الفن والحداثة *

Bengrad
2021-06-04T11:55:40+00:00
العدد التاسع
13 أغسطس 2020439 مشاهدة

عبد الله العروي

ترجمة : كمال التومي

لنتأمل هذه الواقعة الغريبة المتمثلة في ازدهار مدرسة مغربية في الرسم التي أتاح اكتشافها للجمهورالفرنسي مؤخرا معرض عام بمدينة غرونوبل (ماي 1985). لقد تردد بأن هذه المدرسة لم تدرس بما فيه الكفاية. قد يكون هذا صحيحا، لكن اعتقد بأن ما ينقص بالعكس هو رأي المؤرخ.

يستعمل المؤرخ، بحكم تخصصه ومهنته، الإنتاج الفني كوثيقة. لكن نادرة هي الوثيقة في المجتمعات العربية الإسلامية، ويأسف المؤرخون المغاربيون جميعا، كما هو الشأن عند زملائهم الأوربيين والآسيويين، لعدم تمكنهم من معاينة طريقة أجدادهم في اللباس والتجميل والتزيين في الماضي. إن جل الرسامين المغاربة كما يمكن لكل واحد أن يلاحظ ذلك، هم رسامون تجريديون. أضع نفسي في مكان مؤرخ المستقبل وأقول سيأسف هو الآخر لكوننا انتقلنا من فن الزخرفة إلى فن التشخيص. يمكن للرسامين أن يردوا عن حق : انظروا إلى الفوتوغرافيا والسينما والتلفزيون، إننا لا نستطيع أن نكون أوفياء أكثر من هذه التقنيات الجديدة.

لقد ولد الرسامون المغاربة لعالم كان يملؤه سلفا رسم غرائبي ذي طابع جيد أحيانا ودون قيمة أحيانا أخرى. ننكب على هذا الإنتاج فنجد فيه سحرا ما لأن مغرب اليوم لا تربطه بمغرب الأمس إلا روابط ضعيفة وواهية. الرسام المغربي لسنوات الخمسينات، الذي لا يعيش في مناخ مختلف، لم يكن يحب اللون المحلي ( ). وقد تقولون : وماذا عن الرسم الفطري؟ نعم لقد كان موجودا بدون شك؛ بل وكان مزدهرا. رغم ذلك كان على هذا الرسم أن يكون فطريا. إن الاختلاف بين رسام استعماري وآخر مغربي يكمن في المهنة التي، إذ تصير مكتسبة، تغير العين : (النظر/النظرة) وتقضي على الدهشة المصطنعة. لكن الكثير من رسامينا المغاربة تعلموا التقنية بالمغرب أولا، ثم خارجه بعد ذلك. لقد تعلموا تقنية الفترة التي عاشوا فيها وليس تقنية القرن التاسع عشر، تلك التي كانت في الوقت ذاته ميتافيزيقا حسب التعبير المشهور لـ ج. ب. سارتر. ما هي هذه التقنية/الميتافيزيقا؟إنها بالضبط تقنية/ ميتافيزيقا الحداثة التي عبرت عن نفسها أولا في الفن. لقد سبق أن قلنا هذا. كتب الكثير عن أزمة الرواية (موت البطل، اختفاءالطبيعة، انحلال الموضوع، تفكك الزمن، الخ.) خمسون سنة قبل ذلك عرف الرسامون المشاكل نفسها. إن ما يجب تأكيده هنا مع ذلك هو استعدادية الرسام المغربي. إن الناقد الأجنبي، وهو يلاحظ انزلاق الرسام المغربي نحو الرمزية والتعبيرية والتجريد، يتحدث عن التقاءات ومصادفات وعن تأثيرات مجازفا بطمس استعداد الرسام المغربي لهذا التوجه.

لن ترسم انطلاقا من الطبيعة، اللوحة في الرأس لا أمام العينين، الخ. هذه رسالة يكون الرسام المغربي مستعدا لسماعها وفهمها وتأملها، هو الذي لا يحب الطبيعة التي يستنسخها الفن الاستعماري ويوجد في عالم كل شيء فيه، من التنظيم الحضري إلى هندسة الجوامع، ومن تزيين الجدران إلى فن تزويق المخطوطات، يذكره بأن الفن، بما هو صنعة ( artifice) قبل كل شيء، هو مجهود واع ومنظم غايته التخلص من الجسد لمعانقة الروح. يتم التأكيد للرسام بأن موضوع اللوحة لا يوجد خارجها، وبأن كل ضربة فرشاة، تقرب أو تبعد من ما هو مطلوب بناؤه أكثر مما هو مطلوب إيجاده واكتشافه، وبأن اللوحة ليست سوى خطاطة للوحة أخرى؛ الوحيدة التي تهم والتي تكون دائما غير مكتملة. أطروحة قريبة جدا، على ما يبدو، من شعرية عربية لكلمة “معنى” ( فكرة ) فيها شأن مناسبات القول. لكن الأفكار لا يمكن إحصاؤها. محكوم على الشاعر أن يكرر ما قاله سابقوه مرات عديدة، لكن بتجريبه لتوليفات جديدة، وبتوليفات عدة يمكنه أن يأمل الوصول يوما إلى فكرة لم يستطع أحد من قبل اكتشافها والقبض عليها بواسطة الكلمات. وهذه الفكرة ستخلد في الدواوين بعد أن تفقد سامعها لبرهة وجيزة حسن الواقع ( الطرب). إن ملاحقة الأفكارهاته ،كالملاحقة الأخرى، يجب أن تمارس على الدوام، إذا كان عليها أن تكون منتجة. على الرسام – أيضا – أن يظل في عملية تجريب دائم دون أن يكون متيقنا من النتيجة أو راضيا بها. إن العمل دائما مفتوح.

لنلخص ما سلف. لقد سبق أن قلنا إن الفن في حد ذاته حداثة. الموقف من الفن ومن الحداثة هو ذات الموقف.كيف يتصورالمؤرخ، عالم الاجتماع هذه القضية ؟ ماذا يقول عنها الفيلسوف التيولوجي؟.

يأسف الأول لنفسه وللاحقيه على غياب الموضوع في الرسم، كما هو الأمر في الرواية والشعر. أيعني هذا أنه يحمل حنينا دفينا للواقعية الاستعمارية؟ لا، لأن هذا الفن كان، على طريقته، فنا فقيرا جدا. انطلاقا من رأي مسبق يناقض الإنسان والتاريخ، كان يقدم لنا هذا الفن مغربا عتيقا لمشاهدته، مغربا غريبا جدا عن انشغالات الناس. إن المؤرخ، وقد صار ناقدا فنيا بهدف تذوق الرسم المعاصر، يدرك أن هذا الرسم نتيجة لتأثيرات متداخلة داخلية وخارجية.

أما الفيلسوف التيولوجي فسيجد في هذا الرسم، ما سيشجعه على المضي في هذه الطريق بعض الفنانين بكلامهم وحديثهم أكثر مما سيشجعونه بواسطة ممارساتهم عبر ادعائهم أنهم ظلوا أوفياء لتراث اللاتشخيص، وبادعائهم – أيضا- أنهم يعيدون إحياء فن الزخرفة وفن الخط، ملمحين إلى أن ما يكمن وراء اللوحة هو بالتأكيد الغائب الذي يكشفه الله للذين اصطفاهم. لنترك المتصوفة يخاطبون المتصوفة.

إن الفيلسوف التيولوجي سيجد صعوبة في تفسير الدافع الذي كان وراء ظهور هذا الشكل من الفن وغزوه لحقول كثيرة. أما المؤرخ، من جانبه، إذا أسف في أعماق نفسه لكون هذا المشكل لا يعكس مسيرة الحداثة، فإنه يدرك أنه علامتها الأقل التباسا.

* النص مأخوذ من :

– Abdellah Laroui, Islam et modernité, Ed. La Découverte, Coll. “Armillaire”, Paris, 1987, pp. 72-75