محمد بن عياد – جامعة صفاقص- تونس
مقدمة
يمرالمتلقي، في تقبله النص الأدبي، بمراحل ثلاث تتلازم فيما بينها تلازما لا فكاك منه، وتتمحض كل واحدة منها لمقصد مخصوص. لذلك، يعسر أن نتصور تقبلا يتم دفعة واحدة. إنما هو يكون بحسب مستويات يحددها مطلب القارئ في كل لحظة من لحظات التقبل. وهذا التدرج سمة مطلوبة لأنه يسلم، عبر ترسبات مختلفة في ذهن القارئ، إلى الهدف الأقصى الذي ينشده المنشئ من وراء الكتابة نفسها، وهوفعل التأثير في القارئ بالتحكم في دقة الفهم.
وخليق بنا أن نحد أسس المصطلحات معرفيا، فنقول إننا سنميز بين التأويل بما هو لحظة ما في استراتيجية التلقي، وبين “علم التأويل” أو “الهرمنطيقا” وهو علم ينظم استراتيجية القراءة بوجه عام. وعلى هذا الأساس ينقسم التلقي إلى لحظات ثلاث متضامة فيما بينها وليس الفصل بينها إلا من قبيل الإيضاح المنهجي :
– لحظة التلقي الذوقي، وفيها يستشعر القارئ جمالية النص منذ الوهلة الأولى.
– لحظة التأويل الاسترجاعي، وفيها يتم استجلاء المعنى انطلاقا من المبنى.
-لحظة الفهم أوالقراءة التاريخية التي تعيد بناء أفق الاستشراف لدى القارئ، بحيث يصبح النص جوابا على سؤال في زمن إنشائه، كما يلاحظ ذلك ياوس.
فلا مجال لفهم النص، كما يشترط ذلك بيتر زوندي، إلا إذا ما أسند إلى بنية أسلوبية يفك القارئ أواصرها لاستجلاء المعنى من خلال التأويل. ولا مجال للتأويل ما لم تسبقه قراءة ذوقية ينتبه عبرها القارئ إلى مواطن الخلق الأسلوبي والتجاوز. فإذا كانت القراءة الأسلوبية تعتبر النص نقطة وصول، فإن القراءة التأويلية تعتبرالتفكيك الأسلوبي نقطة انطلاق. وإن التلقي المباشرالأول هو الذي يهم طالب التأويل، فالفهم مادة خام للتصرف. فلا وجود لدلالة معطاة بصفة أولية. إنما الدلالة يمهد لها التلقي الذوقي الانطباعي، فهو أرضية سانحة للفهم وحائلة دون تخطي مقصد المنشئ مهما اختلفت دروب القراءة.
وضروري – استكمالا للفائدة المنهجية – أن نميز بين الفهم الضمني الذي تنطوي عليه القراءة الانطباعية، وبين الفهم المدرك الصريح الذي هو لحظة مستقلة بذاتها، ترد في المرتبة الثالثة ضمن استراتيجية التلقي العامة.
وحري بنا أن نشير إلى أن التأويل ليس ظاهرة مستحدثة في تاريخ الآداب والفنون، إنما هو يمتد إلى أرسطو القائل إن في كل كلام تأويلا من جهة أن اللغة تحريف لأشياء الواقع، ويمتد كذلك إلى المفسر الديني أوريجان صاحب نظرية “معاني الكتابة الأربعة” التي تقتضي تأويل النص الواحد من زوايا أربع :
– المعنى التاريخي الحرفي ويتوصل إليه بالدراسة النحوية.
– المعنى المجازي الذي يرمز إلى تعاليم الكنيسة.
– المعنى الأخلاقي الذي ينظم سيرة الإنسان الممارس للعقيدة.
– المعنى الصوفي التزهيدي الذي يكشف عن الحقائق الماورائية، وخاصة منها تلك المتعلقة بما بعد الموت.
وإننا نعي أن استرايجية التلقي لا تقتصر على النصوص الأدبية فحسب، بل هي تمتد إلى مختلف الإبداعات الفنية والتعبيرات العفوية كالأساطير والأحلام، بما يجعل التأويل ظاهرة مغرقة في القدم، غير مرتبطة بمرحلة ما، أو بالمكتوب دون الشفهي مثلا.
وإذ نعتبر “الهرمنطيقا” أو “علم التأويل” علما، فليس ذلك من جهة أنه يقوم على المعارف الدقيقة، بل من جهة أنه يسعى إلى الارتقاء بالإبداعات كلها، من القراءة السطحية المنعزلة، إلى تأسيس نظرية متكاملة نافذة في تدبر الآثار الفنية. وقد حاول علماء التأويل عموما أن تكون نظرياتهم جامعة مانعة تُدخل تحت طائلتها سائر الإبداعات، وما كان جامعا مانعا إنما هو إلى العلم أقرب منه إلى التوقع والتخمين.
ولئن رأى هانس روبيرت ياوس مثلا أن نظريته التأويلية تنطبق على الشعر أساسا دون النثر، فإننا لا نتخلف عن اعتبارها منطبقة على كافة الأجناس الأدبية الأخرى، ما دامت النصوص المكتوبة خاضعة للتفكيك والتأويل، بحكم انطوائها على درجة من الغموض، السمة اللصيقة بالشعر في الأصل. فالرواية أو المسرحية أو النادرة مثلا أجناس أدبية سانحة للتأويل، لأنها تقيم عبر جدلية الفن والواقع مسافة بين العالم والخطاب المعبر عنه. ومن ثم تتيح هذه المسافة التقبل الجمالي فالتأويل فالفهم.
أما الكتابة التاريخية، فغير مرشحة للتأويل، لعدم توفرها على الغموض، إحدى ركائز الشعرية. ولكن الموقف نفسه قد لا يُقبل على علته، وسنعمد إلى مناقشة شيء منه في مطاوي البحث.
I لحظة القراءة الأولى أو الذوقية
تُعرَّف القراءة الأولى بأنها محاولة لتذوق النص في كليته شكلا ومضمونا، وذلك بالتدرج من أول النص إلى آخره. فالقراءة الذوقية متنامية، علما بأن لكل نص مبتدأ ومنتهى. وليس مفاد ذلك أن ما يستشعره قارئ ما من أثر قراءته لأحد النصوص هو ما يغنمه قارئ ثان من النص نفسه. إنما قوانين التذوق الجمالية غير موحدة من ثقافة إلى أخرى، لأنها خاضعة لضوابط تاريخية، بما يجعل الذائقة العامة متطورة على الدوام، من حقبة زمنية إلى أخرى (1).
وللقراءة الذوقية شرط آخر، فضلا عن التمثل الكلي، هو الإحساس بالقطع والفجإ في الانتقال من علامة أسلوبية إلى أخرى، لاسيما في النصوص الشعرية ذات الطابع الغنائي. فتتجلى صورة هذا الكسر في تغير ملامح الأنا النصي من مقطع شعري إلى آخر(2). وآية ذلك أن هذا الأنا لا يستقر على وتيرة واحدة، إنما هو يتزىى بنتوءات النفس ووهادها، ويشهد ضروبا من التموج يحفزه إليه الانفعال الوجداني،
ولذا نسأل هنا عن معنى الجمال الذي يحصله القارئ المتذوق. إنه لا يكمن في استشعار الزخرف الفني في العلامة الأسلوبية المتميزة، بقدر ما هو متمثل أساسا في إدراك الفارق بين الاستعمال اللغوي التقليدي كما سنته المؤسسة اللغوية وبين الاستعمال العدولي عنها (3)، أو على الأقل، هو متمثل في المراوحة بينهما. فتصبح عملية الكتابة، وفق هذا، لعبة جذب حبل بين استعمال المألوف من الأفانين الأسلوبية، وبين اعتماد الخارق منها. ومن ثم، تصبح القراءة بدورها خاضعة للمزايدة من جانبين متقابلين؛ جانب مؤسساتي يدعو القارئ إلى تمثل القول من زاوية ما تقره المؤسسة اللغوية وجانب ثان يدفع القارئ إلى تمثل وجوه التجاوز، فالضمير المتخيل، كما يزعم جون بول سارتر ينفي عالم العلامات الموجودة، ليستطيع القارئ بفعل ذاتي أن ينشئ الجمال المتخيل. فالواقع ليس جميلا إلا في المتخيل لأنه يبطل العالم في بنيته الأساسية (4).
فالقراءة، بما هي جدل وتنازع بين جاذبين ونقطة تقاطع بينهما، تغدو لذة يصفها بارت بالاحتفالية، لأنه بقدر ما ينتبه القارئ إلى وجوه التجاوز تلك، تكون سعادته أعمق.
ويرى بارت في هذا السياق تحديدا، أنه بقدر ما يحافظ المنشئ على صرامة الجملة، من الجهة التركيبية يضعف شأن التجاوز، وبقدر ما يتقلص شأن الجملة تركيبيا، يتنصل المنشئ من ثقل المؤسسة، وتغدو الكتابة مركزة على الكلمة في حد ذاتها. وبذلك تضحي الكتابة فعل خلق مؤسس للذات ومحقق للكيان، قوامه نص هو دفق من الكلمات المشحونة معاني نابعة من قاع الذات ومحققة للمكبوت من الرغبات(5). وحين تتهاوى الصروح اللغوية، ومن خلفها الصروح الثقافية والإيديولوجية، تينع، على حسب تعبير بارت >جنة من الكلمات<، يؤمها القارئ للوهلة الأولى.
إن النص فضاء لذة طوباوي لفرط اتساعه. فاللعب بالكلمات، داخل هذه الجنة، لا حد له كما يشير إلى ذلك تودوروف. وهو لقاء ذلك، رهان اللذة القصوى، من جهة كونه غير محدود بمكان أو زمان، أو أي شارط آخر إنه فضاء يبتدعه القارئ أيا يكن سياقه التاريخي ليكون ملاذا لذاته وامتدادا لها، يحققها فيه من خلال قراءة الذوق. ذلك أن الخطاب مهما بعثرت كلماته، لا يفقد أبدا دلالته، كما يزعم فلوبار (6) بل لعل دلالته الوحيدة، في إخضاعه للخرق على مستويي التركيب والمجاز والإيقاع، وما إليه من الأساليب الجمالية.
إن استشعار القارئ اللذة الحق، هو في هذا الرهان الذي يجعل القارئ لاهثا وراء جمال النص من خلال سجف العدول. وإذ نسميها سجفا، فلأنها، بقدر ما ينكشف منها الخرق تبتذل وجوه الجمال في النص، فهذا الخرق يجب أن يتطلع إليه لمما حتى لا يفقد جوهره، فموطن الجمال كما يزعم ذلك بعض علماء النقد، ليس في النص العاري، بل هو في مواطنه الشفافة، تتشقق عن آيات الجمال عبر الأثقاب. وذلك ما دعا بارت إلى الحديث عن >كشف مفاتن النص<.
ومن هنا، وجب التمييز بين ضربين من القراءة قراءة المتعة وقراءة اللذة الأولى قراءة يطلب فيها صاحبها مخالفة النظم الجمالية السائدة والمحمول الإيديولوجي الذي تنطوي عليه، والثانية قراءة مخالفة القناعات الجمالية، والإيديولوجية مزعزعة لها (7).
وكأنما قدر القارئ، وهو يحمل إرثا ثقافيا لازما لا يستطيع منه فكاكا، أن يعيش في لحظة الذوق، القراءتين متجادلتين. فقراءة المتعة، بحكم دفاعها عن نظم المؤسسة، عمل يؤصل هويته، فيما توفر له قراءة اللذة المناخ السانح للانعتاق والتميز والتجاوز وبناء الكيان على النحو المشتهى (8).
وبقدر ما توغل القراءة في مخالفة النظم الثقافية تكون مرشحة للتأويل والفهم. ذلك أن قراءة المتعة عادة ما تقصر همتها على استقراء سطحي ظاهري للنص، بينما تسلم قراءة اللذة إلى استقراء عميق للبنية الدلالية. فهي ثاوية في تلافيف النص، تحملها علامات الجمال المخالفة للسنن الثقافية السائدة (9). أمثال ذلك أننا لن نعثر على مايشير إلى الدلالة الخفية في ضروب الإيقاع الخارجي للقصيدة أي ذاك الذي يتأتى عن الأبنية العروضية من تفعيلة وبحر وقافية وما إليها، فهي قواعد عروضية متعارفة متفق عليها. إنما تشير إلى الدلالة الخفية ملامح الإيقاع الداخلي في القصيدة، أي ذاك الذي يصنعه الشاعر في الخطاب بمحض تصرفه الخاص، كالتوازي النحوي والترديد العلامي وأبنية تشكيل المعنى، وهذه معدودة من قبيل الإيقاع الذهني المجرد لا المسموع. وفي هذا المستوى من التشكيل الشعري الجمالي يستطيع المنشئ العدول عن السنن الثقافية والقوالب التنميطية الجاهزة، فإذا بالقارئ يستجلي من خلاله، في قراءة لذة، مكامن الدلالة الخفية ومظان الرفض حيال المؤسسة] (10)
II لحظة التأويل والاسترجاع
تعتبر لحظة التأويل هذه استرجاعية لأن معولها بناء النص، من جديد، في الذهن، عبر علامته الأسلوبية المميزة، وذلك لغاية إدراك المعنى. فيمكن تعريفها بأنها سعي إلى تقصي المعنى منظورا إليه من خلال بنية أدبية مجازية. ولحظة التأويل مختلفة، على نحو ما سيتبين في الفقرة الثالثة من هذا البحث، عن لحظة الفهم بما هو استيعاب للنص من خلال تنزيله في سياقه المرجعي الواقعي أي في سياق التاريخ.
فمباشرة بعد أن ينهض القارئ بحق القراءة الذوقية يستشعر فراغ المعنى وخواءه، فإذا به يلتمسه من خلال قراءة ثانية تسترجع عودا على بدء النص في كليته، فينتظم الشكل كلا لا يتجزأ تتناسق ملامحه الأسلوبية المميزة. وعندما تصبح الملامح الأسلوبية، التي كانت ملغزة في تشتتها، ذات معنى في اجتماعها، متضافرة في تضامها فالمعنى لا ينشأ من الأشتات، إنما هو ينبع من الشكل الموحَد والموحِد. إن سائر العلامات الأسلوبية، سيان أن تتنزل على مستوى التركيب أو المعجم أو المجاز البلاغي أو الموسيقي، لا يجوز النظر إليها، من جهة حملها للمعنى، إلا على أنها منكبة على أداء معنى واحد (11). ذلك هو ما يسميه علماء الأسلوب بالإطناب ودعاه ابن رشيق في عمدته بالتتميم. وهو ليس تكرارا للمعنى من خلال الأساليب المختلفة، إنما ينهض المعنى بطبعه على أساس تضافر الأشكال الأسلوبية في ما بينها، فلا أسلوب منها يشذ عن المعنى المشترك، أيا يكن بين الأساليب من اختلاف. وإذا ما أتاح التأويل، في هذا المستوى، ضروبا من المعنى شتى، فشرطها ألا تتضارب في ما بينها. وعدم التضارب هذا، هو الذي يسمح لكل معنى بالمحافظة على مصداقيته في ذاته (12).
يبدو التأويل إذن، محكوما بتقصي المعنى المضمر في المطاوي يخفيه المعنى الظاهر. ومن هنا، وجب تأويل النص باعتماد مبانيه المجازية وأشكال الخرق والعدول عنه، أي في كلمة واحدة، باعتماد قراءة اللذة، بالمفهوم البارتي الذي تقدم. أما بناء لحظة التأويل من جهة ما هو تعبير عادي، أو تعبير في مستوى درجة الصفر على حد تعبير بارت، فإنه غبن للنص واكتفاء بظاهره وذهول عن عمق دلالته، فكأنما المعنى الظاهر لا يعتد به في القراءة الأولى، أو في القراءة الثانية أو حتى في القراءة الثالثة التي سنسمها بلحظة الفهم. لأن تلقي النص، وفقا لظاهره اللفظي والمضموني، تحويل لهذا النص من كينونته الأدبية نحو كينونة تاريخية. فإذا جرد القارئ النص من علاماته الأسلوبية الحاملة لمظاهر العدول، كف عن أن يكون أدبا، وأصبح مجرد وثيقة تاريخية، تصف أشياء الواقع ولا توحي بها إيحاء فنيا.
والتأويل بهذا، المتصور، يفترض القراءة السطحية ملغاة، لأنها تخرج بالأدب إلى حيز التاريخ. ولما كان الفهم نفسه مستندا إلى لحظة التأويل، متولدا منها، فإنه بالتبعية لا يمكن أن ينبني على قراءة سطحية يعدها هو بدوره ملغاة، فالنص الأدبي لا يمكن أن يكون ذا وظيفة مرجعية، أو أن يكون محيلا على الواقع، إلا إذا تسلل فهمه عبر المظان الأدبية والجمالية الكامنة فيه (13)، شرطها العدول من أفانين القول المألوفة.
وإذا كان التأويل عند هانس روبرت ياوس استنباطا للمعنى من خلال العلامة الأسلوبية المشحونة جماليا، فإنه يقيم رأيه هذا بمخالفة مقولة من مقولات أرسطو النقدية، قوامها أن كل قول، أيا يكن نوعه، يعد تأويلا بقطع النظر عن شحن العلامة شحنا مجازيا أو عن إبقائها في مستوى درجة التعبير الصفرية أو الحيادية فمجرد التلفظ بالعلامة عنده، تأويل. ذلك أن العلامة اللغوية تقتضي علاقة اعتباط مع الأشياء التي ترمز إليها في الواقع. ومن ثم، كانت العلامة اللغوية تحريفا للواقع وزيغا عنه، أي في نهاية الأمر، هي تأويل له، إذ تحاول أن تعطي معنى لأشياء الواقع التي تتأبى على التحديد الحقيقي بمفعول الاعتباط. فالعلامة اللغوية، أصالة، هي التي تحمل التأويل، وليس شحنها الأسلوبي هو الحامل للتأويل(14).
وإذا كانت العلامة اللغوية بطبعها تأويلا فإن شحنها أسلوبيا يغدو تأويلا للتأويل أي بحثا عن معنى للمعنى الطارئ فيها بفعل تحريفها لمركبات الواقع (15).
ولئن كنا نشير إلى مفهوم التأويل عند أرسطو فليس لغاية مقارنته بمفهوم التأويل المعاصر إنما ذلك لكون أرسطو يمثل مرحلة التأسيس في فهم الظاهرة التأويلية عامة، ومن ثمة، كان لزاما طلبا للاستقصاء المعرفي، أن ننظر في الظاهرة تأسسا وتطورا ومضربا من مضارب الجدل.
فالناقد الفرنسي بول ريكور مثلا، يعتبر هذه النظرة الأرسطية إلى التأويل غير موفية بالحاجة الإصطلاحية المعاصرة (16). وإذ نفند هذا الزعم فلأننا نعتبر أن أرسطو انتبه إلى قاعدة جوهرية، وهي أن الكلام الذي هو عاجز عن محاكاة الواقع محاكاة مطلقة، لا يمكن أن يكون إلا تحريفا له. ومن هنا كان كل كلام منطويا بالضرورة على درجة من الجمال الأدبي لأن فيه بحثا مستديما عن معنى إيمائي إلى الواقع. وغاية ما في الأمر، أن درجات الأدبية متفاوتة من خطاب إلى آخر، وهي تخضع لتراتبية تحددها المؤسسة الثقافية.
ولا يخفى ما للقارئ من دور، هنا، في تحقيق أدبية النص وجماليته، ذلك أن أدبيته تلك تبقى معلقة منتظرة في حيز القوة، ما لم يتدخل القارئ لتحقيقها، فالنص بلا قراءة مجرد علامات متضام بعضها إلى بعضها الآخر، لا ترتقي إلى درجة الأدب، إن لم يباشر القارئ وظيفة القراءة الأولية، فالتأويلية فالمتدبرة.
ذلك أن النص هو الذي يدعو، بنظامه العلامي الجمالي إلى التأويل فالفهم. وإنه لكذلك، لأنه يخيب لدى القارئ ما يسمى، في علم الأسلوب الحديث، بأفق الانتظار. فإذا تماهى النص مع ما ينتظره القارئ من استعمالات أدبية، على مستوى الشكل المصرح به، وعلى مستوى البناء المجازي، فإنه لا يثير لديه رغبة في استقصاء الدلالة العميقة. ومن هنا، تعد اللحظة الاسترجاعية لحظة حاسمة في صنع المعنى وبلورته في ذهن القارئ. فأفق الانتظار عقد ضمني ينعقد، عن وعي من جانب الكاتب وعن غير وعي من جانب القارئ، ويمتثل الثاني بمقتضاه للأول في خصوص توجيه فهمه. ومثلما هو مؤثر في القارئ، فهو، >على هذه الصفة، يحيا في ذهن الأديب أثناء الكتابة، ويؤثر في إنشائه أيما تأثير< (17).
ولنا أن نستنبط، مما تقدم، أن مقياس نجاح النص الأدبي، ليس في ما يحتويه من ظواهر جمالية بقدر ما يكمن نجاحه في مدى حثه القارئ على التأويل واستخلاص المعنى. >من هنا، اتفق الشكلانيون والهيكليون اللغويون، وهم ينعمون النظر في النصوص الأدبية، على أن الآثار الفذة هي تلك التي تتحمل عددا لا يحصى من التأويلات، بفضل ما في خصائصها الصياغية من كثافة خلاقة< (18).
إن لحظة التأويل هذه، والتي أسميناها لحظة بحث عن المعنى الأولي، من خلال استعادة مظاهر التآلف الجمالي عودا على بدء، يجوز أن ننعتها بالتأويل النحوي، في معناه الواسع. ذلك أنها تنطلق من الأبنية اللغوية، على نحو ما يرى فردريك شلارماشار (19). فهو يصفها بالسلبية من جهة كونها مقيدة ومكبلة بحواجز لغوية ضيقة.
فالتأويل النحوي يستقصي فيه القارئ ملامح المعنى من جانب اللغة، متناسيا عصر المنشئ من جهة أولى، والمنشئ نفسه من جهة ثانية، عدا ما يتسلل إلى التأويل أحيانا، وذلك في النقد النفساني خاصة، من ربط بين المعنى المؤول، وهيئة المنشئ المتلفظ، وهو في حال من النتوء النفسي والتحفز الشديدين.
ومن ثم، يبني المؤول معنى مشتركا بينه وبين الكاتب، على أرضية اللغة، وهي أرضية تعد مشتركة حتى إن كانت مجازية. فالمجاز، أيا يكن مداه وإلى حيثما يمتد اتساع رقعته، لا يعدو أن يكون جزءا من اللغة، ذلك أن رهان تحقيقه مشروط بتقبل المتلقي وقدرته على تفكيكه. وإلا يكن ذلك، يحصل التشويش بين الباث والمتلقي، ويغدو المجاز ضربا من اللغو. فالمجاز، بهذا المنظور، بنية جمالية سليلة اللغة، وصنوها من جهة الاتفاق في المواضعة بين طرفي جهاز الإخبار أو التواصل، أي الباث والمتقبل.
وإذا حدث أن اهتم المؤول بالعصر، في هذا السياق، فمن جهة الرغبة في معرفة طرائق التخاطب اللغوي فيه. وهنا ندخل في الحسبان قيام المعجم المشترك بين الكاتب والقارئ، إذ من دونه كذلك، يتعذر التواصل كما يعتبر بارت. ولعل أهم شروط التواصل بين الباث والمتلقي في التأويل النحوي، هو مبدأ >الكفاية النحوية< إذ النص >في حال ظهوره من خلال سطحه (أو تجليه)، يمثل سلسلة من الحيل التعبيرية التي ينبغي أن يفعلها المرسل إليه. والتفعيل] هو الفعل الذي يمارسه القارئ حالما تقع عيناه على نص، ساعيا إلى إدراكه ووضعه في إطاره الزمني والمكاني وإلى تحقيقه بما تيسر له من ثقافة<(20).
ويشير امبرتو إيكو إلى أن الكفاية النحوية ليست الكفاية الوحيدة الضامنة للتواصل، بل هو يحشر كل علامات النشاط السيميائي داخل جهاز التبليغ اللغوي، كضروب التكرار والترديد، بما يجعل النص نضيدا من الأنساق العلامية المتآلفة من أجل تحقيق التبليغ. فالنص عنده >إن هو إلا نتاج يرتبط مصيره التأويلي بآلية تكوينه ارتباطا لازما، فأن يكون المرء نصا، يعني أن يضع حيز الفعل استراتيجية ناجزة تأخذ في اعتبارها توقعات حركة الآخر<(21).
ولذلك، لا مناص عند امبرتو إيكو من أن ينهض فعل الكتابة لدى المنشئ، على أساس معرفة مسلحة بكفايات القارئ كلها، علما بأنه قد برز، عند تودوروف مثلا، مفهوم القارئ الضمني، أي ذاك الذي يستطلع المنشئ سلفا درجة كفايته فيكيف كتابته بحسب ما ينتظره منه من تفعيل. فليس هناك، في تقديرنا، أي معنى لكاتب ينشئ أدبا وهو معزول منقطع عن التربة الثقافية التي تحضنه والقارئ، ولا وجود، كذلك، لكاتب يطلع على الناس بما يكتبه في >برجه العاجي<. ولكن السؤال المحير حقا هنا هو الآتي : إن كان لا بد للكاتب من أن ينظم استراتيجية الإنشاء وفق كفاية القارئ وأفق انتظاره، فما الذي يفسر أننا مازلنا نقبل على قراءة آثار فذة قديمة من عيون الأدب القديم، والحال أن ثقافتنا اللغوية وكفايتنا السيميائية عموما، لا صلة تجمعهما بثقافة الأقدمين وكفايتهم؟ أيجوز الحديث، هنا، عن جانب ثابت في الكفاية السيميائية وآخر متحول عبر العصور، فيكون الثابت مفتاح خلود هذه النصوص الفذة التي تؤثت خزانة أدبنا العربي؟
قد يبدو التأويل النحوي إذن، غير موف بالإحاطة بتفكير المبدع وبشخصيته في كامل أبعادها، اللهم بعض الإيحاءات النفسية المتولدة من حدة انفعال الفنان. ولكن فضل التأويل النحوي لقاء هذا القصور الذي نذكر، يتمثل في أنه يقي الشارح من السقوط في التخمين وولوج متاهات الافتراض، لأن له آليات أسلوبية بين يديه، هي بمثابة قرائن الطريق الحجرية التي تهدي المسافر سواء السبيل، حتى إن النص يتحول، على حد زعم الباحث الروائي شارل فريفال، بفضل هذه القرائن من دلالة إلى >ضمان دلالة< يوجه القارئ الوجهة التي يرتضيها له الباث (22).
إن التأويل دعوة، غير سافرة ومفضوحة، من جانب الباث حيال القارئ، إلى الانخراط في >حفلة المعنى< وإذ نتخير هذا التعبير، فلأن لحظة التأويل تقف في منزلة بين منزلتين، ضمن استراتيجية التلقي العامة : هي، من جهة أولى حفلة، لأنها تجاوزت درجة التذوق الفردي الأولي، وغدت وليمة جماعية ينهل منها كل القراء بحسب ما حددته قرائن اللغة، وهي من جهة ثانية، حفلة >معنى< يؤهل القارئ في هذا المستوى، لاستجلاء أبعاد الفهم التاريخي في اللحظة الثالثة.
III لحظة الفهم
نحن نقر، في ما يشبه الإطمئنان، بأن كل كتابة لا تخرج عن أن تكون، بوجه من الوجوه، تشخيصا، أي تمثيلا للواقع الذي تنطلق منه. وإذ نسوق ذلك، فمن غير أن نزعم أن الأدب استنساخ حرفي لوقائع المرجع التاريخي وإثبات حقيقي لأشيائه، بل هو ملامسة مجازية، لمجريات الواقع وقضاياه، تتم برفق وإيحاء.
لذا، كان لزاما، بعد أن يستوي النص معنى – كما أسلفنا في العنصر الثاني من هذا البحث – أن يرصد القارئ معنى للمعنى الذي أثبته في لحظة التأويل، على حد عبارة الجرجاني. إن لحظة الفهم توغل في مطاوي النص، يكون البحث عن المقصد هو الأساس فيه. وهذا المقصد لا يتبينه القارئ إلا بتنزيل النص ضمن سياقه التاريخي. فكأنما المعنى المتوصل إليه بالتأويل، لا تفك مغالقه إلا برصد دلالة تاريخية له. وإلا يكن ذلك بقي المعنى عند مستوى الإدراك الفني المجازي، واستعصى على التنسيب، فتأبى على الاندراج الظرفي.
وإذ يؤسس هانس روبرت ياوس للحظة الفهم، في سياق استراتيجية التلقي التي ينظر لها، فلأنه يسعى إلى ايجاد تآلف متوازن بين الخصيصة الجمالية والمقصد التاريخي اللذين ينهض عليهما كل إنشاء أدبي. >فالخصيصة الجمالية جسر إلى المعنى وليست تابعة له<( 23)، والمعروف تاريخيا، أن المدرسة النقدية الوضعية قد همشت الجمال النصي الأسلوبي، باسم المطلب العلمي الذي يقتضي النظر إلى الأدب من جهة كونه وثيقة مرجعية، تخضع لشروط التحليل الاجتماعي المقنن. فاعتبرت المعنى التاريخي الظاهر هو الأساس وباسم العلم كذلك، همشت المدرستان اللسانية أولا فالبنيوية ثانيا، البنية الدلالية في النص، في حين أنها حقيقة كامنة فيه، تكون الغفلة عنها ضربا من الغبن والتجني على النص.
لقد اقتضت المدرسة الوضعية تجرد الناقد من بعده الذاتي ومن سياقه التاريخي ليستنبط ما يحفل به النص من أبعاد موضوعية (24). وجاءت المدرسة البنيوية لتدحض المرجع والناقد معا. فحقيقة النص الوحيدة أنه يحيل على ذاته. ومن هنا، كان للحظة الفهم التاريخي الفضل في تنسيب هذه المواقف، والتأليف بينها. فكانت مرحلة لازمة لحفظ التحليل النصي من التوجيه الإيديولوجي المقنع، ومن التقييم الشكلاني الاعتباطي. هي تقوم بوظيفة المراقبة من خطر الإسقاط الإيديولوجي ومن خطر تجويف النص من ناحية دلالته، وتحويله إلى هيكل خاو لا يدل إلا على ذاته.
ولا يخفين عن الأذهان أنه لا يمكن الحديث عن فهم ، إلا حينما يكون النص، كما يزعم، هانس روبرت ياوس جوابا على سؤال. فالأثر يدلنا على ما كان للقراء من مشاغل زمن إنشاء الكاتب لنصه، في عصر من العصور(25)، وبذلك تتسع المسافة بين لحظة التأويل، بما هي إدراك للمعنى من خلال المجاز وبين الفهم التاريخي بما هو وعي لمنزلة النص ضمن صيرورة المجتمع التاريخية. ولا يمكن أن نعتبر النص، في هذا السياق، وثيقة تاريخية، لأنه يخضع حتما، بتأويله عودا على بدء انطلاقا من بنيته الأسلوبية، لجدلية الفن والواقع.
ومن خصائص لحظة الفهم هذه، تعددها الصوتي في الظاهر، وتوحدها الصوتي في الحقيقة(26). ذلك أن الأفهام تختلف من قارئ إلى آخر، ولكنها لا تختلف في ما بينها أبدا، رغم تباين درجات التلقي الذوقي الأول، بين القراء. فلما كانت هذه الأفهام محكومة بقيد منهجي، وهو انبثاقها كلها من البنية التأويلية المشار إليها في اللحظة الثانية، تعذر تناقض أصوات القراء واستوجب الحال اتفاقها رغم قلق ظاهر في ما بينها.
ومن شروط الفهم، أنه ينبغي أن يكون شاملا. فهو ليس مجرد توضيح أو إجلاء لمقاطع نصية غامضة، بل كل شيء في النص غامض من جهة كونه يحتاج إلى تنزيل ضمن سياقه الاجتماعي التاريخي(27).
وهذا الرأي مستند، في تصوره، إلى قانون من القوانين الخطابية التي ينهض عليها المنهج التداولي. ذلك أن كل خطاب لا يكون إلا مظروفا وهو يستقي دلالته من تنزيله السياقي بدليل أن الخطاب الواحد يفهم على أنحاء عدة تتكاثر بقدر اختلاف ظروف البث وظروف الإنصات.
ونرى مفيدا، عند هذا الحد، استجلاء مواقف بعض الفلاسفة المحدثين في خصوص تناولهم ظاهرة الفهم. فهذا الفيلسوف الألماني امنويل كانط يعتبر وظيفة المؤول متمثلة في فهمه الكاتب أكثر مما فهم هو نفسه(28). ومعنى ذلك أن الفهم عنده عملية تشريح نفسي متنزل في سياق اجتماعي تنضاف إلى عملية استبطان ذاتي ينجزها المنشئ حين ممارسته فعل الكتابة .
وهذا الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر يوجه الفهم الذي يمارسه القارئ وجهة غنوصية مباشرة (أي عن طريق الحدس)، فيبحث المؤول – في تقديره – عن هيئات الذات وأحوالها وتشكلاتها المختلفة إزاء العالم المحيط بها. وهو لا يهتدي إلى ذلك بواسطة قرائن دالة على وعي الإنسان للعالم، إنما هو يتوصل إليها حدسا ومن غير واسطة(29).
أما گادامار فإنه يعتبر الفهم جدلا بين الماضي والحاضر ويكون ذلك تحديدا في كيفية تداول المعنى في الماضي وفق سنة دلالية معينة، من جهة أولى، وفي تبيان رد فعل القارئ في الحاضر حيال الرسالة الخطابية الموجهة إليه(30) من جهة ثانية.
فالمعنى عنده محصلة يتوصل إليها المتلقي عبر سلسلة من الترسبات المتعاقبة من حقبة زمنية إلى أخرى، بحيث يستوعب الفهم الأخير الأفهام السابقة ويزيد عليها في الحاضر.
ونذكر أن ياوس يركز على لحظة التقبل في فهم النصوص، أكثر مما يركز على لحظة إنتاجها، فكل نص عنده، قبل أن يكون مرآة تنجلي فيها صورة صاحبه، ينبغي أن يقرأ – كما أسلفنا – من جهة كونه جوابا على أسئلة عصره، بحسب أفق الانتظار الذي هيأ له القارئ(31).
وبذلك تعرض ياوس إلى نقد شديد مداره الإغراق في >التاريخانية< إذ حصر فهم النص في سياقه التاريخي الذي أنشأه، وأعرض عن الموثرات الأخرى الفاعلة في خلق النص.
وعلى طرف نقيض، يقف فكر ديلتاي، إذ أقر هذا الفيلسوف أن تجربة المعنى هي تجربة الحياة الذاتية. فالفهم عنده يمارس في علاقته بحياة الإنسان، لأن هذه حمالة بطبعها للمعنى. وتبعه في ذلك جل فلاسفة الوجود حينما بسطوا قضية الفهم في علاقتها بالذات محط كل المعاني، ومنقطعة عن الصلة المباشرة بالعالم (32). تعددت إذن صور الفهم من زوايا نظر فلسفية متعددة، مما حدا بــ بول ريكور أن ينفي وجود هرمنطيقا جامعة أو نظرية تأويلية شاملة. ولكن توجد في رأيه – قواعد متمايزة ومتضاربة للتأويل. ومن ثمة كان من مهام النظر الهرمنطيقي تجاوز خلافات التأويل فضلا عن تأسيسه المعرفي له(33).
التأويلية في علاقتها بالأسطورة
إن أول ما يسنح بالبال في هذه المساءلة هو مايلي : ما علاقة التأويل عامة بالأسطورة؟ وما قيمة أن نستحضر الأسطورة في بحث من هذا القبيل؟ نجيب على ذلك بأن نقول إن الأدب، بحكم خضوعه لجدلية الفن والواقع، لا يمكن أن يكون – في جانب منه – إلا تخييلا، والأسطورة ضرب من التخييل. بل لعلها أرقى درجات المجاز، ومن هنا، حق لنا أن نسأل عن دور الأسطورة – بما هي تخييل – في فهم العالم. وإضافة إلى ذلك، سنسعى إلى معرفة مدى مساهمة الأسطورة في تعميق السؤال، إذا سلمنا بأن التأويل نفسه ينهض على مساءلة موصولة.
إن التأويلية المعاصرة تقر – عموما – مبدأ فهم الواقع فهما موضوعيا، وذلك انطلاقا من بنى النص الشكلية والمضمونية. وهي ترفض، من خلال ذلك كله، إقرار القيم الجوهرية أو تثمين الأفكار ذات المدى الكوني. فهمها الأوحد – في لحظة الفهم – هو وعي السياقات التاريخية التي تنشأ فيها الاثار الأدبية وتترعرع. لذلك ترتد التأويلية – في سياق هذا البحث – إلى جميع الوسائل التي تيسر لها فهم الواقع إذ كل شيء مسخر لهذا، بما في ذلك الأسطورة.
ومن هنا، لجأت التأويلية إلى الأسطورة تسائلها الخبر اليقين عن الواقع. فغدت مفتاحا يلج به المؤول ما استغلق عليه من أسرار الواقع. ولكن المشكلة تتمثل في أن الأسطورة نفسها أمرها ملتبس بين الحقيقة والخيال. هي بنية تخييلية ساحرة اللب والفؤاد يصنع بها منشئها العالم، إذ يدخل بواسطتها حيز الواقع كل ما يشرد عنه. وهي، في الآن نفسه، نتاج فكري عرفه الإنسان في العهود السحيقة وتخلى عنه اليوم. فالأسطورة إذن واقعية، من جهة كونها تفسر ما استعصى من الواقع، وتخييلية من جهة كونها نمطا من التفكير منقضيا، على ما يرى علماء الأجناس اليوم. ذاك هو مأزقها التاريخي فإذ لا حاجة للمجتمعات اليوم من إنشاء الأساطير يلجأ الكتاب إلى قديمها لتوظيفه توظيفا جديدا. فبدل أن يشخص الأديب الواقع مباشرة عن طريق البنى السيميائية اللغوية، يلجأ إلى تشخيصه بصفة لا مباشرة ورمزية عن طريق الأساطير، فتغدو الأسطورة، بما تحمله من أبعاد رمزية، موصلة إلى كشف الجوانب المتأبية من الواقع.
ولعل ما ينكشف بفضل الأسطورة أبلغ مدى مما ينكشف بفضل الكلام الخاضع لبنية العقل. فنقول – لنقارن بين الوظيفتين الأسطورية والمنطقية في تشخيص الواقع عبر التشكيل الأدبي – إن الوظيفة الأسطورية أوغل في الإحاطة بالواقع من الوظيفة المنطقية ذلك أن المنطق يستقصي قوانين العالم لذاتها. أما الأسطورة فإنها تخضع العالم للحقيقة من حيث هو عالم منظور إليه عبر تلافيف الذات البشرية ولعل مغزى هذا أن فهم الواقع بالأسطورة فهم يقيم الجدل والتوازن بين البعدين الوجداني والموضوعي في كل كتابة أدبية. وهذا الموقف حدا ب بلتمان إلى اعتبار الأسطورة طريقة تفكير تجعل ما لم يكن من العالم كما لو كان منه حقا، إذ تكمن حقيقته في وعي الذات البشرية له.
إن الأسطورة – بحكم نهوضها على الغموض وقبولها التأويل- تترجم ثراء الواقع أكثر مما يضطلع به الخطاب الواقعي، وتوفر معرفة أعمق بالمعين غير الناضب من مقدرات المجتمع والوجود عامة، ولعله من المفيد أن نستشهد هنا بقول مرسيا إلياد : >إن الأسطورة هي الشكل التعبيري المعقد والمتغير المفصح عن حال الإنسان إزاء الحقائق الغامضة التي تحف بحياته<(34).
وهذا التعريف يقرب الأسطورة إلى التاريخ ويصهرها فيه، عوض أن ينظر إليها على أنها مجاز محاذ له. وهو أيضا تعريف يباعد بين الأسطورة وبين القدم، وذلك ليجعلها عملا ملازما لنشاط الإنسان الفكري على مر العصور ومهيئا لولادة العلم وتأمين رشده. فالأسطورة غير قابلة للاجتثاث من الفكر الإنساني، لأنها جزء منه لازمه عبر العصور في طلبه للعلم، فهي عنصر تأسيسي عند الإنسان البدائي، وعنصر رامز إلى مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني لدى الإنسان الحديث.
وإذا كان للتأويلية الحديثة من طلب في تعليل الأسرار الكونية بالأسطورة، فمن جهة كون استحضار الأسطورة يعد، في حد ذاته، لحظة انبهار تحيل على موقف الإنسان البدائي المسائل، فكأنما تدفع التأويلية إلى طرح السؤال طرحا متجددا وعدم القناعة بالجواب الواحد. ذلك أن كل فهم يجب أن يفضي إلى مزيد المساءلة، بما يقيم العلاقة الجدلية بين الفكر ومواضيع البحث والنظر، وفي ذلك ضمان نشاط التفكير.
إن البشرية قد افتقدت – بمرورها من لحظة الأسطورة إلى لحظة العلم – ما كان لديها من سذاجة معرفية، أي تلك الرغبة في معرفة كل شيء على علته، وهو موقف ينطلق من أن الإنسان جاهل بكل شيء. فالإدراك العلمي يقبر هذه الرغبة في التطلع المعرفي، لأن نتائجه مقنعة وتامة ونهائية. أما الإدراك الأسطوري فإنه غير موف بالمطلوب على الدوام. لذلك تكون نتائجه محل تأويل مستمر، بما هو عمل يحث على البحث المتجدد.
والتأويلية، باعتمادها الأسطورة الرمزية معولا لفهم بعض مغالق الواقع، إنما هي تستطيع أن تعيد إلى الإنسان -اليوم – سذاجته المعرفية تلك، وانسياقه التلقائي في اقتفاء ظل الحقيقة الكونية عامة. لذلك هي تجعل كل تفسير، أيا ما تكن درجة إقناعه، تفسيرا حاثا على المراجعة ومزيد التأويل والإيغال في الاستقصاء(35).
ففضل الأسطورة – في سياق استراتيجية الفهم والتلقي عامة – فضل مزدوج الوظيفة. فهي تقوم بوظيفة مباشرة تتمثل في تأصيل النص الأدبي – في كليته – في نسق تاريخي معين، مهتمة أساسا بما عسر تفسيره المنطقي لتضفي عليه لبوسا أسطوريا وجلبابا عجائبيا. عندها، يرقى النقد من مجرد الوصف أو التفسير التقريري الجاف، ليصبح بدوره عملا فنيا يجد فيه المتلقي لذة تضاهي لذة التأليف نفسه. وهي تقوم كذلك – أي الأسطورة- بوظيفة أنطولوجية، إذ تحث الإنسان على مزيد معرفة نفسه والعالم المحيط به، معرفة موصولة لا تنقطع .
خـــــــــــاتمـة
بدا من هذا البحث أن المنهج التأويلي جاء توفيقا منظما بين اعتبار الجانب الشكلي في النص من ناحية أولى، واعتبار دلالاته الوجودية والاجتماعية، سواء أكان ذلك عند الباث أم عند المتلقي، من ناحية ثانية، هو منهج استفاد من أبرز المراحل التي تأسس عليها النقد المنهجي الحديث واستوعبها ولم يكن لها جاحدا متنكرا فكان بحق منهجا علميا متحريا في التعامل مع الموجود على الساحة النقدية .
واتضح كذلك أن التأويلية ليست منفصلة عن قطاعات معرفية أخرى، كفن الأسطورة والفلسفة والبلاغة وما إليها، مما أدى إلى تعميق النظر في الظاهرة الأدبية والتنكب عن اعتبارها مجرد متعة عابرة، وذلك بربطها بحركة الإبلاغ الإنساني وتقدير طرفيها الباث والمتقبل، وبربطه بصيرورة التاريخ. فالأدب نشاط إبلاغي فاعل في المجتمع، انطلاقا من بناه الجمالية، حتى إن تاريخ الأدب لم يعد يعرف عند بعض أصحاب نظرية التلقي بما تعاقب من تآليف تستقر على الرفوف، بل هو يعرف بكونه جماع تأثيرات فعل الكتابة بين طبقات القراء المتلاحقين، عبر الأزمان.
وإن في تركيز النقد الأدبي على الظاهرة الأدبية من جهة مولدها واستيعابها وتأويلها واندراجها في حركة التاريخ تحويلا جوهريا لمشاغل بعض النقاد. فهم لم يعودوا يكتفون بأن يسألوا >ما الظاهرة الأدبية؟<، إنما سألوا كذلك >لم الظاهرة الأدبية؟< (36) ويضيف الأستاذ حسين الواد في سياق حديثه عن أعلام الحركة الفرنسية المحدثة التي جاءت لتنقد ما تقدمها من مناهج نقدية، انهم يعتبرون أن >خصوصية الأدب لا تلتمس في جوهره، لأنه لا جوهر له، وإنما في عده ظاهرة واقعية لها وظيفتها المادية الملموسة في التشكيلة الاجتماعية وبرزت في أعمالهم تعابير من قبيل “حضور الأدب في الواقع وأثر الآثار الأدبية في الحياة الاجتماعية، ووظيفة الأدب في الواقع”< (37)
ومن هنا، نتبين أن المنهج التأويلي يسعى إلى تفعيل الأدب بتصييره آلية متفهمة للبنى الاجتماعية، محورة لها، ولكن هذا التفعيل يبقى معطلا ومعلقا، ما لم يستكمل بالإنجاز الفاعل من قبل القارئ فهو الذي يخرج الأدب من طور القوة إلى حيز الفعل. وهو الذي يلون هذا التفعيل بلون خاص من عصرإلى آخر، وما لم يكن هناك تأويل، تجرد الأدب من أية قيمة أو منفعة، وأصبحت آنذاك حقيقته الوحيدة متمثلة في أنه ضرب من الترف.
——————————————————–
قائمة المراجع : (مرتبة ألفبائيا)
1 – الكتب
أ – بالعربية
– أمبرتو إيكو : القارئ في الحكاية : التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية ، ترجمة أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996.
– محمد بن عياد: جدلية القصة والشعر في ديوان عمر بن أبي ربيعة، أطروحة جامعية مرقونة، تونس،95
– حسين الواد : مناهج الدراسات الأدبية، منشورات >عيون<، الدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 1988
بـ – بالفرنسية
– رولان بارت : متعة النص، منشورات سوي، باريس، 1973.
– جان بول سارتر : المتخيل، بسيكولوجيا الخلق، باريس، 1940.
– فرديريك شلارماشار: هرمنطيقا، مترجم من الألمانية إلى الفرنسية، جينيف، 1987
– شارل فريفال : إنتاج الفائدة الروائية، باريس، 1979
– هنري مشونيك : نقد الإيقاع : من أجل أنتروبولوجيا تاريخية للكلام، منشورات فاردياي، باريس، 1982
– ها. ر . ياوس : من أجل هرمنطيقا أدبية، مترجم من الألمانية إلى الفرنسية، منشورات فاليمار، 1988
2 – المعاجم : (بالفرنسية)
– الموسوعة الكونية ، نشرة باريس، د.ت
– قاموس المفاهيم الفلسفية، مطابع فرنسا الجامعية، د.ت .
——————————————-
الهوامش:
1- انظر ّه . ر . يوص : ” من أجل هرمنطيقا أدبية ” النسخة الفرنسية ، ص 368 ، منشورات غاليمار ، فرنسا . 1988
2- نفسه ص 384
3- انظر : رولان بارث : “متعة النص ” ، بالفرنسية ، ص 15 ، منشورات سوي ، فرنسا ، 1973
4 ) انظر كتابه المتخيل، بسيكولوجيا الخلق، بالفرنسية، ص. 239، باريس 1940 .
5) انظر رولان بارت متعة النص، ص. 17
6 ) انظر رولان بارت، متعة النص، ص. 18
7 ) انظر المرجع نفسه، ص. 25
8 ) انظر المرجع نفسه ، ص. 26
9 ) يخالف بعض النقاد هذا الموقف فهم يرون أن السنن التعبيرية السائدة تحمل بالضرورة دلالة معينة مقصودة من جانب المنشئ، فهي ليست استعمالا حياديا، لأن كل كلام لا مناص من أن ينطوي على بعد ذاتي أو توجيهي. فالكلام، بهذا المعنى، عند جل اللسانيين المعاصرين، >خطاب< من جهة عدم توفر شرط الحياد فيه.
10 ) انظر في هذا الشأن مقدمة كتاب هنري مشونيك ، نقد الإيقاع : من أجل انتروبولوجيا تاريخية للكلام، وفيها يميز بوضوح بين الإيقاع الفاعل وإيقاع المماهاة.
11) انظر أطروحتنا الجامعية بعنوان جدلية القصة والشعر في ديوان عمر بن أبي ربيعة، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد الهادي الطرابلسي، مرقونة ، تونس 1995، وفيها حديث عن هذه الظاهرة التي أسميناها >التضافر الدلالي<، ص. ص. 313-339
12 – انظر، من أجل هرمنطيقا أدبية، ص. 365
13) انظر معجم الموسوعة الكونية (Encyclopaedia Universalis) بالفرنسية، المجلد العاشر، ص. 49 نشرة باريس.
14- انظر المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
15-انظر ،المرجع نفسه، المجلد العاشر، ص. 49.
16- انظر موقفه في المرجع السابق والصفحة نفسها.
17- حسين الواد : مناهج الدراسات الأدبية، ص. 67 منشورات >عيون<، المغرب، 1988.
18- المرجع نفسه والصفحة نفسها
19- في كتابه هرمنطيقا، ص.ص. 22-23 مترجم من الألمانية إلى الفرنسية ، جنيف، 1987.
20- أمبرتو إيكو : القارئ في الحكاية : التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية، ص. 61 ترجمة >أنطوان أبو زيد< ، المغرب، 21-المرجع نفسه، ص. 67 .
22- انظر، شارل فريفال : إنتاج الفائدة الروائية بالفرنسية، فصل >سلطة السارد<، ص. 153 وما بعدها، باريس، 1973.
23- هانس روبرت ياوس، من أجل هرمنطيقا أدبية، ص. 365
24- انظر من أجل هرمنطيقا أدبية، ص. 365.
25- انظر كتابه السالف الذكر، ص 366.
26-التعدد الصوتي والتوحد الصوتي مفهومان مستوحيان من السرديات، وضعهما >ميخائيل باختين< في سياق حديثه عن الأصوات الإيديولوجية المتفاعلة في النص .
27- انظر قاموس المفاهيم الفلسفية، بالفرنسية، المجلد الأول، ص. 1131 مطابع فرنسا الجامعية، د.ت.
28- انظر المرجع نفسه والصفحة نفسها.
29- انظر قاموس المفاهيم الفلسفية، المجلد الأول، ص 1132
30- انظر المرجع نفسه والصفحة نفسها.
31 انظر المرجع نفسه ص. 1133.
32-انظر الموسوعة الكونية، المجلد التاسع، ص. 263.
33- انظر الموسوعة الكونية، المجلد التاسع، ص. 263.
34 انظرالموسوعة الكونية، المجلد التاسع، ص. 263.
35 انظر الموسوعة الكونية، المجلد التاسع، ص. 263.
36- انظر حسين الواد، مناهج الدراسات الأدبية، ص. 50.
37- حسين الواد، مناهج الدراسات الأدبية، ص. 50.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6897