محمد عبد المطلب – مصر
لا شك أن الخطاب الأدبي عموما، والخطاب الشعري خصوصا، قد أوغل في تجاوزات تكاد تقطع العلاقة بينه وبين معظم المناهج النقدية التي نعرفها من كلاسيكية ورومانسية وواقعية، ذلك أن هذا الخطاب لم يعد يمارس محاكاة الواقع فنيا أو غير فني، إنما يسعى إلى إنتاج واقع جديد وفق شروطه الخاصة. كما لم يعد منغلقا على مبدعه يستحلب أعماقه ليجسدها في تهويمات حلمية أو مرضية، لأنه يعمل بجد على قطع علائقه بهذا المبدع ليتحرر من سطوته، أو لنقل من وصايته الدائمة التي ترهقه بإسقاطات تلوي عنقه كي يتقبلها أولا، ثم يعايشها ثانيا. كما لم يعد مجرد مشاهد خارجي للواقع ليرصد ما فيه من عفونة أو قبح، لأن هذه المشاهدة أدخَلُ في السلب منها في الإيجاب.
لكل هذا لم يعد نص الحداثة صالحا للتعامل مع المناهج التقليدية، وبالضرورة، فإنه يحتاج إلي أدوات طارئة لها قدرة الكشف المزدوج الذي يجمع بين السطح والعمق. أما الممارسات الشارحة أو المفسرة، فإن النص يتأبى عليها لأنه يرى نفسه فوق هذا الشرح وهذا التفسير، أو لنقل إن له قدرة تقديم نفسه دون هاتين الأداتين اللتين تتعلقان بالسطوح والهوامش، دون الأعماق والمتون.
وإذا كانت مثل هذه الأدوات قد أدت مهمتها بنجاح في مرحلة سابقة، فإن هذا النجاح يرجع إلى طبيعة الخطاب الذي تعاملت معه، حيث كان معنيا بطبيعة المعنى، سواء في ذلك المعنى الجزئي أو الكلي. وهو ما هيأ له الدخول في منطقة الأغراض الشعرية التي انقسم من خلالها الخطاب الشعري إلى “أبواب ” في الفخر والغزل والمديح والهجاء، وغيرها من القوالب المحفوظة التي ظلت صاحبة السيادة إلى مرحلة قريبة، وكانت العناية بالمعنى مساوية للعناية بـ”الجميل”، بالمفهوم التقليدي، كما كانت العناية مرهونة بحضور الحقائق المشتركة في الداخل مغلفة بشفافية عاطفية رهيفة تنكسر أمام خشونة الواقع القريب أو البعيد. وبمعنى آخر، نقول : إن مهمة الشعرية كانت تتناول ما يواجهه الإنسان في بناء جميل.
إن رفض الخطاب الحداثي للشرح والتفسير ليس رفضا سالبا يقف عند حدود هذا الرفض، بل هو توجه إيجابي يسعى إلى استحضار أدوات بديلة تصلح للتعامل معه؛ وأهم أداتين تم استحضارهما : التحليل والتأويل؛ إذ هما – بمفهومهما المعجمي أو الفني – قادرتان على مواجهة موجات الشك التي تتفجر من مراكز إنتاج المعنى، وقادرتان على احتمال تأجيل النص لمنتجاته الحقيقية، لأن كل إنتاج يخضع للتحليل أو التأويل لا يمكن الحكم عليه بالصحة المطلقة أو الخطأ المطلق، بل إنه ينتظر- دائما – مرحلة تالية توثق أو تزيف، وهذه المرحلة- هي الأخرى – تؤجل إصدار حكمها النهائي لمرحلة تتلوها، وهو ما يجعل للتأويلية السيادة المطلقة على الخطاب الأدبي على وجه العموم. وأعتقد أن هذه التأجيلية هي سر خلود النصوص العظيمة التي ما زالت تشغلنا حتى يومنا هذا، نمارس فيها التحليل والتأويل دون أن يدعي ناقد أو دارس أنه قد قال فيها الكلمة الأخيرة. إن الدارس عندما يتعامل مع نص لرفعت سلام يقول فيه :
نظرة أخيرة :
شمس تحتسي شايا،
ورياح تنام في فراشي،
وغيمة تحت الوسادة،
نار تصعد الجدار،
أشياء صغيرة تومئ لي،
وعلبة سجائر خاوية،
فأمضي( 1)
يجد نفسه مزحوما بكم هائل من التساؤلات التي لا تجد لها إجابة قاطعة أو شبه قاطعة. فهذه (نظرة أخيرة )، إلى أين تتجه، أو على أي شيء تتسلط ؟ إنها تتجه إلى فراغ دلالي، لأنها – حسب منطق الطباعة – تتجه إلى ما يليها من أسطر، لأن حضور الرسم الرأسي للنقطتين – في نهاية السطر الأول- يعني أن ما بعده تفسير له، وليس محلا لتسلط النظرة عليه.
ثم ما سبب مجيء ( نظرة ) نكرة ؟ هل التقليل من فاعليتها وتحديد مجالها، أم للإعلان عن شموليتها وقدرتها على استيعاب العالم العلوي والسفلي، عالم الغياب وعالم الحضور ؟ ولماذا انحازت العلاقات التركيبية إلى الانقطاع بين السطر الأول والسطر الثاني عندما استبعدت ( حرف العطف) من بين السطرين ؟ هل كان ذلك لأن ” نظرة ” قد اخترقت الحاجز الطباعي ( النقطتين الرأسيتين ) وتسلطت على ” شمس” ، أم أن الصفة ” أخيرة ” قد قفزت من إطارها المكاني لكي تستوعب النظرة والشمس معا؟.
ولماذا وقعت الاختيارات على “شمس” في مطلع السطر الثاني ؟ هل يستهدف النص إنزال العلوي إلى الحياتي ” تحتسي شايا “. أم ” شمس ” تتخلص من دلالتها الأولى، لتنتقل علَما لأنثى تمارس الفعل الحياتي، وهي ممارسة لا تستحق هذه النظرة الأخيرة. إن السطر الثالث يكاد يلغي مجموعة الاحتمالات السابقة، ليدفع ” شمس ” إلى معجميتها دلاليا، لتحتل العالم العلوي ثانيا، برغم ما تحتضنه من فعالية أرضية في “تحتسي شايا، يوثق هذا الملحظ الأخير أن الصياغة تشكل سياقا جماعيا أسماه البلاغيون ” مراعاة النظير “، حيث يتوازى حضور الشمس مع حضورالرياح في السطر الثالث، لتمارس – هي الأخرى – فعلا حياتيا تنام في فراشي “، ثم ” غيمة ” في السطر الرابع لتسكن ” تحت الوسادة “.
إن الخطاب على نحو تأويلي يحاول امتلاك قدرات مجاوزة تدخل الذات المتكلمة في زمرة أصحاب الكرامة من المتصوفين، لأن مجموعة الظواهر العلوية قد تم استئناسها وإخضاعها لهذه القدرة المجاورة، فبثت فيها الحياة أولا، ثم قربتها منها ثانيا، ثم دفعتها إلى بعض الممارسات الحياتية ( احتساء الشاي، النوم في الفراش، الدخول تحت الوسادة). إن منطق التأويل لا يمكن أن يغفل امتداد هذه الظواهر الانتاجية إلى الموروث الديني الذي سبق أن اتكأ عليه المتصوفة في امتلاكهم قدرات نبوية إعجازية تثبت انفصالهم عن البشر واتصالهم بهم على صعيد واحد .فـ” يوشح” قد توجه إلى الله ليمنح له الشمس من الغروب لتظل حاضرة حتى تنتهي مهمته القتالية وقد استجاب له الله، حيث تم خرق ناموس الوجود بهذا الاستحضار؛ وسليمان كانت له قدرة السيطرة على الرياح، و” محمد” ص استقطب “الغمامة ” لتسير فوقه مظللة مسيرته.
معنى هذا أن الشعرية- هنا- تحقق لها كرامة التعامل مع ظواهر الوجود من منطلق إحيائي يكاد يلغي الفاصل بين العلوي والسفلي. وبرغم ذلك، لا يمكن الادعاء بأن مثل هذا الإيغال التأويلي صحيح جملة وتفصيلا، لكن الصحيح أنه احتمال قائم في البنية العميقة قابل لاستحضاره على نحو من الأنحاء.
وتحتفظ ” الكرامة ” ببعض من طاقتها في السطر الخامس لتعطي لـ”النار” قدرة “الصعود على الجدار”. فما طبيعة هذه النار؟ هل هي مكونات الذات الداخلية التي تتفاعل في حدة لتخترق هذا “الجدار”، أو الحاجز الوجودي الذي يعوقها عن فعلها الثوري؟ أم أن النار تنتمي إلى المكونات الخارجية التي تتوازى مع مكونات الذات الداخلية؟.
ويلاحظ أن انكسار النسق في الأسطر الثلاثة الأخيرة لاستدعاء مفردات هامشية ” أشياء صغيرة”،” علبة سجائر”، لكن انكسار النسق الداخلي لا يلغي اتساق النسق الخارجي الذي يجمع بين الكبير والصغير، وبين المتن والهامش على صعيد الرؤية الشعرية، لكي ينتهي كل ذلك الجمع بالفعل ” أمضى ” المسند للذات. فإلى أين تمضي ؟ ولماذا تمضي ؟، كيف ستمضي؟ ومتى ستعود ؟ أم أنه مضى في اتجاه واحد لا عودة منه؟. إن كل بنية تركيبية، وكل دفقة دلالية لا تحسم إنتاجها. وإنما تطرحه تحت سيطرة التأجيل. وبمعنى آخر، تدخله منطقة الاحتمالات التي ترتبط باللحظة الراهنة، أما الآتي، فإنه يزيف كل هذه المستخلصات أو بعضها، أو يوثقها، أو قد يتركها حائرة في منطقة التأجيل.
إن المنهج الذي كان يتخذ الشرح والتفسير أداة له كان موافقا للمرحلة التي اهتمت بالمنتج الدلالي، بينما الواقع التنفيذي للشعرية الحداثية لا يسعى إلى إنتاج الدلالة، وإنما يسعى إلى إنتاج تراكيب، ذلك أن الدلالة أمر مشترك ينتجها الخطاب الشعري كما ينتجها الخطاب النثري على حد سواء. ومن غير المجدي أن نقول بالشعر ما يمكن قوله بالنثر، ومن ثم تكون الشعرية الحقيقية في عملية إنتاج الدلالة، لا في الدلالة نفسها، وهو ما لاحظه الجاحظ في مقولته الدقيقة : > والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير<.
معنى هذا أن الشعرية تحتاج إلى خصوصية تنفي الشركة، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا في عملية إنتاج التراكيب لأنها لا تعرف الشركة بحال من الأحوال. وهو ما يعني أيضا أن اللغة في الشعر لم تعد وسيلة اتصال، فالشاعر لا يسعى إلى التواصل باللغة، وإنما يسعى إلى توصيل اللغة ذاتها. لكن هذا السعي له شروطه ومواصفاته التي تبعده عن النثرية الخالصة. لأنه يعتمد، بالدرجة الأولى، على تخليص اللغة مما تعودت أن تقوله. وليس معنى هذا أن استنطاق اللغة يحتاج دائما إلى أبنية مفارقة، أو تشكيلات طارئة، بل ربما يكون ذلك بتذكير اللغة بما نسيته من طاقات تعبيرية إفرادية وتركيبية. فهذا المنسي يأخذ ملامح الجدة والطزاجة عند استعادته، بل ربما تفوق على الجديد في أنه يحضر مشحونا بموروثه القديم، فيكون مزدوج الإنتاج لأنه يجمع بين القدم والحداثة على صعيد واحد.
فإذا كانت اللغة قد اعتادت أن تقول ” إن الوحوش تقتات اللحم” ، فإن رفعت سلام يجبر لغته على أن تقول : والأناشيد تقتات لحم الأطفال (2)
وإذا كانت اللغة قد نسيت الوقوف على الأطلال، فإن شعراء الحداثة يذكرونها بهذا المنسي. وهو تذكير يستحضر معه المشحون القديم ليحمله بإسقاطات الواقع الحضوري حتى يصير قديما وجديدا على صعيد واحد. يقول رفعت سلام :
فهل لي أن أسميكم أم لا أسمي نفسي سكةً
للسالكين أم أترجل عن صهوة الفرس وأُلقي مرثيةً
غير عصماء في بكاء الأطلال يقول مطلعها
غاض الرثاء. لا دمعة تجري،
ولا أجري وراء الطائر الوهميّ،
أحسبه قطاة أو غزالا،
ربما (3)
وإذا كانت اللغة قد نسيت الحمار كوسيلة للمواصلات- في عالم المدينة – فإن رفعت سلام يذكرها بهذه الوسيلة ويوظفها في إنتاج الضدية الممتزجة بالسخرية من مفارقات الواقع. لكن الشعرية لكي تحقق عملية التذكير تتنبه إلى احتياجها لقدرة طارئة تمكنها من استعادة الزمن ” الحماري” أولا ، ثم إعطاء ” الحمار” وظيفته القديمة ثانيا :
فلم تمنحي غير قبضة من هواء سويتها ونفخت فيها
من روحي فصارت حمارا ركبته إلى الجمهوري الملكي (4)
إن التعامل مع اللغة على هذا النحو يعني أن رفعت سلام يمتلك حسا لغويا ينفر من الراكد والمبتذل، وحتى إذا تعامل مع هذا الراكد، فإنه يسعى إلى تخليق سياق ينفي عنه ركوده وابتذاله لأنه يدفع به إلى مناطق التوتر التي تحرك ركوده، وتجدد ابتذاله واستهلكته على مستوى الشكل والمضمون، لأن الخطاب الشعري لرفعت سلام يستحضر البنية في سياق مفعم بالتوتر، متفجر بالإشارات الطارئة التي لا يمكن أن تكون مصاحبة له بحال من الأحوال. يقول الشاعر :
ترحل القطارات للشرق بالأبناء،
لكن .. لا تعود
ترحل الفتيات نحو الشرق للأبناء،
لكن ..لا تعود (5)
إن التوتر هنا يتأتى من أحادية الرحيل، أو لنقل إنه رحيل في اتجاه واحد، لا يعرف التوقف، بل يرحل الأوائل ثم التابعون وتابعوا التابعين إلى المجهول الذي يغوص في مناطق الاغتراب والضياع. إن الرحيل ينتقل بعالم القرية إلى عالم المدينة الذي تضيع فيه الأسماء والجهات، وتغيب فيه الحدود الزمنية والمكانية. وبرغم أن الدفقة الصياغية لم تحدد منطقة الوصول، لكن السياق يشي بها ضمنا، دون أن يلغي ذلك اشتباك البنية ببعض التوجهات الصوفية التي تصعد بالرحيل إلى آفاق الرمز طلبا للخلاص والاتصال بالمطلق، حتى ولو كان “مجهولا”.
ويلاحظ أن هذا الراكد يصل أحيانا إلى مستوى التداول الحياتي النمطي، لكن الشعرية تصعد به أيضا إلى أفق التوتر الذي يلغى ما فيه من تداولية مبتذلة. يقول رفعت سلام :
لاريح تعرفني،
ولا ثيابي الداخلية،
ولا مترو عبد العزيز فهمي،
ولا صوت الطيور الليلية قبل الفجر
ولا (6)
إن الدفقة تصعد إلى ما لم تتعوده اللغة في السطر الأول” لا ريح تعرفني “، ثم تنزل إلى ما اعتادته في الأسطر التالية، لكنه نزول متوتر حاد التوتر لأنه يدخل الذات في دائرة الاغتراب عندما تمارس فعلها العبثي في استحضار مفردات الواقع الحياتي الراكد ” ملابسي الداخلية “، ” مترو عبد العزيز ” ، ” صوت الطيور الليلية قبل الفجر”. والاستحضار مصاحب لانفصال الذات عن هذا الواقع برغم ممارستها له. وهي ممارسة على وجه الإكراه والاضطرار، فالتوتر هنا يتفجر من التقبل الرافض أو الرفض المتقبل.
إن تعامل شعرية رفعت سلام مع مثل هذا الراكد يعني، من جانب آخر، أن مفردات الواقع كلها أصبحت مفردات شعرية. فليس المهم ركودها أم عدم ركودها، إنما المهم طبيعة الرؤية التي تتسلط عليها، وقدرتها على نقلها من الركود إلى الحركة، ومن الألفة إلى عدم الألفة. ويلاحظ أن هذه الرؤية ثلاثية الأبعاد، إذ تتسلط على ما كان أحيانا، وعلى ما هو كائن أحيانا ثانية، وعلى ما يكون أحيانا ثالثة. والصدام الحتمي بين هذه الأبعاد هو الذي يعطي الرؤية خصوصيتها، ويؤكد طاقتها الشعرية. والحتمية هنا قد تكون من تخليقات الشعرية ذاتها. وعلى هذا النحو يقول رفعت سلام :
سراب موسمي يبْتني نزوة أو قلعة نظرية فكيف
تصدق أن قصيدتي القادمة دخنت معي ” البلمونت ”
( قالت إنها لا تحب الأصناف الأخرى ) (7)
إن دفع مفردات التداول الحياتي – ” البلمونت – ، “الأصناف الأخرى-، ” دخنت ” – تحقق لنفسها طاقة شعرية مميزة بدخولها منطقة الصدام الزمني الذي يتيح للآتي ( قصيدتي القادمة ) أن يشارك في فعاليات الحاضر اليومية ( دخنت معي البلمونت )، ثم طرح هذا التصادم الزمني تحت سطوة الاستفهام الذي يثير الشك -أصلا- في الناتج كله، وإن حاولت الصياغة أن تتغلب على هذا الشك بمواجهة التركيب الإنشائي بتركيب خبري تقريري، يقرر ذاته، ويقرر سابقه ( قالت إنها لا تحب الأصناف الأخرى ) ثم – مع هذا التقرير- يعود بالناتج إلى زمن الماضي ( قالت ). وهنا يتجلى الصدام التخليقي الذي أشرنا إليه.
ومع استيعاب شعرية رفعت سلام لمفردات الواقع كله، فإنها لا تستنكف من التعامل مع ظواهر الخشونة، كما لا تستنكف من إفساح مساحة – بل مساحات – في خطابها لما يحسن السكوت عنه، أو لما يمتنع دخوله منطقة التصريح والإباحة، مع توظيف هذه المساحات في تحقيق حالات أو مواقف مغرقة في ضديتها بين القدرة والعجز، بين المحال والممكن. يقول الشاعر :
أنا من سار فوق الماء مستندا على عكازي المكسور
فأنثنى مثلما امرأتي الكظيمة لحظة الإيلاج
دونما ابتلال أو وصول دونما شيء (8)
لا شك أن مثل هذه الخشونة – وفي غيرها من شعرية رفعت سلام – كانت تستهدف المواجهة المباشرة من منطلق أنه إذا كان ” لا حياء في الدين ” فـ” لا حياء في الشعرية “. ومن ثم أصبحت تعرية الواقع خصيصة تعبيرية على مستوي الشكل أو على مستوى المضمون. بل يلاحظ أن الشعرية كانت تتوغل في هذه التعرية لكشف الواقع أولا، ثم اختراقه ثانيا بتجاوز الطبقات الرسوبية الزائفة، وبلوغ الجوهر العميق وتسكينه الوعي تمهيدا لتفجيره والخلاص منه؛ أي أن الخلاص من الواقع كان مرتبطا بالرؤية الواعية. ولولا هذا العري الكثيف ما تمكنت الشعرية من بلوغ مستهدفاتها المضمرة التي تسعى إلى التدمير تمهيدا للتكوين.
إن شعرية الحداثة لم تكتف بما استهدفته بعض المراحل الشعرية السابقة من تصويرالواقع، أو نقله من التكوين الوجودي إلى التكوين اللغوي، ولم تعد تكتفي بنقد الواقع وتعريته، أو حتى بمحاولة تعديله. إنها تسعى لإنتاج واقع جديد، ولكل مبدع شروطه التي يستحضرها لحظة هذا الإنتاج. ورفعت سلام يفرض شروطا ومواصفات يمتد معظمها إلى المكونات الداخلية، لأن المكونات الخارجية سهلة التدمير لا تحتاج إلا إلى استحضار أدواتها فقط؛ وهي أدوات بشرية حينا، وغير بشرية في غالب الأحيان. يقول رفعت سلام، مدمرا عالمه ليعيد تكوينه وفقا لمشيئته الإبداعية :
أموء في العراء.
فيهطل الأفق القريب في حجري
سماوات صغيرة. ألملمها وأدحوها،
وأصنع من ضلوعي بيتها الأليف.
أُريق ماء الذكريات بين كفيها،
أهدهدها هنيهة مطيرة،
تغفو.
وحين تصحو، في انتصافي ،
تهطل المواء. (9)
إن إنتاج الواقع الجديد لا يكتفي باستحضار إمكانية التدمير وأدواتها، ثم قدرات التكوين وأدواتها فحسب، بل يحتاج إلى لغة جديدة، جديدة في معجمها، جديدة في نحوها. والمتابعة المتأنية لخطاب رفعت سلام تؤكد سعيه – في كل ديوان – إلى إنشاء هذا المعجم من ناحية، والنظام النحوي من ناحية أخرى. ويمكن إدراك جانب من هذا المعجم في إشراقاته التي يقترح فيها كمّا وفيرا من الدلالات البديلة. يقول في بعضها :
لي أن أسمي الليل ترياقا أليفا والنهار مفازة والشعر
شركا شائكا والمقاهي غابة من التعب والنميمة والمآذن
حرابا سامة حتى مطلع الفجر هكذا لم يعد في القلب
متسع لأشلاء تنز الحزن والزرنيخ والذكرى تئن بلا
انقطاع من الجوع إلى طيور فرت من قبضتي في المساء
الساحلي بلا رجوع فافسحوا لي برهة حتى أنام الدهر أو
بعضا فوقتي حجر على الرقبة أو سيف على الضوء القرير (10)
والمعجم المقترح – صراحة- يضم الدوال التالية : الليل : ترياق. النهار : مفازة، الشعر: شرك شائك. المقاهي: غابة التعب والنميمة. المآذن: حراب سامة . الوقت : حجر أو سيف.
إن رفعت سلام -بكل هذه التوجهات- يسير في الطريق الذي طرقه بودلير ورامبو، من حيث الاهتمام بالعالم الخارجي في أبسط مناطقه وأصغر مفرداته، وأقلها قيمة، مع تحويلها من بساطتها وصغرها وقلتها إلى طاقات إنتاجية صالحة لتشكيل شعرية من طراز خاص. وربما كان رفعت أكثر اقترابا من رامبو، حتى إنه امتص بعض مؤشراته السميولوجية ( الإشراقات )، وبعض مؤشراته الدلالية في ” موسم إلى الجحيم “، حيث جاء ديوانه ” هكذا قلت للهاوية” موازيا بين ” الجحيم ” و”الهاوية”. ففي كل منهما واجه الشاعر نفسه في تجربة بالغة القسوة والحدة تنذر بتفكك الواقع العام والخاص، وتنذر بتفكك الزمن؛ فلم يعد يعرف حدودا تضبطه أو تنظم حركته في أبعادها الثلاثية : الماضي، الحاضر، الآتي.
ونحذر هنا من أن يتصور البعض أن الامتصاص يعني ذوبان الذات المبدعة تحت ضغط الشخصية المستدعاة، فرفعت سلام، كما عرفته من خطابه، من أكثر شعراء السبعينيات وفاء للموروث القديم في مستواه الإنساني، ومن أكثرهم إفادة منه، حتى ولو كانت الإفادة على الضدية والرفض. فمعظم شعراء العالم عموما، والعرب خصوصا، حاضرون في خطابه، بذواتهم أحيانا، وبملفوظهم أحيانا أخرى، لكنه حضور قائم على الندية والموازاة، حضور يهيئ لخطابه قدرا وافرا من الوعي، واتساع الرؤية. ولكي يحقق رفعت لشعريته هذا الاتساع، فإنه لا يكتفي بمثل هذه المعاونات الخارجية، وإنما يسكن وعيه بيتا من الزجاج الشفاف الذي يسمح له بإدراك العالم في كل أبعاده، وفي كل زواياه وفي كل مستوياته.
لكن هذا الوعي، أو تلك الرؤية تنفر- أحيانا – من هذا الحصار الزجاجي، فتتجاوزه محلقة إلى آفاق غيبيات تستعصي على البشرية الأرضية، لكن التحليق كان أداة للارتداد إلى الواقع الأرضي مرة أخرى، لتمارس فيه عبثيتها المقصودة التي تفرغه من منطقيته الوجودية. يقول الشاعر:
لا ماء هنا
بل صخر مسنون مسموم
صخر دون الماء
قطرة ماء
لا صخر
بل قطرة ماء
بل صوت الماء ينقر فوق الصخر
لكن .. لا ماء
ووجهك باق
دون الماء (11)
إن العبثية في هذه الدفقة تتمثل في المستوى السطحي والمستوى العميق. فحركة الصياغة تقدم ضفيرة تجمع بين النفي والإثبات، دون أن يكون هناك منفي أو مثبت؛ أو لنقل إن المنفي يكون مثبتا، والمثبت يكون منفيا على صعيد واحد. فتسلط النفي على الماء – في السطرالأول – يصطدم بتسلط الإثبات عليه في السطر الرابع، وتسلط الإثبات على الصخر- في السطر الثاني – يصطدم بتسلط النفي عليه في السطر الخامس.
بل إن دال “الماء ” يدخل منطقة الوجود والعدم في السطرين السابع والثامن ( صوت الماء ينقر لكن لا ماء ) ثم ينحاز إلى العدم في السطر الأخير ( دون الماء ). وكل هذه التصادمات الضدية تجعل حركة المعنى نوعا من العبثية المقصودة التي تكاد تفرغ الدفقة من الدلالة برغم نحويتها المستقيمة. وهذا التفريغ الدلالي يبدو – في المستوى العميق- موازيا لتفريغ العالم من منطقيته، بل ربما من تفريغه من وجوديته.
إن معنى هذه العبثية أن خطاب رفعت سلام – ومعه شعراء جيله- لم يعد يستجدي التصفيق، لأنه لا يعرف منافقة المتلقي، ومحاولة استرضائه بالسير في الطريق الذي طرقه السابقون من القدامى والمحدثين، بل إنه يسعى جاهدا لإثارة توتره وغضبه عندما يواجهه بهذا الكم من العنف والقوة والخشونة. وعندما يغلق أمامه سبيل الإدراك بالتعتيم الدلالي، والإظلام الصياغي، ومحاربة كل إضاءة يمكن أن تتسرب إلى النص.
وتزداد العتمة كثافة إذا لاحظنا أن الخطاب الشعري لرفعت سلام يتكئ كثيرا على توجهات عرفانية وإشراقية ترفض التورط في التفكير الأول المباشر، لأنه يسعى إلى إقامة مواجهة حادة بين الحضوري والغيابي، ثم ينحاز، تدريجيا، إلى عالم الغياب ليعطي للشعرية اقترابا من السلطة العلوية. وهنا تتحول خطوط الدلالة الممتدة طولا وعرضا إلى شيء شبيه بالوحي، والمشابهة لا تعني القداسة، ولكن تعني التقبل التسليمي حتى ولو لم تكن تلك الخطوط موافقة لذائقة المتلقي ومكوناته الثقافية والجمالية؛ ذلك أن الذائقة العربية قد دربت على خطاب شعري له خواصه الحادة خياليا ودلاليا وزخرفيا وإيقاعيا، لكن هذه الحدة مهما أوغلت في ابتعادها تظل مقترنة بالحقيقة أو تضع الحقيقة دائما بالقرب منها، فإذا جاءها خطاب شعري يفارق كل هذه الحدة، فإن الرفض سيكون بديلا عن التقبل، أو على أقل الاحتمالات : يكون الحذر والتردد بديلا عن التقبل المفترض. وكسر هذا الحاجز هو ما يسعى إليه الخطاب الشعري عموما، والحداثي خصوصا، وخطاب رفعت سلام على وجه أخص؛ لأنه – في كل ديوان له- يحاول أن يؤكد شرعية حضوره مبدعا له خصوصيته، وذلك بالابتعاد عن المشترك والنفور من الشائع. ومن هنا يكاد يكون كل ديوان، بل كل قصيدة مغامرة إبداعية منفلتة القيود متمردة على الأطر والتقاليد.
إن خصوصية رفعت سلام تأتي في إطار مرحلة الأحلاف الإبداعية الصريحة أو الضمنية، وهي أحلاف تجلت بحدة في مرحلة الرومنسية في المهجر :”العصبة الأندلسية “و “الرابطة القلمية”، وفي مصر”أپولو” و”الديوان”. واستمرت الأحلاف في شكل ضمني حتى مرحلة السبعينات التي ظهرت فيها جماعة “إضاءة” التي اتخذت لها صوتا كتابيا في مجلتها المعنونة باسمها، وجمعت بين رفعت سلام وحلمي سالم وجمال القصاص وحسن طلب؛ وكل منهم استقل بإبداعه واحتل مساحة واسعة في ساحة الشعرية. ثم كانت جماعة “أصوات” التي ضمت : عبد المنعم رمضان ومحمد عيد ابراهيم وأحمد طه، وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد سليمان. وكل منهم أيضا أصبح صاحب بصمة شعرية لها خصوصيتها وتفردها. فخصوصية رفعت سلام أخذت طابعا تحالفيا في بدايتها، ثم انفصاليا استقلاليا بعد اكتمال الأدوات والحصول على شرعية الحضور المنفرد إبداعيا.
والحق أن تحالفات السبعينات كان لها صدى واسع في حركة الشعر العربي من حيث استهدفت إقامة علاقة حميمة بين الحساسية الداخلية وظواهر الوجود الخارجية، وبخاصة تلك الظواهر التي يهملها الكثيرون أو يغفلون عنها لهامشيتها أحيانا واحتجابها المؤقت أحيانا أخرى، برغم أنها – في هامشيتها الحاضرة أو الغائبة- قد تكون منطقة تفجر الدهشة والغرابة وبرغم أن مؤشراتها الشعرية قد تكون أكثر فاعلية من كثير من الظواهر المتضخمة أو البراقة. والذي لا يمكن الشك فيه أن أحلاف السبعينات كان لها تأثير بالغ في الأجيال التالية، ولا نجاوز الحقيقة إن قلنا إن هذا التأثير كان له بعض الصدى في الأجيال السابقة التي ما زالت تملأ الساحة بإبداعها الشعري.
إن مقولتنا عن احتياج الخطاب الشعري الحداثي إلى أدوات تنبع من داخله، يسبقه القول بأن هذا الخطاب في حاجة إلى منهج ينبع من داخله أيضا؛ منهج لا يأتي بمسلمات سابقة لكي يدخل بها عليه فيصادر أية محاولة للتجاوز، أو أية بادرة اختراق. وفي رأينا أن هذا المنهج يحتاج إلى طاقة تفكيكية تناسب ظواهر التفتيت، كما تناسب ظواهرالشك والتأجيل. ومن خلال الممارسة الطويلة مع هذا الخطاب، يمكن أن أطرح بعض المداخل التفكيكية التي تأخذ بيد الدارس إلى جوهر الخطاب، مبتعدة عن الهوامش الخارجية التي تشد المتلقي بعيدا عن الأدبية لتصرفه إلى تاريخها أحيانا، أومكوناتها اللغوية أحيانا أخرى. وهي أمور لا نغفل أهميتها في تنوير الواقع الأدبي عموما، لكن لا نعتبرها من مكونات النص الأدبي، دون أن نصادر على غيرنا حقه في توظيف المنهج الذي يرتضيه، والأدوات التي تناسب هذا المنهج. وكثيرا ما طرحت هذا المنهج في دراسات جزئية لبعض الدواوين، وكلية في رصد مرحلة شعرية بعينها خلال مجموعة من مبدعيها. وإلحاحنا على طرح المنهج يعني أنه ما زال قابلا للتهذيب بالحذف والإضافة، وإن كانت الممارسة الإجرائية قد أكدت أن خطاب رفعت سلام كان منطقة خصبة لمجموع الإجراءات التفكيكية.
ويبدأ المنهج ممارسته بالتعامل التحليلي مع المؤشر الإعلامي الأول ( العنوان ) الخارجي، ثم ربطه بمجموع العناوين الداخلية أولا، ثم بالتوجه الدلالي السائد في الديوان ثانيا. ثم يجاوزالمنهج هذا المؤشر الإعلامي ليتوجه إلى الذات المتكلمة أوالفاعلة، الصامتة أو الساكنة، ليرصد تحولاتها ومكوناتها الداخلية والخارجية كما وكيفا، ثم يمتد المنهج ليربط بين الذات والموضوع وبرصد جدلية العلاقة التي تربط بينهما، وما يكتنف هذه العلاقة من ثبات أو تغير، من قبول أو رفض من انفصال أو توحد. ثم يتحرك المنهج إلى خطوط الدلالة لمحاولة كشف نظامها، وتحديد شبكتها طولا وعرضا وعمقا. ثم يغادر المنهج هذه المنطقة ليتعامل مع ظواهرالاستدعاء المشاركة في إنتاج الدلالة، والمساعدة على تعدد الوعي، والمؤكدة للبعد الحضاري. ثم من الاستدعاء إلى اللغة بوصفها وسيلة وغاية، كما سبق أن أشرنا، ليكون التعامل التفكيكي معها من زاويتين : الإفراد والتركيب، ثم تجاوزهما إلى ظواهر التعالي اللغوي، أو بمعنى أصح: التعالي على اللغة بتوظيف أدوات غير لغوية، لكنها منتمية إلى اللغة على نحو من الأنحاء، كظواهر السرد والحوار، وتجليات الطباعة التي أصبحت أداة إنتاجية من الطراز الأول.
والحق أن مواجهة رفعت سلام – في أعماله الشعرية الأربعة- قد استدعت إضافة محور آخر إلى المحاورالسابقة، هو محور الإيقاع الذي يخلص للتعامل مع الظواهر الصوتية اللافتة، التي تأخذ طبيعة ترددية منتظمة. وقد طرحنا من هذه الظواهر أربعة مستويات : المستوى الحرفي، والمستوى الصوتي، والمستوى البديعي والمستوى النظمي أو النحوي، وأهمية هذا المحور – في رأينا – أنه يحقق لقصيدة النثر شرعية الوجود، إذا قلنا إن الشرعية الشعرية منغلقة على الإيقاع، إذ أن المتابعة أكدت أن هذا الجنس الأدبي له إيقاعية لا تقل حدة وكثافة عن الإيقاع المحفوظ على مستوى البحر أو على مستوى التفعيلة.
إن طرح مجموع هذه المحاور وتوظيفها – في تحليل شعر رفعت سلام – قد أكد أن هذا الخطاب كان إضافة حقيقية إلى شعرية الحداثة، إضافة تعطي لصاحبها شرعية وجوده الإبداعي. وهو وجود يعي مهمته، ويعي جهده، لا يدعي انتماء إلى ” وادي عبقر ” انتظارا لشيطان الشعر، وإنما يعترف ببشرية مألوفة لها الحق في مواجهة الواقع بكل طاقتها القولية الخشنة. يقول رفعت سلام:
هكذا أجيئكم عاريا بلا نبوة ولا شهادة ولا رسالة
تدعي قداسة ما كما يدعي الشعراء عادة أو تدعون
هكذا أجيئكم رصاصة أو خيانة أو فضيحة وأسمي
نفسي انتهاكا (12).
——————————————
الهوامش
1- رفعت سلام : “إنها تومئ لي”، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1993 ص 84
2 -رفعت سلام : “هكذا قلت للهاوية”، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1993، ص 28
3 – رفعت سلام : ديوان “إشراقات رفعت سلام “، الهيذة المصرية للكتاب، القاهرة، 1992، ص 40
4 -نفسه ص 49
5 – رفعت سلام، ديوان ” وردة الفوضى الجميلة “، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987، ص 112
6 – ” هكذا قلت للهاوية ” ، ص 15
7 – نفسه ص 48
8 – “إشراقات رفعت سلام ” ص 80
9 – “إنها تومئ لي ” ، ص 72
10 – “إشراقات رفعت سلام ” ، ص 74
11 – ” وردة للفوضى الجميلة ” ، ص 72
12 – “إشراقات رفعت سلام ” ، ص 13
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6891