نظرية العماء الأدبي وبلاغة التشويش النقدي

Bengrad
2021-06-04T11:59:03+00:00
العدد الثامن
13 أغسطس 2020531 مشاهدة

سعيد علوش

1 – ما قبل التعريف : إضاءة

تجدد الخطاب المعرفي الأدبي من خلال أشكال : >تراكمية/ قيمية/ منطقية/جمالية< كانت وراء استكمال شروط الانفتاح على التجربة وأفق الترقب. من ثم، يبدو أن مفاهيم كالعقلانية أفرزت ظـواهر لم نستطع التحكم فيها على غرار >العماء< و>التشويش<، على سبيل المثال لا الحصر.

وإذا عدنا إلى أصل المفهومين نجد أنهما ترعرعا في حضن العلوم المحضة : (فيزياء/كيمياء/ميكانيكا)، بالنسبة لـ>العماء<، و>الاعلام< بالنسبة لـ >التشويش<، في المرحلة الأولى.

أما المرحلة الثانية، فقد تميزت بنقلتهما النوعية إلى العلوم الإنسانية، وتحقيق الشروط الأولية لهذا الانتقال، حتى وأن الاتفاق حول وضعيتهما يظل بعيد المنال.

لقد روجت الآداب الطليعية اليوم لمفهومي العماء والتشويش، بما يكفي ليفقدا طابعهما الاستفزازي والمثير، حتى وأن انتقالهما إلى حقل الأدبية، يتطلب أكثر من سؤال معرفي حول كيفية هذا الانتقال والتكييفات المصاحبة لتحويلاتهما.

ويبرر هذا التوسع المعرفي افتراض تاريخ مزدوج وقواعد وحدود ضمنية للمفهومين، لذلك يتم التوسع داخل ما يطلق عليها اليوم >الثورة النسقية<، التي تستخلص تصورها الحديث على نحو تدريجي من فروع مختلفة للعلوم والتقنيات في >نظرية النسق العام< و>الاختلالات العضوية< و>النظرية الرياضية للتواصل< و>الذكاء الاصطناعي< و>الدينامية العامة للانساق<…

فتوظيف >نظرية العماء< و>بلاغة التشويش< في التحليل الأدبي، قد يمكن من استدعاء إشكاليات التعقيد الفني وأنماط الصدف النقدية، في محاولة لتفسير الظواهر الأدبية العامة، ووصف اللغة الخاصة، بكامل تداعياتها ومنفلتاتها الاعتباطية النقدية والأدبية.

لامنأى لنظرية الأدب إذن من الاعتراف بالوضعية المعرفية للعماء والتشويش، لما في ذلك من إعادة الاعتبار إلى النسقية والدينامية الأدبية، في انفتاحهما الضروري على الأنظمة الثابتة والتراتبية أو العمياء وغير المستقرة، مما يسمح لنا بفهم أحسن لما كان خفيا في المقاربة الأدبية ومستبعدا في مناهجها ومختزلا في أطروحاتها.

فحضور الطابع السلبي للعماء والتشويش، طوال عقود من التقاليد الوضعية، لا ينفي إعادة الاعتبار إلى الطابع الإيجابي للمفهومين، بدعوى الحفاظ على الانسجام والائتلاف النصي ورفض التناقض بطمسه واختزاله، مع إدراك مسبق أن خطاب العماء والتشويش قد يسبب من الإزعاج أقل من رفضه، بالنسبة للحريصين على إنجاز نظرية أدبية شاملة باستبعاد العناصر المناقضة لها واختزالها في مجرد زوائد دودية.

2- عماء المعجم وتشويش البصيرة

إذا كانت الكلمات أشياء لا مجرد دلائل، فإن علينا -لفهم أحسن لها- اقتراح مساءلة تخص عماء التشويش وتشويش العماء داخل حقل معجمي، قد لا يلزمنا ما لا يلزم، بقدر ما يقدم مؤشرات على تحديد الأبعاد : >الطبيعية/ الحسية/ الفضائية/ الرمزية/الزمانية< التي تجعل من >العماء< : >السحاب الكثيف المرتفع، الذي يشبه الدخان على قمم الجبال<. وفي ذلك يأتي بيت حميد ابن ثور :

فإذا احزألا في المناخ رأيته كالطود أفرده العماء الممطر

وقول الحارث بن حلزة :

وكأن المنون تردى بنا أعـــ صم صم ينجاب عنه العماء

لكن هذا العماء قد يتحول إلى دلالة مغرقة في الميتافيزيقا فهذا أبو رزين العقيلي يسأل النبي : >أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال : في عماء تحته هواء وفوقه هواء<.

فعماء >اللاشيء< يمتلك خصوصيات عدم الاستقرار، فهو، >اللاشيء المتحول< على خلاف >عدم< الفلاسفة الذي >لاخصوصية له<، ولا تكمن القضية في تفسير النظام انطلاقا من العماء بل في فهم واستيعاب >اللانظام< في العالم المنظم، لذلك كان العماء مخالفا للنظام، وهذا ما يضعنا في حلقتين الأولى خاصة >بنسيان العماء< منذ أصوله إلى الآن، أما الحلقة الثانية فهي تستعيد >العماء< مغلفا بتاريخه الذي لا يتجزأ من >تاريخ النظام< -أسطوريا وفيزيائيا-

أما بالنسبة لمفهوم >التشويش< فيستضيفه المعجم على مضض، حيث يقدم عنه تعريفا-منكرا: >التشويش لا أصل له في العربية وأنه من كلام المولدين، وأصله التهويش وهو التخليط<. فالتشويش أو الشوش خليط ينعدم فيه تمييز العناصر المكونة للشيء دون أن يتحدد انتماؤه إلى الكتلة أو إلى القوة -بالمفهوم الكانتي-. لكن الشاعر العربي المجهول يجعل من الكلمة مركبا لهواه :

بخده من بقايا اللثم تخميش وبي لتشويش ذاك الصدع تشويش

لذلك لا تكتفي خلطة التشويش بشيء دون آخر، إذ سنجدها تمتد معجميا إلى : 1- عرض مرضي/ 2 – خفة وسرعة/ 3 – البعد القليل/ 4 – الاختلاف والاضطراب/ 5 – العبارةالمشوشة غير المستقيمة في التركيب والمعنى/ 6 – الجناس المشوش عند البديعيين مما يتجاذبه طرفان من الصناعة.

ونجد في العنصرين الأخيرين دلالات تقترب من حقل اشتغالنا الأدبي، من خلال الثنائية الواضحة في توليد النقيض المقعد…

أما في حقل >الاعلام< فيعرف شانون (1949) التشويش كحالة نظام تتخلله حالة فوضى، فالدلالة المعجمية لا تشذ عن الدلالة المحتملة في نظرية العماء وبلاغة التشويش، ما دام من المستحيل البحث عن المطابقة، ولأن ما يهمنا هو إشارية تجعل المجال الثقافي للأدب العربي قابلا لاحتواء الكليات الإنسانية لأنه جزء من هذه الكليات.

3 – عماء العلم وبصيرة الأدب

لقد كان بوانكاري (1907) سباقا إلى تأويل ما تمثله الصدفة من جهلنا بتفسير اختزالي لها، أو باستبعادها نهائيا، كما كانت هذه الصدفة وراء اكتشاف جاذبية نيوتن، ومع ذلك ظل عماءالصدفة قائما إلى أن تمكن إدوارد لورانزو (1963) من إعطاء شكل لمفهوم العماء المحدد، من خلال نماذج إرصادية، واستطاع دافيد رويل (1971) عبر ابداعه لـ : >الجاذب الأجنبي< الإحاطة بظواهر العماء، باعتبارها عناصر غير سلبية، ولها من الإيجابي الكثير مما تختزله العلوم حفاظا على انسجام أطروحاتها، التي طالما أعلنت قطيعة العلمي مع الأدبي، والفيزيائي مع التخيلي.

ففي الحين الذي يعلن فيه إنشتاين تعلمه الكثير من دوستيوفسكي أكثر مما تعلمه من الفيزيائيين، علينا أن نستعيد كل قواعد النفي التي ووجه بها الأدبي إلى حد الآن.

فلا غرابة إذن أن يعتقد نابوكوف : >أن ما يمكن ضبطه ليس يضبط دائما بالدقة المطلوبة<، وهكذا لا يلخص نابوكوف ميتافيزيقا إبداعه فقط بل يقبل بوجود ظواهر عشوائية واعتباطية، سواء تعلق الأمر برواية >لوليتا< أو بآرائه النقدية.

إن الكوابيس التي تصفها روايات كافكا وأورويل وهيكسلي وكونديرا ليست كلها قواعد ولكنها هواجس المحتمل الروائي، الذي يحبل بالخيال المنفلت من عقاله.

من ثم، يتساءل إيليا بريجوجين : ألا يستدعي عالمنا التفكير في الحكايات العربية لـ>ألف ليلة وليلة،< حيث تتداخل القصص بعضها بالبعض الآخر، كما يتقاطع تاريخها مع تواريخ : >المادة/الكون/الحياة/المجتمع/الفضاء<؟. فالتداخل بين الأسطوري والعلمي في تفسير الظواهر >الواضحة والخفية< غير قابل للشك حتى وأن المعضلة التي يوحي بها مجاز التعارض بين العلم والأدب، ببلبلته الناتجة عن تجريبية، تبقى على وهم الحقيقة التقنية في الكتابة وهي تتخلص من لغتها.

من ثم، يظل الأدب من منظور العماء المتنفس الوحيد لكينونات مهملة ترفضها المؤسسة التي تضفي على الأدب كل السمات الثانوية للعلم، حتى وأن مضامينه هي نفس مضامين العلم. فهنالك سمات عديدة تربط بين الاثنين، باعتبارهما خطابا، رغم أن اللغة لا تنهض بهما معا في تدنيها إلى مستوى الوعاء أو الأسلوب، حتى لو كانت الموضوعية فيهما تبدو متخيلا كباقي المتخيلات، إلا أن الاختلاف بينهما تحدده الكتابة التي في إمكانها تكسير طوق الهالة حول عماء العلم وبصيرة الأدب.

4 – نقد العماء وتبصير التشويش

هل يمكن اعتبار ظاهرتي العماء والتشويش من الظواهر التي تقتضي مساءلة منطق الأشياء من منظور النقد الابستيمي الذي ينزع إلى مقاربة الخط العام لنظرية العماء وبلاغة التشويش الكامنتين مبدئيا في الطرق التي تتمظهر بها المفاهيم ذات المزايا الأدبية في تعقيدها وبساطتها؟

فدينامية العماء تختلف بطريقة حاسمة عن الدينامية الكلاسيكية، لأن الحركة العمياء لا تحتل الفضاء الثابت والمحدد، بل ترسم محيطه وتحتويه فيما يسمى: >الفضاء الأملس< عند دولوز وكاتاري.

لذلك كان العماء المقصود هو ما تقترحه كاترين هايلي، وهي تطلقه على الموقف الجديد الذي توجد فيه ظاهرة ثقافية تتجاوز بكثير المجال العلمي إلى الحقل الأدبي، الذي يعتبر تشييدات لا تجعل من الإبدالات العلمية عالما مثاليا، بل جزءا من كل.

قد يصبح اللاوعي نواة التشظي في تحليل كثير من الظواهر الأدبية والبنيات المعرفية، التي تخفي غالبا العماء الفكري عن غير قصد أو عن جهل بآليات التشويش على التراتبية والانسجام. وبما أن المجاز احتمالي فلا شكل أنه بدوره عنصر تناقضات دلالية، في طرحها للأسئلة على النقاد والأدباء، وهم يحاولون اكتساب بصيرتهم بالنصوص -المقروءة أو المكتوبة- وهي بصيرة ذات حركة سلبية، تقود لغتها بعيدا عن جوهرها.

كما تدفع هذه البصيرة إلى استخلاص القارئ لنتائج تتجاوز حصيلة النقاد عبر ما يطلق عليه الفجوات الأنطولوجية، التي تفصل ما بين الكاتب ونصه والناقد وتأويله والقارئ ومقروئه، بحيث تكشف الملاحظة عن قول ما لا يقول به العمل، وقول ما لا يعنيه القائل، فهامش الخطإ هذا هو علة كافة التأويلات.

من ثم كانت تسوية سوء التفاهم بين النقدي والأدبي تحريرا للأول من الإلزاميات العمياءللثاني، برفعه إلى ما فوق العلم، أي إلى فاعلية أساسية بعد أن كانت اعتبــارات وضعية النقد مجرد حركة طفيلية تلحق بالنصوص التي تنقدها -النقد كتابة فاشلة-.

لاشك أن مقولة إيهاب حسن >النقد هو الأدب وإلا فهو لاشيء< جاءت لتفند هذا التشويش الأدبي وذاك العماء النقدي، الذي أخذ على نفسه صياغة طموحات عقود من البحوث الحداثية، وبلورتها في شكل ما بعد حداثي، يشدد على هامشية عمياء لمراكز تفتقد البصيرة بنفسها.

فلم يكن من المستغرب أن ينعت بيتر بروكر انتفاضة إيهاب حسن بأنها مجرد تطلع إلى ثورة ثقافية تنقصها المعرفة الإدراكية، في انحدارها نحو فوهة ثقب أسود، تطلق عليه النزعة الإنسانية الجوفاء، وهي في نهاية المطاف ليست أكثر من فردية محورية متناقضة وصوفية تحن إلى موروث الستينات والسبعينات.

5 – التشميل السالب والافراد الموجب

لاشك أن >الميثولوجيا البيضاء< -عند بول دي مان- تقوم وراء نسيان المجازات لمجازياتها حين تتحول إلى مجرد معاني حرفية محرفة، تولد التشويشات والتعارضات والانفلاتات، بل والضلالات كذلك، وهذا ما يساعد النقد الأدبي على الكشف عن أخطر الأساطير التي عبرت عنها أعمال لأعلام من قبيل : هوسرل وروني ويليك وروني إيتيامبل -على التوالي- في أعمال لا تخلو عناوينها من دلالة على التشويش :

1- أزمة العلوم الأوربية والظاهراتية المتعالية

2- أزمة الضمير الأوربي

3- أزمة الأدب المقارن

4- أزمة الأدب … المقارنة ليست عقلنة.

فالإعلان عن الأزمة إحساس بخلل عضوي في العملية الأدبية، فأعراض التشويش هي عوارض عماء إيجابي أيضا، في النظرية الأدبية…

لذلك كان اقتراح دراسة النصوص كأشكال وتجمعات فرصة الدارس لكسب حس بالسياق المغيب، وحدس بالبعد المجازي، أو >مجاز الفراغ< -عند والتر بنيامين- ، أو المتاهةالزمنية للتأويل في التشميل السالب لنقد ماوراء الأطلنطي كما هو منعكس على كتابي: >التشابه والاختلاف< لمفتاح -في المغرب- و>المشاكلة والاختلاف< للغذامي -في السعودية- في محاولتيهما التبشير ببصيرة احتواء الموروث للحداثي، والدعوة إلى عماء المناهج الشمولية، بطريقة يغلب عليها عماء التكييف، وتشويش التطويع لمركزية عقائدية ضمنية تنزع من البصيرة أصولها المعرفية في استبدال لكل ذلك بعماءالإيجابيات السلبية.

يقابل هذا التشميل السالب الإفراد الموجب عند أدونيس، وهو يقترح علينا بصيرة صوفية وعماء سورياليا، يزاوج بين الاثنين قافزا على كل الأطر المعرفية والتاريخية يقوده حسه الشعري وقناعته النقدية في تبني تمجيد السورياليين لتشويش الحواس وتعطيلها، فرحا باكتشاف قصيدة النثر في التجربة الصوفية العربية، لذلك تسلح أدونيس بعماء اكتشافه لإعلان زواج كاثولكي بين الصوفية والسوريالية في كتاب خاص -بعقد على ملة البصيرة-

وتتوخى المعادلة مصالحة شبه مستحيلة، تدفع أدونيس إلى الحلول في نصوص غيره متماهيا بها لحد قوله -في عماء غريب- بأن ما يقوله : >ليس سوى خلاصة لما يقوله ابن عربي<. كما أن نفس العماء يحدوه في تحويل بعض أشعاره إلى خلاصات لأشعار من يترجمهم إلى العربية -سان جون بيرس على سبيل المثال لا الحصر-.

فهل هي لعنة تناص العماء أم بصيرة التشويش على مكر اللغة الذي يحدو أدونيس إلى أن يستحق كتاب كاظم جهاد : >أدونيس منتحلا<؟

هل هو التشميل السالب أو الإفراد بصيغة الجمع ذاك الذي يعطل مجاز الحقيقة الصوفية السوريالية؟

6 – بلاغة التشويش بين المجاز والحقيقة

كيف يكون >الجناس المشوش… تجاذبا بين طرفين من الصناعة< في >محيط المحيط<؟

وكيف يكون >النظر مخاطبا للناظرين بما لا تنقاد به عبارة ولا تحمله ترجمة< عند النفري؟

ألا تعتبر هذه الثنائيات المصدر الأول للالتباس، من حيث استهدافها تبسيط أوجه المعادلة التعبيرية في الأدب والنقد؟

لاشك أن هذا الالتباس هو الذي يجعل من البلاغة جهدا ثقافيا يوجه عالم اللغة إلى الفهم وذلك بمواجهتها بجمل لا تملك فقط معاني حرفية وذاتية، بل تنتج دلالات إضافية كذلك، تجعل من الأدب المدونة الثقافية والمرجع البلاغي للتشويش الإرادي الواعي وغير الواعي.

ألم يعتبر أفلاطون البلاغة مجرد سفسطة بحكم عدم توفرها على الإيجابي؟ لاشك أن مواجهتها بالفلسفة كان إحساسا بضرورة إقصاء التناقضات الممكنة التي لم تستطع البلاغة مواجهة قضويتها -الصائبة أو الخاطئة-.

فالتأويل الفيزيائي للتشويش الإعلامي والتمييز بين الإعلام الرمزي والبنيوي قد يمكننا من الفهم الحدسي والنقلة النوعية إلى الأدب بشكل يحقق الانفتاح على كل الظواهر العشوائية والطفيلية المشوشة على التواصل، أو المحفزة للأحاسيس ببلاغة تكرارها أو اختزاليتها للمعنى على حساب الزيادة في كم الكلام ، الوظيفة اللغوية عند ياكوبسون.

لهذا فنحن نفهم لماذا توصف الاستعارة بأنها أسطورة مصغرة؟

كما أننا نفهم لماذا توصف الأسطورة بأنها استعارة مكبرة؟

وقد يحدث أن لانفهم لماذا كان اللا انسجام وليس الانسجام هو القاعدة فيما يخص النصية؟

كما لا نفهم كذلك لماذا كان التخيل شكلا من أشكال أدب العوالم الممكنة لا الحقيقية؟

وقد نفهم لماذا كانت مجازات القراءة ضرورة تخلص البلاغة من صرامة تفكيكها؟

كما نفهم لماذا كانت الفجوة الأنطولوجية تخلصا من الفهم المبهم وسطوة اللغة؟

فهل على الأدب أن يقوم بكل هذا العماء وهذا التشويش حتى يستحق إسمه؟ يظهر أن أنسي الحاج في خواتمه يقرب إلينا هذا الإحساس بحجم التفاوتات التي ينتجها الخطاب، بحس الشاعر وإدراك الناقد : >بعض النقد أجمل من الأثر الذي يتحدث عنه، وكما يتفوق الخلق على مسببه ومسبباته أحيانا كذلك قد يتفوق النقد على مسببه / الخالق. نحن هنا أمام ظاهرة لم ينصفها النقد، ولا الدارسون مع أن دائرتهم تتسع<.

وبنفس الإدراك يسجل خلل التشويش بين المنطق وغيابه : >كلما لجأ أحدهم أمامي إلى المنطق التحليلي شعرت شعورا محسوسا، يلمس باليد، بأن عملية نزوح بدأت من منطقة المعرفة بلا شرح إلى مناطق “الشرح مع انتقاص من المعرفة”<

فهل يعجز منطق الأشياء أمام الإحساس المبهم بالتشويش أم أنه مجرد مكر اللغة بأهلها ؟

7 – أغلوطة القصد أم أغلوطة التشييد

يعتقد نور ثروب فراي أن باستطاعتنا >تشويش التفكير بالترابطات المألوفة للغة، بقدر تشويش التفكير عن طريق التفكير بالكلمات<، ويعبر هذا التشويش عن أغلوطة القصد، كتعبير عن خطأ الحكم على العمل الأدبي، عبر مقصديته أو غيابها لأن من الصعب إدراك فعل الخيال بالكلمات أو الكلمات بالخيال.

من هذا المنظور يمكن تجريب بصيرتنا النقدية التي تغامر بعمائها، من أجل بلوغ بصيرة ممكنة في الإلمام بحداثية سلفية، نرتئي التعامل معها من خلال نموذجين، الأول مغربي والثاني مشرقي، ولكنه لقاء على حافة العماء والبصيرة.

النموذجان هما :

1 – >التشابه والاختلاف< (1996) لمحمد مفتاح

2 – >المشاركة والاختلاف< (1994) لعبد الله الغذامي.

فهل يندرج الكتابان في بلاغة التكرار أم في عماء التشويش؟ خاصة أنهما صدرا عن نفس الدار، ولكن لجامعيين -أحدهما من المغرب والآخر من السعودية توحدهما مملكة السلطة ومملكة النقد- يحاولان معا تحقيق المعادلة المستحيلة، في الجمع بين موروث الشبيه وحداثي الاختلاف.

أ – بصيرة النسقية وعماء التشابه

يقترح محمد مفتاح أسبقية >التشابه< على >الاختلاف< كضرورة، لأن حقائق الأمور تعرف عنده بالتشابه في إحالة واضحة مصرح بها على موروث التوحيدي الذي يرى أن الحق واحد مهما اختلفت الأسماء، مع أن المعايير المنظمة لدعاوي الحقيقة المعرفية تمتح من ألعاب لغوية تعتمد على السياق، لا على القواعد المطلقة للتشابه، الذي يتحول إلى نشاط مغالطة يوظف في تبرير غير منطقي أو متناقض يوهم باقتحام مجاهل المعرفة الحديثة، لإنقاذ القراء من ضلال مناخ علموي : >وضعي/ تجزيئي / تجريبي<، لأن قراء الناقد يفتقدون -في نظره- >الخلفية النظرية والمنهاجية والغايات العلمية<.

وبما أن الناقد من الوضوح والبصيرة -أي من التشويش الواضح والعماء البصير- لذلك فهو يقترح علينا عناصر نظرية ومنهاجية >شمولية< تعتمد >الانتظام /التوازي / الجهادية<، وكلها تطبيقات تضفي على الطابع اليقيني مسحة البصيرة النموذجية، التي تفتح الآفاق وتصف الخطاب كما تصحح عماء الأخطاء وغفلة الأذهان خاصة وأن الناقد يعتبر أن >فلاح مقاربته< تعتبر >نعمة من الله<.

لذلك يستبعد الناقد نظرية العماء ببصيرة عمياء تحمل على التفكيكية الديريدية العمياء ويخيل لقارئه أن شكلا من أشكال المركزية العقائدية يسكن بصيرة الناقد ويدفعه إلى استباق إحساسه بخطر تقويض التراتبية والنسقية التي تفترض الرفض الصارخ للإختلاف -على خلاف مشاكلة اختلاف الغذامي التي كانت أكثر مكرا بمنهجها المدجن-.

يظهر أن الاختلاف يمثل عنصر تهديد للهوية الجهادية والإبدالية لناقد يتحول إلى موقف دفاعي عن حداثة سلفية أي عن تراتبية >متفتحة< توفيقية وفقهية تقوم على التعمية، لسد ثغرات الشمولية التي تلقي بنفسها داخل الثقب الأسود لنسقية مقيدة ومتغربة.

ويظهر أن بصيرة الناقد تحاول التغلب على عمائه السابق، من خلال آلة نقدية وإبتسمولوجية، تتفوق على أنطولوجية المقاربة رغم إدراك إيجابي لنظرية العماء. لذلك لا نستغرب هذا الاحتفاء باستعراض آخر التقليعات النظرية في شكل تلاخيص وإشارات إلى تآليف سابقة بشكل محكم لا يشي بأي فجوة معرفية، بيقينية تعمل على حجب أي جهل بالتيارات التي تصب في التراتبية : >الخطية/ الشجرية/ التفاعلية< المنبهرة بنسقية التفرد بآخر تقليعات المنهج الشمولي، المقلل للتعارضات مما يسهل الربط بين الظواهر مرورا تحت الحواجز المعرفية لا قفزها، لأن الناقد يكره حرق المراحل وينصح بعدم إحراقها، لأن في ذلك إحراقا للذات …

من ثم كانت قراءة الناقد في ضوء نظرية العماء تكشف عن خلفية بلاغية لا تنفلت من بلاغة التشويش وإن كانت لا تؤجلها، فمنذ استهلال الصفحة الأولى من >التشابه والاختلاف<، يتم الاحتفاء بأسبقية وأقدمية التشبيه على الاختلاف لحد أن الكتاب يكاد يأتي لمجرد تقديم تطبيقات تبحث عن البرهنة على عماء أطروحات جاهزة تتجسد في معرفة واحدة بحقائق التشابهات سواء كان النص جبرانيا أو توحيديا أوجهاديا في تاريخ الأدب المغربي، حيث تنتقي كل التحقيقات السابقة لتستبدل بجوامع : >أنطولوجية/ صورية/ شبهية/ انتظامية<.

يكمن عماء المقاربة في محاولات تنضيدها للمتشابهات من الكتب والنماذج والموضوعات والظواهر داخل أدب واحد أو آداب تختزل إلى غاية حب الاطلاع وتحقيق رغبة فنية محدودة لا تتعدى الحكم التفضيلي الذي ينتهي إلى التصنيف كنهاية حتمية، حتى وأن هذا المتشابه لا يملك قيمة تاريخية ولا يتقدم بتاريخ الأدب ونظريته قيد أنملة…

لاشك أن بصيرة الناقد سلكت في تقرير متشابهاتها عماء يقين المركزية العقائدية، وغاب عنها أن هذه التشابهات إنما هي نقطة البدء الضرورية لتفسير جزئي لا أقل ولا أكثر. من هنا فبدل أن تقود البصيرة النقدية إلى منطق الأشياء، تقود إلى سياحة معرفية، طلبا لطبق من عماء الشمولية، التي ستحتفي بحداثة سلفية ومنهج حقيقي وشامل، يرضي القناعات الفقهية، في نسيان بصير بأن التعامل مع حداثة تقنية محافظة، ليس أكثر من مجرد وميض من الرؤى الأخلاقية الغارقة في عماء تمثل ضمير العصر.

ب – عماء المشاكلة وبصيرة الاختلاف

تدثر الغذامى بعماء الخطيئة -المشاكلة- وبصيرة التكفير في مشروعه التشريحي، الذي جعله يركب صهوة التشويش اتقاء عين المركزية العقائدية التي لدغ من جحرها زميله السريحي.

لقد كانت البداية التشريحية تعمية أولى للتفكيكية والهدم -كسلبية- يقترح لردمها >البناء< -كإيجابية- في تشويش واضح على سلبية الإيجابي بإيجابية سلبية -من منظور المركزية العقائدية- حتى وأن مواطنيه البازغي والرويلي كشفا عن هذا العماء ببصيرة تعريف >دليل الناقد الأدبي<، وإن كانت >تقويضيتهما< لم تزحزح الغذامي عن تشريحيته التفكيكية من أجل البناء كما لو كانت هذه التسميات مجرد انزياحات تشويشية، لا تكشف عن بصيرتها إلا من خلال أنها أسماء عديدة للمسمى الواحد الدريدي بالطبع. فأول عماء ينخرط فيه الغذامي يظهر لأول وهلة في تعريب وأسلمة الاصطلاح، دون تبرير النقلة النوعية من حقل إلى آخر، سوى اعتباره لـ : >مفهوم الأثر< كترجمة لـ : >سحر البيان الذي أشار إليه القول النبوي الشريف< وثاني عماء بصير سيجعل من >النهج التشريحي< سرجا >يعينه على الثبات على صهوة النص السابح<، ويمكنه من تأنيث النص المذكر، فهو >جسد حي< يحتاج إلى >مبضع القلم< يلج هذا الجسد لتشريحه بغاية عمائية ثالثة هي >تأسيس الحقيقة الأدبية< التي تمتص التناقض المنهجي ببلاغة تشويش خفية، تجعل من التفكيك والنقض وسيلة لبلوغ غاية البناء، أي البحث عن إيجابية تستبعد السلبي وتحتفي بعماء رابع ببصيرة تتوخى الانتهاء بالتشريحية إلى >اتجاه نقدي عظيم القيمة<، بأخلاقية فقهية تطمئن قارئ المركزية العقائدية بذر الرماد على >تشريحية تختلف عن تشريحية ديريدا< أي تحويل الأصول الحاخامية إلى أصول إمامية، مادام الجامع الميتافيزيقي حاضرا في العماءين -الديريدي الجرجاني-

أما العماء >المغسول< فهو نقض منطق العمل المدروس بالتعزيم على حياة العمل والمراهنة على هيكله، بنية مسبقة تجرد التفكيكية من أسلحتها التي يمكن أن توجه إلى مستعملها لا إلى غيره، حفاظا على التراتبية التي تدجن >إيلاف الاختلاف< بجعله آلة تكشف >عيوب الشعر المعنوي<.

ومع إدراك الغذامي للمنهج الغربي، فهو يقوم بمحاولة فك هذا >التمركز الغربي< بمنطقه الفلسفي محولا إياه في تحريفية عمياء واضحة إلى >نحوية< قاهرية -عبد القاهر الجرجاني- يقترب فيها >التكرار< من >السرقات< لحد >وقع الحافر على الحافر<.

وعندما يطمئن الناقد إلي قدرته التكييفية العمياء ينفخ فيها ببصيرة >القراءة الحرة<، >النظامية والجادة< والقادرة على توحيد >القديم الموروث< مع >الجديد المبتكر<، وهذا ما يزود >مشرحة< الناقد بإمكانية الاشتغال بما اطمأن إلى سكونه وعدم مواجهته بأي احتجاج… وبعد أربع سنوات على استنبات التشريحية، يعود الغذامي بكتاب تطبيقي حول : >المشاكلة والاختلاف< ليقترح >قراءة في النظرية النقدية العربية< بحثا عن >الشبيه المختلف< وهو هنا على الأقل كان أكثر مكرا بشبيهه المختلف بالمقارنة بشبيه مفتاح في >التشابه والاختلاف<، مع اشتراكهما في عماء البحث عن تراتبية بصيرة، بقفازات مخملية تمكر بقارئها وتوقع بمعارفه في حبال بصيرة التكييف -تخليص الأبريز-.

يتحول >اختلاف< دريدا إلى >مبدأ نصوصي يجد بذرته لدى الجرجاني<، وهذا ما يدفع الناقد إلى فوهة ثقب أسود يطلق عليه >النص المختلف، الذي تشير إليه مقولات الجرجاني< في مقابل >مشاكلات< : >الآمدي/ المرزوقي<. ولطرد أشباح العماء في أطروحات الغذامي فهو يمنطق منطقه بمنطق يعطي فيه السبق إلى اختلاف الجرجاني على اختلاف ديريدا، كما لو كان يكشف عن بصيرة جديدة يصرح فيها إلى أن بين >الاثنين فروقا جوهرية< حتى وهو يدفع بديريدا إلى أن يطفو على سطح النص -استئناسا- لكنه لا يلبث أن يلوي عنقه في معادلة إيجابية ظاهريا سلبية ضمنيا، تلك التي تجعل من الآباء أصولا ومن الحفدة -الغربيين- فروعا، وبذلك يكون العماء إيجابيا داخل المؤسسة الثقافية لعلمها الجاهل، وخارجها في الأوساط الأكاديمية لجهلها العالم بقواعد الانحراف و الانزياح والتكييف. لن يعود الاختلاف هو >اللاشيء<، الذي هو أساس كل >شيء< وبدونه لا وجود ولا معرفة، لأنه سيواجه بمشاكله ابن رشيق الذي سيجعله الناقد مجتهدا يجمع >الشيء وشكله< حيث >المشاكلة هي الأصوب< مادام الجرجاني يجعل منها المبدأ النقدي القائم على الجمع بين >شدة الائتلاف< و>شدة الاختلاف< في اختزال بين للتناقض المنهجي، حيث يستوي فيه النسيج عند ابن طباطبا.

وبهذا التعزيم البصير يتحول >الاستواء< إلى مبدإ اختلافي يجمع المتنافرات والمتباينات، التي تحسم في مبدإ>الشبيه بين الأشياء المختلفة< أو>إيجاد الائتلاف في المختلفات<، التي تتأكد بشواهد جرجانية، يحضر مقارنتها خطاب فوكو في معادلة، كالتالي :

فوكو : >الخطاب فكر مكسو أو فكر مرئي بالكلمات<

الجرجاني : >الألفاظ وعاء المعاني<.

والخلاف الذي يستخلصه الغذامي هو عبارة عن تحويلات لفظية تستبدل فيها >المعاني< ب>الفكر< و>الألفاظ< بـ>الكلمات< و>الخطاب< بـ>النظم<…

ويتكلل عماء الناقد في جعل >مقولات أسلافنا< في >مسألة النص< تمتلك >البعد النظري< >لما نتصوره اليوم عن مفهومي المفتوح والمنغلق< بحيث إنها >لا تختلف مع ما نجده لدى العصريين<.

يلجأ الغذامي -على غرار مفتاح- إلى نماذج تطبيقية يجدها جاهزة في >المقامة البشرية< للهمذاني، التي تأتي كعبرة لمن يريد الاعتبار، أي نسخ اللاحق للسابق، في تراتبية ترفض قتل الأب الأوديبي -الغربي طبعا- لتكتفي بما يمثل عماء بصيرتها المركزية : >مصلحة النمو والإبداع< في >مواجهة التقليد والدونية<، لينتهي مكر البصيرة إلى إيجاد شبيه مختلف يعزز >الإضافة والنمو< مؤكدا أن >الاختلاف أساس التمييز والتجاور<.

وهكذا تحضر بصيرة الغذامي في المقارنة الإيجابية بين >أوديب< غربي -مرفوض- و >المقامةالبشرية< -المقبولة- يتم من خلالهما مواجهة بين سوفوكل والهمذاني، حيث ينقح الثاني الأول ويكتفي بطل الثاني بهزيمة والده -لا قتله- كما أنه بدل أن يتزوج من أمه سيتزوج من تلك التي كان والده ينوي الزواج بها ضرة على أمه، فهو ينتقم لأمه من أبيه، دون فقد أبيه أو فقء عينيه خطيئة وتكفيرا.