عبد الفتاح الحجمري
-بحث في التركيب السردي-*
سنهتم في هذه الدراسة بتحليل الوحدات السردية وتركيز الأسئلة على وحدات حكائية توفر نمطا معينا من التقطيع المشهدي، إنها وحدات البداية والنهاية، بداية السرد ونهايته.
يحكم تصورنا للبداية والنهاية، بما هما وحدتان سرديتان، اقتضاء نظري وتحليلي لا يقف فقط عند افتراض البداية >عالما ممكنا< للانتقال من خارج النص إلى داخله، أي الانتقال من عالم الواقع إلى عالم التخييل، والنهاية انتقال من داخل النص إلى خارجه، أو الانتقال من عالم التخييل إلى عالم الواقع، بل إنه اقتضاء يستدعي بحث اشتغالاتهما النصية باعتبار وظيفتهما الحكائية في توجيه مسارات الحدث نحو عدة احتمالات. على أن تصورنا للتركيب السردي يتجاوز تمثل الفضاء النصي اعتمادا على مختلف التنويعات التبوغرافية التي يقترحها الروائي، ويميل نحو فهم ذلك الفضاء النصي بما هو فضاء للتخييل يستجيب لتقطعات حكائية قادرة على إيجاد علاقات نسقية فيما بينها ضمانا لانسجام وتماسك التركيب السردي (1). لذلك يمكن القول، إن التقطيعات النصية تقترن باختيارات المؤلف في تحقيق التركيب السردي، في حين تقترن التقطيعات الحكائية باختيارات القارئ في إعادة تحقيق ذلك التركيب السردي. فإذا كانت التقطيعات النصية معطاة، فإن التقطيعات الحكائية مبنية أو مفترضة. وإذا كانت الأولى ثابتة، فإن الثانية متحولة ومتنوعة. للتقطيعات النصية علاقات خطية بتركيب السرد، وللتقطيعات الحكائية علاقات عبر خطية تسهم في تنويع مستويات التركيب السردي (2).
لا يختلف اثنان في أن بداية النص الروائي، من خلال جمله وفقراته الأولى، تنجز وظيفة مركزية على مستوي تحقق الرواية (3)، بالإمكان اعتبارها وظيفة توجيهية على نحو عام، ورغم ذلك يبقى التساؤل عن حدود البداية والنهاية مشروعا : أين تبتدئ البداية وأين تنتهي؟ وما هي المبررات التي تسمح بالقول إن للبداية الروائية نهاية، وهل من المفروض والمفترض أن تكون لها نهاية؟ أين تنتهي بداية النص إذن، وهل تقف عند حدود الجملة الأولى، الفقرة الأولى، أوالوحدة الأولى (4)؟ ألا يمكن القول إن البداية الروائية تقف عند حدود النهاية الروائية، وفي هذه الحالة تكون للبداية علاقة بالنهاية؟. يبدو من الممكن التعامل مع البداية الروائية كمستوى تحليلي عام يتعالق مع النهاية الروائية التي تصبح بدورها أكثر اتساعا بحيث يكون بمقدورها أن تشتمل الافتتاحية الروائية ذاتها مما يبدو معه عدم اعتبار النهاية (والبداية أيضا) بنية نصية، بل مفهوما إجرائيا أمرا ممكنا، يمكن بواسطته تعيين بعض مستويات اشتغال البداية الروائية عبر إحالتها على أشكال محددة من الوحدات السردية.
لكل بداية ميثاق للقراءة، لكل بداية أفق للانتظار(5)، هذه قاعدة مبدئية يسمح التسليم بها بتنويع زوايا الاختيارات التحليلية لسؤال البداية، مما يعني أنه >سؤال تقني<، فقد يحدث، في بعض الأحيان، أن تستعيد إمكانية حكائية ما، بعض العلامات الافتتاحية للسرد ضمن النهاية الروائية، مما يعني أن نهاية وبداية النص تقوم بينهما علاقات ضيقة من التجاور أو المماثلة، وينسحب هذا الأمر على الرواية، كما ينسحب على كل أجزاء التواصل(6). وقد يحدث ألا تستعيد إمكانية حكائية أخرى سياقات البداية، ورغم ذلك تحيل بعض موجهات النهاية الروائية على إيحاءات إحالية عادة ما نجد صدى لها في الوحدة السردية للبداية، هكذا تقدم البداية والنهاية كأجزاء مندمجة غير قابلة للفصل ودالة على انسجام مدرك شموليا من قبل القارئ وفي أي موضع من النص (7).
>الجنازة< لأحمد المديني : بداية مركبة، نهاية مركبة
يبدو اهتمام رواية >الجنازة< لأحمد المديني (2) بتركيبها السردي جليا على مستوى تقطيع الحكاية إلى وحدات تركِّب كل الفصول، وتبرز هذه الخصيصة منذ افتتاحية الرواية التي توازي بدايتها المتعددة إمكانية تنويع التمثلات الحكائية حسب سياقات حدثية مفترضة تلاحق تحولات سير الذوات في علاقتها بسير الأمكنة والفضاءات. لأجل ذلك تتخذ رواية >الجنازة< من بدايتها مصدرا لوصف صور نوعية خاصة بتلك الإمكانية، مما يفيد أننا أمام بداية روائية تفكر في ذاتها، بداية تدشن احتمالات للسرد مرتبطة بسياقات حدثية : >البدايات مدهشة<، >البدايات صاخبة<، >البدايات صاعقة<، >البدايات موحشة<. وإذا كانت هذه الصور المركبة للافتتاحية في رواية >الجنازة< تتعلق بوظيفة تصديرية ومصدرية للسرد والإخبار، فإنها تنبئ أيضا بطبيعة الأبعاد الحكائية المتنوعة التي يرصدها الوعي الرمزي للذوات وهي تحاول فهم معاناتها وزيف القيم المحيطة بها وبمواضعاتها الاجتماعية الساقطة في سطوة سلط وهمية تتلاحق في الزمان والمكان. إن بعض أصداء هذا الوعي الرمزي نجدها ماثلة في سيرة علي أو في سيرة سعيد، بشير، عبد الله، والمنصوري وابن عمه، السي موح صاحب المقهى، وعباس، والهيلالي. ورواية >الجنازة< إذ تعلن هذا التقاطع في سير شخصياتها، فإنها تجعل الوحدة السردية لافتتاحيتها الحكائية قائمة على بدايات تتوزع فضاء الكينونة وتستعيد يقينياتها >المدهشة< و>الصاخبة< و>الصاعقة< و>الموحشة<. بهذا المعنى، تفتح الحكاية في ” الجنازة ” وحدتها السردية للبداية على تشغيل مركب للنص يقوم على طرح إمكانية استبدال سؤال الرواية بسؤال الكتابة ضمن الفاصلة التي يقر فيها المؤلف إن كانت روايته قد تمت أو أن أوراقا جديدة اختلطت عليه : (الرواية ص. 97 – 98 ). هذا الإقرار بتمثل علاقة الرواية والكتابة يمكن من توسيع الوحدة السردية للبداية واستدعاء إحالة بديلة للتفكير في علاقة أخرى موازية تربط التخييل بالواقع.
هكذا، إذا كانت الوحدة السردية للبداية تتصل في رواية >الجنازة< بتأكيد إحالية الفعل الحكائي، وبالتالي، بناء وحدات سردية رابطة وموازية بين الفصول والأحداث، فإنها تستعير للتركيب السردي للرواية تهجينات كلامية تخص خطاب السارد وخطاب الشخصية الروائية، هكذا تصبح الوحدات السردية بدورها موضوعا حكائيا، إنها وحدات سردية تشخيصية تنقل المسار التوليدي للأحداث من منطقه الخطي إلى سياق حكائي يحاور تقطيعات شذرية تستبطن العوالم والأحلام ومفارقات الواقع مع حرصها على احتفاظ الأصوات السردية بمصدر تنويعات الكلام والمنظورات، لذلك تتداخل مثلا الوحدة السردية في >إني رأيته تقول الشاوية< (ص. 25 – 26)، أو بالمخالفات الثلاث الباقيات أو الكبار الأعظم (ص. 27).
بهذه الغاية، يتأكد أن الوحدة السردية للبداية في >الجنازة< هي أساسا وحدة مركبة تمنحها بنيتها التصديرية سياق تشخيص الأحداث عبر إسنادها إلى أفعال حكائية تمكن من تحقيق الانتقال من وحدة سردية أولى إلى وحدة سردية ثانية، أو إلى وحدات سردية موالية. في مقابل ذلك، تتسم الوحدة السردية للنهاية بكونها وحدة سردية مركبة، ليس فقط لأنها تستعيد عوالم محكي القيامة والبعث ضمن الفقرة الدالة على نهاية السرد، بل لكونها تشخص لحظات للحكاية ذات منحى استغراقي حامل لخطاب نفسي وفكري يضعف كل مسافة دلالية لهذه الوحدة السردية أو تلك. بهذا التصور، يبدو من الصعب تأطير الوحدة السردية للنهاية في رواية >الجنازة< بطبيعة الارتباطات النصية التي تعلن عنها الفقرة الأخيرة أو جملة الاختتام أو حتى سميائية نقطة النهاية. ونستطيع التأكيد، أن البرنامج السردي لرواية >الجنازة< يتخذ من التحققات المادية لانغلاق السرد تعيينا موازيا لانفتاح الحكاية على علاقات دلالية تحققها إدراكات القارئ : فماذا تعني النهاية بالنسبة للرواية؟ وما الذي يسمح لنا بالقول، إن الرواية التي قرأناها قد انتهت بالفعل؟.
يقترن تقديم وصف النهاية الروائية من خلال الإحاطة بموضوع النهاية ذاته، أي منحه مكانا، شكلا، أبعادا وعلامات خاصة. تراهن هذه العملية على أن النهاية الروائية توجد بالفعل، وأنها مقترنة ظاهريا بمادة نصية معينة. ثمة إذن، مادة للنهاية تتحقق منذ الصفحةالأولى حين نقلبها بعد الانتهاء من قراءتها، وهذه عملية تتواصل على امتداد الكتاب، وينبهنا الحجم الذي يتقلص شيئا فشيئا، في كل مرة، بالنهاية الأكثر أوالأقل قربا للنص (9)، يظهر هذا التصور النظري العام أحد الوسائط المبدئية الذي يمكن أن ننظر من خلاله إلى >الجنازة< وذلك بعدم حصره في وحدة سردية أخيرة أو في جملة الاختتام، وما يدعم هذا الاقتراح اعتماد الرواية في تشخيص الحكاية على تركيب سردي يدمج مجمل تقطيعاته ضمن صيغ خطابية تجعل بنية الحكاية بنية منفتحة على تعرية صور للواقع بشكل تعبيري ممتلك لقصدية خاصة في توصيف معيارية محددة لسؤال الكتابة. ويبدو هذا التوصيف كافيا للتدليل على أن الوحدة السردية للنهاية تتخذ في رواية >الجنازة< صفة وحدة إسنادية تجعل بنيتهاالسردية والحكائية غير منفصلة عن البنية السردية والحكائية للرواية ككل بجنازاتها الست، ورغم أن هذه الوحدة الإسنادية تعلن وظيفة الانفصال عن التركيب السردي السابق بارتكازها على تنويع فضائي جلي، فإنها، وفي الوقت ذاته، تعلن عن وظيفة الاشتمال التي تستدرجها قصدية انفتاح الحكاية بموازاة قصدية انغلاق السرد.
>لعبة النسيان< لمحمد برادة : بداية مقيدة، نهاية عائدة.
تعتني رواية >لعبة النسيان< لمحمد برادة (10) بتشخيص الوحدة السردية للبداية بتبئيريها على تنويعات الصوت السردي ودوره في ترهين مجالاته التلفظية. يضاف إلى ذلك، أنها وحدة تقترح توسيع دائرة الإخبار الحكائي باستعادتها للحظات متقدمة تتخذ منها الرواية منظورا ممكنا للسرد وتقطيع المشاهد. ولذلك، تتحدث الرواية عن >مشروع بداية أول<، و>مشروع بداية ثان<، وأخيرا >ثم صارت البداية هكذا<، إن تشخيص الوحدة السردية للبداية على هذا النحو، يتضمن الانتقال من تعميم الموضوع المبأر إلى تخصيصه : الهادي، الأم، وصف الزقاق، المكان، وهو انتقال لا يسلم بوجود >بداية منطقية< واحدة للحكاية، لذلك تصبح الوحدة السردية للبداية في الرواية، وحدة منفتحة على عدة مسارات محتملة في السرد والتشخيص.
صحيح أن تحديد الوضع العام للبداية الروائية يتخصص بمنحيين أساسيين : يقترن المنحى الأول بمعنى ضيق يمثله المطلع أو الكلمات الأولى للنص، أي جملته الأولى، لأنه لا يوجد هناك معنى تام إلا داخل الجملة، ويقترن المنحى الثاني بمعنى أوسع يخص الافتتاحية، أي المدخل إلى المادة الروائية وقد يشغل فقرة أو صفحة أو حتى فصلا بكامله (11)، والظاهر أن رواية >لعبة النسيان< تدرج مطلعها الحكائي ضمن افتتاحية سردية تروم رصد حالات متداخلة لذات ساردة تعي أكثر من غيرها حالات التوتر والتردد في علاقتها بالعالم المحيط بها وبأجوائه المصاحبة لموت الأم والإحساس بضغط لحظة الفقدان. في >مشروع بداية أول< عبر ضمير للمتكلم يلتقط أجواء الدفن، أو في >مشروع بداية ثان<، وعبر ضمير للجماعة، يؤكد آثار رحيل الأم على النفس والكيان، إن حالات التردد والتوتر تجعل هذه الوحدة الأولى لافتتاحية السرد متصلة بعنوانها المركزي في البدء كانت الأم]، كما تجعلها متصلة بالمنحى التصديري لمشروع البداية الثانية حسب إعلان دال وحاسم في اختيار المسار الحكائي الموالي بما أن الحديث عن الأم أضحى صعبا بعد الرحيل : عن أية >بداية< تتحدث الرواية إذن؟ ثم أين توجد البداية الحقيقية للسرد في رواية >لعبة النسيان<؟
تكون الوحدة السردية للبداية في رواية >لعبة النسيان< مقيدة لأنها تتخذ من >سؤال< البداية موضوعا لاشتغال حكائي يجعل الافتتاحية ضمن في البداية كانت الأم] قائمة على اختصار اللحظة الحدثية وتصريفها عبر تمثل موت الأم والإحساس العميق بافتقادها، وأيضا عبر استعادة زمن طفولي يظل مقيدا، بدوره، باستحضارات متداخلة من الأفكار والمشاعر والكلمات التي تلهج بصورة الأم وما يتولد عنها من سياقات >الإضاءة< و>التعتيم<، كما تكون الوحدة السردية للنهاية عائدة لكونها تجلي، مرة أخرى، صورة الأم متسائلة من يذكر منكم أمي؟]، فنعلم عبر >التعتيم< أنه قد مرت سنتان على وفاة الأم، وأن السارد استقرت لديه عادة استحضارها من خلال التذكر، ومن خلال مساءلة الأهل والأقارب : افتتاحية سردية مقيدة بصورة الأم وتذكر زمن طفولي، واختتام سردي يستعيد صورة الأم ويبحث للذات الساردة عن أفق آخر لتجاوز مختلف الانكسارات والتوترات، وإذا كانت صورة الأم تناظرها صورة الموت، فإن الوحدة السردية للبداية المقيدة أو الوحدة السردية للنهاية العائدة، تنفتحان على فضاءات حكائية تحاورلحظات وعلاقات، أزمنة وأمكنة، رغائب ومشاعر تنسجها حالة/حالات اجتماعية تحاول الكينونة أن تعي، من خلالها، لعبة المصير وقدر الافتقاد.
تستثمر البداية في رواية >لعبة النسيان< تشخيصا أدبيا لمراتب لغوية متداخلة تحيل على توضيع سردي خاص في الإحالة على قصدية الكلام/المتكلم الروائي، نشير هنا إلى إثبات مستويات الحوار بين شخصيات الرواية وأهميته في توجيه الوعي >باللغةالذاتية< الدالة على حضور نوعي للمتكلم ضمن علاقات اجتماعية مرهونة برغبة في تحقيق التواصل والحفاظ عليه. هذا البعد الذاتي للغة يجعل الوحدة السردية للبداية ذات طبيعة تلفظية قائمة على أفعال لغوية تشخص الكلام اليومي بكل تحييناته واستعمالاته وتنوع إمكانات سياقاته الاجتماعية والنفسية. في مقابل ذلك، تحقق الوحدة السردية للنهاية تشخيصا أدبيا للغة يتواشج مع ما تدعوه الرواية بـ>لغة القلب< (ص.149)، أو لغة للبوح يصبح خطاب >التعتيم< أحد ممكناتها الحكائية المنوعة لسجل >اللغات<، لذلك، فالوحدة السردية للبداية والنهاية في رواية >لعبة النسيان< تسهم في تشييد متخيل التركيب السردي حين تمنح المتكلم هويته عبر الوعي بقصدية اللغة وتذويتها >للأصوات< أو توضيعها لها فرديا وجمعيا…
>دليل العنفوان< لعبد القادر الشاوي : البداية والنهاية بين الانفصال والاتصال
يتيح لنا نص >دليل العنفوان< لعبد القادر الشاوي (12) تبين نمط آخر من أنماط توظيف واشتغال البداية والنهاية الروائيتين، خاصة إذا علمنا أن الحكاية في >الدليل< تقدم للقارئ بواسطة نصين يناقض أحدهما منظورات الآخر، هذا الانتظام هو الذي جعل التركيب السردي مسندا إلى قسمين حكائيين : القسم الأول : الخلطاء، القسم الثاني : اللغو والتأثيم. بهذا المعنى، تستحضر البداية والنهاية في >دليل العنفوان< جملة من الأبعاد الحكائية والخطابية لانفتاح التركيب السردي وانغلاقه وما ينتج عنهما من تناسب وتلازم في تغيير الموضوع الحكائي أو إدخال عوامل وأفعال حكائية جديدة.
البداية الروائية في نص >دليل العنفوان< بدايتان، والنهاية نهايتان، تناقض إحداهما الأخرى في الآن نفسه، حسب قاعدة عامة تسندها القصدية الموالية :
البداية النهاية
القسم الأول ( همزة )
البداية النهاية
القسم الثاني ( همزة مضادة )
تركز هذه القصدية، كما هو واضح، على تحيين الصلات الحكائية والدلالية بين الوحدة السردية للبداية والوحدة السردية للنهاية بما يناسب اختيار الموضوع أو الشخصية ودورهما في تعليل خصوصية التركيب السردي القائم على وصل البداية بالنهاية والبداية بالبداية والنهاية بالنهاية. وبالعودة إلى تحليل الوحدةالسردية للبداية والنهاية في نص >دليل العنفوان< سنلحظ أنها وحدة تنبني على تقطيع حدثي يستعيد تشخيصا لأخبار ذات ساردة في أزمنة وأمكنة متنوعة، هذا المنحى التشخيصي للأحداث يكسب الوحدة السردية للبداية في القسم الأول >وظيفة تصريحية< لا تعمد فقط إلى تخصيص الموضوع الإخباري ولكنها تلحقه أيضا بأفعال حكائية. إما أنها تحيل على المكان أو الزمن أو الشخصية (من خلال ضمير المتكلم )، بينما يكسب الوحدة السردية للبداية في القسم الثاني >وظيفة تعليقية< تجعل من ذلك المنحى التشخيصي إمكانية حكائية تظل من خلالها البداية منفتحة على عوالم سردية لنفس الافتتاحية : الشخصية/الحافز، وتمكن هذه الوظيفة التعليقية من ترهين حوارية نصية يثبت من خلالها وعي الذات الساردة حدود انفصال واتصال الأخبار الدالة على انتظام منحاها التشخيصي العام. فإذا كانت الوظيفة التصريحية للوحدة السردية للبداية في القسم الأول تشكل منظوراتها الإخبارية انطلاقا من تلازم إجراء >الاستعادة< -حكي أحداث ماضية حول الإقامة في مسكن متواضع يطل على الجوطية، والاهتمام بالمعينات الزمنية الدالة على ذلك – بإجراء الوصف- وصف المكان خاصة الجوطية، فإن الوظيفة التعليقية الخاصة بالوحدة السردية للبداية في القسم الثاني تشكل أيضا منظوراتها الإخبارية انطلاقا من إجراء التعليق المحدد للإلحاقات والإضافات الحدثية المؤكدة لمناحي الاتصال الحكائي عبر تنويع محافل الصوت السردي وتبئيرها ضمن فاصلة انتقالية يعلن عنها >هامش تاريخه 26 – 6 – 1988< : حضور المؤلف الضمني، المخاطب القارئ، والسارد. يضاف إلى ذلك إجراء آخر يخص التفسير، سواء تعلق الأمر بإثبات أو نفي الإخبارالحدثي، أو تعلق بمنح فعل القول منظورا إيهاميا لتأكيد اتصال الإخبار والسخرية من شرط انتقالاته، وهي انتقالات ترتبط بوعي الذات الساردة المضاعف وقدرته على إعادة إخراج التحولات التي تملأ فضاء الكينونة عبر >بداية حابلة< أو >بداية أخرى< تعبر بواسطتها إلى واقع آخر ومواضعات أخرى.
بهذه الإجراءات يتضح أن هناك، وبكل تأكيد، اشتغالا مهما يتم حول الجملة الأولى والأخيرة للنص، حول الجمل الافتتاحية والاختتامية لكل قسم أو فصل، ليس فقط لأنها جمل بإمكانها أن تحظى بتقدير خاص، ولكن أيضا، لكونها عادة ما تقيم آثارا للانسجام البنيوي والتركيبي (13). إن خطاب البداية والنهاية في نص >دليل العنفوان< خطاب مضاعف يرصد وقائع كينونة متحولة في الزمان والمكان، مثلما يرصد هوية ذاتية مشدودة دوما لتبدلات التذكر والنسيان، إن الصورة العامة لإمكانية الانفصال والاتصال تجد صداها ضمن الوحدة السردية للنهاية حين تعكس >الهمزة< في >الهمزة المضادة< أي حين تصبح النهاية الروائية صورة لانحسار الحلم وانتفاء الزمن وانكسار اللغة، ولذلك تعبر الوحدة السردية للنهاية في >دليل العنفوان< عن تشظي وعي الذات الساردة وتفكك الهوية والمصير في عالم مليئ بالزيف وابتذال القيم.
>بحر الظلمات< لمحمد الدغمومي : انغلاق الخطاب، انفتاح الحكاية
سنخصص هذه الفقرة من دراستنا لتحليل الوحدة السردية للنهاية في رواية بحر الظلمات (14) واستكمال بعض المعطيات الإضافية المعينة على فهم مجمل آفاق الانتظار التي تعلنها نهاية الرواية، وهي آفاق تنبني بدورها على اختيار وظائف محددة للنهاية نحصرها في رواية >بحرالظلمات< ضمن الفقرتين الأخيرتين لما تتميزان به من تكثيف في تركيب علاماتها الدالة على انغلاق الخطاب وانفتاح الحكاية.
يبدو من الممكن، في هذا السياق، التساؤل عن طبيعة المواضيع التي (قد) تستدعيها النهاية الروائية في ارتباط مع التسلسل المنطقي للأحداث السالفة التي تقود الروائي إلى تضمين هذه النهاية أو تلك، فيكون لمنطق الأحداث نهاية متوقعة، مثلما يكون لها بداية شبه جاهزة. لنتذكر هنا البداية في بعض الروايات البوليسية حيث يتم تقديم فعل القتل قبل تبئير المسار الحدثي على مختلف الملابسات المحيطة بالجريمة، لذلك يصبح التفكير في اقتراح (أو وضع) نمذجة للنهاية الروائية ممكنا، بيد أنه اقتراح يفترض وجود أنواع ثابتة للروائي romanesque، هذا الاستقرار الأجناسي الذي قد نجده بكل تأكيد متحققا في بعض الأجناس الأدبية كالمسرح الكلاسيكي والخرافات والعجائبي، لا نجده كذلك في الرواية، باستثناء أصناف محددة منها يكون محفلها الأجناسي ذا بنية مقصدية مضمرة سلفا مثل : الرواية البوليسية ورواية المغامرات ورواية الأطروحة(15).
يمثل هذا التأطير فهما أوليا مناسبا للنظر إلى الوظيفة الحكائية للنهاية في رواية >بحرالظلمات<، وبقدر ما تبدو هذه الوظيفة ذات وحدة دلالية جزئية تركز في تركيب موضوعها الإخباري على مصير الذات الساردة ضمن الأجواء المحيطة بها : البحر والمرأة والجثة والمغامرة، فإنها ذات وحدة دلالية كلية تستعيد من خلالها الذات الساردة وعيها بكينونتها عبر إدراك المفارقة والتردد، لذلك يمتلك هذا الانتظام الدلالي صيغتين سرديتين : تختار أولاهما ضمير الغائب وثانيتهما ضمير المتكلم، على أن تشخيص الوعي بالكينونة لا يتم إلا بالانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وبالتالي الانتقال من الدلالة الجزئية إلى الدلالة الكلية، علما أن الوحدة الدلالية لا تستمد شرط اشتغالها من كونها نصا بينما النص الروائي هو توسيع لتلك الوحدة الدلالية على نحو عام (16).
يمكن القول إن النهاية في رواية >بحرالظلمات< نهايتان : نهاية بضمير الغائب ترصد الحالة، ونهاية بضمير المتكلم ترصد الفعل : >صار ينزل الطريق والخيط الأسود يغير لونه قليلا قليلا حتى صار خيطا أبيض، وأبصر البحر عاريا والرمل مبللا وامرأة على بعد انحنت على جثة رجل رماه الموج. البحر قد انسحب بعيدا وترك باب المغارة مفتوحا. ورأيت البحر عاريا مبللا وتذكرت المرأة وعرفت صاحب الجثة وأعطيت ظهري للمغارة وصرت وحيدا ولأول مرة كما أردت.< (ص. 143 – 144).
هكذا يتضح أن الشخصية الروائية (سليمان الفاشي) لا تعي هويتها إلا من خلال إعادة اكتشاف علاقة >الأنا< و>مضاعفه<، ولذلك ليست صورة ضمير الغائب إلا >لعبة إيهامية< لاستبدالها بمحفل تلفظي آخر يخص ضمير المتكلم، ولهذا السبب تسعى الوحدة السردية للنهاية نحو ترهين سؤال الوعي بالذات عبر فقرتين منفصلتين و/أو متصلتين تشخصان انشطار الإحساس والرغبة والإدراك.
إن رواية >بحر الظلمات< حين تقترح على القارئ نهايتين متلازمتين، فهي تقترح عليه صيغة للانتقال من انغلاق الخطاب إلى انفتاح الحكاية، إنها صيغة سرد مجمل دال على أن النهايات لا تعني أبدا انتهاء الحكايات.
——————————————-
الهوامش
* يمثل هذا التحليل مبحثا من دراسة قيد الإنجاز خصصنا تصورها النظري لمساءلة التركيب السردي وبحث اشتغال وحداته السردية، فله بما سبق وبما لحق علاقة.
1- يمكن الاستفادة في هذا السياق من الملاحظة المختصرة التي يوردها هنري ميتران بخصوص فضاء النص، راجع بهذا الشأن : H . Mittérand ; Le Discours du roman , P U F , 1980 . p . 192
2- استفدنا عند توظيفنا للعلاقات الخطية وعبر الخطية من تصور جان ريكاردو ، انظر:Jean Ricardou : Nouveaux problèmes du roman , seuil , 1978 , p . 245
3- J . P . Goldenstein : Entrées en littérature , Hachette , 1990 , p. 86
4- Gérard Denis- Farcy : Lexique de la critique , P U F , 1991 , p. 51
5- J . P . Goldenstein: ibidem , p . 88
6- Charles Grivel : Production de l’intérêt romanesque , un état du texte , 1870- 1880) , un essai de construction et sa théorie , Mouton , 1973 , p. 198
7- نفسه، نفس الصفحة
8- أحمد المديني : >الجنازة<، رواية، دار قرطبة للطباعة والنشر، 1987
9- أما القارئ فيمكنه أن يحسب عدد الصفحات التي تفصله عن الانتهاء من القراءة، ويمكنه أيضا أن يقفز على بعض الفقرات ويصل مباشرة إلى النهاية ، راجع : Guy Larroux : Le mot de la fin , la clôture romanesque en question , Nathan , 1995 , p. 17
10- محمد برادة : >لعبة النسيان<، رواية ، دار الأمان، 1987
11- Guy Larroux : ibidem, p. 55
12- عبد القادر الشاوي : >دليل العنفوان<، الفنك، 1989
13- Guy Larroux : ibidem , p. 47
14- محمد الدغمومي : >بحر الظلمات<، رواية، مطبعة النجاح، 1993
15- Guy Larroux : ibidem , p. 78
16- Umberto Eco : Lector in Fabula , éd Grasset , 1985 , p. 32
بالإضافة إلى الإحالات السابقة استفدنا أيضا من الدراسات التالية في تعميق بعض المنطلقات :
– Gérard Genette : Figures III , Seuil , 1972
– Greimas , A . J et Courtès J : Sémiotique , Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette , Tome I, 1979 , Tome II, 1986
– Iouri Lotman : La structure du texte artistique , Gallimard, 1973
-Jaap Lintvelt, Essai de typologie narrative, le point de vue, théorie et analyse, José Coti, 1981
-Michel Arrivé : La sémiotique littéraire , in Sémiotique , l’école de Paris , Hachette , 1982
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6825