جدلية اللغة والواقع في الخطاب الروائي مقاربة نظرية

Bengrad
2021-06-04T11:59:14+00:00
العدد الثامن
13 أغسطس 20201٬086 مشاهدة

محمد خرماش – كلية الأداب فاس- ظهر المهراز

تمـهيــــــد

يعرف الخطاب عادة بأنه سلسلة من الملفوظات المترابطة التي ينتجها طرف متكلم بقصد التأثير على طرف مخاطب وإنجاز عملية التواصل المطلوبة؛ وهذا يعني أن كل خطاب يحمل رسالة ويتوخى إبلاغها بواسطة اللغة التي هي الأداة الأساسية والفاعلة. لكننا حينما نتحدث عن الخطاب الأدبي، ومنه الخطاب الروائي، نجد أنفسنا أمام مشكلة تكمن في حقيقة الوظيفة التي عليه أن يؤديها فعلا، وهل هي تسخير اللغة من أجل الإبلاغ فقط كما تفعل سائر الخطابات التي تستهلك وتفنى بمجرد تأدية تلك الوظيفة، أم هي تسخير اللغة من أجل تكوين بنية متميزة قد تصبح مقصودة لذاتها وبذاتها، ومن ثم فهو أبدا أمام معادلة صعبة من أجل تحقيق التوازن بين الاحتفاظ أو الاكتفاء بمميزاته النوعية التي هي منبع ثر للإشباع الفني وبين عدم التنازل عن دوره في الإبلاغ باعتباره أيضا مساهمة فكرية وإنسانية وحضارية. وإذا كانت بنيته المتميزة هاته تتحقق أساسا بتوظيف اللغة فيه توظيفات خاصة، فإن اللغة أصلا تمثل إشكالية كبرى من حيث مفهومها ونظامها وعلاقتها بالفكر وبالواقع وما إلى ذلك… ومعنى هذا أن الأدب ومنه الرواية يستثمر اللغة بكل أبعادها ومعطياتها ويقحمها في صناعة جديدة هي صناعة الإنتاج التخيلي الذي يمثل خطابا إيحائيا أو ترميزيا بامتياز، فتتعاظل فيه شفرة اللغة وشفرة الأدب ويصبح الخطاب كثيفا ومركبا لا يمكن تبين بعض أبعاده ودلالاته إلا بمحاولة التعرف على بعض مكوناته وسيرورة تكونه.

وبما أن الخطاب الروائي هو ناتج الإجراءات السردية والاستعمالات اللغوية التي تؤسس عالما تخيليا هو عالم الرواية أو واقعها التلفظي، فقد يكون من المجدي في مقاربته بحث العلاقة بين مفهوم اللغة ومفهوم الواقع وكيف تتضافر وقائع اللغة ولغة الوقائع من أجل تحقيق بنيته المتميزة والمعقدة.

إشكالية اللغة

يعرف إدوارد سابير اللغة بأنها >طريقة إنسانية خالصة وغير غريزية لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات بواسطة نسق من الرموز المولدة توليدا إراديا<(1)، وإذا كان القصد الواضح من هذا التعريف هو نفي الفطرية والغريزية عن هذه الظاهرة الإنسانية الخاصة والعجيبة وإثبات اصطلاحيتها وتداولها؛ فإنه يستدعي وضع أسئلة مترتبة عنه مثل معرفة حقيقة عملية التوصيل وميكانيزماتها، وحقيقة الانفعالات والرغبات ومستوياتها، ومنشأ الأفكار ودلالاتها، وكيف يستطيع هذا >النسق من الرموز المولدة< أن يتمثل الأشياء ويمثلها. وهذا يعني أن مفهوم اللغة لا يقوم بذاته ولذاته فقط، وإنما هو مرتبط ارتباطا تكوينيا بالإنسان من حيث هوالفاعل الكلامي، صانع الرموز، ومن حيث هو المفكر المستوعب والمنفعل أو الراغب، الخ. أي مرتبط بوجوده وبقدراته الذهنية وأنشطته النفسية. ولذلك ينبغي بحث نظرية اللغة ضمن خصوصيات الإنسان وضمن تفاعلاته مع الواقع والطبيعة.

إن اللغة طاقة بشرية مسخرة لاحتواء حمولات معرفية وتخيلية وانفعالية متداولة أو متجددة تشتغل وفق إجراءات معقدة، ولا تنشأ من عدم أو تدور في فراغ، ومن ثم فالحديث عن كينونتها وعن مفهومها يقتضي الحديث عن العناصر المتماسكة معها مثل علاقتها بالفكر الذي هي صورته المجسدة وهو حقيقتها الكامنة، ومثل علاقتها بالواقع أو العالم المتصور الذي يساعد على خلقها وتعمل على تمثيله أو إعادة إنتاجه… وإذن فلا يتيسر الوصول إلى فهم تقريبي لعملية التعبير وعملية إنتاج الخطاب والخطاب الأدبي أو الروائي إلا من خلال اعتبار تقديري لهذه العناصر المشاركة والمتشاركة التي هي اللغة والفكر والواقع ثم الرواية. إن الروائي ينسج الواقع، كما يقول م. زيرافا وهذا النسج المتوالي الذي يتتبعه القارئ خيطا خيطا هو الذي يجعله يعي الواقع الذي تعينه له الكلمات المكتوبة وتبنيه من أجله(2).

وإذا كانت اللسانيات لا تهتم باللغة إلا من حيث هي نظام دينامي من العلامات الدالة التي تمكن الإنسان من تحقيق التواصل والتفاهم على مستويات مختلفة، ومن التعبير عن أفكاره ومشاعره وحاجاته؛ فإن الإشارة تجدر إلى إمكانية تحويل الواقع إلى مفاهيم عن طريق اللغة التي تربط بين العلامة وما تدل عليه من أجل إقامة تصور ذهني للمرجع الذي هو الواقع الخارجي وذلك بمساعدة أو بتأثير التربية اللسانية أو ما يسمى باللاشعور اللغوي، ومن ثم تنطرح الحاجة إلى بحث أصول اكتساب اللغة وطرق استعمالاتها، وهو مجال الفلسفة التي تهتم بالنظرية العامة للغة في علاقتها بالفكر والمعرفة وسائر العلوم.

ولذلك يمكن القول بأن هناك جدلية بين الأطراف المتعالقة في بنية اللغة ومنها بنية الخطاب الأدبي أو الروائي. وقد شكلت هذه الجدلية موضوع دراسات ومناقشات فلسفية مستفيضة ومتعاقبة يمكن أن نقف علي بعض نتائجها فيما أورده آدم شاف في كتابه >اللغة والمعرفة<(3) من آراء ونظريات حاول تمحيصها وتحقيقها لتوضيح ثنائية اللغة والفكر وثنائية اللغة والواقع في عملية اكتساب وإنتاج المعرفة أو إعادة إنتاجها وتطويرها. وبما أن معرفة الأدب قد تكون أعقد وأخصب أنواع المعارف الإنسانية، فلا بد أن يكون من المفيد أو من الضروري الوقوف على شيء من حقيقة تلك الجدلية التأسيسية ولو أن الأمر فوق ما يسعه مقال محدود؛ لكن الغرض القريب هو وضع الإشارات التي تساعد أولا على طرح الإشكالية التي سيبقى بحثها المستفيض منوطا بالدراسات والكتابات المتتالية. وقبل الوصول إلى دينامية تلك الجدلية في سيرورة الخطاب الأدبي سنقف قليلا عند إشكالية اللغة والواقع وإشكالية اللغة والفكر وإشكالية هذا الثالوث القبلي مستوعَبا في اللغة التي ستبني الخطاب الأدبي والروائي.

إشكالية اللغة و الواقع

حينما يتحدث الناس عن الواقع فهم يقصدون عادة وجود الأشياء وجودا عينيا مستقلا عن الذات المدركة مثل وجود الطبيعة ووجود الأشخاص أو وجود الحالات والوضعيات. لكن هذا الوجود لا يمكنه أن يكون مرتبطا بعناصر أخرى مثل عنصري الزمان والمكان وهو ما يجعل مفهوم الواقع ملتبسا إلى حد ما، لأن الذي يحدد الإطار الزمكاني للوجود هو الإدراك، ومن ثم قد يعتبر الواقع لاغيا مثلا بالنسبة لإنسان لا يستطيع تصور ذلك الإطار الذي هو لصيق بالواقع أو هو الذي هو هو. كما أن الإنسان لا يدرك الواقع إلا ملفوظا، أي في صيغ لغوية، وهو قادر بملكته الكلامية على استحداث تشكيلات لغوية لامتناهية، وباستعمال قدراته التخيلية يستطيع أن يركب عوالم أو وقائع جديدة يحذو فيها حذو الواقع المدرك عنده، لكنها تكون من إبداعاته، وبتلك السيرورة يمكن أن ينتقل الواقع الواقعي إلى واقع إدراكي ومنه إلى واقع تخيلي أو واقع إبداعي مثل الواقع في الرواية. ويبقى السؤال فقط فيما إذا كان ذلك الواقع الإبداعي واقعا جديدا كل الجدة أي واقعا من نوع آخر، أم هو مرتبط بالواقع الواقعي أو الواقع الأصل بشيء من الحدود أو الخصائص أو المواصفات.

إن ما يقنعنا بحقيقة الواقع هو خبرة الحواس التي هي القنوات الضرورية والأساسية في عملية المعرفة والإدراك مضافا إليها خبرة اللغة وتراكماتها الدلالية التي تؤسس ملكة الإنسان وتقوي قدراته الإدراكية. وفي الأدب يستطيع المبدع وبواسطة >اللغة الخبيرة< أن يصطنع للحواس وقائع بنفس مواصفات الواقع أوتلك التي نشترطها للاعتراف بواقعيته، وبذلك ينتهي الأمر إلى نفس الإدراك وبنفس القناعة، وما دام الرضى الإدراكي قد تحقق فسيكون واقع الرواية مثلا عندنا في مثل درجة واقع التاريخ من حيث الوثوق والاطمئنان إليه. ولكن حينما تبدأ عملية الإبداع في تخطي تلك المواصفات ويقع الاختلال في معطيات الإقناع والإقتناع، تأتي الردود الاستنكارية من هيئة الإدراك الكلاسيكية، فنقول إن في الأمر تجريبا أو تخريبا من طرف المبدع أو تجاوزا للمعروف بقصد خلخلة الصيغ الإدراكية المعتادة وتعديل الخبرات أو الدفع باللغة الصانعة أوالفاهمة إلى المزيد من الإثراء. إن مما يقنع بواقعية الواقع مثلا أن تكون قياساته وأبعاده المختلفة على قدر ما تستوعبه الحواس ويقره الإدراك. وقد وقع خرق ذلك باصطناع واقع إبداعي يتجول فيه الإنسان في الفضاء، وكان من الطبيعي بحسب تلك القياسات أن يستنكر ذلك الواقع ويرفضه؛ لكن الخبرة الإدراكية عدلت بعد أن مشى الإنسان فعلا على سطح القمر، وأصبحت الشروط الإقناعية متوافرة للاعتراف بواقعية الرحلات الفضائية.

وهكذا يمكن القول : إن بوسع الأديب أن يصطنع بلغته العارفة واقعا يراه هو ويجتهد في مخادعة معرفتنا وقناعاتنا كي تعترف له ومعه بذلك الواقع المنشود الذي قد يصبح الواقع الأصل أو الواقع المقيس عليه؛ فالأدب لا يعيد تشكيل الحياة فقط وإنما يعمل على صنعها أيضا، ومن ثم فهو بحث مستمر عن واقع مجهول أو واقع مفقود يتعطش إليه القراء على الدوام. وقد أفرز هذا التصور اقتناعا بجدوى التجريب وإمكانية التغيير بانفتاح الخطاب الأدبي ومنه الروائي على الحقول المعرفيةالمتجددة والمتكاملة.

ونظرا لهذا التماسك الشديد بين اللغة والواقع أصليا أو مصطنعا فقد يكون من المشروع أن نتساءل مثلا : هل اللغة تنقل الواقع فعلا أم أن الكلام لا ينقل إلا كلاما؟ وهل يقوم الواقع بدون لغة أو تقوم اللغة بدون واقع؟. الحقيقة أن الكلام هو دائما كلام عن شيء وإلا فهو لثغ أو لغو أو هراء، ولذلك فاللغة والواقع وجهان لورقة واحدة لا يمكن فصلهما نظريا ولاعمليا؛ والواقع على وجوده كشيء مستقل عن اللغة أو قبل اللغة هو في معيشه وفي متداوله بين الناس لا يتأتى إلا باللغة ومن خلالها، وإذا كانت نظرية اعتباطية اللغة قد تصح على البدايات، فإن اصطلاحها قد كسب من قوة التداول والالتصاق بالمسميات ما صيرها طبيعية أو شبه طبيعية بالنسبة للقوم الذين يستعملونها، إذ لا يكاد أحدهم يفهم الآن أو يتصور وجود مسميات إلا بالأسماء، فصار كل شيء عنده هو اسمه واسمه هو ذاته.

وعليه لا يمكن القول بوجود كلام لا يحمل واقعا، ولكن لا يمكن القول بوجود واقع كلامي إلا في نطاق أبنية معينة وضمن معايير لسانية. فإذا اعتبرنا أن الواقع بالنسبةللإنسان هو مفهوم للمحسوس، والمفهوم عنده لا يستقيم إلا في صيغة لغوية بينة، فإن المفاهيم التي تسبكها اللغة تكون بمثابة الوقائع العينية عنده ويكون ذلك مبلغه من الواقع أو من العالم الذي يحيط به. وإذن فإنتاج الخطاب هو إنتاج للواقع في نفس الآن، وتدمير الخطاب هو تدمير للواقع في التصور الذهني كذلك. ولذلك يعتبر بيير زيما مثلا أن >النص دليل مركب من العمل المادي الذي له قيمة الرمز الحتمي، ومن الموضوع الجمالي المتجذر في الوعي ويحتل مكانة المعنى<(4).

وبهذا يمكن القول بأن اللغة تعيد إنتاج الواقع عبر الكلمات والعبارات التي تقرب حقيقته للذهن، فتربط بذلك بين الإنسان وعالمه وبين الفكر وموضوعه مختزلة كل المعارف والخبرات ومساعدة على نقل العلم بالاشياء، وتجارب التعامل مع الواقع وكشف أسراره. فهي موئل الإنسان في قدرة التمييز ومعوله في الرقي بعقله وعلمه وفهمه، وهو صانعها وهي صانعة وصنيعة عبقريته وإبداعاته.

وفيما يتعلق ببناء الخطاب الأدبي، فاللغة هي السبيل فيه إلى إنتاج الواقع المنشود على أساس الواقع الموجود. إن الخطاب الروائي مثلا لا يقوم على الاستدلال بالواقع الملموس فقط، وإنما يصنع من عناصره واقعا جديدا يريد من القارئ أن يعيشه ويستبدله بواقعه المعيش الذي ينبغي تغييره أو تعديله. وكل ذلك بلغته التي تحمل معرفته ومعرفة غيره، تحمل تصوره للواقع الكائن والممكن ملتبسا بقناعاته وبفهمه وبانفعالاته. ومن ثم لا يكرر علينا هذا الخطاب ما نعرفه وإنما ينقلنا إلى ما لا نعرفه، إلى العوالم التي يرودها باستمرار بحثا عن الأنسب والأحسن والأكمل والأوفى… وبذلك تكون وظيفة هذا الخطاب هي >حمل دلالات جديدة الى العالم عن طريق الأشكال التي يخلقها<(5) كما يقول آلان روب غريي. ومثل هذا الطرح هو الذي تبناه اتجاه الرواية الجديدة الذي يعتبر أن الواقع كامن في اللغة يتسع باتساعها ويضيق بضيقها، ولذلك يطالب الروائي بتغيير لغته على الدوام كي تتغير رؤيته ومفاهيمه فيكون أقدر على بناء خطاب جديد في عالم جديد. فالواقع ليس واحدا ولا أحاديا وإنما هو منبثق دوما من فعل اللغة ومن فعل الإبداع، وخاضع للمهارات المتجددة ولممارسة الكشف والاستكشاف. ومن ثم يمكن القول بأن اللغة البانية في الخطاب الأدبي لا تستمد سلطتها من سطوتها التقليدية أو من نفوذها الوظيفي فحسب، وإنما أيضا بحضورها الجارف الذي يقتحم القارئ ويملأ عليه جوارحه وطاقاته الفكرية والفنية والنفسية، ويلقي به في دنيا غير الدنيا وفي واقع غير الواقع.

واقع اللغة وواقع الأدب

حاولنا أن نشير إلى أن اللغة تتضمن واقعا، والواقع يأخذ حجم اللغة التي تستوعبه، لكننا حينما نتحدث عن علاقة الأدب، وهو لغة، بالواقع، وهو مدرك، ينطرح السؤال الحتمي عن الواقع المقصود أولا وعن مدى ما يمكن أن يتحقق في الأدب من هذا الواقع. وصحيح أن الأدب قد فهم منذ القديم بأنه >محاكاة< للطبيعة بما فيها الإنسان وأفكاره ومشاعره وتصرفاته، وأن الإبداع الأدبي حتى في أكثر صوره التجريدية أو السريالية لا يمكن أن يجد عناصره الأولية إلا في الواقع أو في الطبيعة أو على غرار ما هو موجود فيهما لأن قدرات الإنسان التخيلية لا يمكن أن تشتغل إلا بما هو موجود أمامه، أو ما له معرفة ولو احتمالية بوجوده؛ ولذلك لما رأى الكلاميون ارتباط قدرات الإنسان التصورية بعالمه المحدث الواقعي أي بالموجودات في الطبيعة، وقدروا استحالة إمكانية تصوره للذات الإلهية التي هي خارج الموجودات ومخالفة للحوادث قالوا :

>وكل ما يخطر ببالك فربنا الله مخالف لذلك<

بمعنى أن كل ما يمكن أن يخطر بالبال أي في التصور من الهيآت والكيفيات والحيثيات والوضعيات هو مرتبط في الأساس بالواقع أو مستمدة عناصره منه رغم ما يمكن أن يصيبها أثناء التركيب والتوليف من غرابة أو أعجوبة قد تجعلها من الخوارق أو المستحيلات. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون الأدب إلا >واقعيا< أو من الواقع وعلى غراره، ولا يمكن أن تسترفد الرواية عناصر بنائها إلا من العالم الحي بأشيائه وأشخاصه وأحداثه وفضاءاته التي تجد فيها موادها الأولية فتشتغل بتقنياتها البنائية الخاصة كي تنسج من ذلك عالما جديدا كأنه العالم الحي أو هوالواقع ذاته في السطور وعبر الكلمات والجمل والصفحات. بيد أن الأمر ليس بمثل هذه السهولة أو الميكانيكية لأن الطبيعة أو الواقع أو العالم الخارجي موجود أصلا وخارج إرادة الأديب أو الروائي، أما عالم الرواية أو واقعها فهو منتج بإرادة واختيار، وهناك ملكات وقدرات وخلفيات تشتغل وتُشغَّل في هذا الإنتاج أو إعادة الإنتاج؛ وربما تأتي في مقدمتها ملكة التصور التي تستطيع وباللغة الساكنة أن تتمثل الواقع، وانطلاقا من ذلك التمثل تستطيع أيضا وباللغة المتحركة في هذه المرة أن تمثل ذلك الواقع في هيئة مقاربة أو معدلة أو مستحدثة.

وإذن هناك ثلاثة وجوه أو مستويات متمايزة للواقع الذي يمكن أن نتحدث عنه من خارج الرواية إلى داخلها وهي :

– الواقع الأصلي أو الواقع المرجعي الإنساني أو الاجتماعي أو اللغوي فقط.

– الواقع المتمثل بحسب قدرات المتمثل أو قناعاته وتوجهاته.

– الواقع الممثل في الرواية بحسب القدرة على التمثيل وتقنياته وبحسب درجات وأهداف تحقق التمثيل من الكاتب إلى القارئ.

وهكذا يتضح أن الواقع أصلا وتمثيلا داخل كعنصر محوري في بنية الخطاب الروائي، لكنه لا يتأتى إلا في جدلية اللغة التي هي الواصل الضروري بين المبدع والمتلقي والتي تنشئ حقولا للتواصل والمشاركة واللقاء باستحداث ما يمكن أن نسميه بالخطاب النفسي الذي قد ينطلق من اللغة أو بسببها وربما بتجاوزها إلى ما قد لا تستطيعه أو لا تسعه. ولذلك يمكن القول بأن لغة الأدب أو اللغة مستعملة في الأدب هي غير اللغة في غيره من مجالات التعبير، وبمعنى آخر فإن اللغة في الأدب تمثل الأداة والمادة والعبقرية معا، وهي توظف كل ذلك وتشغله من أجل إنتاج خطاب ذي واقع متميز وقائم بذاته هو الواقع الأدبي. وتبقى الصعوبة الحقة في إمكانية فهم طرق اشتغال تلك اللغة العجيبة وضبط ميكانيزمات إنتاجها لذلك الواقع، وهو الأمر الذي تحاوله منذ أمد بدون نجاح كبير أو نهائي، علوم مختلفة ومتضافرة مثل البلاغة والأسلوبية واللسانيات والسميولوجيا والشعرية والسرديات والتداولية والنقد الأدبي. ولعل من المفارقات الغريبة أن يكون مدى نجاح تلك العلوم أو توفقها بمقدار إخفاقها لأن قيمة العملية الإبداعية في الأدب تكمن غالبا في انغلاقها المستمر وفي استعصائها المتلاحق على سائرالضوابط والمعايير؛ ومعنى عدم تمكن هذه العلوم من كل أسرارها هو أنها تلاحقها على الدوام، وتتقدم معها في استكشاف عجائب عبقرية الإنسان التي لا حدود لها؛ ومن ثم فهي تحقق تراكمات معرفية مدهشة ومتجددة باستمرار؛ وسيكون من باب الزيف أو الزيغ ادعاء الإحاطة بكل تلك التراكمات أو القدرة على متابعة تطوراتها في سائر المجالات ولذلك يجب حصر النطاق في حدود ضيقة ارتأينا أن تكون ضمن علاقة اللغة بالواقع في بناء الخطاب الأدبي الروائي أو السردي على الإجمال. إذ اللغة هي الحبل السري الذي يربط الكاتب بالواقع من جهة، ويربطه بالقارئ من جهة ثانية، وكل ذلك عن طريق المصفاة التي هي الثقافة والفكر والتداعيات المعرفية. فعن طريق اللغة وحمولاتها المعرفية يستطيع الكاتب أن يتمثل الواقع أولاً كما يستطيع أن يمثله ثانيا عبر نسيجه اللغوي الذي يحاول من خلاله أن يسويه خلقا جديدا. وهذه اللغة الإبداعية والمبدعة هي التي تجذب القارئ أيضا كي يتخلى طواعية عن واقعه الخاص ويندمج بشغف في واقع النص التخيلي الذي تصنعه له الكلمات والجمل والعبارات، وقد ينتهي به الأمر إلى فهم واقعه الأصلي أو إعادة النظر فيه. إن اللغة إذن مكون أساس وأداة ضرورية لتعامل الأدب مع الواقع كتابة وقراءة أو إنتاجا واستهلاكا، وهي قادرة -كما يقول بنفنيست- على أن تعوض الأحداث والوقائع بما يشير إليها أو يدل عليها(6)، وحيثما توجد لغة فثمة عالم كما يقول هايدغر.(7)

على أن اللغة ليست على درجة واحدة من حيث المستوى والوظيفة ولا من حيث الأصل والمنبع والقوة، ومن السذاجة القول بأن استعمال اللغة شيء طبيعي ومنتظم كالمشي أو التنفس، وإنما هي على درجة كبيرة من الاختلاف والتعقيد، فلكل مجال لغته ولكل قوم لغتهم ولكل مقام مقال كما يقال؛ بيد أن من طرائف مفارقات الأدب بعامة وجنس الرواية بخاصة هو قدرتها الخاصة والضرورية على امتصاص كل هذه اللغات أو هذه المستويات المتعددة واستعمالها كمواد بانية لعالمها الذي تريده مثل الواقع الحي عاجَّاً بتلك الأصوات والخطابات. ومن ثم فلغتها أو اللغة فيها ليست بنية تركيبية فقط، وإنما هي بنية وظيفية ومنفتحة على مرجعيات خارج نصية أو قبل نصية كثيرة ومتعددة.

إن الأديب لا يعرف لغة واحدة ووحيدة -كما يقول باختين- كما أن الأمر لا يتعلق في الرواية بلغة وإنما بحوار لغات(8).

دور اللغة في بناء الواقع الروائي

إن الروائي يستثمر وقائع اللغة في صناعة الأحداث واختلاق العوالم التي تعج بالأصوات والمواقف والشخصيات التي تكون مجتمعا قائما بذاته. ومن ثم فهو مطالب بالتمكن من اللغة أولا وبتطويعها للإبداع في نطاق السلطة التي تملكها وضمن الخصائص التي تميزها، كما أن على المتلقي ألا يتعامل مع خطابه بنفس القدر من المسؤولية اللغوية التي يبنى بها فحسب، وإنما بحدود علمية ومنهجية ترتكن إلى نظريات مدعمة تعالج مختلف الجوانب البنيوية مثل دوراللغة في التشخيص وفي بناء المرجعيات المحايثة. فالروائي لا يتمثل الواقع إلا بواسطة اللغة ما دام أحد لا يستطيع أن يفكر أو يقيم تصورا ذهنيا إلا داخل لغة معينة. وهذه اللغة هي أصلا من إنتاج الواقع (والواقع الاجتماعي بالذات). فهي تحمل بعدها الواقعي (والاجتماعي) في أحشائها، وحينما تستعمل لنقل الواقع أو لإعادة لإنتاجه في الرواية تكون حبلى بكل تلك الأجنة التي تزرع في النص الروائي فتجعله من نسل الواقع أو تجعله استنساخا له على الطريقة الحديثة ما دام يحتوي بعض أو أهم جيناته. ولربط داخل النص أو واقعه اللغوي بخارج النص أو واقعه المرجعي لا بد من المرور عبر مستوياته اللغوية ومعرفة مدى إسهاماتها في تكوينه. وبذلك سنفهم كيفية تضافر واقع اللغة ولغة الواقع في نسج ذلك الخطاب وإقامة صرحه، ونفهم كيف يمكن أن يأخذ بيد القارئ أو بجماع عقله ليدله على مشارب حقيقته أو حقائقه الجمالية والمرجعية. وهكذا فاللغة عنصر وظيفي في بنيةالخطاب الروائي من حيث هي صورة للواقع أو هي الواقع أصلا وفرعا في الآن نفسه. ومن حيث هي الكيان الذي يقيم أوده ويحمل إرساليته، فهي الوسيلة وهي المادة وهي الموضوع.

بقي أن نشير إلى البعد الاجتماعي في تكوين الواقع اللغوي في الرواية، ذلك أن اللغة تقوم بتحويل العالم إلى مفاهيم كما أسلفنا، لكن التفاهم اللغوي أو التفاهم بواسطة اللغة لا يتم إلا بحضور اثنين على الأقل ولو ضمنيا، وبذلك يصبح ذلك التحويل عملية مواضعة أو اتفاق ذي سمت اجتماعي تداولي أكيد. وقد لا يظهر هذا المختزن المرجعي للغة في الواجهة الأولى عند إعادة إنتاج الواقع في الرواية لأن بنية الخطاب الأدبي قد تحجبه إلى حين لكنها لا تستطيع حذفه أو إنكاره بالمرة وهو في صميم كينونتها.

وبما أن الواقع المحول قد أصبح وعيا لغويا مفهوميا فإن الدلائل اللغوية تصبح وقائع اجتماعية متفاعلة أو رؤيات للعالم متحاورة. وعندما نبحث عن الواقع التلفظي في الرواية ينبغي أن نجده إذن على مستوى الوعي الذي تمثله الكتابة مهما حاول الكاتب إخفاءه ضمن الأوعاء المتصارعة. ولذلك يدافع الاتجاه السوسيونصي في النقد الأدبي المعاصر عن علاقة اللغة بالواقع الذي هي جزء منه وهو كامن فيها، ويعتبرها مفتاحا مناسبا لفهم الصراعات الاجتماعية في مختلف تحولاتها.

وقد سعى باختين مثلا إلى تأسيس علم اجتماع لغوي يجمع بين فلسفة اللغة وفلسفة البنى الاجتماعية وانتقل من مفهوم الدليل (الكلمة) إلى مفهوم الخطاب، كما طرح مفهوم الحوار أو التفاعل اللفظي كمفهوم مركزي يحدد الخلفية الاجتماعية لكل خطاب(9). واعتبر أن فهم الواقع المتضمن في الرواية يتوقف حتما على فهم لغاتها المتحاورة، لأن >الحوارية< خاصية تناصية تكوينية لم يسلم منها إلا كلام آدم الذي كان يقارب عالما بكرا خاليا من كلام الآخرين(10). وهذا يعني أن لغة الرواية أو لغاتها مشروطة أصلا بالواقع التاريخي للشرائح الاجتماعية التي تتكلمها، ولا بد في فهمها من تجاوز الحدود النصية إلى السياقات التناصية داخلية وخارجية كما تقول كريستيفا.

وقد اعتبر بيير زيما كذلك أن الرواية مجموعة من البنيات التركيبية والسردية التي تتفاعل مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية على مستوى اللغة، لأن العلاقة الجدلية بين اللغة والواقع هي المبدأ المنظم لسوسيولوجيا النص الأدبي على اعتبار أن المصالح الاجتماعية تتمظهر في اللغة. ومن ثم ينبغي تقديم النص الأدبي في الإطار التاريخي للوضعية السوسيولسانية، كما ينبغي ربط الرواية بالمرحلة التاريخية التي ظهرت فيها وببلاغة المجموعة الاجتماعية التي تحاول تجسيد مصالحها ضمن بنيات كلامية خاصة (11).

وهكذا فالعلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة عضوية ومحايثة؛ وهو ما يفسر ظهور أشكال تعبيرية بعينها (الرواية مثلا) في ظروف بعينها. إن التاريخي والاجتماعي يلتحمان في لغة النص وفي بنياته حيث تعبر التقنيات الفنية عن التغيرات الاجتماعية. وعوض أن نربط الأعمال الأدبية بالإيديولوجيا كما فعل النقاد الماركسيون، علينا أن نجتهد في استخلاص المعنى الاجتماعي لكتابتها وبنياتها.(12)

استنتاج

قبل أن ترتبط إشكالية اللغة بالأدب فهي مرتبطة بإشكالية الفكر وبإشكالية الواقع الذي تنبثق منه وتتضمنه لأنها تحوله إلى مفاهيم، أي إلى فكر لا يمكن التنصل منه أثناء استعمالها في الإنتاج الأدبي ومنه الروائي؛ ومن ثم فالأدب معني مباشرة بنظرية اللغة وبنظرية الخطاب ومعني بالإبداع اللغوي وبالممارسة التي تفجر عبقرية اللغة وتمكن الإنسان من التعبير الدقيق واللطيف عن حاجاته النفسية والفكرية والوجدانية، وإذا كانت كل فروع المعرفة تشتغل باللغة وتشغلها، فإن محاولة فهم الإنتاج الفكري تمر ضرورة بمحاولة فهم القضايا التي تمس اللغة من قريب أو من بعيد؛ وخاصة حينما يكون هذا الإنتاج هو الأدب الذي يشتغل باللغة مادة ووسيلة وليس كباقي الفنون مادة أخرى يمكن أن تكون اللغة سبيلا إليها فقط.

على أن إشكالية اللغة في الأدب مرتبطة أيضا بإشكالية المناهج والمفاهيم، فالنظرية القائلة مثلا باستقلالية النص الأدبي وإمكانية اكتفائه بذاته قد تجعل للغة فيه دورا تشكيليا وجماليا بالأساس ولا تكاد تعير اهتماما لحقيقتها المرجعية التي قد تعتبرها من قبل الوهم الذي يتوهمه الإنسان تحت ضغط الأعراف اللغوية فقط. أما النظرية القائلة بضرورة اعتبار الجانب التواصلي في الخطاب الأدبي فهي تقدر الشحنة الدلالية للغة قبل وأثناء وبعد استعمالها في هذا المنتج الكلامي، وكما تتساءل عن كيفية القول وتقنيات التعبير فهي تتساءل عن مقول القول وتنبش في مجرياته وفي أصول تكونه وتمثلاته، وهذا ما يستوجب استحضار مقدرات اللغة وقدراتها في نقل المعرفة وتمثيل الواقع وبلورة التفكير.

ثم إن الذي يكتب للخاصة أو المتخصصين قد يستعمل لغة ما أو يعنى بلغته عناية قد لا تجد مثلها عند من يكتب للجماهير أو يريد التواصل معها بطريقة فنية مبسطة، كما أن الأجناس الأدبية المختلفة تقتضي استعمالات لغوية كذلك ، فيحرص الشاعر مثلا على لغة الإيحاء والرمز، ويعتني القاص بلغةالحكي وبناء الحدث، في حين يخضع المسرحي لسلطة الحوار ولغة تشكيل اللوحات وتشاكلها. ويبقى بعد هذا وذاك أن اللغة في الأدب وإن لم تكن متحررة كل التحرر من سلطة الواقع ومن سلطة الفكر فهي تمتلك إشعاعا مولدا وجاذبية لا تتوفر لها إلا فيه ولا تقوم له قائمة إلا بها. وذلك هوالفتح الذي تستثمره سائرالخطابات رغم إصرارها على انتقاده أو على عدم الاعتراف بمشروعيته. ومن ثم فدور اللغة المكتظة في بنية الخطاب الأدبي ومنه الروائي هو دور الإنماء والتمرد، وهي تغذيه وتشحنه وهو يقويها ويغير جلدها باستمرار، وهي تمده بالإمكانات وتتيح له الممكنات، وهو يثور بها من داخلها ويحرك ديناميتها الخلاقة على الدوام.

———————————————–

الهوامش

1- ادوارد سابير : >مدخل للتعريف باللغة<، ترجمة سعيد الغانمي ، في >اللغة والخطاب الأدبي<، المركز الثقافي العربي، 1993، ص. 12

2- Zerafa , Michel : Roman et société , PUF , 1971 , pp 80 -81

3-Schaff , Adam : Langage et connaissance , éd, seuil . 1969

4-Zimma , Pierre : Pour une sociologie du texte littéraire , p 11

5-Grillet , A R : Pour un nouveau roman , ed Minuit , 1965 , p 115

6- Benveniste , Emile : Problèmes de liguistique générale , éd ,Gallimard , tome 1, 1966 , p 28

7- مارتن هايدغر : >هيلدران وماهية الشعر<، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، مراجعة بدوي، القاهرة 74 ، ص. 145

8- ميخائل باختين : >الخطاب الروائي<، ترجمة محمد برادة، الرباط 1987، ص. 56

9- Bakhtine , M : Le marxisme et la philosophie du langage , éd Minuit , 1977 , p p 25 – 27

10- باختين، المرجع السابق، ص. 45

11- Zimma , Pierre :op cit, p 299

12- Zimma , Pierre op cit , p 236