محمد يشوتي – كلية الاداب وجدة
الواقع يحيل على العالم الدنيوي كما نراه ونلمسه ونحياه ومركزه الإنسان ككائن حي أولا واجتماعي ثانيا.
المتخيل يحيل على العالم الأخروي كما نتخيله ونرسمه ونتصوره ومركزه أيضا الإنسان، لكنه الإنسان الخيال، الإنسان الصورة، الإنسان الوهم، والوهم لا يفيد معنى الظن لأن المتخيل المقصود هنا هو التصور الذهني الذي يحمله الإنسان عن شيء لم تسبق له رؤيته، وكل تصور من هذا القبيل هو وهْم لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون التصور مطابقا للحقيقة التي لا يعلمها إلا الله.
فظاهرة التواصل التي تشكل موضوع هذا المقال هي من طبيعة خاصة لأنها تتعلق بتواصل الواقع بالمتخيل، أي بتواصل عالم دنيوي بعالم أخروي. وما دام مركز كل عالم من هذين العالمين هو الإنسان، الإنسان الحي في العالم الدنيوي والإنسان الصورة في العالم الأخروي، فإن ظاهرة التواصل التي سنركز عليها تهدف إذن إلى الكشف عن طبيعة العلاقة- إرادية كانت أو غير إرادية – التي تربط الإنسان ككائن حي بالإنسان كصورة وذلك من خلال ما يربط العالمين بعضهما البعض.
وتعتبرالزيارة التي يقوم بها كل منهما للآخر مظهرا من المظاهر الدالة على وجود علاقة تربط بينهما وبالتالي مظهرا من مظاهر التواصل. فأن يزور فلان فلانا يعني أنه يؤسس علاقة ما، أو يحيي علاقة سابقة ويزكي وجودها. الزيارة تعني قبل كل شيءالدخول في عملية تواصل. وبعبارة أكثر وضوحا، الزيارة هي في حد ذاتها فعل تواصل. والزيارة ليست حكرا على كائنات هذا العالم فيما بينها، وإنما أيضا بين كائنات هذا العالم وكائنات عالم ما بعد الموت، وهي زيارات متبادلة.
النوع الأول من الزيارة الذي سنتطرق إليه يتعلق بتلك التي يقوم بها كائن ما بعد الموت إلى إنسان العالم الدنيوي. وهي زيارة تتم أثناء النوم. فالمقصود إذن بزيارة “الإنسان الصورة” إلى “الإنسان الواقع” هي تلك التي تتم في الحلم باعتباره وسيلة تواصل بين العالمين، أي بين الواقع والمتخيل. فالنوم يعتبر، بشكل ما، مغادرة لهذا الكون : لما ننام فإننا نموت بشكل من الأشكال، وللأمثلة الشعبية دلالتها في هذا الشأن إذ كثيرا ما يقال : “النوم أخ للموت”. ونقرأ في الأسطورة الإغريقية أن النوم والموت شقيقان توأمان.
يرى البعض في النوم علامة استسلام للموت حيث يتحرر الجانب الروحي في الإنسان من الجسد ليدخل مجالا آخر خفيا، مجال الحقيقة الخفية (1) . ولما ينتهي هذا الجانب الروحي من رحلته يعود إلى الجسد وهكذا تتم اليقظة وبالتالي العودة إلى الحياة من جديد. (2).
إذا انطلقنا من هذا المعتقد، وبناء على منطق هذا التأويل، يتضح أنه ليس “الإنسان الصورة” هو الذي يزور “الإنسان الواقع” أثناء نومه، أي في الحلم، وإنما الجانب الروحي في الإنسان النائم هو الذي يسافر إلى عالم الأموات بعد طلاق مؤقت بينه وبين الجسد. فمجال “الإنسان الصورة” باعتباره مجالا لامرئيا لا يمنح ذاته للرؤية إلا للجانب اللامرئي في الكائن البشري، أي الجانب الروحي فيه. وفوق هذا كله، يجب انتظار “موت” الجسد، أي نومه لكي يتمكن هذا الجانب الروحي من أداء مهمته وبالتالي الدخول في عملية تواصل مع الأموات أي أحياء العالم الآخر.(3)
إن التواصل في الحلم هو تواصل بين كائنين ينتميان معا إلى العالم الآخر. فليس الميت هو الذي يزور النائم، وإنما الكائن النائم هو الذي يقوم بالزيارة. فمن نام لم يعد ينتمي إلى هذا العالم لأن النوم أخو الموت : الأول موت خفيف والثاني نوم ثقيل (4). النائم إنسان ميت، والميت إنسان نائم، والتواصل بينهما تواصل بين نائمين، بين ميتين.
النوع الثاني من التواصل هو الذي يتم عن طريق زيارة الأحياء للأموات وهو – على عكس النوع الأول – يتم إراديا ويكون هادفا. وإذا كان التواصل عن طريق الحلم تواصلا بين كائنين نائمين أي ميتين، فإن الثاني هو تواصل بين كائنين حيين : كائن حي في هذا العالم وكائن صورة لكنه حي في العالم الآخر. وكل منهما في حاجة إلى هذا التواصل، ولربما كانت حاجة إنسان العالم الدنيوي إلى هذا التواصل أقوى وأشد، لأن تلك الزيارة التي يعتقد أنه يقدم من ورائها خدمة إلى الكائن الميت هي في الحقيقة خدمة يقدمها لذاته.
إن التواصل بين الكائن الحي والكائن الصورة يترجمه المجالان اللذان ينتميان إليهما. بل إن هذين المجالين يعكسان بشكل من الأشكال طبيعة هذا التواصل. وسنأخذ كمثال مدينة وجدة كمجال للكائن الحي ومقبرة أو “مدينة” سيدي المختار أو سيدي محمد كمجال للكائن الصورة. ونقول “المدينة” لأن المقبرة كانت إلى عهد قريب ولا تزال في بعض بوادي المغرب الشرقي تسمى “مدينة”، وهي المجال الذي يحيل على العالم الآخر وبالتالي على الإنسان الصورة لأنه يذكر به. قال (ص) >… إنها (القبور) تذكركم بالآخرة.<(5).
إن المتأمل في شكل المقبرة (بوابة العالم الآخر) يقرأ فيها خطابا. فالمقبرة كمجال تقدم ذاتها كخطاب وتفرض على الزائر تلقي هذا الخطاب والتجاوب معه. وحتى لا نثقل المقال بتحليل الشكل ككل، أي الخطاب بكامله، سنقتصر على نقطة واحدة منه يمثلها عنصر واحد من العناصر المكونة للمجال، وهذا العنصر هو القبر. وقبل ذلك لا بأس أن نعود إلى الحديث النبوي الذي سبق أن سردنا بعضا منه والمتعلق بزيارة القبور باعتبارها تذكر بالآخرة ونتساءل : هل المقبرة بالشكل الذي توجد عليه الآن في مدننا تذكرنا بالآخرة أم أنها تسير نحو أداء وظيفة أخرى غير تلك التي جاءت في الحديث الشريف؟ الواقع أن بنيتها أصبحت تسير نحو التذكير بماضي العالم الدنيوي أكثر مما تذكر بمستقبله وبمصيره. فهناك القبورالمزخرفة، والقبورالمبنية بناء اقتصاديا، والقبور المتواضعة و… وكأن المدينة أصبحت تعكس ذاتها في المقبرة : الفيلا، السكن الاقتصادي، السكن الراقي، البيت المتواضع، الخ. إن بنية المقبرة أصبحت تعكس بنية المدينة وكأن وظيفتها هي التذكير بماضي قاطنيها ووضعهم الاجتماعي وليس بالآخرة. على أية حال، هذا موضوع آخر وإن كان في الحقيقة لا يخرج عن الإطار الذي نحن بصدد الحديث عنه.(6)
نعود إذن إلى التواصل بين الكائن الحي والكائن الصورة من خلال زيارة الأول للثاني، وهو تواصل تفرضه بنية المجال ذاته من خلال العناصر المكونة لهذا المجال، وأهم عنصر فيه هو كما قلنا القبر. فلنتأمل شكل هذا القبر باعتباره مسكن الإنسان الصورة. إن أهم مميزات القبر هما الشاهدان. أحدهما في أعلى القبر والثاني في أسفله وعلى كل منهما خطاب. الأول عبارة عن بطاقة تعريف : الإسم والنسب وسنة الميلاد ثم سنة الوفاة. وعلى الثاني آية قرآنية : >كل نفس ذائقة الموت< (7) متبوعة بالدعاء التالي : >يا واقفا على قبري أدع الله لي بالرحمة والمغفرة، يرحمنا جميعا<.
الخطاب الأول يكشف عن الهوية، إذ لا فرق بين بطاقة تعريف يحملها الإنسان في جيبه وأخرى منحوتة على الحجر، فالوظيفة واحدة : الكشف عن الهوية. أما الخطاب الثاني فيعبر عن رغبة ما، وهذا الخطاب هو الذي سنقف عنده بعض الوقت.
يا واقفا على قبري أدع الله لي بالرحمة والمغفرة
الصيغة أمرية، وهناك متلقي هوالزائر، وهو مأمور بتلبية رغبة ما، فالمرسل هنا هو الإنسان الصورة، والمرسل إليه هوالزائر. فشروط التواصل إذن متوفرة، وما دامت الصيغة أمرية فإنه من المفروض على المتلقي أن يخضع لسلطة الآمر وأن يدخل معه في عملية تواصل.
إن الشاهدين يكملان بعضهما البعض، إذ أن الشاهد الأول يلقي خطابا يمكن تلخيصه في كلمتين : “أنا فلان”. كما يمكن تلخيص خطاب الشاهد الثاني في كلمتين أيضا : “أريد كذا”. إذا جمعنا بينهما فإن الجملة تصبح : “أنا فلان وأريد كذا”. ذلك ما يمكن استنتاجه من كل الكتابات المنحوتة على القبور وتلخيصها في الجملة السابقة.
النقطة الأولى التي يمكن استنتاجها من هذا الخطاب هي أنه يحدد لنا مرسلا، والمرسل لا بد أن يكون موجودا. فقاطن القبر موجود بشكل من الأشكال في ذهن الزائر، أي متلقي الخطاب. إنه إنسان صورة لكنه يتمتع بإحساس ما – على الأقل حاسة السمع – لأنه عندما يأمر الزائر بالترحم عليه فإن المتلقي يفترض أن الآمر يسمع تلبية ندائه. (8)
النداء : “ادع الله لي بالرحمة والمغفرة تلبية النداء : يرحمك الله
نلاحظ أننا أصبحنا أمام حوار، حيث يصبح المرسل متلقيا ويتحول المتلقي إلى مرسل . “يرحمك الله ” حوار موجه إلى مخَاطب، والمخاطب لا يمكن إلا أن يكون كائنا يتمتع بشكل من أشكال الوجود وإلا أصبح المرسل مختلا عقليا، فلكي يكون هناك تواصل لا بد من مرسل ومتلقي اللهم إلا إذا كان الإنسان سكرانا أو أحمق كما يقول جاكبسون (9). فالمخاطب هنا هو قاطن القبر، إنسان ما بعد الموت، الإنسان الصورة الذي يمتع ذاته بصفة الوجود ويفرض على الآخر (الإنسان الحي) الاعتراف بهذا الحق وذلك بفرض التواصل من خلال بنية القبر، هذا الأخير الذي يصبح دالا حقيقيا لمدلول صوري.
إن الهدف من كل هذه المتاهات اللفظية هو الوقوف على فكرة واحدة. وتتلخص هذه الفكرة في أن الإنسان يخلق محاوره، وعملية الخلق هذه تتحكم فيها أفكار مسبقة توجهها المعتقدات الدينية. فالحقيقة الدينية يترجمها الإنسان على مستوى الوعي واللاوعي، ويتحرك في إطارها قصد الحفاظ عليها كمعتقد.. إن المحرك الأساس هو الإيمان بالقضية. وجميع أنواع السلوك هي تبريرات من جهة وتدعيم من جهة أخرى لهذه القضية التي تعتبر إحدى ركائز الإيمان. ويدخل التواصل بين الإنسان الحي والإنسان الصورة في إطار السلوك المبرر من جهة والمدعم من جهة أخرى للإيمان باليوم الآخر. فهذا الإيمان يفترض في الوعي البشري وفي لاوعيه استمرارية الكائن بعد موته، وهذه الاستمرارية تبرر بدورها إمكانية التواصل، بل تجيزها.
وتوضيحا لما سبق نسوق مثالا آخر للتواصل “الممكن” بين إنساني العالمين. في المثال السابق كان الحديث عن الزيارة من أجل الترحم على الأموات، وهي عملية يبدو أن المستفيد منها هو إنسان العالم الآخر لأنه يطلب الرحمة من زائره. والزائر يلبي الطلب. أما النوع الآخر من الزيارة فيكون المستفيد منها هو الزائر، إذ كثيرا ما يلجأ الإنسان إلى القبر قصد طلب الاستشفاء أو طلب الزواج أو طلبات أخرى، ويكفي أن نذهب إلى أي ضريح من الأضرحة لنلاحظ ذلك. فالزيارة هنا هي تواصل فعلي بين راغب وملب للرغبة، أو بتعبير أكثر دقة بين طالب وكائن تُفترض فيه إمكانية تلبية الطلب، وتتوفر فيه شروط التواصل لأنه يسمع نداء المستغيث به. فالإنسان هنا يخلق محاوره. وهو محاور متخيل، محاور صورة، محاور وهم، لكنه ضروري والضرورة تجعل التواصل “ممكنا”.
ولتوضيح علاقة الضرورة بالإمكان (أي أن الضرورة هي التي تدفع الإنسان إلى خلق المحاور الوهم) نقوم باستقراء بسيط للفئة الاجتماعية التي تزور المقابر قصد الاستشفاء أو تحقيق أمنية ما. فعلى مستوى الجنس نلاحظ أن عدد النساء يفوق عدد الرجال. على المستوى الثقافي : الأميون هم الأكثر ترددا على الأضرحة، على المستوى الاجتماعي : الأكثر فقرا هم اللاجئون إليها. وهذه المستويات لا يجب أخذها منفصلة عن بعضها البعض إذ كثيرا ما تجتمع في شخص واحد. إن غياب المحاور الفعلي في الوسط الاجتماعي (غياب الطبيب، غياب الإمكانيات المادية، …) يدفع بهؤلاء إلى البحث عن محاور وهمي، هذا المحاور يوجد تحت التراب، وله آذان مصغية تسمع شكاويهم. إنه اعتقاد مفروض وباعثه الرغبة والأمل في الحياة.
ونختم هذه التأملات بالتساؤل التالي، وهو تساؤل يوحي به الموضوع ذاته : إن الإنسان وهو يخلق محاورا وهميا له، ألا يمكن القول إنه في الحقيقة يحاور نفسه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي ضرورة تبقى إذن لتوفر المرسل والمتلقي لتحقيق التواصل ما دام الفرد الواحد يصبح مرسلا لذاته.
—————————————–
الهوامش
1- I. Adresco et M. Bacou , Mourir à l’ombre des Carpathes , éd. Payot , Paris , 1986 , p. 67
2- مصطفى الكيك : بين عالمين، عالم المادة وعالم الروح، دار المعرفة، القاهرة، 1965، ص 64
3- أود أن أشير هنا إلى أن هذا التأويل يوحي بتساؤل قد يبدو مجرد زلة فكرية لكنه يبقى مع ذلك تساؤلا مشروعا، ويستمد مشروعيته من طبيعة التأويل ذاته : ألا يمكن أن تكون ظاهرة الحلم مصدرا من مصادر الاعتقاد في ثنائية العالمين من جهة، وفي ثنائية النفس والجسد من جهة أخرى لدى الإنسان القديم؟ ولهذا التساؤلا مبرراته. فلربما ظهور إنسان ميت في الحلم ودخوله في تواصل مباشر مع الإنسان النائم جعل هذا الأخير- عندما يستيقظ من منامه يعتقد في أن الإنسان الذي رآه أثناء نومه هو كائن ينعم بنوع من الاستمرارية وبشكل من أشكال الوجود. ولما كان التواصل معه لا يتم على مستوى المحسوس فهذا يعني أنه يعيش في عالم غير عالمنا.
4- نقرأ في كتاب الله العزيز : >الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون< سورة الزمر. وفي آية أخرى : >وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون< سورة الأنعام، آية 60
5- ورد عن النبي قوله : >كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، إنها تذكركم بالآخرة< ذكره سيد سابق في : فقه السنة الجزء II دار الكتاب ، ط 6 بيروت 1984 ص 564 – 565
6 – يراجع : R Bastide ; Le sens de la mort , in Echange n 98 , 1970 , p 13
7- سورة آل عمران آية 185
8- تكثر الحكايات عن التواصل بين الأحياء والأموات وتذهب في بعض الأحيان إلى الحديث عن تواصل مباشر يرفضه منطق العقل. يراجع في هذا الصدد كتاب أبي يعقوب يوسف بن يحيى التادلي التشوف لأهل التصوف، تحقيق أحمدالتوفيق ، منشورات كلية الآداب ، الرباط ، 1984.
9 – R. Jakobson : Essais de linguistique générale , éd Minuit , Paris 1968 , p. 32
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6909