السيميائي والرمزي ملاحظات حول جماليات العمل التشكيلي المعاصر بالمغرب

Bengrad
2021-06-04T11:56:04+00:00
العدد التاسع
13 أغسطس 2020326 مشاهدة

فريد الزاهي المعهد الجامعي للبحث العلمي

1 – الذاكرة البصرية والتشكيل المغربي

تحتل الذاكرة البصرية في التشكيل المغربي موقعا مركزيا بحيث إن التجربة التشكيلية المعاصرة بالمغرب قد جعلت منها إطارا مرجعيا تمتح منها معطيات تجددها ومنابع اشتغالها وتستوحي منها عناصرها الأكثر تعبيرا عن ديناميتها الداخلية. وليس يخفى هنا، أن التحولات التي عرفها التشكيل المغربي المعاصر، خاصة مع أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي وفريد بلكاهية وغيرهم، تأخذ مكانتها الفعلية في سياقها انطلاقا من العمل الذي قاموا به في تجاوز صيغ الاستشراق التي ركزها ”الفن الكولونيالي” من جهة، والتجارب ”الفطرية” التي أنتجتها هذه المرحلة الجنينية (تجربة بن علال مثلا).

إننا نعني هنا بالذاكرة البصرية، ذلك الرصيد الهائل التاريخي والمتحول، ذا الطابع المشترك، الذي يختزنه بصريا الفنان والذي يجد موطنه الفعلي في البنية الثقافية، سواء في جوانبها العالمة أو الشعبية، على هذا النحو يمكن الحديث عن فئات بصرية محددة، تبدأ بالأشكال والرموز الأكثر إغراقا في التجريد أو الرمزية لتنتهي بالأشكال والتصاوير التشخيصية النابعة من عمق التراث المحلي أو العربي الإسلامي أو الغربي، مرورا بالصور الذهنية والحلمية الشخصية أو الجماعية المتخيلة التي تجد في المرئي ممكنات تعبيرية لها.

من ثمة، فإن الاشتغال التشكيلي وفقا للزخم الذي تمنحه هذه الذاكرة قد شكل دوما مجالا للإبداع والتحول لدى ثلة مهمة من الفنانين المغاربة وحذا بهم إلى البحث المضني والغني عن مواطن انغراس العمل التشكيلي في تربته المحلية، خاصة وأن السعي نحو العالمية في هذا المضمار لا يمكنه سوى أن يمر حتما بهذه السمة، إذ هي ضامنه الأساس إلى الانفتاح والأصالة. إن هذا لا يعني أن كل أو جل الفنانين قد وظفوا معطيات الذاكرة البصرية المغربية، بعناصرها جلها أو كلها، فثمة فنانون منكفئون على مادتهم البصرية الذاتية ولاوعيهم المرئي واللامرئي يسائلون فيه مكوناته الأكثر إبهاما ويمنحون، من ثمة، لهذه التجربة الداخلية بعدا جماليا، بعيدا عن كل ما يحيط بهذا العالم من فضاءات خارجية (عبد الكبير ربيع مثلا).

وإذا كان المخزون البصري ذا علاقة مباشرة بالجسد، سواء شكل الجسد فضاء له (كالوشم) أو امتدادا لمهارة أحد أعضائه (كفن الزربية) فإن الشبكة الرمزية التي يدخل فيها الجسد موضوعا من ضمن الموضوعات الأخرى، كبيرة ومعقدة بحيث إن الرقيات والحروز والتمائم والطلاسم تدور في معظمها حول قضايا تطبيقية أو لها علاقة بالمحبة (1)، مما يجعلنا نزعم بأن الجسد أحد المحاور المركزية لهذه الذاكرة، ومنبع خصب من منابعها حتى وهو يستبين بشكل مجازي أو رمزي، فهو منتج الذاكرة وموضوع لها في الآن نفسه. لكن كيف تتم هذه العلاقة وهذا التحويل ووفقا لأي تناول وانتقاء واستحضار؟ ثمة في الرمزية التصويرية للجسد والعلامات والرموز البصرية، كما بلورها التشكيل الغربي المعاصر، أنماط رمزية متعددة يمكن تحديدها وحدها كما يلي :

– الرمزية الأولية : ونعني بها أن العمل التشكيلي يستلهم تفاصيل وجزئيات جسدية معينة تحيل على فرشاة رمزية لاواعية أو متداولة، بحيث تنبني العلاقة الرمزية والعلاقة الجمالية على نوع من التواطؤ المسبق بينهما، إلى درجة يتحول المضمون المصور بذاته قابلا لاستثارة حمولة معينة. وفي هذا المضمار تندرج، بالرغم من الاختلافات الشكلية والتشكيلية والفنية والموادية بعض أعمال أحرضان والحميدي وبلكاهية.

– الرمزية الكلية : وهي تتمثل في استيحاء الجسد في كليته التعبيرية مع التركيز على صوغه وفقا لمنظورات ورؤى معينة، وأحيانا تغريبه تبعا لتصور عجائبي أو أساطيري (وذلك هو حال أعمال عزيز السيد والحساني والبحتوري وأبو الوقار وصلادي والحياني ومريم لعلج).

– الرمزية الكونية : وتتصل باستيحاء الرموز الأساسية العامة المحيلة إلى قضايا الوجود الكلي سواء عبر مشكلات بصرية عمومية أو خصوصية، وهي بالتالي نوع من التأمل البصري في اللامرئي (ولها حضور غير متعادل لدى بلكاهية، وشبعة، والحياني، والملاخ…)

– الرمزية التخطيطية : وهي بناء من العلامات المكثفة، شبيهة إلى حد كبير، بالتخطيطات المجردة التي تستعمل في الوشم والزربية الأمازيغية، ولعل الشرقاوي ثم فريد بلكاهية أبرز من شغلها بشكل إبداعي خلاق في لوحاتهما.

إن هذه الأنماط تمكننا من الاقتراب من المنظورات التي يبلور من خلالها التشكيليون المغاربة رؤيتهم للوحة وللعالم والوجود من خلالها. كما أنها من ناحية أخرى تجعلنا نقف على نوعية التقنيات التي بها يركبون عناصر ومكونات العمل التشكيلي في اتجاهات متعددة.

2 – البلاغي والرمزي

ليس مرمانا هنا البحث في الرمزي من حيث هو استعادة مباشرة لمكونات الخيال الرمزي أو بنيات المتخيل (كما درسها وحددها جلبير دوران) (2)، بل بالأساس التوكيد على ذلك التقاسم الذي يعيشه التشكيلي بين موضعة التخييل الذاتي وتذويت المخيلة البصرية المشتركة. إن هذا التحديد من جانبنا، يمكننا من تلمس خصوصية الرمزية المرئية وانتزاعها من طابعها الاصطلاحي والعرفي المتواضع عليه، بالشكل نفسه الذي يعمل به الفنان على تحويل هذه المرجعية الخارجية المشتركة إلى ”مرجعية” داخلية متباعدة إن لم تكن منفصلة عن أصولها البينة والبائدة. بهذا المعنى يشكل الرمزي نمطا عاما يتجاوز فيه الطابع المعطى للرمز (بوصفه بناء بصريا يحيل على معنين على الأقل : ظاهر وباطن) (3) مع الوجهة أو الوجهات التي تعمل على استكناهه وتشغيله ومن ثمة تحويله وتشذيره وإعادة صياغته. إن المحدد هنا ليس المعطى الرمزي، ولا النمط الذي ينتمي إليه، وإنما هو الاشتغال الشاعري Poétiqueعليه من قبل الفنان، والآثار الجمالية التي يخلقها باعتبارها عناصر ممارسة وسلوك جماليين.

ولأن التشكيل تصوير، حتى وهو يشتغل على الإشارات والعلامات والرقوش والموتيفات غير الدالة بذاتها، فإن الصور التي تشكل تركيبة العمل الفني ذات بنية بلاغية كامنة أو معلنة. هذه الصور (بالمعنى البلاغي للكلمة) تقدم نفسها في نمطين دلاليين أساسيين : الدلالة الظاهرة أو التقريرية والدلالات الخفية التي تستثير إما المعطيات المرئية والثقافية المشتركة وإما الذكاء التأويلي والبصري للمتلقي. ولأن الدلالة ليست المرمى المباشر للعمل التشكيلي فإن المؤثرات التي تنجم عن العلاقة مع العمل الفني تخضع للتنظيم، سواء باللغة أو بالفكر أو في الطبقات المتعددة للاوعي.

إن موقع الرمزي هنا إذن هو ذلك التفاعل بين مكونات العمل التشكيلي وحمولاتها البصرية والفعل التأويلي للمشاهد، باعتبار أن البناء الرمزي لا يتأسس إلا في منحيين : باتجاه مرجعياته والفعل التكويني للوحة وباتجاه الفعل البصري للمتلقي ونشاطه الإدراكي والتأويلي. غير أن الرمزي ليس فعلا أوعملية هنا، كما هو الحال في اللغة. يقول ر. دوبري بهذا الصدد : >الصورة ذات فضائل لأنها رمزية، أي أنها تعيد تلحيم وتكوين المشتت. لكن لكي يقوم الرمز بالتجسيد أو إعادة التجسيد عليه، بالرغم من الآلية المنطقية للاكتمال، أن يحتسب في لعبته حضور شريك خفي. فمن يوحد يحسن فعلا، لكن وحدها الإحالة على البعيد أي على طرف ثالث ترميزي تمكن صورة ما من إقامة علاقة معينة مع رائيها، وبطريقة غير مباشرة بين الرائين أنفسهم. بكلمات أخرى، ليس ثمة من تبليغ بدون تعال ولا طاقة من غير فارق الارتفاع فبنية التعالي والتجاوز والارتفاع (…) تفسر وتعطي الإمكانية للترابط والتعالق. ولأن هناك فوق المجموعة غيابا أساسيا يلزم إصلاحه فإن الصورة والكلمة تشتغلان كعاملي ربط ووصل. لكن الشيء المعتمد (كان صورة أم كلمة) لا يخلق أثر الغياب الذي نسميه معنى، بل إنه يستلزمه< (4)

إن هذا يعني أن الصورة، خلافا للكلمة، تنهض على ”براءة دلالية مباشرة”، وأن ”الجمل البصرية” التي يركبها الفنان لا تنم عن ضرورات تركيبية على غرار التركيبات النصية والجملية المعروفة. فالصورة رمزية بامتياز وسعيها إلى الكشف عن المعنى ووهبه للرائي متأصل فيها وليس بالضرورة نتاجا لتركيب أو اشتغالا معينا لدوال معينة مهما وسمت هذه الدوال البصرية بأنها ”متخيلة”. إن المعنى التشكيلي بصري، وهو ما يفصح عن تلك الحرية الأصيلة والأصلية في الصورة (التي تحدث عنها رولان بارث) والتي وسمها بالإيحائية.

3 – الجسد الرمزي

ليس من شك في أن الجسد يشكل محور العمل التشكيلي والتصويري بصفة عامة. والحقيقة أن المشكلات التي عاقت تصور تصوير إسلامي تعود في جوهرها إلى مشكلة تصوير الجسم (الإنساني والحيواني) بحيث إن الفن الإسلامي قد نما وتطور وهو خاضع لعقدة استحضار الغائب من جهة ومتخوف من السقوط في إنتاج الأشباح أو تحويل حرفية الصورة إلى شبح (إذ الصورة لغة تعني الوثن والجسم والشبح في الآن نفسه). وقد دللنا، في بحث سابق (5)، على أن التجربة التشكيلية المعاصرة مسكونة بتصوير الجسد، سواء بشكل جزئي أو ”كلي”، وأنها في عمومها سواء بشكل واع أو غير واع، تشتغل وفق محددات التصور الإسلامي للصورة وإن كانت تحذوها في ذلك دوافع ومرام خصوصية. فالشكل الذي يأخذه الجسد (سواء لدى فريد بلكاهية أو المحجوبي أحرضان، أو الحساني أو صلادي أو عزيز السيد أو البحتوري، إلخ.) شكل مجهول الهوية لأنه مجهول الوجه في الغالب الأعم (والوجه هوية الجسد والشخص كما نعلم)، كما أنه في أحيان كثيرة جسد بلا رأس جسد خام مقتطع من سياقه التواصلي الاجتماعي، مأخوذ في عمقه البصري الحركي و”الغرائزي”.

فلدى الحساني والبحتوري وعزيز السيد، وفي بعض لوحات محمد القاسمي مثلا، يجد الرائي نفسه أمام جسد جمالي مفتون بوضعيته ومحول على هوى مظهره. إنه جسد فينومينولوجي، إذا شئنا القول، تشكل عناصره، أي أعضاؤه، دعوة إلى الإبصار وفتح العينين والتأمل فيه باعتباره موضوعا للفتنة. إنه أيضا جسد غوائي آسر وتعبيري، بحيث إن الوضعيات التي يفصح من خلالها عن كينونته وضعيات دالة على معطيات أو على وجهات تمكن الرائي من متابعتها واستخلاص آثارها. من ناحية أخرى تشتغل هذه الوضعيات في اللوحة في حركيتها وقربانيتها. وقربانيتها ليست غير تلك المجهولية الملغزة التي تمنح بها نفسها للمشاهد

يخفي الجسد هنا تفاصيله الوجهية والجسدية لكي يفرد نفسه، في الغالب، لـ ”معنى” ممكن، أو بالأحرى لإشارة ممكنة. فإذا كان التصوير التقليدي الغربي للجسد في الفن الغربي يقدمه في إطار فضائي ووضعيات محددة، فإن الجسد هنا يتحول إلى مجرد مكون من مكونات اللوحة حتى وهو يحتل صدارتها. إنه لا يشير إلى أي شيء غير ما يمنحه للرؤية. بل إن اكتساحه للوحة أحيانا يحوله إلى فضاء يستجذب مؤثرات لونية وتشكيلية أخرى تساهم في خلخلة وضعيته المركزية. وكأننا في حقيقة الأمر هنا أمام لعبة يروم بها الفنان محو، أو على الأقل، حجب هذا الجسد الفارغ المستعرض نفسه. بهذا النحو تتم مسرحة الجسد وفق جدلية سحيقة هي جدلية الحجب والرؤية، تمكن الفنان من عدم السقوط في تجريد الجسد (le nu)، وفي الآن نفسه ترميز حضوره ولفه بمحددات وجودية جديدة، ولأن الجسد هنا واقع بين الاكتمال والاندثار فإن الحركة التي بموجبها يجمع تلابيب وتلافيف حضوره الممكن تتطلب عملية أخرى هي عين المشاهد من حيث هي عين غير بصاصة ولا تستجدي الإبصار الغرائزي بقدر ما تغدو عينا مدركة وباحثة في الآن نفسه.

تتبدى الرمزية الجسدية بشكل أولي، وداخل العملية نفسها في بعض لوحات المحجوبي أحرضان الأولى، فولع هذا الأخير بالوجه وتمثيليته الجسدية لا يخرج عن محددات إعادة الصياغة التي يحدثنا عنها. ذلك أن غرض أحرضان ليس البورتريه وإنما على غرار فرانسيس بيكون، وبمنطق مغاير وأقل سخرية وعنفا، إعادة تشكيل فضاءالوجه. غير أن وجوه فناننا تكثيفية بحيث إن العين تحتل من الوجه حجما أكبر من المعتاد وتتسربل بتعبيرية تمكنها منها لعبة الصياغة الخطية واللونية للوحة. من ثم يحمل هذا التوكيد على العين شحنات ترميزية تقدم للمشاهد بذرات معنى تواصلي قابل للترجمة إلى دلالات ممكنة، ولأن العين مركز الوجه و “باب النفس الشارع” (على حد قول ابن حزم)، فإن ممكناتها الحكائية تكبر مع ما يمكن أن تستثيره (إذ الرمز استثارة كما يقول تودوروف) (6) من عناصر حاضرة أو منسية في مخيلة المتلقي.

إن هذ الرمزية ذات الطابع الشذري والتشذيري تتحول لدى فنان آخر هوالحميدي، خاصة في أعماله الأولى، إلى هندسة تعبيرية يتم اختزال الجسد من خلاله إلى مكوناته الأكثر لغزية والأكثر احتمالا للتأويل، فعبر الاستدارات الموحية إلى الأرداف والعضو الأنوثي والأشكال القضيبية يخلق الحميدي عالما بسيطا من الأشكال تتخذ في حجمها ومنظوريتها دلالة جنسية غير فاضحة، بقدر ما توحي باهتمام الفني بقضايا التواصل الجسدي ولغزية مكامنه وتعالي وتعقد معطياته المرئية. إن الجسد هنا يتم تشكيله على نحو بلاغي مجازي بحيث يدل الجزء على الكل في استرسال تخيلي يمنح للمشاهد إمكانية الاستغناء عن الجسد في كليته لصالح الاستمتاع الجمالي والبلاغي بمكوناته الدالة. من جهة أخرى يمنح الفنان هنا لنا إمكانية تجاوز المحجوب إلى المرئي وتجاوز المرئي إلى اللامرئي، بحيث تتشكل اللعبة التشكيلية وفقا لمبدإ مزدوج : الكشف والاختزال الرمزي.

أما لدى بلكاهية فإن الجسد لا يأخذ هذا الطابع المركزي في الغالب إلا في لوحات بعينها تستعيد لصالحها مسكوكات رمزية (كالخمسة، وهي اللوحة التي توجد الآن بمتحف الفنون الإفريقية والأوقيانوسية بباريس). والحقيقة أن العمل الذي يقوم به بلكاهية له طابع خاص من حيث أنه يوهم بمحاكاة الصورة الشعبية المتداولة بكل حمولاتها الوقائية. بيد أن التفكيك الذي يقوم به لهذه الدلالات العرفية يكمن بالأساس في اشتغاله على مادة وحامل جديدين يتمثلان في الجلد والحناء والأصباغ الطبيعية، نباتية كانت أو غيرها. من ناحية ثانية فإن الشكل الذي تأخذه اللوحة عادة لدى بلكاهية هو الشكل غير المعتاد. من ثمة، فإن تداوير ”المضمون” مطابقة ”لإطار اللوحة. وهي العملية التي ترافق أغلب أعماله. إضافة إلى ذلك فالأشكال القضيبية تتمازج مع الأشكال الغائرة بحيث يمكن القول بأن الرمزية الجسدية لدى هذا الفنان تتجاوز ثنائية المذكر والمؤنت وتولج أحدهما في الآخر بغية التوكيد على كيان وحاد قابل للتعبير عن الكلية الأنطولوجية للجسد وطابعه العابر للتقسيمات المظهرية. بيد أن هذا لا يعني أبدا تخليا عن الدلالات الأصلية المرتبطة بكل شكل رمزي على حدة؛ فالعمل التشكيلي يغرق هذه العمليات الترميزية في فضاء بصري من العلامات والتدخلات تنمحي معه خصوصيتها الرمزية المتداولة وتنبني معه الشبكة المعقدة التي يرغب الفنان في إدماج المشاهد داخلها، باعتبارها شبكة تعلمية تحيل مساربها على تفاعل ممكن بين العين والفضاء التشكيلي.

ربما كانت تجربة محمد أبو الوقار، في هذا السياق (وإلى جانب تجربة عباس صلادي)، ذات وقع وموقع خاصين. فإذا كانت الوسائط المتعددة التي يمتلكها أبو الوقار (سينما، فوتوغرافيا، فيديو، تشكيل) تمكنه من استبطان هيجانه الذاتي، ومعه هيجان العالم، واستكناه دائريته المدوخة ومتاهاته العكرة، فإن اللوحة تشكل، بالنسبة له مجال ضبط إيقاعية هذه الحركية المتشنجة والعنيفة التي يشكل الجسد موطنها ومرتعا لاختمارها والإفصاح عنها، إن الجسد لدى أبو الوقار متشذر وكنائي. إنه عبارة عن بطن أو أياد أو أرجل متأرجحة في الفضاء تكاد تخرق بدن اللوحة وتنشد (بلعبة منظورية) باتجاه عين المتفرج، منبثقة بتهيج حاد من مصدرها اللوني وخلفيتها الآهلة بالكائنات، حالمة بالطيران بأجنحة مرئية ولا مرئية. بهذا المعنى يتحول الجسد المادي المتشذر إلى كيان متسام، يتوق بعنف إلى عمودية شبه ميتافيزيقية، تسوقه نحو حوافي اللوحة وحوافي الوجود. فاللوحة وهي ترسم هذا الجسد المبتور والمجازي تسعى إلى جعل المرئي نفسه حدا عنيفا للوجود ومساءلة نافرة وفائرة لممكنات انفتاحه اللانهائية. وهذا بالضبط هو ما يبرر ذلك التشذر الانفجاري الذي يتابع به الفنان تضاريس وآفاق الآخر ومنفتحات الكون. وكأننا هنا أمام تذمر عاشق من المحسوس، يستعيض عن ذاك النفور الآسر بتصوير للجسد الملائكي المجنح، ويمحو الجسد البشري بتضمينه في تشكيلة أكثر قوة وأكثر تخييلية. بل هذا بالضبط هو ما ”يفسر” جذبة الجسد الوجودية وإيقاع تحولاته الهائجة، بكونها سعيا نحو خلق فضاء صوفي يعيش من خلاله الجسد تجربة التسامي والتوحد بالآخر سواء كان ملكا أو غيره. إن اللوحة تغدو لذلك، فضاء لامتلاك وسحر الجسد في ثورته اللانهائية.

غير بعيد عن هذا العالم، لكن بمتخيل خصوصي، يمسرح عباس صلادي كائناته تبعا لحكاية أسطورية شبه شخصية، فعالم صلادي آت من مكامن الذاكرة والمتخيل، يتمازج فيه بشكل تضادي آسر، الحيواني والإنساني والنباتي والجامد واللامتحدد. ولأن المصادر الأساس لتشكيلية صلادي وجمالية لوحاته هي التصاوير الشعبية التي تؤثث متخيلنا الطفولي، فإن محاكاته الخصوصية لهذه العوالم تمكنه من إعادة صوغها وفقا للمكونات الذهنية للمتخيل الشعبي بكامله، بحيث يتحول الجسد الإنساني إلى جزء ممكن من تقاطيع الوجود الكلي. إن هذه النظرة الكلية (التي تميز أيضا الحكاية الأسطورية والتصاوير النابعة منها) تمكن الفنان من التركيب الرمزي للوحة ومكوناتها البصرية، بحيث تغدو بدورها بحثا في الأصول والمآلات والتكوين والخلق (وهي مميزات الأسطورة كما يحددها ميرسيا إلياد). إن المزوجات الخلقية لصلادي تسعى إلى إعادة خلق العالم وفقا لمتخيل جديد ينطبع بالمأساة والمرح في الآن نفسه. من ثمة، فإن كائنات صلادي وديعة وغير إنسانية كلية إنها غير ذات هوية محددة، بل إنها غير ذات وجه (والوجه موطن الهوية). إن هويتها الجديدة كونية، أساطيرية وشخصية معا. من ثمة، إذا كان ثمة من فنان منح للذاكرة التصويرية التشخيصية مكانها التشكيلي الإبداعي في المغرب فهو بالضبط صلادي، أكثر مما يسمى فنا ساذجا أو خاما يفترض فيه أن يكون على صلة مباشرة بتلك الذاكرة وبصماتها الساخنة.

بيد أن هذا الطابع الحكائي ذا المصدر الأسطوري والمقدس قد نجده مرتحلا هنا وهناك، بشكل خفي أو معلن، لدى هذا الفنان أو ذاك. ففي اللوحات الأخيرة لبوشتى الحياني مثلا (معرض قاعة المنار بالبيضاء 1979، وما وقفنا عليه شخصيا في محترف الفنان) يتبدى هذا الانزلاق من خلال استعادة حكاية أصلية مركزية هي الحكاية الآدمية، ووجه أصلي توسطي بين عالم الإنسان والعالم الإلاهي هي صورة الملك. غير أن هذه الاستعادة المحتشمة تارة، والمعلنة والأكيدة أخرى، يتم استغراقها في عوالم وفضاءات ووسط كيانات تتخذ هي نفسها وجهة رمزية : أعني تواتر الشموس والأقمار والمثلثات والدوائر الحلزونية المكثفة المحيلة إلى البيغ بانغ أو الانفجار التكويني للعالم، وبما أن ثمة انجذابا في هذه التجربة لتوظيف العناصر الكوسمولوجية والكوسموجونية تبعا لخاصيتها الشكلية (المثلث والدائرة مثلا) فإن ما يطبع الآدمية واشتغالها هنا يخضع لنوع من التداخل يتحول معه الرابط بين الرجل الأصلي والأنثى الأصلية إلى كيان مجنح وتوحيدي، بحيث يغدو الملائكي، في هذا التأويل التشكيلي، صورة مركبة لطرفي الإنسي ووجها ممكنا من وجوهه ووجهاته، إن الجسد الملائكي لدى الحياني ليس أصلا للإنسان بقدر ما هو ممكن من ممكناته الراهنة والصورة التركيبية للانقسام الطارئ الذي كان في أصل تكون الإنسان. بهذا المعنى تتم إعادة صياغة الحكاية الآدمية وفقا لخطاطة لاواعية جديدة، تؤكد، فيما تؤكد عليه على التفاعل بين فضاء الحكاية (المنزوي في الغالب في جزء من اللوحة، حين لا يستقل بنفسه في لويحات مستطيلة صغيرة) وفضاء اللوحة وامتداداتها التشكيلية في الأعمال الأخرى. يبدو هذا التفاعل واضحا في كون المثلثات التي تتلامس في مستوى القمة تشكل أحيانا شيئا شبيها بالأواني المتصلة التي تقيس الزمن، وتتحول عبر لعبة تشكيلية خاصة، إلى جسم، بحيث يغدو المثلث السفلي فضاء للغرائزي حتى وهو يعين الجسم الآدمي أو الجسد الحوائي، إنه من ثمة مثلث الجسد ومثلث الكينونة في آن واحد : الأنثوي والذكوري والملائكي.

4 – صمت اللغة والتجريد الرمزي

حين اكتشف التشكيليون المغاربة جمال الخط وجدوا أنفسهم في علاقة فتنة غريبة وشائكة. فالحرف ذو مرجعيات زخمة في التراث الديني والصوفي، ومعياريته القدسية أكبر من أن تندرج بحرية في الفضاء التصويري، وأصعب من أن يتم استيحاؤها في غيبة معطياتها الدلالية الرمزية. كما أن الأبعاد الرمزية للحروف، والتي تطورت بالأخص في حضن التجربة الصوفية، ومنابعه الملغزة التي أرساها النص القرآني جعلت من انتقاله من مجال الخط، (وهو فن وصنعة قائمة بذاتها) إلى متاهات ومغامرات اللوحة التشكيلية المعاصرة عملية معقدة وتتطلب من الحذر والإبداع الشيء الكثير، هذا بالرغم من أن الخطاطين المسلمين قد تجاوزوا بالخط أحيانا مجال الكاليغرافيا التقليدي، ليمنحوه بعدا تصويريا وتشخيصيا.

ولأن الحرف المكتوب صورة، وعمله أقرب إلى التصوير، ولأنه من ناحية أخرى جسم الله المشخص (7)، فإنه يغري بالتوظيف ويجذب اهتمام التشكيلي. غير أن هذا التوظيف لا يمكن إلا أن يدخل اللغة في لعبة جديدة لا مجال فيها للتواصل، ولا أهمية كبرى فيها للاحتراف الكاليغرافي. إن المعطى اللغوي والحرفي يتحول إلى عنصر مرئي مجرد من مركزية مدلولاته ليأخذ أبعادا جديدة يكتسبها من اندماجه في فضائه الجديد ونسيجه البصري.

هذه التجربة العسيرة والمشْكلة هي التي عبرت عنها تعاملات الفنانين القلائل الذين استهوتهم لعبة الخط والكتابة فتعاملوا معها جزئيا (الحريري، مليكة أغزاي …) أو كليا (مهدي قطبي). والحقيقة أن الطابع الإشكالي لهذا التعامل ينبع من خاصيتين : كون فن الخط اعتبر أحد الفنون البصرية الإسلامية الأساس من جهة، وكونه اعتبر دائما بين الصنعة والفن، خاصة إذا علمنا أن المجال التشكيلي له موقف ضمني من الخطاط الذي يعتبر (ضمنا أيضا) حِرفيا أكثر منه فنانا. فإذا كانت لوحات عبد الله الحريري تخضع لهوى الحرف في جماليته الكاليغرافية، فذلك أساسا كي تتلاعب بشذريته وطابعه الذري وتعيد تشكيله وفقا لمنطق التصغير والتكيبر، وكي تجعل من تلك التكومات الشذرية المتراقصة منفتحا لفضاء اللوحة التصويري. إن العلامة تأخذ هنا وفقا لمكوناتها الأولى والأصلية. فليس ثمة من كلمات مفهومة أو قابلة للفهم، وإنما فيض متناثر من الحروف يتلاعب بها الفنان بحرية تفرضها عليه لعبة اللوحة بكاملها، وكأن اللغة تمنح بهذا الشكل نفسها للبصر أولا وقبل كل شيء لتستجذب في الرائي حسه الجمالي لا غير، أو كأن اللغة تعود، على يد التشكيلي، إلى منابع صمتها الأولى(8) خالية من أي تدخل دلالي أو منطقي أو تركيبي. هكذا تنفرغ العلامة من طاقتها التركيبية ومن إمكاناتها الدلالية لتغدو بذلك كيانا سابقا على اللغة والتواصل أو متجاوزة لهما، أي جسدا حرفيا يتسربل بإمكاناته الحرة في الانزواء خارج كل منطق أو مقصدية تعبيرية مباشرة. إن الأهم في عمل كهذا هو ذلك التلاقح الذي يتم بين تشكيلة الحرف (كما قننها فن الخط العربي) وتشكيلة الفعل الصباغي، بحيث تنمحي الحدود بينهما ويأويان إلى مجال حركي وفضائي واحد.

بيد أن هذا الحضور “التشخيصي” للحرف ليس أبدا حضورا للغة، بل تغييبا لها واحتفاءً لا بجوهرها وإنما بمرآها، أي بجانبها المادي الملموس بصريا، إذ اللغة تحديدا أصوات ونفَس (كما تعرفها النصوص المقدسة واللسانيات الحديثة، أما الغراماتولوجيا أو علم الكتابة كما سعى إلى تأسيسه الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، فإنه لم يتأسس إلا كنقد لهيمنة الصوت والخطاب واللوغوس في المجال الفكري). لذا فإن تجربة المهدي قطبي، بخلاف الحريري، تسير بهذا التغييب إلى منتهاه، فتتحول لديه العلامة الخطية من علامة مقروءة إلى علامة لا متحددة وغير قابلة للتفكيك. إنها تغدو مجرد رقم، أي تخطيطا مجردا من كل تصويت. فاللوحة لدى قطبي تنهض على عملية محاكاة للكتابة يتم فيها تغيب مفهوم الكتابة نفسها. هكذا تتناسل “الحروف” وتتشابك في عملية تفيض بها اللوحة وتمتلئ بهذا الضرب من “الكتابة الفارغة”. وهذا بالضبط ما يجعل من اشتغال كهذا اشتغالا يهتم أساسا بالحركة geste التخطيطية أكثر من اهتمامه بالمنتوج الخطي (الحرف)، وتأويلا تشكيليا للعبة الكتابة من حيث هي لعبة تخطيطية لا لعبة تركيبية. إن “جمل” قطبي لا رادع لها، فهي مهووسة بالتوالد اللانهائي. وهي إذ تتجارز كل تعبيرية تسعى إلى خلق “لغة” جديدة خاصة وفردية، تدعونا إلى متابعة مسارب ومسالك وتداوير مصغرة ودقيقة وغير مألوفة، تتيه فيها العين وتعجز أحيانا عن اختراقها.

من ناحية أخرى، ربما كان المجال الذي راوده الفنانون المغاربة بنوع من الإلحاح وباستراتيجية تشكيلية تجديدية هو ذاك المتمثل في فنون الزخرفة والأشكال البصرية للوشم والزريبة. وليس من قبيل الصدفة أن تكون تجربة المرحوم أحمد الشروقاوي رائدة وتأسيسية في هذا المضمار. وتكفي الإطلالة السريعة سواء على لوحاته المعروفة أو أعماله الأخرى بالحبر الصيني (والتي أتيح لنا الوقوف على أهميتها وجمالها في المعرض الشامل الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس في نوفمبر 1996) كي يتبدى ذلك التعامل الخصوصي مع الأشكال التجريدية التي تحبل بها الفنون الشعبية.

من قبيل المفارقات التي تلمسنا بعض جوانبها آنفا، أن يكون أحمد الشرقاوي الذي تشبع بالخط العربي وأتقنه ومارسه حرفة واحترافا هو الذي يبتعد عنه في أعماله التشكيلية التي بدأها أواخر الخمسينات، بعد التحاقه بفرنسا وتكوينه الفني بها. فقد اتجه اهتمام الشرقاوي بالأساس إلى ما سماه “علامات الأم” ويعني بها كل تلك الوشم التي تزين الجسد الأنثوي وحليته الثوبية والبساطية والمعدنية. إن هذه الأشكال الشعبية التي أغرم بها قد أفصحت له عن أشكال متحررة، بالتأكيد، من دلالية الخط وتزيينيته القدسية. فالأشكال الهندسية التي تتوافر في لوحات الشرقاوي سواء كانت مثلثات أو منحنيات أو دوائر أو مستطيلات أو نقطا أو خطوطا منكسرة هي بهذا المعنى العناصر الفصيحة التي يتحدث من خلالها الجسد الاجتماعي المغربي والتي تملك سننها الخاصة وترميزيتها المزدوجة : الأصلية والإبداعية التي يمنحها لها التشكيل (9). لقد أدرك الشرقاوي أن العلامة المجردة إلا من رمزيتها تمكن من الانفتاح الذي لا تتيحه إلا بشكل جزئي العلامة الكتابية واللغوية. من ثمة فإن التشكيلات المتناضدة تضفي على الرغبة التعبيرية ما يمكن تسميته تشخيصا مجردا للمعني. إذ أن ما كان يهم الشرقاوي ليس الدلالة، من حيث هي كذلك، وإنما المعنى الأنطولوجي الذي يتصف باللبس والغموض والازدواج والتعدد. وهذا بالضبط ما يبرر توجهه نحو غنى العالم والمتخيل والرمزية الصوفية (خاصة لدى الحلاج). لقد كان الشرقاوي أول من أثارالانتباه إلى الإمكانات التي يتيحها الاشتغال على الرموز البصرية المتصلة بالحرف والفنون الشعبية، بل اتجه في بداياته إلى التعامل مع المواد الجديدة التي يبيحها هذا المجال كالنحاس مثلا. وإذا كان لنا أن نبحث عن علاقة ما ظلت ثاوية مع الخط، فسنجدها حتما في تلك اللوحات التخطيطية esquisses التي تم فيها الاستعمال الحصري للحبر الصيني والتي توحي ببحث عن “كتابة بصرية جديدة” تختمر فيها الأشكال والصور، وتقدم نفسها في شكل طروس تعلن عن ذلك البناء المركزي الذي ينهض عليه الشكل لدى الشرقاوي. من ناحية أخرى تمكننا هذه التجربة “الهامشية” من تلمس عشق الفنان لبهجة الألوان وتعددها، بالرغم من أنه يميل إلى مواترة معينة للبنفسجي والأزرق والأحمر، وهي تفاضلات تمنح نفسها للتأويل. بيد أن هذه الكثافة اللونية والشكلية لدى الشرقاوي تتركنا دائما أمام “مركز” معين أشبه بالعين (والعين لها حضورها الأكيد في أعماله) تطل منه اللوحة على نفسها وعلى الآخر. وفي هذا المركز بالضبط يتبدى ذلك النزوع الصعب نحو تجاوز ثنائية الشكل واللون، وهو تجاوز ينهض على الزخم الرمزي الذي تختزنه اللعبة التشكيلية.

*****

ليس بالإمكان، في هذا الحيز الضيق، استحضار كل العناصر الإبداعية للعلاقة بين توق التشكيل إلى التحول إلى نظام علامات وخلق لغة بصرية جديدة (ولو على سبيل المجاز القولي) وبين هويته الرمزية. بيد أن ثمة تجارب تسعى، إضافة إلى ما حللناه، إلى خلق لغة ذات بعد سميائي. هذا بالضبط ما تسعى إلىه بشكل غير مبالغ فيه وأقرب إلى البديهية، الأعمال الأخيرة لمحمد شبعة (10)، بحيث إن ثمة عودة إلى ما يسميه هذا الفنان سذاجة تصويرية تحول اللمسات واللطخات إلى ما يشبه الحروف وتتعامل معها بعفوية قريبة من اللعب. بيد أن تجربة الحسين الميلودي أقرب إلى هذه الرغبة بحيث إنها تخلق كيانات جسدية مصغرة تتجاوز وتتحاور وتتفاعل فيما بينها بحيث نجد أنفسنا وكأننا أمام لغة تواصلية من نوع يكفي وضع مقابلات صوتية لها كي تلج العالم السميائي. من هذا المنطلق تنطلق الأعمال الأخيرة لعيسى يكن (معرض المركز الثقافي الفرنسي بالرباط، فبراير 1998)، حيث تراوده هذه اللعبة فيضع قاموسا مصغرا لكائناته التي تؤثث بكثافة فضاء لوحته. وكأننا هنا في الحقيقة أمام ذلك التجاذب الذي يجعل من الأديب مفتونا بالصورة، ومن المصور والتشكيلي أسيرالرغبة الخطابية. وبين هذا وذاك توق إلى تفاعل متداخل وحميمي في تواصلاتنا اليومية التي يتمازج فيها التواصل الإشاري بالتواصل اللغوي. إن رهانات هذا التفاعل هي ما يجعل من العمل الكتابي والخطابي والعمل التصويري منفتحين تجاه متعالياتهما، إذ أن ذلك شرط تجددهما.

يمكن التأرجح بين تشخيص جزئي وتحويلي للجسد، وبين توظيف علامات ورموز هذا الجسد من تقصي النفي الذي يتم من خلاله خلق علاقة غيراختلافية بين الحضور والغياب، وبين المرئي واللامرئي، وبين الكنائي والحقيقي وبين المظهري والإظهاري. وحين تتمازج هذه العناصر داخل لوحة واحدة يتم التأكد آنذاك من إمكان التوافق الجوهري بين حد الصورة التشكيلية المعاصرة (باعتبارها اشتغالا مكثفا على الغياب، وتغييبا للحضور من حيث هو استدعاء تشخيصي) وبين الفعل الجمالي (باعتباره اشتغالا على الاستحضار والإظهار : إظهار ما قد يبدو أنه يهب نفسه لي كي يكون وجودي العيني والبصري دافعا له إلى الوجود).

إن هذه التجربةالحدية تجد منتهاها الأقصى في التفكيرالبصري في النور باعتباره عصب المرئي. وإذا كان هذا الاشتغال له حضوره الأكيد والضروري ضمنا في أعمال الفنانين المغاربة، فإنه أحيانا يغدو موضوع اللوحة وعصبها الأساس. فلدى بلامين (مثلا وبشكل خاص) (11) تسعى اللوحة إلى استكناه مصدر النور ومادته (البياض النوراني)، واضعة فيضها السادر هذا في تضاريس خفية للتحولات التدريجية، كي تتقصى بذلك ملاذات الموت والحياة (إذ النور والبياض حياة وانبعاث)، وتغمر تلك الفيوضات النورانية رموز الموت (التابوت) معلنة عن حساسية خاصة وعميقة بالحدود اللامرئية للوجود. هذه الرمزية اللونية التي يعتمدها التشكيليون المغاربة، بهذا القدر أو ذاك من الملحاحية والحدة، تتخذ لها مواطن لونية خاصة تتواتر بشكل حاد لدى البعض (البنفسجي لدى الشرقاوي، الأسود لدى ربيع، الزرقة لدى المليحي…) بحيث تغدو نابضا يتفاعل مع الأشكال ويمنحها إمكانات دلالية ورمزية قابلة للتحول والتأويل. وتلك بداية موضوع آخر.

———————————

الهوامش

1- انظر بهذا الخصوص :

-Edmond Douté, Magie et religion en Afrique du Nord, Ed. Afrique/Orient, 1984

2-Cf. G. Durand, Les Structures anthropologiques de l’imaginaire, Larousse, 1968,4ème édition,

3- نعتمد في تحديدنا للرمز على منظور بول ريكور، خاصة في كتابه :

Le Conflit des interprétations, Seuil, 1969

4- Régis Debray, Vie et mort de l’image : une histoire du regard en Occident, Gallimard, 1993

5-Farid Zahi, “Art, Islam et modernité” , communication présentée au symposium international sur : “Art and Taboo” à Ankara, 3-5 mai, 1995, publiée in Palaver, 1997, Revue de l’Université de Lecce, Italie

6-Tzvetan Todorov, Symbolisme et interprétation, Seuil, 1979

7- انظر : فريد الزاهي : الإسلام والصورة، المفارقة والتأويل، مجلة مكناسة، سلسلة الندوات . ع 3 . 1993 ، مكناس.

8-Abdelkébir Khatibi, L’Art calligraphique de l’Islam, Gallimard, 2ème édition, 1996

9- انظر مقالة إدمون عمران المليح عن الشرقاوي في :

Cherkaoui, La passion du signe, Ed. Institut du Monde Arabe, 1996

10- في معرضيه بباب الرواح 1997 و 1998 ، وانظر كذلك مقالتنا :

Farid Zahi, “La trace et ses parcours : M. Chabaa entre le lisible et le visible”, Libération, 22 mars, 1997

11- انظر تحليلنا لهذه الحساسية في :

Farid Zahi, “Lumière et sensibilité de l’être, à propos de F. Bellamine”, Libération, 15 juinn 1996