ادريس كثير – عز الدين الخطابي
استهلالان
1- >غير أن هذه المصادر تفارق الأسماء التي لم تشكل بهذه الأشكال في أن الأسماء ينطوي فيها معنى الوجود الذي هو الرابط الذي يصير المحمول محمولا على موضوع، فلذلك نقول >زيد إنسان< ولا نقول هو> إنسانية…< (الفارابي، كتاب الحروف، ص. 81)
2- >فإن كانت فطر تلك الأمة على اعتدال وكانت أمة مائلة إلى الذكاء والعلم طلبوا بفطرهم من غير أن يتعمدوا في تلك الألفاظ التي تجعل دالة على المعاني محاكاة المعاني وأن يجعلوها أقرب شبها بالمعاني والموجود، ونهضت أنفسهم بفطرها لأن تتحرى في تلك الألفاظ أن تنتظم بحسب انتظام المعاني على أكثر ما تتأتى لها في الألفاظ، فيجتهد في أن تعرب أحوالها الشبه من أحوال المعاني. فإن لم يفعل ذلك من اتفق منهم، فعل ذلك مدبرو أمورهم في ألفاظهم التي يشرعونها< الفارابي، كتاب الحروف، ص. 138 – 139)
كيف يمكن للغة أن تكون لغة إبداعية، أي تستطيع إبداع أنطولوجيا مثلا دون أن تنحرف ؟. ما هي اللغة حسب الفارابي ؟ كيف تتكون محتوياتها، من ألفاظ وحروف وأسماء وعلامات وكلم …؟ هل اللغة محاكاة أم هي تشبيه ؟ محاكاة الألفاظ للمعاني أم هي تشبيه للمعاني والموجودات ؟
1- بسط قول الفارابي بصدد اللغة :
– كيف تحدث حروف أمة وألفاظها ؟
واضح أن >العوام والجمهور هم أسبق في الزمان من الخواص، والمعارف المشتركة التي هي بادئ رأي الجميع هي أسبق في الزمان من الصنائع العلمية ومن المعارف التي تخص صناعة صناعة منها، وهذه جميعا هي المعرف العامية. وأول ما يحدثون ويكونون هؤلاء، فإنهم يكونون في مسكن وبلد محدود، ويفطرون على صور وخلق في أبدانهم محدودة وتكون أبدانهم على كيفية وأمزجة محدودة، وتكون أنفسهم معدة ومسددة نحو معارف وتصورات وتخيلات بمقاديرفي الكمية والكيفية -وتكون هذه أسهل عليهم من غيرها- وأن تنفعل إنفعالات على أنحاء ومقادير محدودة الكمية والكيفية – وتكون هذه أسهل عليها – وتكون أعضاؤهم معدة لأن تكون حركتها إلى جهات ما وعلى أنحاء أسهل عليها من حركتها إلى جهات أخر وعلى أنحاء أخر<(1)
الفطرة إذن، هي منطلق الإنسان، منها ينهض ويتحرك نحو ما تكون حركته أسهل وعلى النوع الذي تكون به أسهل، فينهض إلى العلم، والفكر والتصور والتخيل والتعقل. إذن أول ما يفعله الإنسان يكون بالفطرة أي بالملكة الطبيعية وإذا تكرر الفعل تم الاعتياد والتعود.
وحين يحتاج المرء أن يعرِّف غيره مقصوده، يستعمل الإشارة في الدلالة على ما أراد قوله، ثم يستعمل بعد ذلك التصويت. وأول تصويت هو النداء، ثم يستعمل تصويتات مختلفة للإشارة إلى المحسوسات، فيجعل لكل مشار إليه تصويتا محددا لا يستعمل في غيره. وتحدث تلك التصويتات بقرع هواء النفس بجزء من الحلق أو بجزئي ما فيه وباطن الأنف أو الشفة، والقرع أولا هي القوة التي تسرب هواء النفس من الرئة وتجويف الحلق، ثم طرف الحلق ويلي الفم والأنف وما بين الشفتين ثم يتلقى الإنسان ذلك الهواء فيضغطه إلى جزء من أجزاء باطن الأسنان … فتحدث تصويتات ينقلها اللسان بالهواء، تلك التصويتات هي الحروف المعجمة. فالحروف إذا جعلت علامات كانت محدودة وبالتالي لا يمكنها أن تفي بالدلالة، لذا لابد من تركيب الحروف للحصول على الألفاظ التي تستعمل كعلامات … فتكون الحروف والألفاظ الأول علامات على المحسوسات (المشار إليه) وعلى المقولات التي تسند إلى المحسوسات.وهناك مقولات كلية وأخرى لها أشخاص، فتحدث تصويتات كثيرة تتوزع حسب المحسوسات والمعقولات. وأسبق المقولات في العلم هي علم المشار إليه أي ما يدرك بالحس مثل هو >هذا الإنسان< ومتى وصف بسائر المقولات الأخرى أخذ مدلولا عليه باسم مشتق . أما إذا قيل الإنسان فقد انطوى فيه المشار إليه بالقوة. ثم يقع تغيير في النطق، فتوجد معاني ينزعها الذهن إلى حد لا ينطوي فيها المشار إليه كقولنا البياض والقعود…(2)
واضح أن اللسان يتحرك إلى الجزء الذي تكون فيه الحركة أسهل، وواضح أيضا أنه يتأثر بالظروف الموضوعية؛ فأصحاب السكن الواحد يكونون على خلق في أعضائهم متقاربة وتكون حركات لسانهم متقاربة وكذا تصويتاتها التي يجعلونها علامات يدل بها على ما في ضميرهم مما كانوا يشيرون إليه من المحسوسات.
هكذا تحدث أولا حروف وألفاظ أمة، ويكون ذلك بالاتفاق والاصطلاح. يستعمل الواحد لفظا أو تصويتا، يحفظه السامع ويستعمله بدوره، فيكون قد اصطلحا أو تواطئا على تلك اللفظة، فتشيع لدى الجماعة. ومازال الأمر كذلك إلى أن يحدث من يدبر أمر تلك الأمة فيكون هو واضع لسان تلك الأمة. كيف يضع ذلك؟
أولا ينطلق من بادئ الرأي (الحس المشترك) ثم من الأمور المحسوسة وما يستنبط منها ويتم الاعتماد ثالثا على القوى الكائنة عن الفطرة ثم الملكات المتحصلة عن العادة والأخلاق والصنائع، ثم التجربة وما يستنبط منها وأخيرا الصناعات العلمية وما يستخرج منها من صناعات أخرى.
إذا كانت المحسوسات مدركة بالحس، ففيها تشابه وتباين. المتشابهة منها تتشابه في معنى واحد معقول مشترك ويسمى هذا المعقول المحمول على كثير >الكلي< أو>المعنى العام<، أما التباين فهو محسوس مفرد مجموعه يسمى >الأشخاص< أو>الأعيان< والكليات كلها تسمى الأجناس والأنواع. وإذا كان هناك تفاضل بين الألفاظ، فإنه ينعكس أيضا في المعاني، فتتفاضل هذه الأخيرة إما في كونها عمومية أو كونها خاصة، أو في كونها ثابتة أو متغيرة… هكذا يطلب النظام (3) في الألفاظ تحريا لأن تكون العبارة عن معان بألفاظ شبيهة بتلك المعاني.
والألفاظ منها المشككة، وهي اللفظة الواحدة الدالة على معان متباينة، والمتشابهة بشيء ما، وهي التي تقال بتقديم أو تأخير. والألفاظ المشتركة وهي ألفاظ تعم أشياء كثيرة وتكون غير دالة على معنى مشترك. كما تكون الألفاظ متباينة فيجعل منها الترادف، وبعبارة أخرى هناك الإسم الواحد الذي ينسب إلى أشياء مختلفة، والإسم الواحد الذي ينسب إلى شيء واحد من غير أن يسمى ذلك الواحد باسم تلك الأشياء، والإسم المشتق من إسم الشيء الذي ينسب إليه : >الطبي< من >الطب< وفي الألفاظ المتفقة أسماؤها وكذا المتواطئة تغليط يجب التحرز منه، وإذا أخذت هذه الألفاظ فيما تنتهي إليه من أجناس عالية كانت بعدد المقولات.
وعند استقرار الألفاظ على المعاني التي هي علامات لها، يمكن الانتقال إلى النسخ والتجوز في العبارة، فيتم التعبير بلفظ لم يجعل في أول الأمر لذلك المعنى… فتحدث حينئذ الاستعارة والمجاز أو >التجرد بلفظ معنى ما عن التصريح بلفظ المعنى الذي يتلوه متى كان الثاني يفهم من الأول< (4).
2- نظرية الشبه والأشبه
يبدو أن الفارابي لا يقول بـ >نظرية المحاكاة<(5) المتعلقة بالألفاظ والمعاني، إنما يقول بـ>شبه< الألفاظ للمعاني من جهة وللموجودات من جهة أخرى. فهل هناك اختلاف فيما بين الكلمتين >المحاكاة< و>الشبه<؟ إذا كانت اللغة ترادف بين اللفظتين في جهة من الجهات، فإن الفارابي يميز بينهما في جميع الأحوال. ذلك أنه يرى شبه الألفاظ للمعاني باعتباره في درجة ثانية وشبه الألفاظ بالموجودات في درجة أولى ، و>إذن نظرية الشبه< عند الفارابي تعتمد اللغة في مستوين : مستوى الانتزاع والابتعاد عن الموجود (الدرجة الثانية) ومستوى مباشر هو الارتباط الحميمي الفطري بالموجود. تتخللهما لحظة الاستعارة والتجوز، فإن >كانت -يقول الفارابي- فطر تلك الأمة على اعتدال، وكانت أمة مائلة إلى الذكاء والعلم طلبوا بفطرهم من دون أن يتعمدوا في تلك الألفاظ التي تجعل دالة على المعاني ، محاكاة المعاني وأن يجعلوها أقرب شبها بالمعاني والموجود <(6)
إن اللغة إذن في مستواها الأول ليست محاكاة للمعاني، وإنما هي فطرة الأمة وذكاؤها في التعامل مع الموجودات. إنها مستودع الأمة الخام في تسمية الأشياء والإشارة إليها. إنها بكلمة قدرة تلك الأمة على الإبداع، إبداع الموجودات وإخراجها من الغموض إلى النور. من الضمور إلى الظهور. فالتسمية والإشارة دلائل بيان وإفصاح، وحين لا تروق للغة هذه العلاقة الحميمة تستبدلها وتعوضها بالاستعارة والتشبيه والتجوز. >ذلك أن الاستعارة باب يسمح بولاد ة الوجود ثانية< (7)
للفارابي إذن تصور متكامل في صناعة اللفظ والارتقاء به إلى مستوى المفهوم ومستوى المقولات. يقول : >فتؤخذ ألفاظهم المفردة أولا إلى أن يؤتى عليها، الغريب والمشهور منها، فيحفظ أويكتب. ثم ألفاظهم المركبة كلها من الأشعار والخطب. ثم بعد ذلك يحدث للناظر فيها تأمل ما كان منها متشابها في المفردة منها وعند التركيب، وتؤخذ أصناف المتشابهات منها وبماذا تتشابه في صنف صنف منها وما الذي يلحق كل صنف منها. فيحدث لها عند ذلك في النفس كليات وقوانين كلية، فيحتاج فيما حدث في النفس من كليات الألفاظ وقوانين الألفاظ إلى ألفاظ يعبر بها عن تلك الكليات/القوانين حتى يمكن تعليمها وتعلمها. فيعمل عند ذلك أحد شيئين إما أن يخترع ويركب من حروفهم ألفاظا لم ينطق بها أصلا قبل ذلك، وإما أن ينقل إليها ألفاظا من ألفاظهم التي كانوا يستعملونها قبل ذلك في الدلالةعلى معان أخرى غيرها إما كيف اتفق لا لأجل شيء وإما لأجل شيء ما. وكل ذلك ممكن شائع، لكن الأجود أن تسمى القوانين بأسماء أقرب المعاني شبها بالقوانين بأن ينظر أي معنى من المعاني الأول يوجد أقرب شبها بقانون من القوانين الألفاظ فيسمى ذلك الكلي وذلك القانون باسم ذلك المعنى. متى يؤتي من هذا المثال على تسمية جميع تلك الكليات والقوانين بأسماء أشباهها من المعنى الأول التي كانت لها عندهم أسماء< (8).
يتم الانطلاق إذن في صناعة اللفظ من الألفاظ أولا : الغريب والمشهور منها فيحفظ بالكتابة. ثم الألفاظ المركبة من الأشعار والخطب. ثم بعد ذلك يتأمل الناظر كل ذلك فتحدث في النفس الكليات والقوانين الكلية (المفاهيم) فيحتاج إلى كليات الألفاظ.
هكذا نكون أمام أمرين : إما اختراع حروف لم ينطق بها أصلا وإما نقل ألفاظهم التي كانت تستعمل في معاني أخرى… والأجود في كل هذا هوالبحث عن المعنى الشبيه بالقانون أوالأقرب إليه.
فالألفاظ إذن على مستويين : ألفاظ تعبر عن تلك القوانين وتسمى ألفاظا في الوضع الثاني، وأخرى هي ألفاظ في الوضع الأول. والأسماء هي التي تركب من شيئين، كأن يقع فيها تغيير الشكل المتأخر في لفظ ما، والأسماء البسيطة هي مثالات أول. فما يدل على المحسوس يكون بالإشارة أو الحروف أو الأصوات أو ألفاظ غير كاملة. والكاملة هي التي حصل فيها فعل العقل لذا وجب أن تجعل الدالة منها مثالات أول، والباقي مشتقة منها. >والأسماء المشتقة الدالة على سائرالمقولات، فإن المشار إليه مُنْطَوٍ فيها بالقوة…<(ص. 74)
والألفاظ الدالة على الذي يعرف ما هو مشار إليه وليست في موضوع (كالأبيض مثلا) هي ألفاظ لا تصرف أصلا : أي لا يجعل لها كلم، أما تلك الدالة على المقولات الأخرى متى أخذت من حيث ينطوي فيها المشار إليه بالقوة لها أشكال، ومتى أخذت دالة في النفس لها أشكال أخرى، وحين يجعل لها كلم تحصل هذه المعارف الأربعة : علم المشار إليه، ثم هذا الإنسان أو هذا البياض، ثم الإنسان والأبيض، وأخيرا الإنسان أو البياض.
حينئذ تحصل التسمية وهي تجاوز للإشارة : هذا الطويل إلى الطول، بعد ذلك تنزع القوة الناطقة إلى ضروب من التركيب متحرية تشبيه ما هو خارج النفس فتحصل القضايا الموجبة أو السالبة ويحصل تركيب تقييد واشتراط وتركيب اقتضاء مثل الأمر والنهي.
وبعد تأمل يتم تشبيه المقولات فتحصل الألفاظ الدالة أولا (9) على ما في النفس، وبما في النفس مثالات للتي خارج النفس. والألفاظ شبيهة بالمعقولات التي في النفس من التي توجد خارج النفس، لذا أنكر قوم أن تكون الألفاظ موجودة أو صادقة مثل البياض والطول، وزعموا أن الموجود هو الأبيض والطويل وأنكر قوم هذا، وحصروا الموجود في هذا الأبيض وهذا الطويل، بل هناك من أنكر أن يجرد المشار إليه في الكليات فأنكروا المعقولات. وهذا، يقول الفارابي، مخالف للمعارف وخروج عن الإنسانية، لأن من طبع الإنسان أن ينطق بألفاظ وأن يدل ويعلم، وتحصل الأشياء في ذهنية معقولة.
والألفاظ فيها ما يدل على معان منتزعةمن المشار إليه، وما يدل على هذا المعاني بأعيانها من حيث المشار إليه موصوف بها أي ما يدل على المعقولات وعلى المحسوسات. والمعانى المنتزعة تكون متأخرة بالزمان من حيث ينطوي فيها بالقوة المشار إليه.
والألفاظ المنتزعة مشتقة من الألفاظ التي هي مثالات أول. وهذه الأخيرة تكون خارج النفس، منها الكلم، وتسمى هذه باسم المصادر عند النحويين العرب، فمنها ما هومشتق وما هو غير مشتق -لا في موضوع- وما هو مصدر وما يقوم مقامه، كقولنا في الإنسان : إنه إنسان ظاهر الإنسانية، المصدر هنا منتزع من موضوعه. وإذا كان الإنسان هو موضوعه فهذا الأخير مركب من شيئين هما قوامه : حده الذي هو جنسه أو فصله أو شيئين هما الصورة والمادة …
فإذا نظرنا إلى العرب ولغتهم وجدناهم، يقول الفارابي، يتوزعون إلى سكان براري وسكان أمصار، من الأمصار أهل الكوفة والبصرة بالعراق، تعلموا اللغة من سكان البراري أو من سكان أوسط البلاد (قيس – تميم – أسد) ومن الأفضل أن تؤخذ اللغة عن سكان البراري لتوحشهم وجفائهم ولا تؤخذ من الأطراف لأنهم مجاورون لأمم أجنبية كالحبشة والهند والسريان… فاللغة الصافية -لغةالأمة- توجد في شبه الجزيرة وقبائلها، أما الاختلاط فقد أفسد صفاء اللغة.
ترى كيف تعامل العرب مع فلسفة و لغة نقلت إليهم من اليونان؟ يصف الفارابي المواقف التي توزعت اتجاه هذه الفلسفة موزعا إياها إلى >المسرفين والمبالغين في أن تكون العبارة عنها كلها بالعربية، وقد أشركوا بينها، ومنها أن يجعلوا لهذين المعنيين اسما واحدا بالعربية : فإن الاسطقس سموه “العنصر” وسموه الهيولي، وسموا الهيولي “العنصر” أيضا< (ص.159). ولإيجاد المصطلح المطابق يقترح الفارابي طريقة لغوية أصيلة غاية في البساطة وهي : نقل معاني الألفاظ العامية إلى معاني الألفاظ الفلسفية (القوانين ) : >كأن يأخذوا من ألفاظ أمتهم الألفاظ التي كانوا يعبرون بها عن تلك المعاني العامية بأعيانها، فيجعلوها أسماء تلك المعاني من معاني الفلسفة<( 10). وذلك بأن تؤخذ المعاني الفلسفية إما غير مدلول عليها بلفظ أصلا لأنها معقولة (11) وإما مدلول عليها بألفاظ أي أمة كانت والاحتفاظ بها عند الحاجة كالتعلم مثلا لتشبيهها بالمعاني العامية، وإما اختراع أسماء جديدة لم تكن مستعملة. والتركيب من حروف هذه الأمة أو تلك على عاداتهم في أشكال الألفاظ والتحرز واجب على أية حال عند الانتقال من المعاني العامية إلى المعاني الفلسفية إما بسبب الاشتراك أو التواطؤ أو التشكيك في دلالة الألفاظ.
والملاحظ، يقول الفارابي، أن سائر الألسن سوى العربية لها مصادر تتصرف من الألفاظ تجعل منها كلم على ضربين : ضرب مثل >العلم< في العربية، وضرب مثل “الإنسانية”. فمن العالم يصنعون العالمية كما نقول الإنسانية. وفي سائر الأسماء كـ >المثلث< يقولون >المثلثية< ويقولون أيضا >التثليث<. فمنها ما يدل على معاني مجردة مفردة عن كل موضوع ومنها ما يدل على معاني من حيث هي في موضوعها وغير مفارقة لموضوعها.
وهناك فرق بين المصادر والأسماء، ذلك أن هذه الأخيرة ينطوي فيها معنى الوجود الذي هو الرابط بين الموضوع والمحمول لذلك نقول >زيد إنسان< ولا نقول هو >إنسانية<. إن أشكال الألفاظ الدالة على الوجود الذي هو الرابط مثل الكم والكيف تختلف من حيث إنها تعرف ما هو أو تعرف أنحاء أخرى، فالذي يعرف ما هو ليس هو الذي يعرف أنحاء أخرى. لكن لما كانت الألفاظ، بالشريعة والوضع أمكن الإخلال بهذا القانون فيحصل الاشتراك كـ>الحي< الذي يدل على الحيوان وهو جنس الإنسان… فالحي إسم مشتق وليس يدل على المعنى المشتق…
3- ما الذي يمكن استنباطه من قول الفارابي هذا ؟
يبدو أن الفارابي يدافع عن نظرية متماسكة في اللغة، لها معالمها وملامحها، هذه النظرية يمكن تسميتها بـ>نظرية الشبه والأشبه<، نظرية الإنصات إلى الموجود قصد نقله عبر لغة تجتهد في إيجاد الشبه والشبح والتناوب والتجاور والتجاوب. نظرية قوامها صيرورة وتطور وشروط وإوالية، تتضح أكثر حين مقارنتها بلغة أخرى.
فاللغة تتوقف على الأمة وعلى فطرتها وذكائها، وذكاء وفطرة هذه الأخيرة مشروطان بمناخ ومزاج واستعداد. وإذن الملكة الطبيعية هي أساس بناء لغة الأمة، لأن هذه الملكة تكون لقاء طبيعيا عفويا أوليا بالأشياء والموجودات. لذا تنطلق اللغة من بادئ الرأي وتتسلل عبر الملكات المختلفة لهذه الأمة أو تلك.
يمكن أن نسمي هذه اللحظة من خلق ألفاظ أمة ما، لحظة اللقاء الأولي بالموجودات. وهي ألفاظ من الدرجة الأولى، ألفاظ مباشرة في اصطلاحها ونقلها للموجودات. وعند استقرار الألفاظ كعلامات تنتقل الأمة إلى النسخ والتجوز والاستعارة في العبارة، فيحدث التعريض والإضمار في اللغة. ولأن الابتعاد عن المشار إليه ضرورة نظرية، >فالأجود في هذا هو البحث عن المعنى الشبيه بالقانون أو الأقرب شبها< والقانون هوالألفاظ من >الدرجة الثانية< وهي ما يسميها الفارابي بالألفاظ المنتزعة، فضاء الكليات والمعقولات، أي المفاهيم. ويتوصل إلى هذا المستوى من البناء اللغوي عبر إوالية محكمة يؤسسها الفارابي على قاعدة الانتقال من الدرجة الأولى للألفاظ إلى الدرجة الثانية، أي من ألفاظ الأمة العادية إلى الألفاظ المنتزعة؛ هذا الانتقال، إذا احترم شروط بناءاللفظ والدلالة، يسمح بإبداع فلسفة وتأسيسها. فلسفة تعتمد على مميزات وخصائص لغتها، تنحت تصوراتها وتبنيها من عذرية لغتها، أي من تلك الحالة الأولى التي تكون فيها اللغة راغبة في التعبير بذاتها عن شيء ما. ارتباط أولي حميمي يتم بين اللغة والوجود. هذا الارتباط الدلالي والأنطولوجي هو الذي يجب مساءلته والوقوف عنده مليا.
———————————————–
الهوامش
1- أبو نصر الفارابي : >كتاب الحروف<، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، 1970 ص. 134 وما يليها.
2-نفسه ص. 137
3- يتحرى جعل ترتيب الألفاظ مساويا لترتيب المعاني في النفس
4- نفسه، ص. 141
5- نقصد نظرية المحاكاة الأرسطية
6- التشديد من عندنا، الفارابي، >كتاب الحروف< ، ص. 139
7- إ . عمران المالح، >ألف عام في يوم واحد< ، ص. 21 ، ومقابله بالفرنسية : La métaphore est une porte pour donner naissance à ce qui est
8- الفارابي، نفسه، ص. 136، التشديد من عندنا.
9- إنما قلنا أولا لأن انفراد المعاني المعقولة بعضها عن بعض ليس يوجد خارج النفس إلا بوجود في النفس. الفارابي نفسه ص 76.
10- نفسه، ص. 158
11- > فإذا انتزعت عن تلك الموضوعات سائر المقولات في الذهن، بقيت الموضوعات موجودة، ومعقولة، وكانت المفردة عنها معقولة مجردة بطبائعها وحدها غير مقترنة بغيرها<، نفسه، ص. 78
ونقدم خطاطة بناء اللغة عند الفارابي
I >نظرية الشبه والأشبه< 1- الألفاظ ذات الدلالة الأول
حروف، ألفاظ، علامات، كلم
المجاز الاستعارة، الأضمار.
2- الألفاظ ذات الدلالة الثانية
المصطلحات، المفاهيم. المقولات
الاتفاق التواطؤ
الاشتراك التشكيك
II- الاضمار والثني المصادر تضمر الوجود
l’ellipse et le pli الاسماء تثني الوجود
اللغة=الإضمار= الوجود
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6852