«روائية السيرة الذاتية» في الأدب المغربي الحديث

Bengrad
2021-06-04T11:59:43+00:00
العدد الثامن
13 أغسطس 20202٬362 مشاهدة

محمد أقضاض

1- إشكالية

اعتبرت بعض الكتابات النقدية التي عالجت الرواية المغربية أن هذه الأخيرة سير ذاتية، واعتبرت كتابات أخرى السيرة الذاتية رواية (أو شكلا من أشكال الرواية). فإدريس الناقوري يجعل >سبعة أبواب< لعبد الكريم غلاب سيرة ذاتية >كرسها صاحبها لتوثيق تجربته الخاصة وراء لقضبان<(1). كذلك اعتبر >جيل الظمأ< لمحمد عزيز الحبابي، >فمهما كانت محاولة إيهام القارئ بضمير الغائب فقد بقيت >جيل الظمأ< أسيرة شكل السيرة الذاتية<(2). أما إبراهيم الخطيب فلم يعتبر >المرأة والوردة< لمحمد زفزاف >سيرة ذاتية … لكن زفزاف مع ذلك يكتب عن نفسه، وبالتالي عن واقع محدد تحت شروط معطاة<(3). هذا الاستدراك في الحقيقة يؤكد الطابع السيري ل>المرأة والوردة< بينما يجعل الطايع الحداوي >في الطفولة< لعبد المجيد بن جلون >أول رواية مغربية، ولو بالمعنى النسبي، ظهرت في شكل سيرة ذاتية<(4). أما الأستاذ أحمد اليبوري فقد اعتبر >الزاوية< للتهامي الوزاني هي خطاب شبه روائي في شكله السيرذاتي (5). وحين دراسته لـ >لعبة النسيان< لمحمد برادة اعتبرها مرة >سيرة ذاتية تنغلق على المحيط الضيق لكاتبها<، ولما أعاد قراءتها بدا له >أنها لا تختلف عن جل الروايات المغربية<، فإذا >كانت >لعبة النسيان< تحيل بشكل واضح وأحيانا مباشر على وقائع في حياة الكاتب عاشها وتأثر بها … فإن طريقة استثمار هذه المكونات السيرذاتية داخل النص هو الذي نقلها من مستوى التاريخ إلى مستوى الإبداع الروائي<(6).

يجد القارئ نفسه، في هذا العرض، أمام تصورين متكاملين من حيث التعامل مع السيرة الذاتية في الرواية المغربية. تصور اعتبر روايات سيرا ذاتية، وآخر جعل سيرا ذاتية روايات. بل هناك ناقد واحد اعتبر رواية سيرة ذاتية ثم تراجع واعتبرها إبداعا روائيا لأن صاحبها امتلك طريقة استثمر بها حياته داخل النص. فلماذا هذا التداخل، وأحيانا الارتباك في تجنيس السيرة الذاتية؟ سنتلمس الجواب على هذا التساؤل في الفقرات التالية.

2 – تعريف السيرة الذاتية

لقد حاول كل من تعرض للسيرة الذاتية بالدراسة أو تناول علاقتها بالرواية، أن يقترح تعريفا لها، وفي تحديدنا نستعرض ثلاثة تعريفات مقتضبة ومتكاملة، وربما وافية. يرى جان ستاروبنسكي أن السيرة الذاتية هي >سيرة لإنسان يسطرها بنفسه<(7). ويحددها فيليب لوجون على أنها >حكي استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص<(8). أما جيرار جنيت فيتناول تعريف السيرة الذاتية حين حديثه عن نوعي السرد التطابقي (homodiégétique) (حضور السارد كشخصية في القصة التي يحكيها)، فيرى أن النوع الأول >يكون فيه السارد هو بطل حكايته< أما الثاني فيكون فيه السارد هامشيا لا يلعب سوى دور ثانوي كملاحظ أو كشاهد. احتفظ جنيت للنوع الأول بمصطلح الأوتوبيوغرافي (9).

إن السيرة الذاتية من خلال تلك التعريفات، وعبرالاستنتاجات العامة، وربما السطحية، من قراءة مجموعة من السير الذاتية، هي الكتابة الاسترجاعية السردية التي ينجزها كاتب عن حياته الشخصية لغرض ما. وانطلاقا من ذلك تعتمد السيرة الذاتية على مكونات نوجزها فيما يلي : 1 – السارد والشخصية يطابقان المؤلف، 2 – وأن المؤلف ينقل في حاضره تجربته الحياتية في ماضيه، 3 – أن هذا النقل يتم عبر اللغة المكتوبة وهو نقل سردي طبعا، 4 – يتم هذا النقل لهدف ما، 5 – يمكن كل ذلك من تجنيس طبيعة السيرة الذاتية. عبر ذلك نستطيع مقاربة ما اصطلح عليه بالسيرة الذاتية في الرواية المغربية محللين تلك المكونات بعد اختزالها في : 1 – إشكالية التطابق، 2 – الماضي والواقعي والتخيـــــل،

3 – الكتابة والتخطيب، 4 – القصدية، 5 – التجنيس.

3- روائية السيرة الذاتية

1- إشكالية التطابق : يفترض الذين عرفوا السيرة الذاتية، وربما الذين مارسوا كتابتها أيضا، أن هذه السيرة تقوم على التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، باعتبار أن الذي يكتب هو نفسه الشخصية الرئيسية. وأول شرط لتحقيق هذا التطابق هو السرد بضمير المتكلم الذي يحيل على الكاتب والشخصية. فسيرة عبد المجيد بن جلون >في الطفولة<(10) تستعمل هذا الضمير الذي ينساب من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة فيها، وكذلك >الخبز الحافي< (11) لمحمد شكري.

نستطيع اعتبار هاتين السيرتين نموذجين في توظيف هذا الضمير وجعله مهيمنا بأمانة وحده على طول صفحاتهما، رغم كونهما تتناولان الطفولة إلى حدود بداية الشباب. ومن المفترض أن يكون هذا الضمير >أنا< هو نفسه المؤلف والسارد والشخصية في نفس الوقت. ولكن هل يمكن لضمير المتكلم أن يكون عنوان التطابق بين الكائنات الثلاثة؟. في الحقيقة أن علاقة هذا الضمير بالكائنات الثلاثة داخل النص السيري هي علاقة مبهمة ومعقدة رغم ما توهم به من وضوح وبساطة. فإلى أي الكائنات الثلاثة يشير ضمير المتكلم في هاتين السيرتين؟. أيشير إلى المؤلف خارج النص أم إلى الشخصية كجزء من حياة المؤلف ومن مشروعه السردي أم إلى المؤلف كسارد وشخصية؟. هل يشير إلى ذات التلفظ في لحظة تخطيب الملفوظ أم يشير إلى ذات الملفوظ؟ :

أ – إن ضمير المتكلم لا يحيل على كائن خارج النص، سواء كان هو المؤلف أو الشخصية التي كانها المؤلف >فليست للضمائر الشخصية – يؤكد فيليب لوجون- إحالة إلا داخل الخطاب في فعل التلفظ نفسه<(12)، خاصة وأن >ضمير المتكلم يحيل دائما على الشخص الذي يتكلم والذي ندركه من فعل التلفظ نفسه< (13) حسب رأي بنفنيست. فلا يحيل لا على المؤلف ولا على الشخصية الرئيسية داخل النص، إذ يتعلق هذا الضمير بالماضي أحيانا كثيرة، وبالحاضر البعيد أو القريب من الماضي. وفي نفس الوقت تجعل مساهمة الشخصية في الحوارات ذلك الضمير مزدوجا، ساردا وشخصية. إضافة إلى وجود تعليقات، أحيانا، في الهوامش، وأحيانا في نسيج النص، تشير إلى المؤلف مباشرة (>الخبز الحافي<ص9 مثلا)، وأن مشاركة الشخصية /الطفل في الحوار غالبا ما تكون بلغة ليست هي لغة السارد كما هو الشأن في >الخبز الحافي< بالريفية مثلا (ص. 105). وأحيانا يتجاوز السارد ضمير المتكلم المفرد نحو ضمير الجمع المتكلم كما يتكشف في >في الطفولة<. إذن إلى أي حد يمكن أن يحيل ضمير السارد على المفرد أم الجماعة؟ في الحقيقة لا يحيل على أي منهما، وإنما يحيل على ذاته كضمير لغوي داخل الجمل في النص وليس خارجها.

وما يؤكد ذلك أكثر هو وجود سيرة ذاتية بضمير الغائب أو بتداخل الضمائر. فـأوراق إدريس في >أوراق< لعبد الله العروي -إذا افترضنا أنها سيرة- يتم سردها بضمير الغائب غالبا وهي من المفروض أن تسرد بضمير المتكلم لأنها أقرب إلى المذكرات… وفي >الضريح< لعبد الغني أبو العزم أيضا يتعايش ضمير الغائب وضمير المتكلم وكلاهما يدل على نفس الشخصية : الطفل الذي كانه المؤلف والرجل الذي أصبحه الطفل… ومن المفروض أن يشير ضمير الغائب وضمير المتكلم إلى شخصية واحدة ولكن الكاتب شطرها، ثم يسود ضمير المتكلم الذي يعود إلى لحظة التلفظ كما هو واضح، يسرد عن الشخصية الرئيسية ويسرد بضمير الغائب حين يتتبع شخوصا آخرين.

هكذا يجد القارئ نفسه أمام سير ذاتية تقوم على التنويع في ضمير السرد، وفي نفس الوقت يتم الفصل داخل هذا الضمير، خاصة المتكلم، فتنتقل الشخصية بين الضمائر في النص كأنها تتخلى فجأة عن دور السارد (14)، فيقع المتلقي في دائرة الارتباك والإبهام والإيهام، إلى أن يدرك أنه أمام ضمائر لا تحيل على كائنات واقعية بل هي ضمائر نحوية وكلمات يصرفها الكاتب حسب برنامجه. إنه انتهاك للتطابق وتدمير له. لذلك فإن حكم جرمان بري(Germaine Brée) صحيح حين يرى >أن الحكاية بضمير المتكلم هي ثمرة اختيار جمالي واع وليس علامة على بوح مباشر، على اعتراف، على أوتوبيوغرافيا<(15). فليست لعبة الضمائر أساس التطابق بين السارد والشخصية وبينهما وبين المؤلف. نضطر إذن للخروج من غفوة الإيهام التي أوقعتنا فيها المعايير الموروثة عن النقد السردي التاريخي والسيكولوجي والسوسيولوجي، نخرج منها كي نبدأ الخطو نحو اعتبار السيرة الذاتية رواية.

ب – الماضي والواقعي والتخيل : تعمل السيرة الذاتية على أن تنقل إلى القراء واقعا حدث في نص سابق في حياة الكاتب، يتم استرجاع هذا الواقع من خلال الذاكرة التي اختزنته تلقائيا وحين استرجاعه في الحاضر يقوم التخيل بتنسيق جزئياته المبعثرة. ومن البديهي أن يكون الواقع حين حدث أعقد مما اختزنته الذاكرة. والذاكرة في حينه لا بد أن تختار وتنتقي من ذلك الواقع ما يثير مدارك الشخص/الطفل حسب ميوله ومستوي وعيه، ولذلك فإن السيرة الذاتية لا يمكن لها أن تنقل الواقع في تاريخه بكل ملابساته وتشابكاته وتعقيده. وهي حين تقوم على الاسترجاع عبر التذكر تعتمد على تصور سابق عن الواقع ولا تنقل الواقع ، تصور ساذج سذاجة الطفل نفسه؛ يتكون من بعض الأحداث والوقائع التي كانت تغطيها طبقة سميكة من ردود الفعل الوجدانية وتربط بينها علاقات غامضة مبهمة أحيانا.

أما حين يقوم الكاتب باسترجاعها خلال زمن الكتابة، فلا يعمد إلى التذكر أو إلى سحب وثائق من أرشيف، وإنما يلجأ بالضرورة إلى التخيل، وأساسا إلى >التخيل الاسترجاعي< كعملية ذهنية >تتولد عنها الصور، وقد تنشأ هذه الصور الذهنية عن عملية استرجاع الإحساسات في حالة غيبة الأشياء التي استثارت هذه الإحساسات<(16). وعملية التخيل هذه ليست استرجاعية أمينة مطلقة. إنها عملية انتقائية أيضا فضلا عن كونها تنسيقية >فنحن نتخيل ما نشاء وحين نشاء، وينشأ عن ذلك فرق آخر بين الشيء الواقعي والشيء المتخيل<(17)، خاصة وأن التخيل الاسترجاعي مشروط بوعي معين. فإذا تأملنا بعض صفحات >الخبز الحافي< – ولتكن الصفحة 13 و الصفحة 14 – سنجد أن التخيل يلعب دورا مهما فهو يسترجع أحداثا غير مرتبة زمنيا، استرجعها الكاتب لأنها استتبعت الشعور بالخوف.

وذلك ما جعل أبو العزم، وهو يتخيل استرجاعيا طفولته، كما في الصفحة 6 من الضريح، ينفي إمكانية تطابق حسابات الطفل والرجل الذي أصبحه. إن ذلك التطابق ليس ممكنا، بل هو مستحيل بالذات لما داخل الرجل/الكاتب من حيثيات الوعي الفكري والنفسي ولما تفرضه اللحظة الزمنية للكتابة المختلفة عن لحظة المسترجع. إن الانسان حين يصف واقعا محايثا له يصفه بما يملكه من حقائق محدودة. وبها يكون عنه صورة خاصة عبر التخيل، وأن تلك الحقائق تتقلص كلما ابتعد عن ذلك الواقع زمنيا ونفسيا. لذلك يصبح >الكائن البشري محكوما بمعرفة ذلك الواقع معرفة تجزيئية<(18)، فبتدخل التخيل في تنسيق تلك الحقائق، يضيف إليها من وعيه الحالي ومما تراكم لديه من معرفة مجردة، لذلك نلاحظ اختلاف تصور كل من تناول سيرته الشخصية، رغم تقارب موضوعاتها وحيثيات زمنها. فالفترة التي تناولتها أغلبية كتاب السيرة المغربية هي فترة واحدة ولكن تناولها يختلف من كاتب إلى آخر ومن وقت لآخر أيضا لأن كلا منهم تناولها بطريقته الخاصة باعتبار >رؤيتهم لواقع تلك الفترة منبثقة من أعماق فردانية التفكير<(19)، فما يمكن أن يكون واقعا عند أحدهم يمكن أن يبدو للآخر معاكسا، ورغم أن >التخيل هو بنية من التفكير ليست مضادة لبنية الواقع، بل مكملة ومنجزة لها، فالتخيل ينظم ويوجه الواقع الكائن (أو المسترجع) لجعله قابلا للتواصل ويبني التماسك المطلق لذلك العالم (الواقع )<(20).

وهكذا تصبح السيرة الذاتية واقعا قد مضى، انعكست بعض أجزائه في ذاكرة من عاشها في زمانه، وهو واقع يسترجعه نفس الإنسان في زمن آخر بواسطة الكتابة عبرالتحليل المنظم والموجه والمصنف. لذلك تصبح الشخصية التي كانها الإنسان/الكاتب في الماضي مختلفة عن الشخصية التي هو عليها. إن مسألة التطابق بين الشخصيتين إذن >هي ادعاء مثل باقي الادعاءات يمكن أن نصدقه أو نكذبه<(21). لذلك نخلص إلى أن عملية التذكر لواقع مضى لتتم كتابته فنيا لا تختلف عن بناء روائي يوظف فيه الكاتب ذكرياته وتجاربه ووعيه الاجتماعي والجمالي والفكري، >فكل حكاية ليست إلا استذكارا نقيا لماضي معين يتطلب المواجهة بين أمـس عيـش بكثافة وحاضــر بعيد عـيش الذكـرى<(22).

ج – كتابة الخطاب : يخضع التخيل الاسترجاعي في السيرة الذاتية لإرغامات زمن الكتابة، فيقع الكاتب تحت سلطة شروط متنوعة ومتداخلة : 1) شروط تطورالمجتمع وذهنيات ناسه، 2) شروط التميز الثقافي ومكوناته، 3) سلطة القارئ الذي يختلف عن القارئ في زمن أحداث قصة السيرة، 4) شروط تطورالكتابة السردية… كل ذلك يفرض على قصة حياة الكاتب، كمادة أولية، صيغا جديدة تفقد فيها تلك القصة واقعيتها وكرونولوجيتها واتساع دائرتها. وانطلاقا من أسلبة الكاتب لقصة حياته تخضع السيرة الذاتية لطبيعة الوعي الفني والفكري الذي امتلكه صاحبها من خلال تجاربه المتراكمة. لذلك نجد سيرة ذاتية تركز في مضامينها على الجانب الاجتماعي الضيق للكاتب وأسرته كما في >الخبز الحافي<، وأخرى تركز على الجانب النفسي والتربوي للطفل الذي كانه الكاتب كما هوالشأن في >في الطفولة<، وأخرى يتداخل فيها الشخصي والأسري والاجتماعي والسياسي والتاريخي كما في >الضريح<. وتركز أخرى على التحولات الاجتماعية والنفسية والسياسية والفكرية لتعاقب الأجيال التي عاصرها تطور حياة الرجل منذ طفولته إلى نضجه كما نرى في >لعبة االنسيان<.

ويفضل بعضها الحكي الواقعي العمودي متتبعا خطوات نمو الشخصية (>في الطفولة<، >الخبز الحافي<) وتفضل >الضريح< البدء من شخصيتين متميزتين هما الطفل الذي كانه الكاتب والرجل الذي أصبحه الطفل. وتفضل التنوع السردي ولغات السرد والحوار… وتنويعات معقدة أخرى، ليس في >الضريح< وحسب بل أيضا في >لعبة النسيان<. بالإضافة إلى ذلك نجد تميز اللغة وطريقة توظيفها، سواء في توظيف الأفعال وأزمنتها توظيفا يشير إلى قدرة السارد على تنويع الحكي، أو استعمال تراكيب مجازية، وألفاظ مثقفة مرتبطة بمجالات مختلفة كالمجال السردي نفسه… توظيف يطبع النص بجمالية خاصة ويتوخى التأمل في الواقع من زاوية تغريبية… هذا التنوع من حيث الأسلوب يجعل السيرة الذاتية مطبوعة بفردية وترهينية صاحبها.

تتعدد هذه الأسلبة عبر تحقيب القصة. ففي القصة التي عاشها الكاتب في ماضيه لا بد أن يوجد النظام التعاقبي/الكرونولوجي. فالأحداث والتصرفات والأفعال توجد ضمن نظام زمني تعاقبي صارم، يوجد سابقها أو لاحقها في الزمن وفي علاقتها ببعضها مرتبة واقعيا، دائرة تعاقبها واسعة متعالقة مع أحداث أشخاص آخرين تؤطرها شروط اجتماعية ونفسية واقتصادية متميزة. إلا أن الكاتب حين يسترجعها لا يخضع لذلك النظام، وإنما يرتبه ترتيبا جديدا دون التزام بتلك التعالقات، إنه ينتقي فقط منها ما علق بالذاكرة ويخضع القصة لنظام مغاير>هو نظام استعمالي< يتمتع فيه المؤلف بحرية اختيار اللحظات التي تناسب مشروعه الأدبي، فتفقد القصة حقيقتها أمام اللغة الأدبية المجسدة والاستعارية وأمام الوعي الفني الجديد عند الكاتب.

د – قصدية السيرة الذاتية : لا تختلف هذه القصدية عن قصدية كتابة الرواية. فلابد أن يهدف كاتب السيرة الذاتية إلى مقاصد مختلفة بعضها مباشر وبعضها ضمني. وأبسط تلك المقاصد أن الكاتب يريد تخليد نفسه بقلمه، إذ يحرص على ألا ينتهي زمان حياته في ماضيه وحاضره، بل يريد لزمن حياته أن يتنقل في اللازمان… وضمن هذا المقصد تكمن غاية إبراز خصوصية الفرد في حاضره نتيجة خصوصية شروط حياته في الماضي. إن قصدية التفرد بارزة جدا في خلفية كتابة السيرة الذاتية سواء في تميز حياة الطفولة أو في طريقة استرجاع تلك الطفولة من خلال الكتابة، فيستجمع الكاتب كل طاقته الفكرية وتجاربه التي صادفها في الحياة أو قرأها عن شخصيات أو شخوص، وكل قدرته الجمالية على أسلبة حياته بخلقها من جديد… ويعمل على قراءة الماضي بعين الحاضر ونقد الحاضر بالعودة الى الماضي. فكثير من القضايا السلبية التي تسود المجتمع في حاضره تكون نتيجة لتطور غير مستقيم، كما أن كثيرا من القيم المنحطة في الحاضر يحاول الكاتب نقدها باستعراض قيم إيجابية كانت في الماضي (>لعبة النسيان<، >الضريح<). وبناء على ذلك يركب تصورا (أو تصورات) للمستقبل، وأن إعادة إبداع الماضي في الحاضر عبر الكتابة السردية القائمة على جمالية متميزة تجعله ماضيا غير مألوف والحاضر غير معتاد. وبذلك يتطلع الكاتب إلى تغيير أفق انتظار القارئ.

ه – تجنيس السيرة الذاتية : تدخل السيرة الذاتية في الإنتاج السردي ذي الطابع الملحمي الذي >تعتمد وظيفته الأساسية في كل عصر وثقافة على الحكي، أو ما يشبه ذلك، أي تنظيم أحداث في خطية زمنية يعرفها القارئ ، ويتطلب ذلك تنسيقا شكليا تتعلق به ثلاثة مبادئ رئيسية : 1- تنظيم الأحداث لتصبح قابلة للتلقي في المستوى الذي يستهدفه العمل الأدبي، 2 – علاقة تلك الأحداث فيما بينها داخل متن جد معقد، 3 – تجسيد رؤية للعالم ومشروع واقع وبنية تفكير عبر النموذج السردي المحقق…<(23). في الصورة العامة لا يمكن تمييز السيرة الذاتية عن الرواية، لا يمكن تمييزها حتى في المكونات الجزئية :

– فالسيرة الذاتية مثل الرواية لا بد لها من قصة، والقصة فيها وقعت في ماضي حياة الكاتب يسترجعها ويعيد خلقها، بينما في الرواية يتخيل الكاتب القصة كمادة خام ثم يعمد الى تخطيبها، غير أن مكونات هذه المادة يستجمعها الروائي من تجارب حياته لتحمل شتاتا سيريا.

– وكلاهما يتجسد في الكتابة، والكتابة تحتاج الى ضبط اللغة والعناية بجماليتها ومجازيتها ورمزيتها، وتحتاج أيضا إلى إعادة تركيب الأحداث حسب قصدية الكاتب وليس حسب وجودها في القصة، وأيضا إلى التصرف في الزمن توسيعا وتقليصا واسترجاعا واستشرافا دون الخضوع لمنطقيته الأنطولوجية لاستحالتها في الكتابة مع تضييق الفضاءات وتوسيعها حسب قصدية المؤلف أيضا. فيتم تخطيب القصة في كلا النمطين السرديين. حينذاك تقع السيرة، مثل الرواية، بين يدي القارئ الذي يتناولها باعتبارها نصا يستدعي تنوع وتعدد القراءات ويتطلب التأويل والبحث عن الأبعاد وعن الطابع الترهيني الذي غالبا ما يكون هو الخلفية الرئيسية في استذكار السيرة كما في الرواية. إن الكاتب يواجه واقعه ويتطلع إلى مستقبله من خلال تخيل ماضيه وإعادة قراءته /إبداعه تحت وطأة ذلك الواقع الراهن وأفق مستقبله.

– ولتصبح السيرة نصا محكوم عليها أن تخضع لمكونات تمثل عمق خصائص كل الأنماط السردية وعلى رأسها الرواية، وهي تقنية السرد ومنجزها : >ففي الرواية يعطي المؤلف الكلمة للسارد وهذا يعطيها للشخوص<(24). وتتنوع فيها زوايا النظر >التي تتعقد أكثر إذا استحضرنا أن السارد يمكن أن يحكي بنية التوثيق أو بنية القص، في شكل حجة أو رسالة أو مذكرة (مجموعة رسائل)أو شهادة يومية خاصة، أو قصة خرافية، وكل ذلك يدخل تحت مظلة تتخذ نفس طريق الرواية< (25). إن الرواية أيضا يمكن أن تنطوي على كل هذه الأشكال وكذلك السيرة الذاتية (>الضريح<، >لعبة النسيان،< >أوراق<).

– وكذلك الأمر في بناء الشخصية وملء أسمائها وإبراز بعضها وتتبعها وخلق علاقات بينها وإعطائها أبعادها الدلالية، وهي تقنية تنمو عناصرها بكثافة الأحداث والقضايا التي ينتقيها الكاتب قصد بناء الشخصية أو عرقلة تطورها وخلق علاقات التوافق والتعارض بينها… ذلك كله يكون الرواية كما السيرة الذاتية.

– وتبقى نقط الاختلاف ضئيلة بين السيرة الذاتية ذات الطابع الأدبي وبين الرواية، وهي نقط لا ترشحها لتحمل سمات نمط أدبي مستقل عن دائرة الرواية. فإذا كانت هي النص السردي الطويل الذي يكتبه صاحبه عن نفسه معتمدا الذاكرة، فإنها تخضع للتخيل والترهين ولاستجماع طاقة الكاتب الجمالية خضوعا لما اكتسبه من تجارب حياتية ولقراءاته التي لا تشكل جزءا من شخصيته كرجل ومؤلف… فتصبح السيرة الذاتية رواية والرواية سيرة لشخصية متخيلة تدخل في هذا التخيل عملية التذكر إلى جانب عملية التفكير…

————————————–

هوامش

1- >الرواية المغربية<، ص. 70 ، سلسلة دراسات تحليلية، دار النشر المغربية

2- ن م ص. 71

3- مجلة >أقلام،< ص. 67 ، عدد 4 نوفمبر 1972

4- مجلة >أقلام<، ص. 99 ، عدد 54 يونيو 1981

5- >دينامية النص الروائي< ص. 24 ، منشورات اتحاد كتاب المغرب 1993

6 – ن م ص. 56 ص. 57

7- >النقد والأدب <، ص. 77 ترجمة بدر الدين القاسم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1976

8- >السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي<، ص. 22 ترجمة عمر حلي ، المركز الثقافي العربي 1994

9- G . Genette : Figures III , Seuil ,Paris , p 259

10- طبعة دار النجاح الجديدة

11- الطبعة الثانية

12- فيليب لوجون، >السيرة الذاتية< ص. 30

13- نفس المرجع، ص. 30

14- G . Genette : Figures III , Seuil ,Paris , p 254

15- نفس المرجع، ص. 255

16- كمال بكداش : مادة الخيال ، الموسوعة الفلسفية العربية، ج الاول معهد الإنماء العربي 1986

17 نفسه، ص. 416

18- Fernando Gomez : El lenguage literario , p 129 , E D A F Madrid

19- ن م، ص. 129

20- نفسه ص.130

21 – فيليب لوجون، >السيرة الذاتية< ص. 30

22- Oscar Tacca : las voces de la novela , p 140 ed Gredos , Madrid

23- F G Redondo : El lenguage literario , p 146

24- Oscar Tacca : las voces de la novela , p22