جيرار دولودال
تـقــديم
لا يمكن اختصار سميائيات بورس في سلسلة من الأدوات الإجرائية الخالية من أي روح، كما لا يمكن اعتبارها أجوبة على أسئلة >محلية< تخص هذا القطاع من المعرفة دون ذاك؛ وهي كذلك لم ترتبط -في تصوراتها النظرية والتطبيقية- بدرس بعينه قد يحد من امتدادها وشموليتها. لقد كانت التجربة الإنسانية في كليتها نقطة انطلاقها وغايتها في الآن نفسه. فالإنسان مهد العلامات، إنه منتجها ومستهلكها والمروج لها. فلا شيء يوجد خارج مدار ما ترسمه العلامات من سيرورة لدلالة لا تنتهي عند حد. إنها تساؤل حول المعنى وتساؤل حول شروط إنتاجه وأشكال تمظهره. فماذا تعني السميوزيس، إن لم تكن لهاثا وراء معنى لا يستقر على حال، وهذا إسهام أول من إسهامات بورس.
إلا أن الهروب من المعنى كاللهاث وراءه : لا أمل في الخروج من دائرة المعنى، ولا أمل في الوصول إلى معنى كلي ونهائي، ألم يقل بورس : >إن السميوزيس في هروبها اللامتناهي من علامة إلى علامة ومن توسط إلى توسط، تتوقف لحظة انصهارها في العادة، لحظتها تبدأ الحياة ويبدأ الفعل< (voir , Eco : Le signe, p 205). إنه مبدأ الامتداد : امتداد العلامة نحو الفعل، ورصد لأثر العلامة في الفعل. فهي تحيل على ما يوجد خارجها وتموت، ومن موتها تنبعث القاعدة والقانون والعادة. وهنا تبدأ عجلة التأويل. وذاك إسهام ثان. يمكن النظر إلى السميائيات باعتبارها نظرية للتأويل، فما يحدد صحة العلامة هو الوجه المؤول داخلها، فالعلامة لاتحيل على موضوع، فحسب، إنها، بالإضافة إلى ذلك، تكشف عن معرفة جديدة تخص هذا الموضوع. ولأن الموضوع هو أصل الإحالة، فإنه يتجاوز العلامة في الوجود وفي التمثيل، لذا فالموضوع أنواع. وذاك إسهام ثالث. لا تستطيع الإحالة الواحدة استيعاب ما توفره التجربة في بعدها الواقعي (أسبقية المادة على الفكر).
تلك ملاحظات نوردها لتحديد موقع هذا المقال من نظرية بورس. فهو لا يقدم تفاصيل تخص بناءها، كما لا يقوم بشرح أسسها، إنه يقدم لنا طريقة لقراءتها حماية للقارئ من التسيب والضياع في تفاصيل لا حد لها. إنه إقرار بعظمة فيلسوف/سميائي/ منطقي/رياضي/فزيائى/كميائي… لم ينظر إلى العالم إلا بمنظار سميائي.
سعيد بنگراد
النص المترجم
إن نظرية العلامة عند شارل ساندرس بورس ليست شبيهة بتلك النظريات التي تكمن أهميتها في كونها تقترح مفاهيم جديدة تكفي إضافتها للمفاهيم الموجودة لإنتاج نظرية شاملة وتامة للعلامة. يجب أن ندرك منذ البداية أن المصطلحات الجديدة التي جاء بها بورس مثل : >ماثول<، >مؤول<، >موضوع<، >أيقون<، >خبر<-ونكتفي هنا بذكر تلك المصطلحات التي تتداول أحيانا في السميائيات الفرنسية- لا يمكن استبدالها بـ : دال، مدلول، صورة، مفهوم.
إن كل نسق -شئنا ذلك أم أبينا- يرتكز على فلسفة، وعلى مسلمات فلسفية، وكذا على تصورللعالم ولمكانة الإنسان داخله. ومن المفيد لنا أن لا نتجاهل هذه الأشياء. وفي هذا الإطار يقول بورس : >إن أولئك الذين يهملون الفلسفة، يمتلكون، مثلهم مثل الآخرين، نظريات ميتافيزيقية، لكنها نظريات جافة، خاطئة ولغْوية< (collected papers 7 . 579)
إن النظرية البورسية للعلامة ثلاثية الأبعاد، وهذا لا يعني فقط أنها تضيف بعدا آخر لنظرية سوسير التي يبدو أنها لا تعرف سوى الدال والمدلول(1). إننا سنجد دون صعوبة البعد الثالث في >المرجع< السوسيري، ولن يكون من الصعب إلغاء الموضوع (المرجع) من الثلاثية البورسية، كما قام بذلك أحد شراح بورس(2).
إن المشكل لا يكمن هنا، بل يكمن في قبول أو رفض المبدأ الأساس في سميائيات بورس؛ وهو مبدأ المتصل ( continuité)، مبدأ يمكن اعتباره، إن شئنا ذلك، مجرد فرضية للعمل ولكنه يبقى بالنسبة لبورس مبدأ ميتافيزيقيا، بل إنه مبدأ متسام ومحايث، هذا إذا نحن لم نتخوف من استعمال هذه الصيغة، والأمر يتعلق بكاتب براغمائي، بل هو تجريبي بالنسبة للبعض.
إن مبدأ التداولية لا يسمج لنا بالقيام بالتمايزات المنطقية التي يستعملها الإنسان عادة لتسهيل التواصل، كما لا يسمح بإحداث تمايزات في عالم الأشياء، لا يوجد سوى عالم واحد والإنسان جزء منه ولا يتميز عنه إلا بالتجريد. لا مجانية هناك ولا اعتباطية للتجريد، وإن كانت المكانة التي يحتلها الإنسان في العالم لا تتطابق مع تمايز مسبق للأشياء. إن كل تجريد هو نتيجة للفروقات الفعلية المتولدة عن الانفصالات التي يسجلها في الأشياء نمو وتحول وتطور العالم في الوقت نفسه الذي يقوم فيه بمحوها. إن الإنسان هو أداة هذا المحو وصانعه في آن واحد، هذا المحو الذي يمكن أن نقول عنه، ونستعير الصيغة من جون دويي، إنه >إعادة بناء مستمرة للتجربة <. لا يمكن الحديث عن علامة إلا مع الامتصل ( discontinuité) الذي يوجد في أساس ولادتها، إن المتصل لا يولد علامة، إنه شفاف. ,وهذا يحيلنا على تمييز أول، وكذا على تعريف أول : إن العلامة ماثول وليست تمثيل، إنها هناك، غامضة، توجد لنفسها وليس كصورة لشيء آخر هي علامة عليه. إن الماثول ليس بتمثيل، إنه لا ينتمي إلى صنف المعرفة المحسوسة، بل إنه لم يصر بعد علامة، إنه هناك بمثابة حاجز يجب تجنبه ولامتصل يجب اختراقه، ومشكلة يجب حلها. إنه لا يصبح علامة إلا في إطار المتصل الذي يشوش عليه عندما يؤول عبر علامة أخرى : المؤول.
ليس هناك مؤول في ذاته. كل شيء يمكن أن يصبح علامة مؤولة، لكن السياق وحده قادر على إيجاد هاته العلامة، وهذا الوجود، عرضيا أم أبديا كان، هو مثل تعيين بصيغة أخرى، لما يمنع من التعيين.
إن الماثول هو الإنسان أو الذهن الذي يؤول، إنه علامة. من المؤكد أن المؤول لا يمكن أن يكون علامة معزولة رغم أنه يمكننا أن نتصور إمكانية وجوده على هذه الحال. إن المؤول هو العلامة المنتقاة داخل المجال اللامحدود للعلامات /مؤولات، والذي يمككنا أن نميز داخله بروية بين المجال الثقافي (اللساني، الجمالي، الأيديولوجي…) الذي أنتمي إليه، والمجال الذي نرسمه باعتباره كينونة زمكانية (لهذا المكان ولهذا الزمان) والذي يجعلنا نعتقد أننا نهرب من العلامة في الوقت الذي نكون فيه مجالا للعلامة وعلامة نحن أنفسنا.
أي شيء تعنيه العلامة المؤولة للعلامة الماثول؟ أهو شيء في شفافيته العارية باعتباره لا-علامة؟ إن الشيء إذا وجد لا يمكنه إلا أن يشير، أن يصير علامة. لاوجود للأشياء خارج العلامة.لكن ليست هناك علامة أصلية إلا في إطارالبعد الثلاثي لفعل المعنى، ليس باعتباره رغبة في القول بل باعتباره فعل الإشارة، وهو ما يسميه بورس بالسميوزيس. إن فعل الإشارة هذا لا يخص العارفين وحدهم ؛ إنه إنتاج لأشياء بكل معاني الكلمة : إنه تحديد وثورة وتحويل للكون.
هناك من سيعترض ليقول بأن تحديد العلامة ببعدها الثلاثي هو بمثابة نفي لها، باعتبار أن كل مكون من مكونات العلامة هو علامة في حد ذاته وبالتالي فهو بدوره ثلاثي الأبعاد، وهكذا سنتقهقر إلى ما لا نهاية ويصبح من المستحيل على العلامة أن تشير إلى شيئ ما. وكان من الممكن قبول هذ الاعتراض لو أن نظرية العلامة عند بورس توجد معزولة عن ممارسة العلامة. إن عزل النظرية عن الممارسة سيكون بمثابة خرق لمبدأ المتصل. إن العلامة تولد وتكبر وتموت في الأشياء. إنها تهب الحياة لعلامة أخرى >وتنتشر بين الأمم< ( 302.2). إن العلامة في كل لحظة وافد جديد يوجد في عالم جديد. أهي انفصال ؟ أم هي استحالة الإشارة؟ لا، فالعلامة لا تشير دون رد فعل، إنها تترك آثارا تسمى عادة عندما يتعلق الأمر بالإنسان، وقانونا، عندما يتعلق الأمر بالمجتمع أو بعلوم الإنسان. إن العلامة/المؤول، التي هي تحديدا علامة، تموت باعتبارها كذلك في اللحظة التي تقوم فيها بوظيفة التعيين، أي عندما تضع حدا للسميوزيس. إنها تشكل ما يسميه بورس المؤول النهائي. ومن هنا يأتي تمييز مستويات لممارسة السميوزيس : 1 – إنها احتماليا لا متناهية، 2 – وهي محدودة من حيث الوجود أو المظهر العملي؛ 3 – وهي من الناحية البراغمائية مبدأ لكل سميوزيس، عادة في الإنسان/العلامة، وقانونا في الكون/العلامة.
لا علامة بدون فكر، لكن لا فكر بدون علامة أيضا. أهي صعوبة أخرى تنضاف للنظرية البورسية للعلامة؟ إنها كذلك فقط عندما نعزل الفكر عن العلامة. إن الفكر علامة في الكون. إن الفكر هو العلامة في براغمائيتها. إنه قانون، علاقة الـ>إن< والـ>إذن<، علاقة فاعلة لا متفرجة، بل أكثر من ذلك، إنها مقننة للفعل. داخل الكون لا خارجه : مفهوم، سيرورة، قانون.
ليس هناك شيء يشبه نظرية ماركسية ممكنة للعلامة أكثر مما هو الحال بالنسبة للسميائات البورسية : إنها ترفض أسبقية >الفكر< على >المادة< والفردي على الاجتماعي والكلام على اللغة، إنها تأخذ بشكل جدي العرضي والكائن والممارسة؛ إنها جدلية : إن العلاقة بين العرضي والمعياري علاقة خلاقة للعرضي والمعياري من جهة، ولكون جديد في تواصل مع نفسه (لا عودة إلى الخلف لا تكرار لكن استشراف)، يسير وهو يراقب ذاته (براغمائية >الفكر< في ممارسة الممكن الذي يعطيه وجودا ) نحو ما وراء العلامة التي تظل تحديدا بعيدة المنال.
ترجمة
عبد العلي اليزمي
—————————————–
هوامش
* المقال الذي نقدم للقارئ مأخوذ من :
Gérard Deledalle, “Avertissement aux lecteurs de Peirce”, in Langages, n! 58, Paris, 1980 والأمر يتعلق بعدد خاص بسميائيات بورس
1-تجنبا لكل خلط نقول إن كتابات بورس حول العلامة سابقة على كتابات سوسير في نفس الموضوع، إلا أن القراء تمكنوا من الاطلاع على أعمال سوسير ابتداء من 1916 سنة صدور كتاب > دروس في اللسانيات العامة<. في حين كان يجب انتظار سنة 1931 و 1932 تاريخ صدور الجزءين الأول والثاني من Collected Papers للاطلاع على كتابات بورس في الموضوع . cf. notre : Théorie et pratique du signe , Payot 1979.
2- D. Greenee : Peirce’s concept of signe , Mouton , 1973 . انظر مقالنا in, Semiotica n 4 pp 383 – 397>Qu’est ce qu’un signe <
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6849