فعل القراءة وإشكالية التلقي *

Bengrad
2021-06-04T11:51:16+00:00
العدد العاشر
13 أغسطس 20202٬128 مشاهدة

محمد خرماش – كلية الآداب- فاس- ظهر المهراز

القراءة ضرورة تحقيقية وإنتاجية، وهي فعل يستمد مفهومه في الأبحاث والتنظيرات المعاصرة من عملية تهجية الحروف والاستهلاك المحدود إلى عملية المساوقة والمشاركة في الإبداع والتصريف. وهي على كل حال عملية معقدة تقوم على مجموعة من الإواليات والاشتغالات النفسية والثقافية والاجتماعية والجمالية وغيرها. ولذلك فقد نظر إليها وإلى حركيتها من زوايا مختلفة، فكانت هناك أبحاث في سيكلوجية القراءة وفي سوسيولوجية القراءة وفي جمالية التلقي وما إلى ذلك. فاعتبرت القراءة بمثابة نشاط نفسي أو استجابة داخلية، واعتبرت بمثابة ظاهرة اجتماعية وتاريخية، واعتبرت بمثابة تجليات دينامية لمعطيات ثقافية ومعرفية. وبما أن الإلمام بكل هذه المجالات والجوانب صعب في مثل هذا المقام، سنقتصر على الإشارة إلى بعض الأفكار والنظريات المعاصرة التي تحاول فهم “فعل القراءة” في حد ذاته وإبراز مؤداه التواصلي والإنتاجي، قصد فتح باب التحاور والتعامل مع مستجدات التلقي في النقد الأدبي المعاصر ومحاولة استشراف مفاهيمه ومستنداته.

القراءة والاشتهاء عند رولان بارث (1)

اهتم رولان بارث كثيرا بجمالية القراءة، ووقف طويلا عند ما تثيره في القارئ من رغبة واشتهاء، فتحدث عن الافتتان بالنص والتلذذ بمفاتنه والانجذاب إليه بفعل سحره؛ واعتبر أن القراءة نوع من إعادة كتابة النص وإطلاق إنتاجيته. لكن النص القادر على إحداث تلك الرعشة الجميلة هو النص الذي يربك القارئ ويخلخل موازينه الثقافية والنفسية واللغوية، فهو يقتنص المتلقي بواسطة نظامه الدلائلي الخاص وبواسطة أحابيله الفنية المنصوبة. ومن هنا يميز بارث بين القراءة التي هي اندماج في النص واستمتاع به، وبين النقد الذي هو خطاب مواز للنص يستهدف تقويمه أو الحكم عليه. إن رولان بارث الذي قيل عنه إنه أمات المؤلف، قد نادى بحياة القارئ وبأحقيته في إنتاج النص وفي إعادة كتابته لأن العلاقة -عنده- بين الكتابة والقراءة ليست علاقة إرسال واستقبال، أو علاقة إنتاج واستهلاك، وإنما هي علاقة تشكلات وفق منطق خاص هو منطق السنن النصي الذي لا يلزم القراءة باتخاذ وجهة معينة، وإنما يبني ملابسات دلالية تعطيها حق المبادرة والمثابرة، وتسمح لها باقتحام منطقة الإنتاج بإعادة ترتيب أنظمة الكتابة وتشغيلها لصنع معنى النص أو أحد معانيه. وعليه فليس في أفق القراءة “البارتية” حدود لدلالات النص ولا حدود لقراءاته وتأويلاته، مادام وجوده في حد ذاته مرتبطا بتعدد منافذه وبتنوع إغراءاته لأنه منفتح بطبيعته على لعبة الدوال والمدلولات التي يلاعب القارئ في حضيرتها على مستويات عدة.

وفعل القراءة في مثل هذه النصوص هو فعل انتشاء ومعاناة جمالية لا يقال ولا يفهم، وإنما يتحرك في الداخل بين السطور، فهو متعة تصوفية أي دخول في حضرة النص وحضيرته. ومن ثم يمكن القول بأن هذه العلاقة “الإيروسية” بين النص والقارئ هي علاقة انجذاب وتبعية وليست علاقة تفاعل وإنتاجية، وهو ما يبقي مفهوم القراءة البارثي في مجال الانطباعية المحتشمة كما يرى البعض.

القراءة وفعل التنشيط عند إيكو (2)

إن القراءة في نظر إيكو تدخل حثيث يعمل على تنشيط النص الذي هو “آلة كسولة” تحتاج إلى “قارئ نموذجي” يفعل في التوليد والتأويل مثلما فعل الكاتب في البناء والتكوين، ويكون قادرا على المساهمة في تحيين النص بالطريقة التي كان يفكر بها الكاتب. ولتحديد ميكانيزمات القراءة النشيطة المنشطة فهو يطرح مقولات ثلاثا هي : الموسوعة، والموقع المفترض، والعالم الممكن .

1 – الموسوعة

وهي الرصيد اللغوي والثقافي الضارب في السياق الاجتماعي، الذي يفترضه النص ويستحضره القارئ كي يستطيع المواجهة بين التمظهر الخطي لذلك النص وبين بنياته اللسانية؛ وبدون كفاءة “موسوعية” لا يمكن التعاون مع النص أو مساعدته على إنجاز مبتغياته ولا يمكن للقارئ أن يكون هو ذلك المشارك coopérant الفعال الذي يملأ الفراغات ويحل التناقضات ويستخلص المقولات.

وبما أن المصير التأويلي للنص هو جزء من آلياته التوليدية الخاصة، فالقراءة – عند إيكو – عمل استدلالي يستثمر مخزون الذاكرة الجمعية للحدس بالسياق الذي ستؤكده القراءة أو تعدله، بحسب ما يسمح به نظام الأدلة في النص.

2- الموقع المفترض أو الموضعية

وقد استعاره إيكو من اللسانيات، ويمثل أداة ميتا-نصية أو فرضية تعاونية ينشئها القارئ ليتمكن من تحيين النص وفق إرغاماته الخطية. وتتمثل القراءة في إنشاء متوالية من المواقع أو “الموضعيات” التي تتغير بتقدم القراءة واتساع ما يسميه إيكو الوضعية الكبرى، أي بمراقبة أمكنة التعثرات الحدسية التي يواجهها القارئ المتعاون والتي ترغمه على تعديل وجهة استنباطاته. ولذلك فالموضعية أداة تداولية وسيما منطقية تصلح لتهذيب عملية السميأة (sémiosis ) بتقليمها، كما تصلح لإرشاد التحيينات وقيادة التفعيل.

3- العالم الممكن

وحينما يزاول القارئ وظيفته الحدسية فهو يبني سلسلة من المرجعيات الممكنة التي قد تتطابق مع إمكانيات النص، بمعنى أنه يتخيل عالما افتراضيا يمكن أن يستوعبه النص، هو العالم الممكن الذي هو محصلة الاستنباطات التي تسمح بها تجليات النص. فمفهوم “العالم الممكن” مفهوم ضروري للحديث عن تخمينات القارئ المتعاون وتوقعاته. وحسب شبكة العلاقات العاملية فإن “العوالم الممكنة” تتراوح بين ما يتخيله القارئ بحسب ما يجده في النص وفق مساره الخطي، وما تمثله الكائنات والأشياء التي تؤثثه والتي تبدو محكومة بنفس النظام ومورطة فيه. وعليه فمفهوم “العالم الممكن” يشتغل باعتباره آلية من آليات القراءة على ثلاثة مستويات :

1- بما هو أداة ضرورية للقارئ الكفء،

2- باعتباره مسجلا في النص،

3- بتوجيه السلوك المقترح propositionnel لكائنات النص ومكوناته.

إن قارئ النص السردي مثلا يتخيل العالم المفروض تطابقه مع عالم المحكي الذي تتخيله شخصياته بدورها عالما يُفترض أن يطابق مختلف الرغبات والمتمنيات والتوقعات التي تحفز الكائنات السردية. وبناء على هذه التفاعلات يقيم إيكو ترسيمة لتشكلات العالم الممكن تنبني كما يلي :

1- س ع : الدال على العالم الممكن الذي يؤكده الكاتب في المحكي (س) (سارد)

2- ش س ع : العالم الممكن الذي يتخيله أحد الشخوص (ش) (شخص)

3- م ع : العالم الممكن الذي يتمثله القارئ المتعاون (م) (مرجع).

4- ش م ع : العالم الممكن الذي يسنده القارئ المتعاون (م) لاعتقادات الشخصية (ش).

وبتمفصل هذه العوالم الممكنة يستطيع القارئ المشارك أن يساير حركية النص ويحدس بآفاقه المرتقبة؛ كما يستطيع بتشغيل المقولات الثلاث أن يطلق عقاله ويفجر إمكاناته، إذ القارئ المستبصر لا يقرأ كما يريد هو، لكنه يقرأ كما يريد له النص أن يقرأ : >أنا بحاجة إلى قارئ يكون قد مر بنفس التجارب التي مررت بها في القراءة أو تقريبا< (lector in Fabula p 11 ).

وهذا ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان “القارئ النموذجي” مجرد قناع للكاتب نفسه؟ وهل من حق الكاتب أن يطالب بتعميم تجربته الخاصة على سائر القراءات ؟ ثم ألا يكون في الربط القسري للقارئ بالنص ومطالبته باحترام المعنى المقصود نوعا من المصادرة على المطلوب؟ إنها أسئلة مطروحة على نظرية إيكو في التقبل، وقد نجد مناقشة لها أو عملا على تجاوزها عند غيره من المنظرين والباحثين.

القراءة وسيرورة التأويل عند ياوس (3)

اهتم التفكير النقدي الألماني المعاصر وخاصة في ما يعرف بمدرسة كونستانس بجمالية التلقي مستفيدا من تيارات معرفية مختلفة كالفلسفة الظاهراتية وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغة وعلم التواصل والسيمولوجيا والذكاء الاصطناعي والهرمنطيقا الحديثة والتداولية وما إلى ذلك. ويعتبر هانس روبير ياوس من أنشط رواده الذين دافعوا عن تجاوز النظرة الأحادية في تقويم الأدب، وطالبوا بفهم القراءة على أنها فعل تحاور وجدل بين النص ومتلقيه أو بين النص وعملية التلقي التي يحركها وتحركه؛ إذ النص الأدبي بنية تقديرية – كما يقول ياوس- ولذلك فهو يحتاج إلى دينامية لاحقة تنقله من حالة الإمكان إلى حالة الإنجاز ومن حالة الكمون إلى حالة التحقق؛ بمعنى أنه لا يجوز القول بوجود المعنى الجاهز أو النهائي في النص، وإنما معناه المرتقب ناتج عن فعل القراءة وفعاليتها التي هي عبارة عما سيتولد بين النص وقارئه، بين البنية الأصلية أو السنن الأول وبين خبرات القارئ أو “أفق انتظاره”. وبذلك يكون ياوس قد عمل على نقل الاهتمام من ثنائية الكاتب/النص إلى جدلية النص/القارئ.

وقد كان مفهوم “أفق الانتظار” بمثابة حجر الزاوية في نظرية ياوس التي استهدفت تجديد تاريخ الأدب الذي لم يكن يستند إلى الوقائع الأدبية نفسها بقدر ما كان يستند إلى ما تكون حولها من آراء أو أحكام لدى الأجيال المتعاقبة؛ وهي أحكام قد لا تكون ناتجة عن التلقي المتعاود للعمل الأدبي، ولا عن بنيته الحقيقية، وإنما عما ورثه الخلف عن السلف مما قيل عنها وتشبعت به الأفكار تجاهها، أو تجاه نوعها وثقافتها. ولذلك فتاريخ الأدب هو في الغالب تاريخ لتلك التلقيات أو آفاق الانتظار المتكونة، وليس تاريخا للنصوص الأدبية في حد ذاتها. ومن ثم تكون المهمة الأولى لجمالية التلقي عنده هي إعادة تكوين أفق انتظار الجمهور الأول لاستكشاف سيرورة التلقي ومعرفة كيفية تحاور القراء مع النصوص، وهذا يستدعي عنده تحديد عوامل ثلاثة :

أ – الخبرة السابقة التي يملكها الجمهور القارئ عن النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص المقروء.

ب – التشكيلات الموضوعية التي يفترض النص معرفته بها، أو ما يسمى بكفاءة التناص.

ج – مدى المعرفة أوالتمييز بين اللغة الشعرية أو الجمالية واللغة العملية العادية، بين العالم التخييلي والعالم اليومي.

وهذه التحديدات هي التي تسمح بقياس “المسافة الجمالية” في الأعمال الكبيرة بين عالم النص وعالم القراءة، أو بين ” أفق الانتظار” الموجود سلفا وبين العمل الجديد الذي قد يؤدي تلقيه إلى تغيير في الأفق. ذلك أن تدميرالمعيار القائم هو عنصر في الفن التجديدي لأن البعد الجمالي الأصيل يخرق أفق الانتظار وهوما يسميه بالجمالية السلبية أو الجمالية الانتفائية esthétique négative. لكن من حق القارئ الذي يُخَيَّب أفق انتظاره أن يرفض دمج التجربة الأدبية الجديدة ضمن أفق تجربته الخاصة؛ وهذا التحاور أو الصراع هو الذي يفرز المسافة الجمالية وهوالذي يفتح المجال لظهور أفق مغاير أو معايير معدلة. ومن ثم فالقراءة الفاعلة عند ياوس هي نوع من التوافق المستمر بين عملية تحطيم أفق كائن وبناء أفق ممكن، وذلك نتيجة اشتغال مفاهيم تقبلية استعارها ياوس من الجمالية التقليدية وهي :

1- الشعرية، وهي النزعة الجمالية التي تُطمئن الإنسان وتبعث لديه السكينة التي يبحث عنها في عالمه المدهش.

2- الإدراكية Aisthésis وهي مساعدة الفن على تجديد إدراك الأشياء، بمعنى أنه يقوي المعرفة الحدسية ويساهم في تغيير وجه العالم.

3- التطهيرية Catharsis أو التماهي الجمالي الذي يساعد الإنسان على التحرر من سلطة المعتاد وعلى الانفلات من قيود الواقع ومن ضغوط الحياة العملية بالاندماج في الفن وفي نماذجه العليا.

وبهذه الحركية يمكن لجدلية التلقي أن تكون منتجة وأن تكون مجددة ومتجددة وأن تمثل السيرورة التاريخية الحقيقية في علاقات المؤلفات بالقراء وعلاقة القراءات السابقة بالقراءات اللاحقة. على أنها في هذا المستوى لا تستطيع الانفلات من الذاتية، ولو أن ياوس يجعل التكوين التاريخي لأفق الانتظار يقع بين الفهم الذي يقدمه إدراك العمل وبين الفحص الموضوعي للقراءات والتلقيات الذي ينتهي عند قراءته هو. وهذا يعني أنه يهتم بفعل التلقي أكثر مما يهتم بالتأثيرالجمالي، وهو نزاع إلى تفضيل الدائرة الخارجية Macrocosme للتلقي في بعدها التأريخي على الدائرة الداخلية Microcosme للوقع في بعدها الآني والذاتي على حد تعبير بعضهم .(4)

فعل القراءة وبناء المعنى عند وولف گانگ إيزر(5)

لم يهتم إيزر بما هو متكون وإنما بما يمكن أن يتكون، أي بتشكل النص في وعي القارئ الذي يسهم في بناء معناه. ولذلك اعتبر أن للأدب قطبين، هما القطب الفني وهو النص كما أبدعه المؤلف، والقطب الجمالي وهو التفعيل الذي ينتجه القارئ. وهذا يعني أن الإنتاج الأدبي لا يتطابق مع النص الأصلي ولا مع القراءة، وإنما هو الأثر الذي يحدث نتيجة تفاعل القارئ مع ما يقرأه، ومن ثم لا ينبغي البحث في النص عن معنى مخبوء، وإنما ينبغي استطلاع ما يعتمل في نفس القارئ عندما يقرأ. وهو إذ يقرأ فإنما يقرأ على هدى من النص، وبإرشاد الترسيمات التي يوفرها له والتي تتكفل القراءة بتنفيذها. فهو إذن قارئ مُقَدر في بنية النص ذاته. “إنه البنية المحايثة للمتلقي” أو “شروط التلقي” التي يهيئها النص الأدبي لمجموع قرائه المحتملين. ولذلك فالنص عند إيزر”نظام تركيبي توافقي قد خصص فيه مكان للشخص المكلف بتحقيق تلك التوافقات فيه”. وبهذا الاعتبار فالنص المصوغ يتضمن دائما نصا آخر ينم عنه، والقارئ وحده هو الكفيل بإظهاره وإخراجه. في هذا الازدواج يوفر الكاتب منبعا للتعددية السيمانطيقية الخاصة بالإنتاج الأدبي. بمعنى أن ما لم يقله النص ويكلف به القارئ هو “بنية إبداعية” عليها تقوم حرية المتلقي في التأويل لكنها حرية محدودة لأنها مراقبة وموجهة. وإذن فهذا القارئ الذي ينتظره النص وقد خصص له مكانة ودورا في بنيته الأصلية، يهدف إلى تحقيق غرضين مزدوجين ومتكاملين هما تحقيق النص وبناء معناه أو أحد معانيه، وتحقيق الذات وبناء كيانها، وهذا النشاط القرائي الذي ينفع فيه القارئ وينتفع به يتم من خلال تشغيل مجموعة من المحفزات التي تحرك عملية التلقي وتطلق ديناميتها المسترسلة.

وهذا معناه أن بناء المعنى ناتج عن تدخل القارئ الذي هو “بنية تجريدية” موجودة في النص أصلا. لكن هذا التدخل لا يتم إلا من خلال تشغيل بعض الميكانيزمات النصية مثل “السجل” و”الاستراتيجية” و”مواقع اللاتحديد” و”بناء الإطارالمرجعي”.

1- سجل النص

وهو كل ما يعتبر بمثابة المواد الأولية للبناء ويعود من خارج النص إلى داخله مثل النصوص السابقة ومثل الأعراف والقيم الاجتماعية أوالثقافية التي يسميها إيزر بالسياق السوسيوثقافي العام الذي ينبثق منه النص ( 1985 – 128) . وهذه المواد أوالسجل المنتقى يتحمل أثناء دمجه في النص “تشويها متجانسا” يغير طابعه تغييرا محسوسا ويُفقده بعده التداولي، ذلك أن من شأن العنصرالمألوف أن يفقد مرجعيته الأصلية حينما يمتصه النص، ولا تقوم له دلالة إلا في نطاق التشكل النصي ذاته، وبذلك يصبح المألوف غير مألوف باعتباره عنصرا نصيا مركبا وعلى القارئ الكفء أن يعيد تقويم الأشياء وترتيب العناصر بقصد تحقيق التواصل وبناء البعد الجمالي المطلوب.

2- استراتيجية النص

وهي النسيج الذي يهيئ “شروط التلقي” ويقيم العلاقة بين السياق المرجعي وبين القارئ لكي يتم لحم الأجزاء المنفصلة، فهي تمثل التوجيهات العملية التي تقدم للقارئ مجموع احتمالات ترافقية يستطيع أن يتكئ عليها في فعل القراءة. ولكي نأخذ فكرة عن أهمية وفعالية استراتيجيات النص، فإن إيزر يضرب لنا المثل بعملية القيام بتلخيص أي عمل أدبي أو حتى بشرحه، ويعتبر أن ما يفقده العمل حقيقة هو التنظيم الاستراتيجي المميز الذي يربط بين عناصر السجل ويثبت التمفصلات البانية. إن النص إذن يرسم خطة محكمة لمعالم الموضوع، لكنها خطة دينامية توجه القارئ وترشده أثناء عبوره للنص؛ وتمنكه من اكتشاف الإطارالمرجعي الذي يمكن أن يجمع بينهما.

3 -مواقع اللاتحديد

وهي البياضات والفراغات والانقطاعات الموجودة عنوة في النص، والتي تسمح للقارئ بالتدخل كي يملأها ولذلك يسميها إيزر “الفراغ الباني” ويمكن أن تشمل :

– الانفكاكات التي تدعو القارئ إلى وصلها

-إمكانية الانتفاء التي تدعو إلى التعصب ضد بعض ما يقدمه النص كحقائق أو مسلمات، وتحفز القارئ على التفكير والبحث عن التلاؤم وإيجاد الوضعية المشتركة. ولذلك يرى إيزر أن المعنى ينبني وفق قوانين تؤسس في غمار القراءة، وأن الانتفائية هي أساس التواصل أو الحوارالإيجابي بين النص والقارئ. ويمكن أن تتمثل الانتفائية في الشكل حيث تبيح عدة افتراضات، كما تتمثل في المحتوى حيث تثير الانتباه إلى الأصل المخفي أوالعناصرالغائبة. ومن جهة أخرى فإن إيزر يميز بين بياضات وصلية يغفلها النص ليستخلفه القارئ في ترميمها، وبين بياضات فصلية هي حاصل العلاقة بين المكتشَف والمستكشَف في النص أو ما يسميه إيزر بالموضوعة thème والأفق horizon وهو المكان الفارغ من المعنى أو الخلفية المجردة من التلاؤم الموضوعاتي ( 1985 – 363 ).

4- بناء الإطارالمرجعي

إن النص الأدبي يفرغ عناصر السجل من تداوليتها ولذلك يجد القارئ نفسه وهو في مواجهة النص بدون إطار مرجعي مشترك مع ما سيقرأه. وهنا تبدأ الحاجة إليه كعنصر ضروري لتحيين المقامات التداولية والاشتراك مع الكاتب في بناء المعنى أو الموضوع الجمالي سواء بسواء. ومن المنتظر أن النص يتجه وجهة تخالف ما يتوقعه القارئ لكنه يستطيع استثمار ما يلوح به مما سينتج خلال مدة القراءة.

التفاعل بين القارئ والنص

إن الشيء الأساس في قراءة العمل الأدبي، حسب هذه التوجهات، هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه ولذلك ينبغي التركيز في نفس الوقت على تقنيات الكاتب وعلى الأفعال المرتبطة بالتجاوب مع النص الذي يستمد حيويته من القراءة الفاعلة التي تتجاوز المتواليات اللفظية إلى ما ينشأ عن تجميعها ومقارباتها من دلالات ملازمة وغير ملازمة. وهذا ما يدعو إلى التمييز بين طبيعة الشكل وطبيعة الإدراك؛ فالشكل بنية منفتحة على السياق لكن لحظة الإدراك تجعلها منغلقة على معنى بعينه يحدده القارئ الذي لا بد أن يُرسي على معنى متماسك وقابل للإدراك (نفسه، ص. 226). إن المعنى لا يكمن في الانتظارات والمفاجآت والخيبات، وإنما في رد فعل القارئ الذي يمكٌنه من أن يعيش النص كحدث واقعي (نفسه، ص. 233).

وبما أن القارئ لا يستطيع أن يحاور النص حوارا مباشرا يغطي الفراغات والانكسارات التي تعرقل التفاهم والتواصل الكامل كما هو الشأن بين الناس، فإنه يجد فرصته في البياضات أو مواقع اللاتحديد التي يهيئها النص ويتدخل كشريك للمؤلف في تشكيل المعنى. وهذا التدخل يكون بالعمل على سد الثغرات وتكوين الحقل المرجعي وتحويل مواقع اللاتحديد، الشيء الذي يرسم وجهة النظر وفق متغيرات النظام التوافقي للنص ووفق ترابط سلسلة الفراغات البانية المتناوبة. وهذا يعني أن القارئ وإن لم يكن مستجديا للنص فقط، فهو مرهون باستراتيجياته التي تحرضه على الفعل في اتجاه معين. ولذلك يشرح إيزر كيفية اشتغال الاستراتيجيات النصية في توجيه القارئ وفي كبح جماح التأويل، فهو يتكئ على مبدأ المنظور أو المتوقع الذي تقوم عليه القراءة والذي يحدد الكيفية التي يكتشف بها القارئ النص ويتحاور معه.

خــــــــــاتمة

وإذن ففعل القراءة أو إواليات بناء المعنى وإنتاج الدلالة التي استخلصها إيزر تصب كلها في مفهوم المشاركة واستحلاب النص الذي هو قادر على استقطاب القارئ ودفعه إلى تحقيق هويته وبناء معناه. الشيء الذي يجعل العمل الأدبي شركة بينهما ولا يبلغ مداه إلا بتعاونهما. وهكذا تعتبر مفاهيم إيزر في “فعل القراءة ” مكملة لمفاهيم ياوس في “تحطيم أفق الانتظار” وإعادة كتابة تاريخ الأدب، ولمفاهيم إيكو في حدس القارئ المتعاون بعوالم النص الممكنة واستشراف آفاقه المرتقبة وللممارسات الإيروسية للقارئ البارتي في مغازلة النص والتوحد في رحاب القراءة الكتابة والكتابة القراءة.

وإذا كان من جامع بين هذه التوجهات فهو التقاؤها على احترام القارئ وإعادة مكانته الضرورية ودوره الفعال في فك عقال النص وإطلاق إشعاعيته الإبداعية وإن أخذ عليها المبالغة في الذاتية وتكريس ما يسمى بذرائعية التلقي التي قد تنتهي إلى نوع من الاستخفاف الوهمي الذي يتكون لدى القارئ فيحجب النص لصالح ما هو بعد النص، أو يقوم بنوع من التواطؤ الساذج الذي يقرب المسافة بأقل جهد ممكن فيجعل القراءة أقرب ما تكون إلى الاستهلاك الفج منها إلى الإنتاج المبدع (6).

كما أن الاهتمام بالوقع الجمالي فقط في فعل القراءة، والبحث عن كيفية التقبل واعتبار التلقي عملية بناء جديدة، يحد في نظر البعض من أبعاد النص التكوينية ولا سيما البعد السوسيوثقافي الجدلي حيث يمثل الإنتاج “العنصر الشامل” الذي ينتج الموضوع وكيفية استهلاكه معا، ويعطي أهمية لما قبل التلقي ولما يمكن للعمل أن يقوم به من وظائف. واعتبارا لما تقول به الثقافة الاشتراكية مثلا فإن وظيفة الأدب التشكيلية (أو التخييلية) توازي وظيفته التمثيلية (أو التعبيرية) ومن ثم فحرية القارئ وعملية القراءة لا بد أن تكون مقيدة بالخصائص الموضوعية للعمل الأدبي نفسه. وإذا اعتبرنا أن العمل هو الوجه الموضوعي للإنتاج، وأن القارئ هوالوجه الذاتي فإن فعل القراءة يكون مترتبا عن تكامل الوجهين اللذين لا يوجد أحدهما دون الآخر. وعليه فإن مهمة مؤرخ الأدب الحاسمة ليست فقط في >إثبات أن جميع معايير التأويل هي مجرد توسعات مشروعة للممكنات النصية اللامحدودة، وإنما هي في تنسيب التأويلات المحددة بالرجوع إلى أصل التكوين التاريخي للموضوعية …< (7).

وهكذا يأخذ فعل القراءة بعده التداولي والمرجعي لأن الأمر لا يتعلق بصدمة أوبوقائع جمالية فحسب وإنما بقابلية للفهم ” intelligibilité” وبإدراك صحيح، والقارئ المثالي ليس هو القارئ الذي يستمتع فقط بتحطيم مستمر لأفق انتظاره الأدبي بواسطة أفق أحدث أو في طورالتكوين، وإنما هو القارئ الذي يتعامل مع المشروع الموضوعي ولا يلغيه بمجرد ظهوره. ( 8).

وعلى كل حال فالقارئ الكفء هوالوريث الشرعي للنص، والنص هو ما يتشكل في فهمه ووعيه، ومن ثم فعملية القراءة البناءة هي عملية استكشاف وتحاور وتعارف وتحريك للإنتاجية والإبداع من خلال التفاعل التوليدي بين إمكانيات النص وقدرات القارئ ومعارفه.

——————————————-

الهوامش

*جزء من البحث الذي قدم لمؤتمر النقد الأدبي السابع جامعة اليرموك ، إربد، الأردن 20 – 22 – 7 – 1998

1- استفدنا في طرح هذه المفاهيم القرائية من كتابه :

Barthes R : Le bruissement de la langue , essais critiques IV Paris Seuil 1984 , pp 37 -47

وكذلك : Barthes R : Le plaisir du texte , Seuil , Point 1982

2- اعتمدنا في استخلاص مفاهيم إيكو على كتابيه :

– La structure absente , Introduction à la recherche sémiotique ; Paris 1972

– Lectore in fabula ou la coopération interprétative dans les textes narratifs ; Paris Grasset 1985

3-يرجع خاصة إلى كتابه : H . R Jauss : Pour une esthétique de la reception , Paris Gallimard 1978

4- F . Schuerewegen : Théorie de la réception , in méthodes du texte , Paris 1987 , p 325

5- W . Iser : L’acte de lecture , Mardaga , 1985

6- cf Stiele K : Réception et fiction , Poétique 39 , 1979 , p p 299 – 320

7- C F Ulrud Ibsch : La réception littéraire , in Théorie littéraire , P U F 1989 , p p 249 – 271

8 – نفسه