مارينا ياغيلو
تقـــديم
هل يمكن وعي الذات ووعي ما يحيط بها خارج إواليات اللغة وقوانينها؟، وهل يمكن تصور عالم إنساني يعج بالصفات والنعوت والأسماء وباقي التحديدات الأخرى خارج ما توفره اللغة من مفاهيم ومقولات ؟، وهل يمكن، ضمن هذا الوضع، أن نتصور لغة محايدة تكتفي بوصف العالم وصفا “موضوعيا” كما هو دونما اعتبار لشيء آخر ؟.
تشكل هذه الأسئلة منطلقات الكتاب الذي نترجم منه هذا الفصل، كما تشكل أساس بنائه : اللغة باعتبارها خزانا، وباعتبارها مصفاة، وباعتبارها أداة للنمذجة والتصنيف ووعي الذات ووعي الآخر.
ولأن اللغة ليست كلا منسجما يقدم، بصفاء، تصورا موحَّدا وموحِّدا للكون، فإنها تدرج ضمن عالمها ذاك سلسلة من التصنيفات الفرعية المحددة للعرق واللون والجنس : لا نخاطب الطفل بنفس اللغة التي نخاطب بها الراشد، ولا نخاطب المرأة بنفس اللغة التي نخاطب بها الرجل، ولا نخاطب ” الزعيم” و” الرئيس ” و”المسؤول” بنفس اللغة التي نخاطب بها ” العامة ” من الناس. فنحن أمام صفات تحدد مقاما للقول ، وتحدد للغة تركيبا ، وتحدد للتركيب كلمات خاصة . إنها مقتضيات المؤسسة : إلغاء الهوامش حفاظا على صفاء البناء الإيديولوجي ونقائه.
إن اللغة لا تعين فحسب، إنها تصنف : تصنف العرق واللون والجنس والطبقة، وتحدد لكل دائرة من هذا الدوائر موقعها ضمن الممارسة الإنسانية حيث الفعل ورد الفعل، وحيث الثقافي يلغي الطبيعي وحيث الشكل يتجاوز المضمون : إن اللغة تنزعنا من عالم “طبيعي” لتقذف بنا إلى عالم “ثقافي” تكتشف الذات فيه وجود أبعاد لها في الآخر وفي العالم المحيط بها كما يشير إلى ذلك إيكو. وعلى هذا الأساس، فإن كل “التمييزات” ( لنقل التصنيفات ) اللغوية المرتبطة بهذه العوالم تكشف عن نظرة تصنيفية : إنها في غالب الأحيان احتقارية من هذا الجانب وتمجيدية من الجانب الآخر.
إن أدوات التمييز متنوعة ( انظر الكتاب : النوع والعدد وعلاقتهما بوضع المرأة في المجتمع، المذكر والمؤنث ، أنواع اللغات …). تتسرب هذه التمييزات عبر التسمية والتباينات التي تخفيها أولا، وتبدو من خلال خزان اللغة ومرجعها ثانيا، أي القاموس : مداخله وإيحاءاته وتداعياته. من التعريف يأتي التمييز الأول حيث تدل كلمة “رجل” ( في اللغة الفرنسية على الأقل ) على الإنسان وعلى المذكر في نفس الوقت، ولا تدل كلمة “امرأة” إلا على ما يحدد الجنس ، بعدها تأتي الإيضاحات عبر أمثلة مرتبطة بالإيحاءات (كل القيم المضافة المشكلة للمعاني الثانية ) حيث لا تدل المرأة إلا على الضعف والوهن والجبن، ثم تأتي بعد ذلك التداعيات ( المرادفات والضديات) حيث ترتبط كلمة امرأة بالشر والخديعة والتحايل والمكر وكل الصفات التي تضيق بها جنبات القواميس.
ومن جانبنا نكتفي بتقديم بعض “التحف” التي تضمنها ” لسان العرب ” والخاصة بكلمتي “مذكر” و”مؤنث”، إننا نريد فعل ذلك لتأكيد البعد الكوني للغة في تصنيفها للمرأة وتأبيد اضطهادها. يقدم لسان العرب سلسلة طويلة من المداخل، منها ما هو خاص بالتصنيف الجنسي المباشر كدلالة المؤنث على المرأة ودلالة المذكرعلى الرجل، وفي هذه الحالة لا يقوم القاموس إلا بالإحالة على وضع موضوعي محايد. إلا أن الأمر سيختلف مع الاشتقاقات والتفتح على السياقات. وهكذا يقدم لسان العرب في مادة أنث ما يلي:
– الأنثى خلاف الذكر في كل شيء.
-يقال للرجل : أنَّثت تأنيثا أي لنت له ولم تتشدد.
– والأنيث من الرجال المخنث، شبه المرأة.
– أرض أنيثة ومئناثة سهلة منبتة …. ليس بغليظة.
– بلد أنيث لين سهل، وزعم ابن الأعرابي أن المرأة إنما سميت أنثى من البلد الأنيث … لأن المرأة ألين من الرجل.
– والأنيث هو اللين.
– سيف أنيث، هو الذي ليس بقاطع.
– سيف مئناث إذا كانت حديده لينة.
ويقدم في مادة ذكر ما يلي:
– التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى.
– يوم مذكر إذا وصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل.
-رجل ذكر إذا كان قويا شجاعا، أنفا أبيا.
– مطر ذكر شديد وابل.
– قول ذكر صلب متين.
– شعر ذكر فحل.
– فلاة مذكار ذات أهوال ولا يسلكها إلا الذكر من الرجال.
– والذكر والذكير من الحديد، أيبسه وأشده وأجوده وهو خلاف الأنيث وبذلك يسمى السيف مذكرا.
إننا أمام سلسلة من التحديدات المنفتحة علي سياقات بالغة التنوع. وسواء تعلق الأمر بالذكر أو بالأنثى، فإن السياقات رغم تنوعها واختلافها، فإنها لا تحيل في نهاية الأمر إلا على كون دلالي واحد يوحد السياقات ضمن دائرة مفهومية واحدة. وهكذا نلاحظ وجود قيمة دلالية واحدة تجمع بين سياقات مختلفة تحيل عليها كلمة “الأنثى”، ويتعلق الأمر بـ ” الضعف” المتولد عن : ” اللين” و”السهولة” و” غياب الشدة” و” انتفاء الوعورة “. وكذلك الأمر في حالة كلمة ” مذكر” . فسياقاته المتنوعة تحيل على ذاكرة دلالية واحدة يمكن تجسيدها في : “القوة”، كما توحي بذلك “الشدة “و”الوعورة” و”الصعوبة” و”السيف القاطع” و”اليوم الشديد” و”المطر الوابل”.
وبما أن الذكر والأنثى يشكلان محورا دلاليا واحدا لا يمكن فصل حده الأول عن حده الثاني، فإن طبيعة الارتباط الموجود بينهما – كا هو مثبت في القاموس- لا تتحدد من خلال تقابل محايد يجعل من الحد الأول يتمتع بنفس قيمة الحد الثاني داخل الدائرة المضمونية التي يحيل عليها المحور الدلالي الذي يربط بينهما. إن الأمر يتعلق بتقابل يجمع بين السلبي والإيجابي، بين الفاعل والمنفعل، بين القوي والضعيف.
تلك هي المرأة، فانظروا ما فعل القاموس بها.
إن الفقرات التي قمنا بترجمتها تشكل الفصل الخامس من الجزء الثاني من كتاب مارينا ياغيلو Marina Yaguello : Les mots et les femmes , éd , Payot ; Paris 1987 وهو يمتد على تسع صفحات من ص 165 إلى ص 173. ويحمل العنوان التالي : Faut-il brûler les dictionnaires. ويتكون الكتاب من جزءين. يحمل الجزء الأول العنوان التالي : Langue des hommes , langue des femmes، ويشتمل على خمسة فصول تتناول المواضيع التالية :
– L’héritage des anthropologues
– Du descriptivisme ethno-folklorique à la sociolinguistique
– Les éléments de l’interaction verbale
– A la recherche d’une identité culturelle
– Le discours féministe et anti-féministe
أما الجزء الثاني فيشتمل على سبعة فصول وتتناول المواضيع التالية :
– Genre et sexe : la métaphore sexuelle
– Masculin / féminin : dissymétries grammaticales
– Masculin / féminin : dissymétries sémantiques
– La langue du mépris
– Faut-il brûler les dictionnaires
– La femme sans nom, la femme sans voix
– L’action volontariste sur la langue, ou peut -on infléchir l’évolution naturelle des langues?
ولقد ذيلنا هذه الترجمة بهوامش توضيحية لمساعدة القارئ على تحديد موقع الفصل الذي ترجمناه من الكتاب ككل.
المترجم
النص المترجم
تتكون كل كلمة من وجه تقريري (وهوما نطلق عليه عادة معنى الكلمة)، وآخر إيحائي (أي مجموع القيم الناتجة عن أحكام أخلاقية واجتماعية أو جمالية مثل : نذل/شهم، حسن/رديء، جميل/قبيح، مدحي/مهين)، وثالث يخص التداعيات (موقع الكلمة داخل حقل دلالي ما : علاقات التكامل والتناظر والتضاد، فحقل التداعيات الذي يخص كلمة امرأة هو : أنوثة، أمومة، طفل، زوج، منزل، عاهرة…). وفي أغلب الحالات فإن الوجه التقريري هو ما يثبت في القاموس، في حين تختفي الإيحاءات في الأمثلة الاستعمالية وفي الاستشهادات، أما التداعيات فتعود إلى الإحالات التناظرية والضدية.
إن القاموس إبداع إيديولوجي، إنه مرآة للمجتمع والإيديولوجيا. فهو يلعب، باعتباره أداة ثقافية وسلطة لا تناقش، دور الكابح للغة والمحافظ عليها، ويقوم بنفس الدور بالنسبة للذهنيات والإيديولوجيا. وكما كان يقول فكتور هيغو، يجب أن ترفق كل ثورة بإصلاح للقاموس.
لا يدخل القاموس من هب ودب. فهناك كلمات لن تجد أبدا طريقها إليه، وأخرى تلجه من بابه الضيق (مرفوقة بـ : عامي، سوقي، عادي، أو توليد néologisme )، وهناك ما تلجه بطرق ملتوية عبر قواميس أنشئت خصيصا لهذا النوع من الكلمات، ويتعلق الأمر بقواميس يمكن نعتها بـ >القواميس التطهيرية<، كقاموس الألفاظ السوقية أو >اللغة الفاضحة< (langue verte)، وقاموس التوليد néologisme أو >قاموس الكلمات الجديدة الشائعة< الصادر حديثا ( 1974) الذي يحتوي على كلمات مثل : الميز الجنسي (sexisme)، المرأة /الشيء، femellitude، الفالوقراطي.
ولا يعد تداول هذا النوع من القواميس أمرا حديثا. فقد أصدر مارسيي Mercier سنة 1801 معجما للتوليد أو معجم الألفي (2000) كلمة جديدة، احتجاجا على الإقصاء المعجمي الذي يمارسه قاموس الأكاديمية الفرنسية. وفي سنة 1831 نشر مجموعة من النحويين الفرنسيين ملحقا لقاموس الأكاديمية يشتمل على ما يقرب من إحدى عشر ألف (11000) كلمة جديدة أصبحت متداولة بفضل الاستعمال والعلم منذ 1794 ورغم ذلك ظلت غائبة من قاموس الأكاديمية الفرنسية.
لا يعتبر القاموس، بأي حال من الأحوال، جردا محايدا لكلمات اللسان. ذلك أن مجرد اختيار الكلمات >الجديرة< بأن تكون فيه أمر بالغ الدلالة، نفس الأمر ينسحب على التعريفات التي تعطى لهذه الكلمات. فقاموس كـ Petit Larousse يكشف الشيءالكثيرعن ذهنية الذين أعدوه. وإليكم بعض >اللآلئ< التي تضمنتها طبعة 1940:
– éjaculation : courte prière émise avec ferveur
– ananas : fruit tropical, ex : ananas au kirsch
– gaiment : avec gaité , ex marcher gaiment à la mort
– érotisme : goût maladif de l’amour
(sic et resci)
ولنأخذ أيضا Grand Larousse XIX le الذائع الصيت. فلإن كانت بعض مداخله تافهة ومثيرة للضحك (لقد جمعت مؤخرا على شكل أنطولوجيا)، فذلك لأنها كانت موسومة بإيديولوجيا برجوازية رأسمالية تكسوها أخلاق القرن التاسع عشر (أخلاق عرفت حديثا بعض التطور). إن القاموس ليس سوى تسجيل مباشر للحظة ثقافية.
ولقد درس لافارج Lafargue في كتابه >اللغة الفرنسية قبل الثورة الفرنسية وبعدها< (أشار إليه كالفي 1977) (1)، القاموس والإيديولوجيا التي تحكمه على عهد النظام القديم، وفي مرحلة الثورة، ثم إبان عودة النظام القديم. ولقد أنجزت من جانبي عملا متواضعا يقوم على مقارنة قواميس حديثة، ركزت فيه على كلمتي >رجل< و>امرأة< وفضاءاتهما الدلالية. ولقد كانت غايتي هي الإمساك بالتباينات التقريرية (وهي تباينات صارخة)، وتبيان كيفية تعامل القواميس المختلفة مع هاته الفضاءات. أما الإيحاءات والتداعيات فستكشف عنها القواميس – بشكل عفوي -الأمثلة الإيضاحية والمرجعيات والإحالات. لقد كتب جان ديبوا و ك. ديبوا
> إن دخول ذات التلفظ يتم أيضا بطريقة لاشعورية عبر اختيار وصنع الأمثلة. فعبر الأمثلة، التي تملك وظيفة لسانية ودلالة ثقافية، تتسرب أخلاقيات وجماليات القاموسيين. إن هذه الأمثلة تشكل مجموعة حقائق حول العالم ليست خالية من الأبعاد الإيديولوجية. ويتعلق الأمر بإيديولوجية المجموعة التي ينتمي إليها القاموسيون، وكذا الأسلوب الفردي في الحكم على الجمل والإرساليات التي تحتوي عليها (ج. ك دوبوا 1971 ).
وبهذاالشكل يتضح الدورالذي يلعبه القاموسي(2) في التعبير عن الإيديولوجيا والترويج لها، وكذا في الكشف عن الطبيعة الاجتماعية لعلم القاموس(lexicographie). فخلف القاموس، الذي يبدو وكأنه إبداع مجهول، يختفي مؤلفون أي أفراد. فالقاموسي يشكو من طابوهات وممنوعات وخاضع لنماذج شعورية أو لاشعورية. إنه، وهو يقدم تعريفا لـ>رجل< أو>امرأة<، يقع تحت طائلة ما تمليه عليه القوالب الثقافية والإرغامات الاجتماعية.
يقول Larousse ( 1940) عن >رجل< : 1) كائن ذكر، 2) ممثل لفصيلة. ويقول عن >امرأة< : رفيقة الرجل، زوجة، تلك التي كانت أو مازالت متزوجة (لقد كتب أحدهم أو إحداهن في النسخة التي وقعت بين يدي : إذن لست واحدا أو واحدة منهما). أما طبعة 1976، التي سجلت تطورا ملحوظا، فتقول عن >امرأة< : 1) كائن بشري مؤنث (وهو تعريف طوطولوجي ذلك أن القاموس يعطي لمؤنث التعريف التالي : ما يعود إلى النساء)، 2) زوجة، 3) تلك التي كانت أو مازالت متزوجة.
ومن جهته يعرف Littré الرجل باعتباره homo)، ولكنه لا يميز بين homo (كائن بشري) وبين vir (عنصر). والحال أن المرأة تعد جزءا من homo. وبناء عليه فإن Littré لا يقيم أي تمييز بين امرأة ورجل، وهو أمر يكشف عن أن القاموسي يقيم معادلة لاشعورية بين الذكر والفصيلة البشرية.
وفي مقابل التعريف الإيديولوجي البين لـ Petit Larousse، يقدم Quillet Le وRobert تعريفات >موضوعية< و >بيولوجية<. وهكذا فإن القاموس الموسوعي Quillet Le يقدم التعريف التالي لـ >امرأة<: 1) جزء من الفصيلة البشرية، كائن ممثل لجنس النساء، وهي بذلك نظير للرجل (ويظل الرجل هو المرجعية الأصلية، ذلك أنه لا يشار في تعريف >رجل< إلى أنه نظير للمرأة)، 2) زوجة الرجل، وتعتبر قادرة على الإخصاب والإنجاب، البالغ.
ويقدم Dictionnaire usuel Quillet -Flammarion 1963 التعريف التالي لـ >امرأة< : 1) جزء من فصيلة البشر، ممثلة لأحد الجنسين، وتتميز بامتلاكها لأعضاء تمكنها من الحمل. 2) كائن مؤنث راشد في علاقته بطفلة، 3) زوجة الرجل.
أما Le Petit Robert فيقدم التعريف التالي لـ >امرأة< : 1) كائن مؤنث يحبل ويلد أطفالا، أنثى الفصيلة البشرية، 2) زوجة، 3) ربة بيت.
أما Le Grand Robert فيعطي التعريف التالي لـ >امرأة< : 1) كائن بشري، أنثى، 2) تلك التي كانت أو مازالت متزوجة، 3) ربة بيت.
ومن جهته يقدم Dictionnaire Général de la langue française Harsfeld Darmsteter (1964) التعريف التالي : 1) امرأة : جزء من البشرية، شخص من جنس خلق لكي يخصب ويلد، 2) زوجة، 3) ربة بيت.
إلا أن هذه التعريفات ذات الطابع البيولوجي تستند جميعها إلى مفهوم القدرة على الإنجاب، وهي بذلك تصنف المرأة، بشكل نهائي، باعتبارها أما، مهملة بذلك الشواذ والعاقرات والمشوهات التكوين. وعلى العكس من ذلك، لا يحدد الذكر باعتبار قدرته على الإنجاب، فهو رجل حتى ولوكان عاقرا أو عنينا. ويعتبرالتعريف رقم 2 الذي يقدمه Le Quillet 1963 >كائن بشري، راشد في علاقته بطفل<، رغم غموضه وطوطولوجيته، التعريف الأكثر مصداقية.
إلا أن التباين الأساس مرده، بالتأكيد إلى القيمة التوليدية لكلمة رجل. وفي هذا الصدد، يمكن تتبع تطور كلمة homo اللاتينية في اللغات الرومانية، فـhomo تعني باللاتينية الفصيلة البشرية وليس الذكر.
لقد استولى الرجل على هذه الكلمة، التي تعين البشرية، ليجعل منها كيانا يدل على الذكر. ويمكن اعتبار هذا التطابق بين الذكر والفصيلة، الموجود في لغات عديدة، (هناك استثناءات : الروسية: muscina >ذكر<، celovec >كائن بشري<؛ الألمانية : mann et mensch ;)، نتاجا لذهنية يحكمها ميز جنسي (sexisme). فكما أن المتهم بريء إلى أن يثبت العكس، فإن الكائن البشري رجل حتى يثبت أنه امرأة.
وبطبيعة الحال، فإن القواميس ليست مسؤولة عن المعنى المزدوج لكلمة >رجل<، إلا أنها كذلك في طريقة تقديمها لهذه الكلمة. فهذا لاروس 1976 مثلا يشير في البداية إلى أن رجل >هو بصفة عامة الفصيلة البشرية<، ويضيف >الكائن البشري منظورا إليه من زاوية أخلاقية<، مثال ذلك >رجل شهم، رجل سيء<. ووفق هذا التعريف، فإن الكائن البشري ليس امرأة. وهو ما يشبه قولنا: >رجل الشارع<، >الرجال العظماء>، >رجل الفن<. فنحن لا نتصور أن الأمر يتعلق أيضا بالمرأة. فالنساء موجودات في التعريف ومستبعدات منه في الآن نفسه.(3)
ولندع الآن جانبا المظهر التوليدي للمسألة (…) (4)، لنواصل قراءتنا للقواميس. فإذا تجاوزنا التعاريف لننكب على دراسة الإيحاءات، فإننا سنكتشف أن هذه الأخيرة تحط، بلباقة أو بصفاقة، من شأن المرأة وتعلي من شأن الرجل. Nouveau Larousse illustré يقدم التعريف التالي للمرأة : >أنثى الرجل<، >كائن بشري خلق ليخصب ويلد أطفالا<، ثم يضيف قولة لفولتير >كل استدلالات الرجل العقلية لا تساوي إحساسا واحدا من أحاسيس المرأة<. ما أسرعه من تصنيف للمرأة : لقد خلقت لتكون أما وتتفرغ للعواطف بدل التفكير العقلي. ويضيف التعريف : >تحيل المرأة بصفة عامة على مجموع الأشخاص من جنس مؤنث<، مثال >تختزن المرأة قوة تدميرية لا توصف ( أ. ميربو ). وهنا ينقشع الأمر عن واجهة أخرى : المرأة قوة مدمرة، في حين يمثل الرجل قوة البناء (الأمثلة المصاحبة لرجل تحيل على إنجازات الرجل وفتوحاته). هذا ما توحي به ستة أسطر فقط من القاموس.
أما Grand Robert فإنه يحيل في تعريفه لـ>المرأة /الكاتب< على cf bas-bleu، أي متأدبة، لحظتها تبدأ لعبة التداعيات. وهذا القاموس نفسه يقول عن >المرأة داخل المجتمع< :
امرأة الشعب، امرأة بذيئة، امرأة من أسرة ملكية، المرأة التي تعمل في الحقول، وفي المعمل، وفي المتجر، وفي المكاتب، امرأة مستقلة، امرأة أديبة، امرأة المسرح، امرأة السينما، عرافة، امرأة أنذرت حياتها لله، نذرت حياتها لفعل الخير، راهبة، امرأة جندية، امرأة بطلة، امرأة شهيدة.
وهو ما يحيل تناظريا على :
أميرة، ملكة، عاهلة، فلاحة، عاملة، موظفة، خياطة، راقنة، بائعة، سكرتيرة، عارضة أزياء، كاتبة متأدبة، ممثلة، فنانة، كوميدية، راقصة، نجمة، عرافة، راهبة، أخت، بطلة، قديسة.
هذا هو إذن الدور الاجتماعي للمرأة. والمثيرللدهشة حقا هو أن هذا التجميع اللامتجانس والمقصود، يغيب ليس فقط مجموعة من المهن (المصنفة ضمنيا غير نسوية) بل يغيب أيضا دور >الأم< ودور >العاهرة<، مع أن الأمر يتعلق بالمرأة داخل المجتمع. وبدل ذلك يشار إليهما في : >المظهر النفسي، مظاهر المرأة<. فدور الأم والعاهرة لا يعتبران جزءا من البنيات الاجتماعية، بل يدخلان ضمن الانحرافات النفسية >الطبيعية< لدى المرأة.
أما ما يقدمه Grand Robert عن المرأة، وهو تعريف يحتل صفحات عديدة، فإنه يقوم، عبر طريقة العرض، وعبر توزيع المظاهر المشار إليها، بتدعيم وتأكيد الأحكام المسبقة والبديهيات والقوالب الجاهزة. وإليكم ما يقال عن >نفسية المرأة< :
روح المرأة، حدس المرأة، الموهبة الأدبية للنساء، إخلاص المرأة، حب الظهور عند النساء، دلال النساء، طيش وضحالة النساء، أوهام المرأة، الدلال، المرأة والموضة، الغسيل، الأثواب، قضايا النساء، حياء وجرأة النساء، المرأة حيوان حامل لتنورة، هشاشة، ضعف، قوة، سلطة النساء، حب الاستطلاع عند النساء، المزاج، جنون المرأة، الغيرة، الرجل الذي يكره النساء.
ليقدم بعد ذلك صفحة كاملة من الاستشهادات لكتاب كلهم من الرجال (هيغو، بودلير، شكسبير، ماريفو، لاروشفوكو، موسي، لافونتين…)، وكل هذه الاستشهادات تؤكد الطابع السلبي لنفسية المرأة إلا واحدا (…).
إن الإحالات التناظرية والضدية لها دلالتها أيضا. ففي Grand Robert دائما نعثر على: >فحل= انظر شجاع، حيوي، صارم؛ وضده : أنيث، مؤنث<، والنتيجة هي أن : مؤنث = ضعيف، نذل، بدون حيوية.
وهناك نقطة أخيرة وهامة سبقت الإشارة إليها في >لغة الاحتقار<(5)، ويتعلق الأمر بالتباين الكمي بين الفضاء الدلالي الذي تغطيه كلمة >رجل<، وذاك الذي تحيل عليه كلمة >امرأة<. وبالتأكيد فإن الأمر يتعلق بواقعة خاصة باللسان ولا دخل للقاموس فيها. ومع ذلك فإن اختيار تنظيم المداخل في >قواميس المرادفات والتناظرات< التي اطلعت عليها اختيار في غالب الأحيان اعتباطي. فإذا عدنا مثلا إلى Le dictionnaire des idées suggérées par les mots ( Paul Rouaix, chez Armand Colin ) فسنجد ما يلي :
امرأة : جنس مؤنث، جنس ضعيف، جنس جميل، بنت حواء، تنورة، تنورة داخلية، مغزل، خدر، حريم، سرايا، مكتملة، بنت، طفلة، آنسة، شابة، ساذجة، بريئة، بالغة، ناضجة، ماجنة، nonnain ، فتاة صغيرة، في مقتبل العمر، حمقاء، ميس، ميسز، ميلايدي، ليدي، زوجة، سيدة ، سيدة مهيبة، عانس، شقراء، سمراء ، مائلة إلى السمرة، حميرة ، جمال، متأدبة، سيدة مجتمع، سيدة بيت، مدبرة، بشعة، خليلة، بلهاء، قذرة، ثرثارة، شرسة، مسترجلة، ضحلة.
رجل : مخلوق بشري، فرد، فردية، شخصية، شخص، أحد، فلان، شبيه، غير، خاص، متدين، جار، فان، الكائنات البشرية، الإنسانية، إكواتوري، استوائي، قطبي، جنس مذكر، الجنس القوي، إنساني، فحل، طفل، مراهق، رجل مكتمل، عجوز، انتروبولوجيا، المشخص، أكل لحم البشر، توحش، انتروبوميتريا، جريمة.
الملاحظ وجود تسلسل دقيق يحكم انتظام التداعيات الخاصة بكلمة >امرأة<، أما فيما يخص كلمة >رجل<، فإن هناك خلطا بين homo وvir (ما يدل على الإنسانية وما يدل على العنصر المنتمي إلىها). أما التباين العددي، فإنه يعكس تباينا داخل اللسان. وبالفعل لماذا تذكر صبية fillette وليس صبي garçonnet، ولماذا عانسvieille fille وليس عانس (6) vieux garçon، لماذا مسترجلة homasse وليس أنيث effiminé، لماذا ملكة وليس ملك، لماذا بطلة وليس بطل.
يتعلق الأمر هنا بتضخيم للتباين يتجاوز حقيقة اللغة. والأخطرمن ذلك أن عدد الكلمات التي تحط من شأن المرأة يتجاوز بكثير تلك المحايدة أوالتي تعلي من شأنها. فإذا تركنا جانبا، >بطلة<، >إلهة< و>أمزون< وكذا الصفات، فإن الإيحاءات الإيجابية هي تلك التي لها علاقة بالجمال أو المظهر الخارجي. إلا أن هذه الكلمات ستفرغ من محتواها عندما توضع بجانب تلك الدالة على >المرأة التي تباع<. إن الكلمة الوحيدة التي تشير إلى القدرة العقلية عند المرأة هي >bas -bleu< متأدبة، وهي كلمة قدحية بدورها. إن هذا الاختيار القاموسي يكشف عن ميز جنسي صارخ، حتى في غياب نية ذلك. وهذا الاختيار نفسه هو الذي نجده في Dictionnaire analogique , Larousse .
وعلى العكس من ذلك، فإننا لا نعثر في Dictionnaire des synonymes et antonymes de Hector Dupuis ( Fides) على أي شيء يخص >امرأة< و>بنت<. وبالمقابل فإن كلمة >رجل< لها من المرادفات : جندي، عامل فرد، كائن فان، فلان، عظمة. وضدها : ضعيف، ركيك، لاشيء، ضائع. فهذا الاختيار يعبر بوضوح عن الإيحاءات الإيجابية لكلمة >رجل<. ويقدم تعريفا لـ >زوج<، ولكنه يهمل تعريف >زوجة<. إن المرأة في هذا القاموس موجودة بقوة لدرجة أنها غير موجود. وبالمثل، لا نجد تعريفا لـ>عاهرة< التي تشير إليها كل القواميس الجدية.
ويحيل هذا الوضع على ما أشرنا إليه سابقا، ويتعلق الأمر بمساءلة الكلمات التي يجب أن تدخل القاموس وتلك التي يجب أن تستبعد منه. إن القاموس، بالتأكيد، ليس جردا شاملا لكلمات اللسان. وبما أن اللغة ليست كيانا منسجما من الناحية الاجتماعية، فإن القاموسي يقوم بتقطيع اعتباطي، في غالب الأحيان، لمناطق تتناسب و>الاستعمال الجيد<، ويسمح لنفسه ببعض التجاوزات هنا وهنالك.
فكم من الكلمات أقصيت من القاموس رغم شيوعها. (لاعبو scrabble يعرفون هذا جيدا، وإن كانت لدي نصيحة، سأنصحهم باستعمال Robert فهو أكثر تسامحا من Larousse).
لقد مارس المجتمع دائما سلطته في مجال المفاهيم. فالموضوعات المحرمة تحرم الكلمات التي تتحدث عن الموضوعات المحرمة. والحال أنه في سجلات الإهانة تمنع الكلمات الدالة على الأقليات العرقية أو الاجتماعية أو الدينية مثل :
amerloque,coco,flic,rital,raton,youtre, youpin ,boche, bicot ( 7)
ويعد Le Robert أكثر شجاعة من غيره تجاه المحرمات اللسانية فهو يسجل كل هذه الكلمات، الغائبة، كليا أو جزئيا، في القواميس الأخرى. ( cf. Rey , Debove 1971).
وفي المقابل، تعج القواميس بالكلمات المسيئة للمرأة. فالقاموسيون إن كانوا يتحاشون الإساسة إلى الأقليات ويقفون في وجه الميز العنصري واللاسامية، فإنهم لا يفعلون ذلك فيما يهم ما يدل على المرأة. فإذا كان الميزالعنصري والعداء للأجانب منبوذين (حتى في مجال التشريع)، فإن الميز الجنسي مسموح به، بل ويشجع عليه أحيانا.
هل يجب إحراق القواميس ؟
لقد قامت ألما غراهام Alma Graham (1975) في الولايات المتحدة بدراسة الآثار السيئة التي تتركها القواميس على وعي الأطفال في تحديداتها لدور المؤنث والمذكر في المجتمع. فالأمثلة التوضيحية للتعاريف تدعم القوالب والأفكار الجاهزة. ولقد قام فريق من اللسانيين وعلماء النفس بمحاولة إنجاز قاموس خال من الميز الجنسي اعتمادا على دراسة عبر الحاسوب لـ 35000 كلمة مستعملة في 700000 سياق منتقى من كتب مدرسية. ولقد استبعدت من هذا القاموس كل الاستشهادات الميزية والأمثلة من نوع : مؤنث، مثال : سحر الأنثى، حيلة أنثوية. ذكر، مثال : ثبات رجولي.
فمتى يرى هذا القاموس النور في الفرنسية؟ فمن نافلة القول إن مهمة القاموس هي التسجيل الأمين لكل الكلمات كما هي عند مستعملي لسان ما في مرحلة ما. ولن يفيد في شيء حذف هذه الكلمة أو تلك أو هذا التصور أو ذاك، أو هذا الاستعمال أو ذاك، بدعوى أنه يحتوي على نزعة ميزية. فمادامت هذه الكلمات موجودة، فعلينا أن نقر صراحة بوجودها، وسيكون من الخطأ تطهيرالقاموس، لأن التطهير سيقود إلى الرقابة بكل تبعاتها. ومع ذلك هل نقبل باستمرارية تواجد الكليشيهات والقوالب اللامجدية والضارة وغيرالمتطابقة مع الواقع في القواميس؟
———————————————————————–
الهوامش
1- الكاتبة تشير إلى كتاب : Louis-Jean Calvet : Marxisme et Liguistique ; 1977
2- آثرنا ترجمة lexicographe بالقاموسي،لأن الكاتبة تعني به اللساني الذي يقوم بجمع وإعداد كلمات لسان ما ضمن قاموس يعتبر مرجعا للسان.
3- ( إحالة قدمتها الكاتبة ) و>بنفس الطريقة، فإن الرجل الأبيض يخص نفسه بصفة الإنسانية، وهذا مايفسر وصف السود للرجل الأبيض ب man كنتيجة لهذا التطابق بين الأبيض والفصيلة البشرية<.
4 – الأمر يتعلق بفصل من فصول الكتاب الذي نترجم منه هذه الفقرات ويحمل العنوان التالي : la langue du mépris، وفيه تقوم الكاتبة برصد لغة خاصة الهدف من ورائها الحط من قيمة المرأة . فكما أن اللغة ليست كلا منسجما، وأن السائد سياسيا هوالذي يملك حق التسمية والتصنيف والوصف، فإن الرجل -حسب الكاتبة، يقوم بتوليد لغة مختصة في شتم وذم كل ما يتعلق بالمرأة جسدا وروحا، انظر الكتاب من ص 149 إلى ص 163.
5- تشير الكاتبة إلى فصل من فصول الكتاب ويحمل العنوان التالي : l’action volontariste sur la langue , ou peut-on infléchir l’évolution naturelle des langues ، وتناقش الكاتبة في هذا الفصل قضية هامة تخص إمكانية التدخل إرادويا من أجل تحديد مسار اللغة واتجاهات تطورها. وفي هذا الاتجاه تحدثنا الكاتبة عن محاولات الحركات النسوية لحذف وإضافة كلمات إلى القواميس الحالية. فكما أن كل ثورة تقوم بخلق وتغيير وتعديل القواميس بالإضاف أوالتعديل أو الحذف، فإن الحركة النسائية تقوم بالمثل، وهكذا عوض أن نسمي الانسانية humanity بالإمكان أن نطلق عليها weamanity وعوض chairman الإنجليزية تقدم chairperson. انظر الكتاب من ص 181 إلى ص 193
6- تشترك هذه الصفات مجتمعة في مضمون واحد : احتقار /الأجنبي. إنها تسميات قدحية تحمل موقف الفرنسيين العنصريين من العرب، وسكان شمال إفريقيا والألمان واليهود والأمريكان والإيطاليين واليهود
7-يقال العانس من النساء والرجال.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6846