عبد الرحيم كمال
>إن النظام هو في نفس الوقت ما يمثل نفسه في الأشياء باعتباره قانونها الداخلي، وشبكتها السرية التي تتقابل داخلها الأشياء، بطريقة ما. والنظام هو أيضا ما لا يوجد إلا من خلال منظومة النظرة والفكر واللغة. إذ لا يتجلى بعمق إلا في الخانات البيضاء لهذه الشبكة بوصفها شيئا موجودا بشكل قبلي، وينتظر في صمت لحظة تمثله (م. فوكو، الكلمات و الأشياء ).
0 – تقديم : من أجل تاريخ منظم للخطاب التشكيلي (1)
هل يمكن الحديث عن نقد فني بدون تاريخ للفن؟ هل يمكن القيام بعملية نقدية دون اللجوء إلى تاريخ الفن والتاريخ العام؟ سؤالان ملحان أمام توالد الكتابات النقدية التي تتخذ الإنتاج التشكيلي المغربي موضوعا لها. سؤالان بسيطان لكنهما يثيران أكثر من إشكال.
إن المتأمل لهذا الإنتاج الفني وللإنتاج النقدي المصاحب له( 2) سيصاب ولا شك بالذهول أمام غزارته وكثافته ولكنه في نفس الوقت لن يفهم غياب سيرورات/منظومات تمكن من تبيان العلاقات والانتقالات النوعية من سيرورة إلى سيرورة ومن نظام خطابي إلى آخر. فكيف نفهم، في مجال الخطاب حول التشكيل المغربي، عدم تمكننا لحد الآن من كتابة تاريخ للفن الحديث في المغرب يتمثل كل عوامل إنتاجه واستقباله وكل مميزاته الشكلية والمضمونية، و”الفلسفات” التي ينبني عليها، وذلك في تسلسل ممنهج ودقيق.
إذا نحن نظرنا إلي ما صنعه الغرب في هذا المجال، سنجد أن النقد الفني والجمالي يؤسس مكوناته المفهومية والمنهجية على تاريخ الفن، بل إن تاريخ الفن هو نفسه له تاريخ (3). فمنذ جيورجيو فازاري إلى آخر المقاربات الشكلية للعمل الفني هناك سيرورة تارة تكون متصلة، وأخرى منفصلة من التراكمات التاريخية : أي مجموعة من الخطابات-البصمات وسلسلة من الخطابات-الصور شكلت في النهاية، ذاكرة تشكيلية وخطابية في نفس الوقت.
وسنحاول فيما يلي أن نقف عند أحد الأعمال النقدية التاريخية التي نعتبرها من الإسهامات المميزة في هذا الميدان قبل أن نسائل معنى المتحف-الخطاب.
1 – الخطاب النقدي عند توني مارايني
بالإضافة إلى أعمال مونوغرافية تبحث في إبداع هذا الفنان أو ذاك، في هذه الإشكالية أو تلك، هناك بعض الأبحاث التي لا تقل أهمية عن سابقاتها رغم ما يطبعها من تقليص للتحليل وقصره على الجانب الشكلي المحض، ومن خروج دائم عن “النص” لاستكشاف أسس هذا “النص” في الثقافة الشعبية أو الموروث الغربي والإسلامي (خاصة في المعمار وفن تزويق الكتاب). ولعل هذا ما يدل على تميز أبحاث هذه الباحثة. فقد حاولت الجمع بين المقاربتين وأسست لتاريخ فن لم يجد من يتممه ويرفعه إلى مستوى نظام تاريخي-نقدي مكتمل.
صحيح أن جل النصوص التي كتبتها طوني مارايني حول التشكيل بالمغرب هي نصوص نشرت في دوريات بشكل متقطع، لكنها جمعتها في كتاب أعطته إسم :Ecrits sur l’art (4) شكل في حد ذاته نقلة نوعية لأن النصوص دخلت في حوارفيما بينها ونسجت بعض خيوط هذا الخطاب التاريخي. فما هي خصوصيات الخطاب التشكيلي عند طوني مارايني؟
يمكن اختزال هذه الخصوصيات في ثلاث :
– خطاب وقائعي توثيقي
– خطاب تصنيفي
– خطاب أركيولوجي
1-1 خطاب وقائعي توثيقي
تبحث ماريني في كثير من نصوصها عن كرونولوجيا ظهور الفن المغربي الحديث. تبحث عن وثائق تقود إلى تحديد دقيق لبدايات ومظاهر هذا النوع الجديد من الإبداع. وبفعل الجمع الذي تم عند نشر الكتاب أصبح من الممكن رسم جدول يحمل تواريخ، أسماء وأحداث تمكن من صياغة سيرورة متتابعة ومتماسكة على شكل محطات. وتكمن أهمية هذا الخطاب في قابليته للمساءلة من زوايا نظر مختلفة بحيث يصبح الحدث موضوع تفكير إشكالي.
فعندما حاولت مارايني مثلا إثبات تاريخ دقيق لأول عمل فني حديث في المغرب، قامت ببحث أوصلها إلى أسماء مثل عبد السلام الفاسي بن العربي (من مواليد فاس 1904) ومولاي أحمد الإدريسي وعن بدايتهما في العشرينات، وفي هذا الإطار ستركز مارايني على تبيان أن هذا النوع من الإنتاج الفني لم يكن دخيلا مائة في المائة، وإنما كانت هناك عوامل ثقافية-نفسية هيأت لتفتق مواهب فنية بشكل سريع ومسترسل (5)
1 – 2 خطاب تصنيفي : والتصنيف عند طوني مارايني يرتكز على مجموعة من المقاييس المتنوعة :
أ – مقاييس شكلية عامة : إنها في غالبيتها مقاييس مستعارة من المعجم النقدي-التاريخي للغرب. من ذلك مثلا ذكر أسماء المذاهب الكبرى: الانطباعية، والتعبيرية والسريالية والتجريد الهندسي والتجريد الذاتي وكل أنواع المذاهب المعاصرة لما بعد الستينات. بالإضافة إلى ذلك هناك تصنيفات فرعية داخل هذه المذاهب. وما تجدر الإشارة إليه هو أن مارايني كانت تدرك كل الانزلاقات النقدية التي يمكن أن يقود إليها اللجوء إلى هذه التصنيفات لتحديد هوية الأعمال الفنية المغربية. فقد كانت تعرف جيدا أن خلف كل تقنية توجد -حسب عبد الكبير الخطيبي- ميتافيزيقا يجب حصر معالمها لفهم عمل ما.
ب – مقاييس شكلية خاصة : وهي مقاييس شكلية وتقنية تحاول أن تحدد خصوصيات العمل الفني المغربي. وفي هذا الإطار تبلور مارايني تصنيفات تقنية ومفهومية متميزة فتفرق بين العمل الفني المبني أساسا على العلامة والعمل المبني على الأثر والعمل المبني على الحركة والعمل المبني على المساحة،الخ.، وبواسطة هذا المعجم تصف بشكل دقيق أعمال بعض الفنانين المغاربة الذين تتبعت خطاهم الإبداعية خاصة الشرقاوي وفريد بلكاهية ويعقوبي وغيرهم.
1 – 3 خطاب أركيولوجي : وهو خطاب عالم يبحث في أسس الفن المغربي المعاصر المحلية منها (الموروث الإسلامي فنا وفكرا، الثقافة الشعبية بجميع أشكالها) أو الغربية. وتتجسد أهمية هذا الخطاب في المقاربات العديدة التي يقيمها بين الميادين الأخرى من الإبداع من جهة والفكر-الذهنية التي أنتجت هذه الإبداعات، من جهة ثانية. وباختصار فإن هذا الخطاب يبحث عن الأرضيات الثقافية والتاريخية للأشكال التي توالت بالمغرب.
إن خصوصيات الخطاب التشكيلي عند طوني ماراينيي ومنهجيتها (التاريخية والشكلية في نفس الآن) تدفعنا إلى استنتاج أن هذا البحث هو في العمق إجابة عن سؤال بالغ الأهمية يمكن صياغته على الشكل التالي : ما هي أشكال الفن المغربي الحديث وما الذي جعل هذا الإبداع ممكنا؟
وهكذا يكمن إسهام طوني ماراينيي في كونها أرست أسس مشروع متكامل العناصر ومتنوع الميادين ومهدت لمبحث تصب فيه جل التخصصات من تاريخ عام وعلم اجتماع وانتروبولوجيا وعلم الجمال والفلسفة الإسلامية وتواريخ الفن المشرقي والمغربي والآداب وغيرها. لكن هل من متمم لهذا المشروع المتميز؟
ومن هنا سنقف لحظة للقيام بمقارنة نبني عليها تصورنا للمتحف فنتساءل : ألا يمكن حصر علاقة بين المتحف والخطاب النقدي-التاريخي، لأن كل واحد منهما يشكل ذاكرة؟
2 -المتحف-الكتاب والكتاب-المتحف
لسنا بحاجة إلى تأكيد أهمية متحف (مادي ) في ميدان تاريخ الفن، ولسنا بحاجة إلى القول إن داخل المتحف تتشكل كل العلائق المكونة للخطاب النقدي التاريخي. فإذا تصورنا أن كتاب تاريخ الفن هو في الحقيقة متحف مصغر (تحدث أندري مالرو بهذا الشأن عن المتحف الخيالي) ينظم مادته بشكل من الأشكال، فإننا نتصور أيضا أن المتحف كتاب لأنه مكان التقاء خطابات عدة سنحاول ملامستها فيما يلي .
2 – 1 المتحف : أثر وذاكرة وخطاب
المتحف أثر وفضاء لصيانة أثر : إنه ذاكرة منظمة ممتدة في الزمان ومختزلة في المكان، المتحف تاريخ يتزامن فيه ما هو روحي وما هو مادي، ويحتضن خطابا تصنيفيا ووصفيا وتكوينيا.
عندما تعلق لوحة على جدار متحف ونعرف بصانعها وبحياته وتاريخ إنجازه للوحة وحجمها ونسيجها واتجاهها وعنوانها، فكل هذه العمليات ترمي إلي تنظيم المرئي. وفي هذا الفعل الترتيبي واللغوي، كل لوحات المتحف تحيا من جديد وتقوم بإحالات ذاتية فيما بينها. من قاعة إلى أخرى يتحرك صدى وتنكشف خطابات. وبعبارة أخرى، فإننا من خلال تنظيم لوحات متحف، إنما نقوم بتنظيم تاريخ وبنينة خطاب متماسك داخل سيرورة ما. إن زائر المتحف هو زائر ذاكرات. وفي إطار الذاكرة المتحفية يمكن أن نميز بين ثلاث ذاكرات تنتج كل واحدة منها نوعا معينا من الخطاب.
أ – الذاكرة التصنيفية : يتخذ هذا الصنف الأول من الذاكرات شكل جرد عقلاني يتم من خلاله إحصاء الأعمال الفنية وتنظيمها حسب الأنواع والأبواب مثل : قرن، فنان، تيار فني، حقبة، الخ. فكل عمل فني يأخذ مكانه في مسار تاريخي. إن هذا الصنف من الخطاب يقوم به المحافظ ( conservateur). وخطاب المحافظ يتخذ شكل هذا النوع من الكتب الذي نسميه فهرسا أو دليلا (répertoire).
إن الذاكرة التصنيفية، على هذا الأساس، هي فهرسة تاريخية يتم من خلالها جرد الآثار الفنية لمجتمع ثقافي حسب مداخل لغوية مختلفة. والمتحف في حد ذاته نوع من الخطاب الذي يتطور في الزمان. ولا يتعلق الأمر فقط بتأسيس وتأريخ خطاب ينظم متخيلا معينا. إن تطور طريقة صياغة وجرد وتشكيل فهرس معين يخضع حتميا لتطور الخطاب النقدي والتاريخي والتشكيلي بطبيعة الحال. وبعبارة أخرى، إن زيارة متحف هي وضع المسافة التي تفصل عملا عن آخر وخطابا عن آخر وفهرسا عن آخر. إن زيارة متحف هي أيضا جرد لمسافات.
ب – الذاكرة الوصفية : لكن عندما نقوم بعملية جرد للخطابات يتجسد خطاب آخر هو الخطاب الوصفي. إذاك يتحول المحافظ إلى متذوق لأن تخطيط مسافة يتزامن مع خطاب تقييمي لهذه المسافة على المستوى التشكيلي والجمالي. وهنا لا يتعلق الأمر بتصنيف فحسب، بل يتعلق أيضا بوصف جوانب العمل الإيكونولوجية (شرح خصائص الأشكال) ودراسة التركيب ( composition ) والشكل واللون وتحليل المراحل التقنية للإنجاز. ويمكن للخطاب الوصفي أيضا أن يحاول بناء الثوابت الشكلية الموزعة على محور الزمان وتأسيس سلم إحالات داخلية. أكثر من هذا، يمكن للخطاب الوصفي أن يحاول تناول الشيء الممثل في علاقته مع طرائق التمثيل، فتظهر موضوعات في حقب معينه ثم تختفي لتظهر من بعد، وأخيرا يمكن لمسافة أخرى أن تصبح موضوع قياس : تجلي ما هو شخصي وما هو جماعي في العمل الفني. وبعبارة أخرى، فإن الفهرس التأريخي يستقبل، من خلال الذاكرة الوصفية، الخطاب النقدي ليشكلا معا نسقا خطابيا لأن المتحف-الكتاب والكتاب-المتحف يعتبران نسقا وليس لائحة.
ج – الذاكرة التركيبية : إن الذاكرة التركيبية هي توليف خطابات يصبح العمل-الأثر أثرا لشيء آخر خارجه إذ يندرج في المحيط الجمالي العام، بل كذلك المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي فيصبح مضمونه وشكله محكوين بالابستيمات المتوالية. وإذا كانت التوليفة (combinatoire ) تقوم بتحديد الصرح التاريخي لهذا الشكل وهذا المضمون، فهي في نفس الوقت تفسر ما الذي سمح بإمكانية التصورات التي تكوّن النسق الفكري الذي ينتمي إليه العمل.
وبتعبير آخر، فإن هذا الصنف من نقد الفن (تاريخ الفن) هو نوع من حفريات الخطابات التشكيلية والخارجة عن التشكيل، فهي تحاول تحليل الظروف والعوامل التي كانت وراء إنتاج عمل فني وتلقيه. وهكذا، فإن الذاكرة المتحفية (التصنيفية والوصفية والتركيبية) هي مجموع خطابات راسخة في التاريخ العام الذي يمثل فيه تاريخ الفن جزءا واحدا فقط. وبعبارة أخرى، ماذا يعني تاريخ الفن إن لم يكن أيضا تاريخ خطابات تشكيلية متداخلة مع تاريخ الخطابات النقدية التي أحاطتها أوتعاقبت منذ ظهورها. ومن جهة أخرى، فإن تصور تنظيم المتحف باعتباره مؤسسة وباعتباره فضاء مغلقا/مفتوحا تطور عبر التاريخ، هذا دون إلغاء المتغيرات التي تتعلق بمنهجيات مقاربة النص الفني، منهجيات تختلف فيها درجة استغلال المادة التاريخية ولتأريخ الفن بمفهومهالحقيقي، إذ لا يمكن وجود نقد فني دون تاريخ فن.
——————————————
الهوامش
* سبق أن نشر الجزء الثاني من هذه المقالة بالفرنسية سنة 1991، كما نشره مترجما الفنان بنيونس عميروش تحت عنوان “متحف بدون ذاكرة” ( العلم، 27 أبريل، 1996)
1- تأخذ تعبيرية الخطاب التشكيلي في هذه المساهمة معنيين مترابطين، المعنى الأول : الخطاب التشكيلي هو الخطاب حول التشكيل، أي الخطاب النقدي. المعنى الثاني : الخطاب التشكيلي هو “اللغة ” التي ينبني عليها العمل الإبداعي الفني. وفي نظرنا، فإن ما يصدق على هذا الخطاب يصدق على ذاك.
2- انظر العمل البيبليوغرافي الذي تنشره علامات كتتمة لهذا الملف.
3- نذكر في ما يلي ببعض محطات هذاالخطاب في القرن السادس عشر:
-VASARI, G., Vies des plus excellents peintres, sculpteurs et architectes (1550).
في القرن السابع عشر :
– BELLORI, G., Vies des peintres, (1672).
– FELIBIEN, A., Entretiens sur les vies et sur les ouvrages des plus excellents peintres anciens et modernes (1668).
– PILES, R., Abrégé de la vie des peintres (1699).
في القرن الثامن عشر :
– MONFAUCON, B., Monuments de la monarchie française (1733)
– WINCKELLMANN, J-J, Réflexions sur l’imitation des دuvres grecques dans la sculpture et la peinture (1755).
– WINCKELLMANN, J-J, Histoire de l’art de l’Antiquité .
في القرنين التاسع عشر والعشرين :
– D’AGINCOURT, L., L’histoire de l’art par les monuments (1851).
– TAINE, H., Philosophie de l’art (1865).
– BURCKART, J., La civilisation en Italie au temps de la Renaissance (1860).
– WOLFLIN, H., Prolégomènes à une psychologie de l’architecture (1886).
– WOLFLIN, H., Principes fondamentaux de l’Histoire de l’art (1915).
– FOCILLON, H., La peinture au XIXème et XXème siècles (1927-28).
– FOCILLON, H., Vie des formes (1934).
– VENTURI, A., Histoire de l’art italien (25 volumes).
– PANOFSKY, E., The History of Art as Humanistic Discipline (1949).
– HAUSER, A., L’histoire sociale de l’art.
– HAUSER, A., Les théories de l’art.
– FRANCASTEL, P., Peinture et société (1951).
– FRANCASTEL, P., art et technique au XIXème et XXème siècles.
4-Maraini, Toni, Ecrits sur l’art, (choix de textes), Ed. Al Kalam, Coll. “Zellije”, Rabat, 1989.
5-انظرالمرجع نفسه ص ص 90 -95
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6873