مديح التجربة التشكيلية المغربية*

Bengrad
2021-06-04T11:56:27+00:00
العدد التاسع
13 أغسطس 2020376 مشاهدة

خليل المرابط – جامعة إكس أون بروفانس

يحظى الفن التشكيلي المغربي بتقدير وإعجاب المختصين الغربيين في الفن المعاصر والنقاد التشكيليين العرب. إن هذا الاعتراف “العمودي” و”الأفقي” شاهد على نضج وجدية ممارسة لازالت حديثة العهد في المغرب العربي. ألم تقم العطاءات التشكيلية والمفهومية للرواد بتأكيد الخصوصية المتميزة لهذه التجربة كما أنها حافظت على تفتحها وطورت إسهاماتها في ميدان الفن؟

مادمت لا أرغب في إعادة رسم المسار المنفلت لهذه التجربة منذ بدايتها، التصويرية خصوصا، ولا في تقديم محاولاتها المدهشة، فإنني سأكتفي بالتأكيد على أهمية مرحلة تاريخية معينة، غنية بالمشاريع، والإشارة إلى أن سنوات الستينات والسبعينات تشكل مرحلة مهمة ونقطة تحول حاسمة.

إن هذه المرحلة لم تسقط في فخ الرسم الصباغي المسمى ساذجا ولا في الحوارالمتجاوز المتعلق بالتشخيص والتجريد، بل شهدت ظهور تصورات تشكيلية مجددة، أصيلة ومتجذرة، منطلقها الأول هوالتساؤل عن كنه الأشياء. وقام التشكيليون والمثقفون -خصوصا الشعراء- في خضم النقاش الدائر عن الثقافة الوطنية، وفي إطارالحوار الجدلي حول التقليد والحداثة، بتسليط الضوء على مساءلة جذور ومصادر التراث الثقافي الذي تم تجاهله والنيل من قيمته طيلة فترة طويلة. وكانت الآثارالمتعددة الجذور -عربية إسلامية، إفريقية، متوسطية- بادية في الفضاء التشكيلي للوحة وقد تحولت إلى علامات تؤكد الانتماء إلى ثقافة وذاكرة وتربة معينة. وهكذا عادت إلى الظهور، بشكل واع، خطاطات الأجداد وقد اكتسبت حيوية جديدة.

إن هذه الفترة التي ميزها الشك والجهد المضني الذي يولد الجرأة تستدعي ملاحظتين : من جهة هناك الحرمان الذي عاشه بعض الفنانين المغاربة الشباب الذين تلقوا تكوينهم في أوروبا والولايات المتحدة، ومن جهة ثانية هناك انبثاق ظاهرة المجموعة. لقد اعتبرت ممارسة “السابقين” بمثابة “شيء مألوف سبقت رؤيته” وتم إبعادها عن العرض باعتبارها قريبة من أعمال هذا المعلم أو ذاك. إن هؤلاء الفنانين الشباب شاهدون على ذلك. لقد وعوا أيضا أنهم “هم أنفسهم يشكلون غيابا ثقافيا صارخا”، وشرعوا بعد عودتهم “للبحث بإلحاح عن تلك الثقافة التي طالما افتقدوها في الخارج”. إن الرغبة في العودة إلى الجذور أصبحت أساسية بالنسبة لأولئك الذين كانوا أكثر إحساسا بهذه الوضعية. كم هم كثيرون من ذهبوا يبحثون عن أشلاء ذاكرة مشتتة، فساءلوا الوشم البربري، والفخارالقروي، والرسوم الصباغية لزوايا سوس، والخط العربي، والأرابيسك، والكتابةالسرية للطلاسم … وصار الفنانون المكونون في المدرسة الأوروبية هم من يبجث عن التزاوج الثقافي. إن هذا المسار ليس محاكاة مجردة لتيارات الفن المعاصر، وليس نسخة مجزأة لآثار التراث الفني الذي أعيد اكتشافه. بل إنه محاولة صياغة جديدة ربما لازالت في بدايتها وربما اكتملت تماما. المهم هواكتشاف طريقة مثلى للمزج بين التقليد التشكيلي والحضورالمنفتح على العالم. كيف يمكن إذن تعايش حب كلي Klee والعلامة البربرية؟ كيف يمكن الجمع بين الرسم الصباغي اللاتشكيلي الإسباني والخطوط القديمة للفخار الريفي؟ كيف يمكن الربط بين الأوب-آر (op-art) والخط العربي، بين التأصل وتجاوزات الطليعة؟

لا بد هنا من وقفة احتفاء بمبدع التمازج الثقافي التشكيلي المغاربي الذي وظف حماسه والانفعالات العاطفية لمزاجه في المزج بين المتضادات وفي التذويب الديناميكي للقيم والتعابير. إن جلاءرؤية أحمد الشرقاوي ونظرته المحبة والناقدة للتقليد هي التي جعلت منه رائد هذا التوجه. إنه يعبر عن ميلاد كرامة جديدة، كما أنه أول من شق الطريق أمام البحث في الخصوصية التشكيلية الفاعلة. لقد أخرج من العالم الغامض للعلامات كتابة منقذة مستعادة ليجعل منها قاعدة عمل فني غير مكتمل لكنه حداثي بكل تأكيد. إن مسار “الوعي-النقد” هذا يفتح طرقا جديدة تنأى عما هو فلكلوري، وهو ما يميز العديد من الفنانين الذين يبحثون عن ذواتهم. إن البحث عن الذات كان في البداية فرديا في المنفى الاختياري، ثم أصبح جماعيا في 1966-1965.

ها هي ملاحظتنا الثانية تتأكد. ها هم بعض الفنانين-المدرسين المجتمعين بمدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء يحاولون إعادة بناء هيئتهم. يقومون بمراجعة البرنامج والمناهج ويصدرون بشكل مواز نشرة خاصة بهم. هكذا ظهرت ثلاثة أعداد من >مغرب فن< (Maghreb Art) التي قدمت نفسها على أنها >نشرةالمركز المغربي للبحث الجمالي والفلسفي<. وتوالت مبادراتهم تحركها العزيمة والقناعة التي كانت وراء انطلاقهم. وهكذا، فبعد المعرض الأول لأعمال المجموعة في الرباط سنة 65، خرجوا بفنهم إلى الشارع عبر معرض بساحة جامع الفنا بمراكش، وآخر بساحة 6 نوفمبر بالدار البيضاء في السنة نفسها. وسيقومون لاحقا، سنة 1978، بإنجاز جداريات في أصيلة ومستشفي الأمراض العقلية ببرشيد. وتحرك هؤلاء الفنانين، وبعض تلامذتهم الذين أصبحوا بدورهم فنانين، رغبة مزدوجة. من جهة يريدون أن يتواصلوا مباشرة مع رجل الشارع، ومن جهة ثانية يرغبون في نزع الطابع القدسي عن الفن وإدماجه في الحياة عبر بعث حركة ثقافية تحاول إنشاء علاقة جديدة بين الفنان والجمهور. إن هذه التظاهرات المنتظمة تكتسي أولا وقبل كل شيء أهمية رمزية كما تشكل مناسبة تقوم المجموعة من خلالها بوضع أسس جمالية تطمح لأن تكون وطنية وحداثية لا تنحصر في إطار اللوحة أو بين حيطان الرواق، وتقوم بممارسة تأثير معين على المساحات المعمارية الكبرى دون أن تلفظ الفنون الخطية. إن هؤلاء الفنانين يربطون الصلة مع بقايا تقليد تشكيلي يعيدون اكتشافه من جديد ويبعثون الروح فيه من جديد. إنهم يهتمون أيضا بالإمكانات البصرية التي يتيحها الفن التقليدي باعتباره تنظيما مستقلا متعدد المعاني لمساحة أو فضاء ما. إن مجموعة مصغرة، مشكلة على أساس مشروع جمالي مشترك وقناعات متبادلة، تولد في بدايتها دينامية وحماسا سوف لن تعرفها الحقب الموالية التي يميزها الانعزال والذاتية المفرطة، إذ أن التسابق إلى المناصب يطمس الأبعاد الأساسية. وستقوم هذه المجموعة، بعد توسيعها سنة 1972، بتأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية التي كانت تضم فنانين ذوي حساسيات وتوجهات متباينة. وستسمح هذه الجمعية أساسا بحصول انفتاح على التجارب التشكيلية العربية سيتجسد عبر حضور مغربي في تظاهرات هامة بالجزائر وتونس وبغداد والرباط.

ويمكن القول في نهاية المطاف إن البحث عن الذات -فرديا كان أم جماعيا- يسمح بفرز موقفين وفهمين أساسيين متداخلين : التمازج الثقافي والاحتفاء.

إن التمازج الثقافي التشكيلي يرتكز على مصدرين متكاملين : يتعلق الأمر هنا بمكسب تشكيلي ونظري مستورد في حالة حوار أو تنافر مع أشلاء ثقافة أصلية مكتسبة في غالب الأحيان بشكل عصامي عوض أن تكون نتيجة نظام صارم لنقل المعرفة. إن هذا البحث الدائم عن توازن ما يرتكز على منطق توسطي، بين شيئين، إنه تهجين متشدد ومنفتح على حضور مشترك لمفاهيم تشكيلية مختلفة لكن متكاملة. إن هذا التركيب الثنائي التشكيلي يلفظ أي نموذج ثقافي كوني. إن هذه النسبية لا تملك معايير معينة وهي ترفض أن يكون للتاريخ معنى أوحد، كما أنها ترفض أي هيمنة كانت وذلك حتى تتمكن من تجنب السقوط في فخ الأفكار المسبقة ومقاومة تأثيرها بهدف تغيير القوالب الثقافية الظرفية. إن الفنان مطالب بتجنب الانتصارالأعمى للتيارات الغربية، وعدم الاكتفاء بوضعية التابع الأبدي وعدم القبول بإعادة الشيء نفسه عبر امتلاك أشكال من الفن التقليدي فقدت حيويتها ولم تخضع لتحليل شاف. إن الفنان، مثله مثل الواقف على الحبل، يعي هشاشة توازنه اللامستقر، إنه مطالب بالحفاظ على وضعه الأفقي مهما كلفه ذلك، وتجنب السقوط في هذا الإفراط أو ذاك. لا يتعلق الأمر بلجم اللذة أو القدرة الإبداعية للفنان عبر “خطابات مسبقة”، وإنما التذكير بأن حرية الإبداع لا توجد خارج المسؤولية الثقافية والصرامة المتيقظة والمتجددة باستمرار.

إن التمازج الثقافي يفترض احتفاء مزدوجا : الأول موجه للنماذج، للمعلمين القادمين من ثقافة أجنبية ويعبرون عن نظرياتها؛ والثاني يقوم بمساءلة المعايير والمباءئ التقليدية الأساسية بالنسبة للثقافة المحلية أو أخرى مشابهة لها. هكذا تولد فكرة “التبعية ” أو “الاعتراف” أو “الدين” أو “الإعجاب”، التي تفترض بعدا تذكريا. إن أي احتفاء يفترض أيضا إمكانية بلورة شكل جديد للحظة. >إن ما يهم في علاقة الاحتفاء هو كونها تقرن بشكل متناقض التقليد والانفصال : هناك مقاطع من التقليد لأن الفنان المعاصر بمثابة نبي ينظر إلى الخلف. إن الأمر لا يتعلق بفنان الطليعة، الحداثي. إن مفهومي الاتصال والقطيعة ليسا غريبين عن المجتمع المغربي. ألم يشهد هذا المجتمع منذ العشرينات بنايات إدارية عصرية في المدن الجديدة هي بمثابة احتفاءمتحفظ بالقدرة الفنية التقليدية، بفضل التصور المعماري “الثقافي” لبروست؟ (Prost). ألا يمكننا القول بأن حي الحبوس في مجمله “تركيب ناجح، قل نظيره، للطابع العصري التقليدي والعصرنة المحتشمة والفعالة في الآن نفسه”؟ ألا يكشف كل ما في هذا الحي عن “تلك المعرفة العميقة وعن ذاك الإعجاب بالوسط الحضري القديم”؟

إن المديح القصدي والفصيح الذي يكيله الفنانون المغاربة لتراثهم التشكيلي غير مرتبط بموضوعة ما بعد الحداثة، إنه موجود قبل ميلادها. إن هؤلاء الفنانين يعرفون أن حداثة فنهم >لا يمكن أن تأتي إلا عبر تجذرهم الواعي والقلق<. إن هذا التجذر يسهل عملية إعادة التأويل التي تعفي من الإحالة أو النقل العقيم كما أنها تؤكد >قيمة الذهنيات المتوقدة التي تمتد عبر الزمن لتولد أفكارا معاصرة<. لا أعتقد بأنه من الممكن اعتبار الاحتفاء بمثابة “عمل مدنس ناتج عن “عودة إلى الأصل” وتقهقر إلى الوراء.

إذا كان الاحتفاء يشهد على تبعية تفترض بدورها المحافظة والتواصل، فكيف إذن، يمكننا في الفن، >أن نبلغ تغييرا أو تحويلا أو تحويرا تنشأ عنه إساءة لا يمكن تفاديها للنماذج ولسلطتها<. من هذا المنظور سيصبح الاحتفاء خرقا للتصورات الرمزية وليس نتيجة لوجودها أو لإعادة إنتاجها. ونجد أنفسنا هنا أمام الاختيار الذي رسمه الشرقاوي لنفسه. إنه يُعرف نفسه باعتباره >شخصا يقوم بتحويل علامات تراث معين إلى إبداع حداثي<. إن شكل الاحتفاء الذي يمارسه الفنانون المغاربة لا يرتكز فقط على العلامة. فبعضهم يسائل المواد المستعملة والصنعة في الحرف التقليدية التي يتم بعث الحيوية فيها من جديد. إن التشخيص الجديد الذي كان قد كبت مؤقتا وهمش انبعث من جديد بإيحاءاته وغموضه ليصدح بنفسه ويفصح عن طموحاته. الحقيقة أن الفنان لا يفتأ يشيد بأساتذته وسنده هنا وهناك. إن محيط ما بعد الحداثة يسهل التنقل الثقافي الفضائي والزمني الذي يتجنب السقوط في الرداءة بالتشدد المبالغ فيه.

وقد تأكد هذا خلال الملتقى العربي والمتوسطي للتشكيليين الشباب الذي انعقد في يوليوز 1997 بالرباط. ألم يسمح هذا الملتقى بحصول تقاطعات لم تكن في الحسبان وبتلاقح ذهنيات تشكيلية متوقدة تريد الإسهام بسخاء في فن عصرها؟ بهذه الطريقة يمكن نسج علاقات صداقة ومصالح مشتركة حتى وإن كان هناك خصاص على مستوى البنيات المتخصصة القارة أو القيمة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى إنجاز مسودة مشروع لخلق مركز متوسطي للفنون المعاصرة بطنجة وذلك نزولا عند رغبة الجمعية الدولية للفنون التشكيلية، وقد تم اقتراح هذا المشروع على اليونيسكو. إن هذه البنية ذات التكوين الفني تشكل سبقا، وهي تكمل البنيات القائمة في حوض البحر الأبيض المتوسط وتتوجه إلى >مرشحين-فنانين< حاملين لشهادات، طلبة من كلا الضفتين، ليتابعوا خلال سنتين، تكوينا نظريا وعمليا من مستوى رفيع. هل سيرى إذن النور هذا المختبر الذي يشكل نموذجا للتمازج الثقافي ومجالا للانفتاح وفضاء للحوار والتوازن ولمساءلة الفنون المعاصرة في تنوعها وتعقدها؟

في انتظار ذلك دعونا نحتفي بالتجربة التشكيلة الحديثة التي لا يمكن أن تعيش إلا إذا هي تلاءمت مع محيطها والتي لا يمكن أن تدوم إلا إذا تفتحت.

إكس أون بروفانس مارس 1998

* العنوان الأصلي للمقال : Eloge de la tradition plastique marocaine

ترجمة

عبد العلي اليزمي