جسد داخل مانيكان يديره ذكاء اصطناعي من وراء ستار <(ص151). عجزها عن تغيير هذه الحالة هو ما جعلها على الدوام مشدودة إلى فضاء طنجة وبذلك تكتمل محورية هذا الفضاء في حواره مع جميع الأفضية في الرواية.

———————————————-

هوامش

* رواية لمحمد برادة ، صدرت عن دار الفنك ط. 1 ، 1993

1- انظر، للتوسع في مفهوم الفضاء، كتابنا >بنية النص السردي<، المركزالثقافي العربي، ط. 2 ، 1993 ، ص. 63

2- انظر ما كتبه فولغانغ ايزر : >فعل القراءة <، ترجمة حميد الجميداني و الجيلالي الكدية، مكتبة المناهل، 1995، ص. 77 – 78

3- نشير هنا بالطبع إلى ذلك المبدأ البنيوي الذي أقامته لسانيات سوسير، وهو مبدأ شديد الأهمية كلما تعلق الأمر بتحليل محتوى البنى النصية و ذلك على مستوى التزامن.

4- هذه الإضافة أو الإضاءة تكون على مستوى الخيال الذي يولده الإبداع لتصحيح الواقع ، انظر : Wolfgang Iser : The fictive and the imaginary . Johns Hopkins University Press , 1993 pp 19-20