إيف گيلي
ترجمة سعيد بنكراد
إذا كانت الأبحاث المنجزة في إطار “جمالية التلقي” قد استهوتنا، فإن ذلك يعود إلى إحساسنا بقصور المقاربة البنيوية (…). ولذلك نسارع إلى تأكيد هذا من خلال تقديم ما يشرح هذا الاستهواء، ونقوم في الوقت ذاته بإنجاز دراسة تطبيقية تستلهم منجزات هذه الأبحاث.
وبناء على ذلك، إذا كانت قضية المعنى تشكل عند أي قارئ الحجر الأساس الذي تنبني عليه تساؤلاته الأساسية، فإن الوقوف عند التحليل الثيمي أمر غير مجد. فلا يمكن مثلا الاكتفاء في تحليل مقطع (Théatre d’Oklahoma) مأخوذ من Amerika ، بالمقاربة”الساذجة”، أي الوقوف عند المستوى الدلالي الأول. فالقارئ في هذه الحالة سيدرك سريعا أن “شيئا ما” قد هرب من بين يديه. وهناك في المقام الثاني كتابات أخرى لكافكا أقل “بساطة” من Amerika لا تستقيم معها مقاربة من هذا النوع. فليس سهلا ولا مؤكدا أيضا استخراج موتيفات وثيمات كما حاولنا القيام بذلك سابقا. ومن هذه الزاوية، تكتسي المقاربة التي تقترحها “جمالية التلقي”، بنتائجها وبالانتقادات التي أثارتها، أهمية خاصة.
لهذه الأسباب، سنقدم فيما يلي دراسة لبعض النصوص اعتمادا على المفاهيم الأساسية لـ”جمالية التلقي”. ويتعلق الأمر بمقطع معنون بـ “أمام القانون” مقتطف من “المحاكمة” لكافكا. ونقدم فيما يلي بعض الخلاصات التي توصلنا إلىها. ويستحسن قبل ذلك التذكير بمضامين بعض مفاهيمها الأساسية : المحور الاستبدالي والمحور المركبي، و”النواقص” (Leerstellen) والنفي. فالمحورالاستبدالي يحيل على “السجل” الاجتماعي الثقافي الذي يمتح منه النص العناصر التي سيعالجها. أما المحور المركبي فيعود إلى التأليف بين الوحدات المكونة للنص. ومن خلال هذين المحورين يشتمل النص على “نواقص”، أي على ثقوب وبياضات هي حصيلة عوامل شتى، مثل غياب المعلومات، ووجود انقطاعات …الخ. إن هذه النواقص ستؤدي إلى خلق شكوك عند القارئ، وستزداد هذه الشكوك حدة كلما لجأ النص إلى النفي : نفي قيمة على المستوى الاستبدالي، ونفي إمكانية إقامة علاقات بين أجزاء النص، على المستوى المركبي، الشيء الذي يقف حاجزا أمام ما يشكل انسجام وبلورة أي معنى.
أمام القانون
>كان على باب القانون حارس. وذات يوم جاءه رجل من الريف يطلب منه السماح بالدخول إلى القانون، ورد عليه الحارس بأنه لا يستطيع السماح له بذلك في الوقت الراهن. وبعد تفكير سأله الرجل هل بإمكانه الدخول في فرصة أخرى؟ فرد الحارس : “من الممكن ذلك، ولكن ليس الآن”. وتوارى الحارس خلف الباب المفتوحة كالعادة طوال الوقت. ومد الرجل عنقه يريد معرفة ما في الداخل، وعندما رآه الحارس يفعل ذلك ضحك وقال له “إذا كنت تريد فعلا الدخول فافعل ذلك ضدا على إرادتي، ولكن عليك أن تعلم أنني قوي، وأني لست سوى آخر الحراس، فستجد في مدخل كل قاعة حراسا أكثر قوة، وفي المدخل الثالث ستجد حراسا أنا نفسي لا أتحمل رؤيتهم”.
ولم يكن الرجل القادم من الريف يتوقع كل هذه الصعوبات، فلقد كان يعتقد أن الوصول إلى القانون ميسر أمام الجميع وفي أي وقت. أما وقد تأمل الحارس عن قرب – وقد كان الحارس يرتدي معطفا من الفورير وله أنف كبير وحاد، ولحية نادرة طويلة وسوداء تشبه لحية رجل من التتار- فقد اختلفت الأمور. ومع ذلك قرر البقاء إلى أن يؤذن له بالدخول.
ومده الحارس بكرسي صغير وأجلسه جنب الباب. ومكث هناك جالسا أياما وسنين، وتعددت محاولاته لكي يسمح له بالدخول وكان دائم التوسل للحارس دون جدوى. وقد كان الحارس، يطرح عليه، من حين لآخر، أسئلة بسيطة تخص قريته ومواضيع أخرى بلا أهمية كتلك التي يطرحها النبلاء. وكان كلما انتهى من طرح الأسئلة يقول له بأنه لا يستطيع السماح له بالدخول.
وبما أن الرجل القادم من الريف كان قد تزود بكل أنواع الطعام، فلم يكن يبخل على الحارس منها، ولم يكن هذا الأخير يتردد قي قبولها، قائلا : “إني أفعل ذلك فقط لكي لا تقول لنفسك إنك لم تدخر جهدا للدخول إلى القانون”. وطوال سنوات الانتظار هذه لم يتوقف الرجل عن تأمل الحارس ونسي باقي الحراس. وكان يبدو له أن هذا الحارس هو الوحيد الذي يمنعه من الدخول إلى القانون.
وفي سنوات الانتظارالأولى كان لا يتوقف عن لعن قساوة هذا الحظ، إلا أنه اكتفى فيما بعد بالتذمر الصامت. وعرف عن الحارس كل شيء بما في ذلك البرغوث المعلق على ياقة الفورير، وقد توسل للبراغيث كي تساعده على تليين موقف الحارس.
ومع توالي الأيام ضعف بصره، ولم يعد يميز بين الليل والنهار، إلا أنه ظل مع ذلك يميز نورا مشعا يتسلل من أبواب القانون. واقتربت نهايته. وقبل مماته تدافعت في رأسه كل الذكريات وظل سؤال واحد يؤرقه. فأشار إلى الحارس بالمجيء، فقد كان قد شاخ ووهن عظمه، فاقترب منه الحارس وانحنى عليه قائلا :”أنت كائن ملحاح، فماذا تريد معرفته أيضا”؟ ورد الرجل : “إذا كان كل الناس يودون معرفة القانون حقا فلماذا لم أر منهم لحد الآن واحدا هنا؟” فاقترب منه الحارس وهمس في أذنه : “لا يسمح لأحد بالدخول إلى هنا سواك، ولم يقم هذا المدخل إلا لك أنت، والآن سأغلق الباب وسأنصرف.” ( F Kafka : Devant la loi )
استنادا إلى المحورالمركبي، يعبر النص بوضوح تام عما يشبه قيمة تقليدية مقبولة لدى الجميع : “الكل يريد معرفة القانون” بل “من حق الناس معرفة القانون وفي أي وقت”. ومن جهة ثانية فإن مبدأ النفي الذي سجلنا أهيمته في الفقرة السابقة، يجد له منفذا داخل النص من خلال وجود حارس يمنع الرجل الريفي من الوصول إلى القانون. ولقد تم التعبير عن هذا الرفض مرات عديدة، والنص مرتبط في وجوده بهذا الرفض.
إلا أن الألفاظ التي استعملت للتعبير عن هذا القانون تثير مجموعة من التساؤلات لأنها لا تحيل على واقع عادي. فالرجل القادم من الريف يرغب في “الدخول إلى القانون”. ولقد تكرر هذا الحدث مرات عديدة. فهذا القانون له باب يمكن إغلاقها، وله قاعات عديدة، وحراس عديدون. وبما أن هذه الألفاظ لا تحيل على واقع مألوف، فإنها تحولت إلى شك أساسي يمنع من معرفة على مايرتكز عليه النفي. ويمكن القول في نهاية المطاف بأن هذا النفي يتصل بالتعريف الذي يمكن أن نجعله للقانون لا بالدخول إليه.
إن غياب يقين يخص القانون، يولد مباشرة عند القارئ تساؤلا حول الحارس، وحول الرجل القادم من الريف نفسه الذي لا نعرف هدفا لزيارته، وهو ما تؤكده الصفات المسندة لهاتين الشخصيتين. فالمعلومات والتحديدات المتوفرة لا تسمح أبدا بتحويل الشك إلى يقين، إنها على العكس من ذلك لا تقوم إلا بمضاعفة هذه التساؤلات. فمثلا لماذا يشيرالنص إلى أن الشخصية الرئيسية آتية من الريف؟ ولماذا يرتدي الحارس معطفا من الفورير، ولماذا له أنف حاد ولحية طويلة وسوداء ونادرة تشبه لحى التتار؟ ولماذا هناك برغوث على ياقة معطف الفورير؟ إن هذه التحديدات الدقيقة لا تقوم في واقع الأمر إلا بتقوية “النواقص” التي ستلازم هذا النص إلى نهايته.
ودون التخلي عن أي حوار مع النص، فإن القارئ يجدُّ في الكشف عما يشكل انسجام النص ويبلور معناه للوصول إلى “تجسيد” ممكن. وسيكون هذا التجسيد استجابة للسؤال التالي : ما النسق القيمي الذي يقوم النص بنفيه، بل ماذا تعني مقولة القانون هذه التي تبدو مختلفة عما عهدناه في الواقع؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتحدد وفق ما إذا كان الرجل القادم من الريف يمثل الإنسان بصفة عامة، أو أن ننظر إلى هذه الشخصية، التي هي جوزيف ك بطل المحاكمة، باعتبارها مؤلف الرواية ذاته، أي فرانز كافكا؟
إن أي اختيار من الاختيارين هو الذي سيتحكم في نوع التوجهات الممكنة. فإذا كان الرجل القادم من الريف هو الإنسان نفسه، فإن التأويل الأول الوارد ذو طبيعة دينية. فهذه الحكاية يحكيها قس داخل كنيسة للبطل جوزيف ك. لذا فإن مضمونها قد يكون هو التعبير عن عجز الإنسان عن الوصول إلى القانون الإلهي. وفي هذه الحالة، فإن الحارس هو خليفة الله العادل الذي لا حول للإنسان أمام تدبيره.
ولن نجانب الصواب أيضا إذا نحن قمنا برد هذا القانون، رغم غرابته البينة، إلى بؤرة تجليه الأصلية أي الواقع اليومي. وبعبارة أخرى، العودة به إلى ما يشكل مرجعه المباشر، ويتعلق الأمر بالمجال القضائي نفسه. وفي هذه الحالة، فإن الحكاية ستأخذ شكل نقد اجتماعي : إن البسطاء (والرجل القادم من البادية واحد منهم) يُستثنون من القانون، فهم لا يستطيعون الاطلاع على نصوصه التي وضعت أصلا من أجلهم. وسيكون الحارس في هذا المقام ممثلا للقضاة والشرطة والموظفين والجلادين بأنواعهم. وباختصار سيكون الحارس ممثلا لكل القوى الاجتماعية التي وُضعت في خدمة سلطة قمعية تحتقر في واقع الأمر العدالة وتقوم باضطهاد الأفراد.
وانطلاقا من اعتبار أن هذا الرجل لا يمثل الإنسان بصفة عامة، وإنما قد يكون نظيرا لـ جوزيف أو هو كافكا نفسه، فإن وجهة التأويل ستكون من طبيعة أخلاقية أو بسيكولوجية أوتحليلنفسية. إن القانون الذي تتحدث عنه القصة هو نوع من القانون الداخلي الذي تحاول الشخصية الرئيسية للقصة اكتشافه ليكون نبراسا في الحياة. أو هو “محظور” غامض يبعد الإبن عن الآباء نتيجة إرادة سلطوية لأب ما، أو نتيجة خطإ لا يُعرف مصدره. ومن هذه الزاوية، فإن الحارس في الحقيقة ليس سوى نسخة من رجل الريف نفسه. وسيكون من العبث النظر إليه باعتباره شخصا خارجيا تجدي مساعدته. لقد كان على هذا الرجل البحث عن الأجوبة في نفسه، فالبحث عن عون خارجي شبيه بمحاورة البراغيث.
سنعود إلى مسألة التأويلات هذه وإلى صعوبة، بل استحالة، الانتصار لهذا التجسيد أو هذه الدلالة دون تلك. إلا أن هذا لن يحول دون وضع السؤال التالي : ألا يكون البحث – ونحن نقرأ نصا لكافكا – عن ملء كلي لكل “النواقص” بأي ثمن هو السير قدما نحو معنى خاطئ؟ ألا يكون الشك في حد ذاته هو ثيمة هذا العمل الأدبي؟ لقد واجهت الرجل القادم من الريف مشكلة لم يستطع حلها اعتمادا على القوالب الفكرية الجاهزة. ولقد ضل طريقه حين حاول شرح وفهم كل شيء اعتمادا على نماذج معروفة. لقد كان السؤال الذي طرحه على نفسه من العمق لدرجة أنه عطل كل شيء، ولكن لم يكن من الممكن الجواب عنه أو حتى تحديده بشكل صحيح اعتمادا على النماذج التقليدية. إن النفي موجود بالتأكيد ولكننا لا نعرف طبيعته ولاكيفية إلغائه.
ونعثر على نفس التساؤلات، على المستوى الاستبدالي في كتابات أخرى لكافكا. وإليكم مقتطفا من نص موسوم بـ : تعليق :
>لقد حدث ذلك في الصباح الباكر، كانت الأزقة نظيفة وخالية وكنت متوجها إلى محطة القطار. لقد اكتشفت وأنا أقارن بين عقارب ساعة الحائط وساعة يدي أن الوقت متأخر أكثر مما تصورت، وكان علي أن أسرع الخطا. لقد أرعبني هذا الاكتشاف لدرجة أنني لم أعد أتبين طريقي، فلم أكن أعرف بعد المدينة جيدا. ومن حسن حظي كان بالقرب مني شرطي عدوت نحوه وسألته، وأنا ألهث، عن طريقي. ابتسم في وجهي وقال : “أتعتقد أنني أنا الذي سيدلك على الطريق”؟ أجبت : “نعم، فأنا لم أستطع معرفتها وحدي”. وأجابني : “دعك من هذا، دعك من هذا”. وأدار ظهره بحركة عريضة كمن يريد أن ينفجر ضاحكا بكل حرية<(F Kafka : oeuvres complètes II Bibliothèque de la pléiade , Gallimard , 1980 , p 727 ).
إن هذا النص، شأنه في ذلك شأن النص السابق، يستند إلى نفي. وبالإمكان استخراج القيمة المستقاة من الواقع اليومي التي يتم نفيها : يجب أن يكون القانون في خدمة الجميع. إلا أن هذا الحق لم يحترم في نص المحاكمة. إن وظيفة الشرطي هي مد الناس بالمعلومات التي يحتاجونها. ومن الواضح أن الموظف، في هذا النص، يسخر من ذلك. ومع ذلك من الصعب اعتبار هذا النص نقدا لجهاز الشرطة. لماذا؟ لأن النص يحتوي على جزئيات مثل ابتسامة الشرطي والنصيحة التي يسديها، وهي نصيحة غير متوقعة من الشرطي وفي هذه الظروف، (دعك من هذا )، تولد عند القارئ شكا في الواقع الموصوف. وبعبارة دقيقة هناك انتقال من كون مألوف (بأزقته ومحطته وشرطته) إلى كون يثيرالعديد من التساؤلات.
ومن جديد أيضا لا نستطيع تحديد بؤرة النفي في هذا النص. فكما في المقطع السابق هناك فقط شخص يحاول عبثا – وبطريقة فيها الكثير من السخرية وتثير الضحك – طلب العون من شخص آخر للوصول إلى مكان لا يستطيع الوصول إليه وحده. وسيظل تحديد هذا المكان وهوية الشخصية التي يصادفها البطل أمرا إشكاليا. ما عدا إذا كنا سننحاز إلى اختيار من الاختيارات المشار إليها أعلاه.
لقد حاولنا في الفقرة السابقة معالجة النفي على المستوى الاستبدالي، إلا أن هذه المقولة قد توظف في النصوص الكفكاوية على المستوى المركبي أيضا. ونقترح عليكم فيما يلي بعض الأمثلة المأخوذة من Le Château و Amerika.
في الفصل الخامس من Le Château نعثر على حوار بين K وعمدة القرية. ويدور حول الاتصالات الهاتفية بين الشخصية الرئيسية والقصر، وكذا بالرسالة التي توصل بها من Klamm :
>- لم يكن لدي كبير ثقة في هذه المحاورات الهاتفية، فما هو أساسي حقيقة هو ما يصدر مباشرة من القصر.
– رد العمدة بالنفي، مؤكدا بعض ما جاء في الكلام السابق : “لا يجب أن تنكر أهمية هذه الاتصلات، وكيف لا تكون كذلك (…)
وأجاب K : طيب، لنفرض أن ما تقوله صحيح، سيكون عندي حشد من الأصدقاء في القصر. ففكرة المكتب سابقا عن احتياجنا لوسيط هناك كانت تعبيرا عن صداقة تجاهي، فقد توالت الشهادات الطيبة حتى استدرجت إلى هنا وها هم الآن يهددوني بالطرد.
ورد العمدة : لست مخطئا تماما في كلامك، وأنت محق في قولك بأننا لا يجب أن نحمل كل ما يقال في القصر محمل الجد، إلا أن الحذر واجب في كل الظرورف، وهو هنا كذلك، فما يقال لك هو من الأهمية بمكان<. pp565 -567 (Le chaeau , in Kafka oeuvres complètes I Bibliothèque de la pléiade
وفي مكان آخر يتساءل K عن الكيفية التي أخبر بها القصر عن وصوله، وكذا عن دور الوسيط الذي قام به شوارزر :
>لم يكن لـ K يد فيما وقع. شوارزر وحده المسؤول عن ذلك. إلا أن شوارزر كان ابن بواب، وعليه فإن اللوم ينصب على K. وبطبيعة الحال يمكن القول، من زاوية، أخرى، إن K مدين بالكثير لموقف شوارزر. ولكن يا لها من هدية مسمومة. كان عليه أن يجنب K الكثير من الأكاذيب والقيل والقال، ولكن في هذه الحالة كان سيحرمه من كل الأسلحة.< (المؤلف السابق، ص. 660-661)
أما في الفصل الخامس عشر فالحديث يدور حول نوع الوظيفة التي يمارسها بيرنابي وما هي طبيعة علاقته بالقصر : >قالت أولغا : “لماذا لا يرتدي زيا رسميا” وأضافت : “إن الأمر معقد. فلا يبدو على الموظفين مثلا أنهم يرتدون زيا رسميا (…) ولكن دعنا من هذا، فبيرنابي ليس موظفا، ولو بسيطا، ولا يملك الجرأة ليكون موظفا. ولكن حسب زعمه، فإن كبارالخدم، الذين لا نراهم أبدا في القرية، لا يرتدون الزي الرسمي. قد يتعلق الأمر بنوع من مواساة النفس، ولكنها مواساة خادعة، فبيرنابي ليس من كبار الخدم. كلا … ورغم تعاطفنا معه، لا يمكن أن ندعي أنه منهم، فهو ليس من كبار الخدم.<(المؤلف السابق، ص668-669 )
تبين هذه الفقرات الثلاث بوضوح الكيفية التي يتطور بها النص الكافكاوي. إنها طريقة قائمة على إدراج سلسلة متتابعة من حركات النفي التي يتم تسريبها عبر لفظ “لكن” (mais) الذي يلغي الإثبات السابق عنه. يقول K : “ما هو أساسي حقا هو ما نحصل عليه من القصر مباشرة”، ويجيب العمدة : “لا، للمكالمات الهاتفية أيضا أهميتها”، “قد يكون شوارزر هو المسؤول عن الاستقبال السيئ الذي قوبل به K، ولكن K هو وحده المسؤول عن ذلك “، “وكيفما كان الحال، فإن K مدين بالشيءالكثير لموقف شوارزر”، “ليس الأمر كذلك تماما، لأن الأمر يكشف عن هدية مسمومة” ، “من أجل تبرير غياب الزي الرسمي عند بيرنابي، قيل بأن الموظفين هم أيضا لا يلبسون الزي الرسمي، وهذا بدوره ليس مقنعا، فبيرنابي ليس موظفا”، “الخدم لا يرتدون الملابس الخاصة بهم، هذا صحيح، ولكن بيرنابي ليس من الخدم”.
تستخدم هذه “القضايا” و”القضايا المضادة” لتبيان أن كل إثبات يشتمل على شيء من الصحة وشيء من الخطإ. ولهذا السبب، يستحيل الوصول إلى إثبات خال من الغموض أوالشك. ففي Amerika، وخاصة في الفصلين 4 و6، نعثر على تطور خطابي شبيه بهذا الذي تحدثنا عنه : >لقد تساءل كارل روسمان، وهو يلتقي لأول مرة روبنسون وديلمارش، عن هوية هاتين الشخصيتين. قال : هم، دون شك من الخدم، ولهذا لا يليق بي النوم معهما. وفي الوقت ذاته لا يشكل ذلك خطرا حقيقيا. هذا صحيح، ولكن من الأفضل الامتناع عن النوم<. لقد كان خطاب كارل، وهو يتمعن في عواقب زيارة روبنسون لـ Hôtel occidental، عبارة عن سلسلة من الإثبات والنفي يحول دون الرسو على خلاصة تطمئن لها الشخصية الرئيسية للرواية.
إن كتابات كافكا حافلة بهذا الذي تحدثنا عنه. والغاية من الأمثلة التي قدمناها في الفقرات السابقة هي من جهة تأكيد الفرضية القائلة بترابط حلقات النفي على المستويين المركبي والاستبدالي؛ كما أن هذا النفي يشكل، من جهة ثانية، الثيمة العامة للنص. بل يمكن القول إن النفي هو المكون الرئيسي لهذه الثيمة. وتقوم الأحداث المروية والوضعيات الموصوفة الحافلة بالتعليقات والأحكام المتناقضة، شاهدا على وجود تجربة أساسية لا تدرك إلا باعتبار بعدها المجازي.
* Y . Gilli : A propos du texte littéraire et de Kafka ( théories et pratique) ou faut-il bruler le structuralisme, Annales littéraires de l’université de Besançon ; 1985
ترجمة : س . ب
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6915