فن الرواية

Bengrad
2021-06-04T11:50:12+00:00
العدد العاشر
13 أغسطس 2020465 مشاهدة

ترجمة : كمال التومي

ميلان كونديرا

إني أؤكد أنه ليس لي أدنى طموح نظري، وأن هذا الكتاب برمته ليس سوى اعتراف ذاتي لمشتغل في حقل الرواية. فأعمال كل روائي تنطوي على رؤية ضمنية لتاريخ الرواية وعلى فكرة ماهيتها. إن هذه الفكرة المحايثة لرواياتي، هي التي حاولت أن أستنطق هنا.

م.ك

تقــــديم : ميلان كونديرا مؤرخا للرواية

Articuler historiquement le passé ne signifie pas le connaître “tel qu’il a été effectivement”, mais bien plutôt devenir maître d’un souvenir tel qu’il brille à l’instant d’un péril.

Walter Benjamin, Thèses sur la philosophie de l’histoire

يتألف كتاب فن الرواية لميلان كونديرا من سبعة فصول كتبت باللغة الفرنسية على فترات متقطعة، وفي مناسبات مختلفة وتحت عناوين مغايرة. وقد صدر هذا المؤلف عن دار غاليمار في طبعته الأولى سنة 1986، وفي طبعته الثانية عن نفس الدار ضمن سلسلة فوليو سنة 1995.

وعلى رغم أن هذا المؤلف النقدي لم يكتب دفعة واحدة ولم يخضع لخطاطة مسبقة، فمن المؤكد أن فصوله السبعة مركبة بطريقة محكمة تطال ثلاثة مجالات. في الفصلين الأول والأخير يهتم كونديرا بتاريخ فن الرواية في أوروبا، وبين هذين الفصلين يتعرض في الفصل الثاني والرابع والسادس لتجربته الروائية الخاصة من خلال حوارين وقاموس شخصي، في حين يخصص الفصلين الثالث والخامس لروائيين اثنين من أوروبا الوسطي، هما فرانز كافكا وهرمان بروخ.

لا حاجة بنا الآن للخوض في تفاصيل هذا الكتاب، في فرضياته واستنتاجاته، في موضوعاته وأحكامه الجمالية. حسبنا أن نصوغ في هذا التقديم ثلاث ملاحظات مقتضبة حول تاريخ الرواية الأوروبية كما يتصوره كونديرا في الفصلين الأول والأخير اللذين نقدم ترجمة لهما على أن نستأنف نشر ترجمة بقية الفصول في الأعداد اللاحقة من مجلة علامات مسبوقة بملاحظات ومذيلة بهوامش وثبت للمعاني.

1- يقوم تصور كونديرا لفن الرواية على تأويل لتاريخها. فهو يرد نشأة الرواية والتطور الذي ستعرفه لاحقا إلى تلك اللحظة الحاسمة التي غدا فيها، مع مطلع الأزمنة الأوروبية الحديثة، وجود الإنسان منفصلا عن ذاته وغريبا عنها. ففي خضم حركة بناء الحداثة التي أسستها أوروبا على العقلانية الديكارتية تم نسيان الإنسان وكينونته فأتت الرواية لتهتم به وبالتحول الذي طرأ على وجوده وبالالتباس الذي صار يكتنف حياته. ولأن الرواية غدت مع مرور الوقت، صورة ونموذج إنسان الأزمنة الحديثة فستصاحبه طيلة أربعة قرون.

إذا كان كونديرا يسلم بالحركة والانفصال والتعدد الذي يميز تاريخ الرواية، فإنه يميل إلى التوكيد على أن الرواية – منذ نشأتها إلى الآن – وسيلة لمقاربة وبلوغ حقيقة الوجود. ولهذا لسبب فإن التاريخ الذي يضعه كونديرا لفن الرواية ليس تاريخا كرونولوجيا يحركه الانشغال التاريخي وليس تاريخا وضعيا مهووسا بفكرة التقدم، وإنما هو تاريخ ضد هذا الزمان وضد كل زمان.(une histoire inactuelle) فداخل تلك الحركة الكلية التي دامت أربعة قرون يقف كونديرا عند تلك الروايات المتفردة التي نجحت إلى حد بعيد في اكتشاف هذه المنطقة المجهولة أو تلك من الوجود الإنساني.

2- إذا كان كونديرا يحاكم الرواية باعتبارها راعية كينونة الإنسان من زاوية أخلاق المعرفة فإنه يقف عند تلك الإمكانيات التي أخطأتها الرواية، بل يقف عند العياء والنضب الذي لحق ما يشكل جوهرها وخصوصيتها، إنه يقف عند النداءات غيرالمسموعة والإمكانيات التي لم تطورها ولم تستغلها، مع أن هذه الإمكانيات كانت ثاوية في نصوص متميزة ظلت جراء ذلك معزولة في تاريخ الرواية. ولهذا السبب لا نجد كونديرا يهتم بنقطة نهاية أو لحظة اكتمال عرفتهما الرواية بقدر ما يعين لحظات كانت الرواية تستجيب فيها للوجود وللانعطافات التي يعرفها والتبدل والتغير اللذين يصيبانه، أي يعين تلك اللحظات التي تؤسس كيان الرواية وتدفعها بقوة إلى أن تستجيب لواقع لا يفتأ يتنكر لذاته، وتدفعها في ذات الوقت إلى أن تظل في بعد دائم عن ذاتها على طريق المغامرة.

3- الظاهر أن هذين الفصلين اللذين يلاحق فيهما كونديرا تاريخ الرواية يشكلان، إلى جانب الفصلين اللذين يتعرض فيهما لفرانز كافكا وهرمان بروخ، الإطار العام الذي تندرج فيه تجربة كونديرا الروائية، إنه يؤسس لعائلة إبداعية – فكرية – تنضوي تحت لواء أب روحي، يكون تارة رابليه (الفصل الأخير)، وتارة أخرى سيرفانتيس (الفصل الأول). إن كونديرا يضع لتجربته التي تنتمي إلى فترة المفارقات القصوى شجرة أنساب تمنحها مشروعيتها التاريخية ضمن نطاق تاريخ فن الرواية. بهذا المعنى يغدو كونديرا وريثا شرعيا ليس للتراث الروائي الذي عرفته أوروبا الوسطى وحسب (كافكا وموزيل وبروخ وهاسيك وغومبروفيتش) وإنما أيضا تراث أوروبا بكاملها، أي إلى كل ذلك التراث الذي راكم ويراكم اكتشافات لمناطق مجهولة من الوجود.

المترجم

الفصل الأول

الأرث المذموم لسرفانتس

1 – نسيان الكينونة]

ألقى إدموند هوسرل في سنة 1935، أي ثلاث سنوات قبل وفاته، محاضرات مشهورة حول أزمة الإنسانية الأوروبية. إن النعت أوروبية يعني بالنسبة له هوية روحية تمتد إلى خارج أوروبا (إلى أمريكا مثلا)، وهذه الهوية الروحية نشأت مع الفلسفة الإغريقية القديمة. فقد أدركت هذه الأخيرة، لأول مرة في التاريخ، حسب رأيه، العالم (العالم في كليته) كقضية يجب حلها. لقد كانت هذه الفلسفة تسائل العالم لا لإشباع هذه الحاجة العملية أو تلك، بل لأن >الشغف بالمعرفة قد استولى على الإنسان<.

إن الأزمة التي يتحدث عنها هوسرل كانت تبدو له عميقة جدا إلى درجة كان يتساءل معها ما إذا كان بوسع أوروبا أن تنجو منها، لقد كان يعتقد أن جذور الأزمة توجد في بداية الأزمنة الحديثة، عند غاليلي وديكارت وفي الطابع الأحادي للعلوم الأوروبية التي اختزلت العالم إلى مجرد موضوع للاستكشاف التقني والرياضي، وأقصت من أفق تصورها العالم الملموس للحياة، كما كان يقول.

إن تطور العلوم قذف بالإنسان في مجاهل الحقول المعرفية المتخصصة. فبقدر ما كان الإنسان يتقدم في معرفته، كان يغيب عن نظره معا، العالم في كليته وهو نفسه كإنسان، ضائعا بهذه الطريقة في ما كان هايدغر، تلميذ هوسرل، يسميه بعبارة جميلة وشبه ساحرة >نسيان الكينونة<.

فالإنسان الذي رفعه ديكارت إلى مقام >سيد الطبيعة ومالكها< قد أصبح مجرد شيء بالنسبة للقوى التي تتجاوزه وتسمو عليه وتستعبده، قوى التقنية والسياسة والتاريخ. فوجوده المادي، >عالم حياته< لا قيمة له ولا أهمية في نظر هذه القوى، لقد تم تغييبه ونسيانه منذ البداية.

2 – سرفانتس مؤسس الأزمنة الحديثة]

لكنني أعتقد، مع ذلك، بأنه سيكون من السذاجة اعتبار قسوة هذه النظرة إلى الأزمنة الحديثة مجرد إدانة، أقول بالأحرى بأن الفيلسوفين الكبيرين (هوسرل وهايدغر) قد كشفا التباس هذه الفترة التي تشكل في ذات الوقت تدهورا وتقدما والتي تحمل، شأنها شأن كل ما هو إنساني، بذرة نهايتها في نشأتها. إن هذا الالتباس لا يحط في نظري من قيمة الأربعة قرون الأوروبية الأخيرة والتي أشعر، بالإضافة إلى هذا، أنني مرتبط بها لا كفيلسوف بل كروائي. فبالنسبة لي، إن مؤسس الأزمنة الحديثة ليس ديكارت فقط وإنما سرفانتس أيضا.

وربما يكون هذا الأخير هو الذي لم يأخذه هوسرل و هايدغر بعين الاعتبار في حكمهما على الأزمنة الحديثة. بمعنى، إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيتا كينونة الإنسان، فيبدو أنه قد تشكل بكيفية جلية جدا مع سرفانتس فن أوروبي كبير، وهذا الفن ليس شيئا آخر سوى استكشاف هذه الكينونة المنسية.

وبالفعل فكل الموضوعات الوجودية الكبرى التي يحللها هايدغر في كتابه الكينونة والزمن والتي يعتبر أنها قد أهملت من طرف كل الفلسفة الأوروبية السابقة عليه، قد تم الكشف عنها وإظهارها وتوضيحها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية. لقد اكتشفت الرواية، بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص، المظاهر المختلفة للوجود واحدا تلو الآخر. فمع معاصري سرفانتس تتساءل الرواية عن ماهية المغامرة، ومع صامويل ريتشاردسون تحلل ما يقع في داخل الإنسان وتكشف عن الحياة السرية لعواطفه ومشاعره، ومع بلزاك تكتشف تجذر الإنسان في التاريخ، ومع فلويير تستكشف أرض اليومي التي ظلت إلى ذلك الحين مجهولة ومع تولستوي تنكب على تدخل أثر اللامعقول في اتخاذ القرارات الإنسانية وفي تحديد السلوك البشري كذلك تستقصي الرواية الزمن : اللحظة الماضية المنفلتة مع مارسيل بروست، اللحظة الحاضرة المنفلتة مع جيمس جويس وتتساءل، مع طوماس مان، عن دور الأساطير التي هي إذ تكون قادمة من أعماق الأزمنة، فإنها تتحكم في خطواتنا وتوجهها الخ، الخ، الخ.

إن الرواية تلازم الإنسان باستمرار وبوفاء منذ بداية الأزمنة الحديثة. فقد تملَّكها (الرواية) الشغف بالمعرفة (الذي يعتبره هوسرل جوهر الروحانية الأوربية) لكي تتقصى الحياة الملموسة للإنسان وتحميها ضد نسيان الكينونة، ولكي تبقي على عالم الحياة مضاء باستمرار. وبهذا المعنى بالذات أتفهم وأقتسم إصرار هرمان بروخ على ترديد هذه الفكرة : إن سبب وجود الرواية الوحيد هو اكتشاف ما تستطيع الرواية وحدها اكتشافه. فالرواية التي لا تكتشف جزءا من الوجود ظل مجهولا إلى الآن، هي راوية لا أخلاقية. إن المعرفة هي الأخلاق الوحيدة للرواية.

أضيف إلى هذه الفكرة مايلي : إن الرواية إنجاز تاريخي من إنجازات أوروبا؛ فاكتشافات الرواية، رغم أنها تمت بلغات مختلفة، تنتمي إلى أوروبا كلها. كما أن توالى الاكتشافات (وليس مراكمة ما تمت كتابته) هو ما يصنع تاريخ الرواية الأوروبية. إن قيمة عمل روائي ما (أعني أهمية اكتشافه) لا يمكن أن ترى وتدرك بشكل تام إلا في هذا الإطار فوق-قومي.

3 – حكمة اللايقين]

عندما كان الله يغادر شيئا فشيئا المكان الذي سيَّر منه الكون ونظام قيمه وفَصَل الخير عن الشر ومنح كل شيء معنى، خرج دون كيشوت من منزله ولم يعد بوسعه إطلاقا التعرف على العالم. فالعالم في غياب الله قد اكتنفه فجأة التباس مرعب. إن الحقيقة الإلهية الوحيدة تحللت إلى مئات الحقائق النسبية اقتسمها البشر بينهم، وهكذا نشأ عالم الأزمنة الحديثة ونشأت معه الرواية، صورة ونموذج هذا العالم.

أن يدرك المرء مع ديكارت أن >الأنا المفكرة< هي أساس كل شيء ويكون بذلك وحيدا أمام الكون، فذلك موقف اعتبره هيجل عن حق موقفا بطوليا.

وأن يدرك المرء مع سرفانتس العالم كالتباس وأن يكون عليه أن يواجه، عوض حقيقة واحدة مطلقة، مجموعة من الحقائق النسبية المتناقضة (وقد أدمجت في أنوات متخيلة تسمى شخوصا) وأن يكون عليه أن يمتلك إذن كيقين وحيد حكمه اللايقين، فهذا يتطلب قوة لا تقل وزنا عن الأولى.

فماذا تعني رواية سرفانتس الكبيرة؟ هناك كتابات غزيرة بصدد هذا الموضوع. هناك من يدعون أنهم يرون فيها النقد العقلاني لمثالية دون كيشوت الضبابية، وهناك آخرون يرون فيها تمجيد تلك المثالية ذاتها. وهذان التأويلان فاسدان معا لأنهما لا يرغبان في العثور على سؤال في أصل الرواية، وإنما على حكم أخلاقي جاهز.

إن الإنسان يتمنى عالما يكون الخير والشر فيه قابلين للإدراك والتمييز بوضوح والسبب هو أنه توجد بداخل الإنسان الرغبة الفطرية والجامحة في الحكم قبل الفهم. وعلى هذه الرغبة تأسست الديانات والإيديولوجيات. لا يمكن أن تتصالح الديانات والإيديولوجيات مع الرواية إلا إذا ترجمت في خطابها اليقيني والدوغمائي لغة النسبية والالتباس الخاصتين بالرواية. إن الديانات والإيديولوجيات توجب أن يكون واحد من اثنين على صواب : فإما أن أنّا كارنين هي ضحية طاغية بليد وإما أن كارنين هو ضحية امرأة لا أخلاقية، إما أن >ك< هو بريء تسحقه محكمة غير عادلة، وإما أن العدالة الإلهية تختبئ خلف المحكمة ويكون >ك< مذنبا.

بين هذين الخيارين >إما-وإما< يكمن العجز عن تحمل النسبية الجوهرية للأشياء الإنسانية، العجز عن مواجهة غياب الله وبسبب هذا العجز تغدو حكمة الرواية (حكمة اللايقين) صعبة التقبل وصعبة الإدراك والفهم.

4 – تاريخ الرواية]

خرج دون كيشوت إلى عالم كان ينفتح برحابه أمامه، كان بوسعه أن يدخله بحرية ويعود إلى المنزل متى شاء. إن الروايات الأوربية الأولى أسفار عبر العالم الذي يبدو لا محدودا. تفاجئ بداية رواية جاك القدري البطلين في منتصف الطريق، دون أن نعرف لا من أين جاءا ولا إلى أين يذهبان. إنهما يوجدان في زمن بلا بداية ولا نهاية، في فضاء لا يعرف حدودا، أي في وسط أوروبا التي لا يمكن للمستقبل أن ينتهي بالنسبة لها.

بعد ديدرو بنصف قرن، اختفى عند بلزاك الأفق البعيد، مثلما يختفي منظر طبيعي، وراء البنايات العصرية التي تمثلها المؤسسات الاجتماعية : البوليس، العدالة، عالم المال والجريمة، الجيش، الدولة، إن زمن بلزاك لا يعرف الخمول السعيد لسرفانتس أو ديدرو. لقد تم شحن هذا الزمن على متن القطار الذي نسميه التاريخ، قطار من السهل الصعود إليه ومن الصعب النزول منه. لكن ذلك القطار، لم يكن فيه بعد ما يرعب، بل كان له بعض السحر فهو يعد كل ركابه بالمغامرات ومع هذه المغامرات يعد بأعلى المراتب.

سنوات طويلة فيما بعد، سيضيق هذا الأفق بالنسبة لـ إيمَّا بوفاري إلى درجة أنه كان يشبه سياجا. خارج هذا السياج توجد المغامرات والحنين لا يحتمل. ففي ضجر الحياة اليومية تكتسي الأحلام وأحلام اليقظة أهمية متزايدة ويتم استبدال اللانهائي الضائع للعالم الخارجي بلا نهائي الروح. وتبعا لذلك، يزدهر أجمل الأوهام الأوروبية : الوهم الكبير بفرادة الفرد الفريدة في نوعها. لكن الحلم بلا نهائية الروح يفقد سحره عندما يستولي على الإنسان التاريخ أو ما يتبقى منه، أي تلك القوة فوق-إنسانية لمجتمع مهيمن قادر على كل شيء. لا يعد التاريخ الإنسان بالمجد إطلاقا، وإنما يعده بمنصب مساح في أحسن الأحوال. فما الذي بوسع >ك< أن يفعله أمام المحكمة وأمام القصر؟ لا شيء ذا بال، فهل بوسعه على الأقل أن يحلم مثلما فعلت إيمَّا بوفاري في السابق؟ كلا ففخ الوضعية مرعب جدا ويبتلع كل أفكاره وكل عواطفه ومشاعره : إنه لا يستطيع التفكير إلا في محكامته وفي منصبه كمساح. فلا نهائية الروح، إذا ما وجدت، قد أصبحت زائدة غير مجدية تقريبا بالنسبة للإنسان.

5 – المفارقات القصوى]

يرتسم مسار الرواية كتاريخ موازي للأزمنة الحديثة. فأنا إذا ما نظرت إلى الخلف لألقي عليه نظرة شاملة، بدا لي، على نحو غريب، قصيرا ومنتهيا ومغلقا. أفليس دون كيشوت نفسه الذي عاد، بعد ثلاثة قرون من الرحلة، متنكرا على هيئة مساح؟ دوكيشوت يصير ك] لقد رحل في السابق لاختيار مغامراته، أما الآن، في هذه القرية أسفل القصر،فلم يعد لديه اختيار والمغامرة مفروضة عليه : خلاف بئيس مع الإدارة حول خطإ في ملفه. فماذا حصل بعد ثلاثة قرون، للمغامرة تلك الموضوعة الأولى الكبيرة للرواية، فهل غدت المغامرة محاكاة ساخرة (باروديا) لنفسها؟ وماذا يعني هذا؟ هل يعني أن مسار الرواية ينتهي بمفارقة؟

قد نظن ذلك طبعا وليس هناك مفارقة وحيدة بل المفارقات عديدة. رواية الجندي الباسل شفييك هي ربما آخر رواية شعبية كبيرة. أليس من المدهش أن تكون هذه الرواية رواية هزلية وفي ذات الوقت رواية حرب تدور أحداثها وسط الجيش وعلى الجبهة؟ فما الذي حصل للحرب وأهوالها حتى تغدو موضوعا للضحك؟

لقد كان للحرب عند هوميروس وتولستوي معنى معقولا تماما، إذ الحرب قامت من أجل الدفاع عن هيلين الجميلة أو من أجل الدفاع عن روسيا. أما شفييك ورفاقه فهم يتوجهون إلى الجبهة دون أن يعرفوا الغرض من ذلك، بل إن ما يصدم أكثر هو أنهم يذهبون دون الاكتراث لذلك.

لكن ما هو محرك الحرب إذن، إذا لم يكن لا هلين ولا الوطن؟ أهي القوة وحدها تريد أن تثبث نفسها كقوة؟ أهي >إرادة الإرادة< التي سيتحدث عنها فيما بعد هايدغر؟ لكن ألم تكن >إرادة الإرادة < هذه دائما وراء الحروب منذ القديم؟ بلى بالتأكيد لكن هذه المرة لا تبحث >إرادة الإرادة<، عند هاسيك، حتى على التنكر خلف قناع خطاب معقول ولو قليلا، لا أحد يؤمن بلغو الدعاية حتى أولئك الذين يصنعونها. فالقوة عارية، تماما كما هي عارية في روايات كافكا. فالمحكمة لن تجني بالفعل أية فائدة من قتل ك مثلما أن القصر لن يجد أية منفعة في إزعاج المساح فلماذا كانت ألمانيا بالأمس وروسيا اليوم تريدان السيطرة على العالم؟ أمن أجل أن تصبحا أكثر غنى؟ أكثر سعادة؟ كلا، إن عنف القوة لا هدف ولا علة له على الاطلاق. إن عنف القوة لا يريد سوى إرادته. إنه اللامعقول الخالص.

إن كافكا و هاسيك يضعاننا وجها لوجه أمام هذه المفارقة الهائلة : أثناء حقبة الأزمنة الحديثة، كان العقل الديكارتي قد حطم كل القيم الموروثة عن القرون الوسطى الواحدة تلو الأخرى، لكن اللامعقول الخالص (أي القوة حين لا تريد سوى إرادتها) هو الذي سيستحوذ، لحظة الانتصار الكلي للعقل، على العالم نظرا لانعدام أي سلم قيم متعارف عليه يستطيع الوقوف في وجه هذا اللامعقول.

إن هذه المفارقة الموضحة بشكل متقن في رواية المتسر نمون لهرمان بروخ، هي إحدى المفارقات التي أحب أن أسميها >المفارقات القصوى< وهناك مفارقات أخرى مثلا : غدت الأزمنة الحديثة الحلم بإنسانية، إذ هي منقسمة الآن إلى حضارات مختلفة، قد تجد في يوم ما الوحدة ومعها السلام الأبدي. في وقتنا الحاضر، نجد أن تاريخ كوكب الأرض قد أصبح، أخيرا، كلا غير قابل للتجزيء، لكن الحرب المتنقلة من مكان إلى آخر والمتواصلة هي التي تحقق وتضمن وحدة الإنسانية هذه المحلوم بها منذ فترة طويلة. إن وحدة الإنسانية هذه تعني : لا أحد يستطيع الهروب إلى أي مكان.

6 – أوروبا الوسطى]

لقد كانت المحاضرات التي تحدث فيها هوسرل عن أزمة أوروبا وعن إمكانية اختفاء الإنسانية الأوروبية هي وصيته الفلسفية؛ لقد ألقى هوسرل هذه المحاضرات في عاصمتين من عواصم أوروبا الوسطى، ولهذه الصدفة دلالة عميقة : ففي أوروبا الوسطى ذاتها استطاع الغرب، لأول مرة في تاريخه المعاصر، أن يشاهد موت الغرب، أو بالضبط انتزاع جزء منه عندما انتهت فارسوفيا وبودابيست وبراغ إلى التلاشي في الإمبراطورية الروسية. إن هذه المأساة قد تولدت عن الحرب العالمية الأولى، التي فجرتها إمبراطورية الهابسبورغ النمسا -هنغاريا]، والتي أدت إلى نهاية هذه الإمبراطورية ذاتها وخلخلت بصفة نهائية توازن أوروبا المنهكة.

لقد ولى عهد الأزمنة الهادئة، أزمنة جويس وبروست، حيث كان على الإنسان أن يحارب فقط غيلان روحه. في روايات كافكا وهاسيك وموزيل وبروخ يأتي الغول من الخارج ونسميه التاريخ، وهذا التاريخ لم يعد يشبه البتة قطار المغامرين، فهو تاريخ محايد وجامح ومطلق وملتبس ولا أحد يفلت منه. إنه اللحظة (غداة الحرب العالمية الأولى) التي تبينت فيها مجموعة من كبار روائيي وسط أوروبا ولمست وأدركت المفارقات القصوى للأزمنة الحديثة.

لكن يجب ألا نقرأ رواياتهم كتنبؤ اجتماعي أو سياسي، كما لو أننا نقرأ أوريل سابق لأوانه! فما قاله لنا أورويل كان من الممكن أن يقوله بنفس الطريقة (بل أحســن بكثير) في محـــاولة أو مقال هجائي. وبالمقابل، اكتشف هؤلاء الروائيون >ما تستطيع الرواية وحدها اكتشافه< فهم يبرزون كيف أن كل المقولات الوجودية تغير فجأة من معناها في نطاق شروط >المفارقات القصوى<. فما معنى المغامرة إذا كانت حرية الفعل لشخص اسمه >ك< وهمية تماما؟ ما هو المستقبل إذا كان مثقفو رواية إنسان بلا خصائص لا يملكون أدنى فكرة عن الحرب التي ستدمر حياتهم غدا تدميرا؟ وما معنى الجريمة إذا كان هوغناو بطل بروخ لا يندم ليس فقط للجريمة التي اقترفها بل ينسى هذه الجريمة؟ و إذا كان مسرح الرواية الهزلية الكبرى في هذه المرحلة، رواية هاسيك، هو الحرب، فما الذي حصل لمقولة الهزلي؟ ما الفرق بين الخاص والعام إذا كان >ك< لا يستطيع، حتى في سرير الحب، البقاء أبدا بدون مبعوثين من القصر وما معنى الوحدانية في هذه الحالة؟ هل هي عبء أم قلق أم لعنة، كما أريد لنا أن نفهم ذلك أم إنها، على العكس من ذلك، القيمة الأكثر نفاسة وهي ما تفتأ تسحق تحت قوة الجماعة المستبد؟

إن مراحل تاريخ الرواية طويلة جدا (لا علاقة لها بالتحولات المحمومة والاعتيادية للموضة). وتتميز هذه المراحل بإبراز هذا الجانب أو ذاك من الكينونة التي تستكشفها الرواية في المقام الأول. وهكذا لم يتم تطوير الإمكانية المتضمنة في اكتشاف فلوبير لليومي بشكل شامل إلا سبعين سنة فيما بعد، في العمل الروائي الهائل لجيمس جويس. كما أن المرحلة التي دشنت، منذ خمسين سنة، على يد مجموعة من الروائيين الوسط -أوروبيين (مرحلة المفارقات القصوى) تبدو لي بعيدة عن أن تكون قد انتهت.

7 – موت الرواية]

كثر الحديث ومنذ مدة طويلة عن نهاية الرواية. لقد تحدث عن ذلك بالخصوص المستقبليون والسرياليون وتقريبا كل الحركات الطليعية. إنهم كانوا يرون الرواية تختفي على طريق التقدم لصالح مستقبل جديد جذريا ولصالح فن قد لا يشبه في شيء ما كان يوجد سلفا، إذ سيتم إقبار الرواية باسم العدالة التاريخية تماما كما قد يقبر البؤس والطبقات السائدة والموديلات العتيقة للسيارات وللقبعات.

لكن إذا كان سرفانتس مؤسس الأزمنة الحديثة، فإن على نهاية إرثه أن تعني أكثر من مجرد إبدال وتناوب في الأشكال الأدبية، نهاية قد تعلن نهاية الأزمنة الحديثة. ولهذا السبب تبدو لي الابتسامة السعيدة والمغتبطة التي يتم بها الإعلان عن موت الرواية ابتسامة تافهة. إنها تافهة لأنه سبق لي أن رأيت وعايشت موت الرواية، موتها العنيف (بواسطة وسائل المنع والرقابة والضغط الإيديولوجي) في العالم الذي قضيت فيه جزءا كبيرا من حياتي والذي يسمى عادة بالعالم الكلياني (الشمولي) آنئذ ظهر جليا إذن أن الرواية كانت قابلة للفناء مثلما هو قابل للفناء بدوره غرب الأزمنة الحديثة. والرواية بما هي مؤسسة على نسبية والتباس الأشياء الإنسانية فإنها تناقض العالم الشمولي، وهذه المناقضة أكثر عمقا من تلك التي تميز المنشق عن رجل المؤسسة وتميز المناضل من أجل حقوق الإنسان عن السجان لأن هذه المناقضة ليست فقط سياسية أو أخلاقية وإنما هي وجودية. وهذا يعني أن العالم المبني على حقيقة واحدة والعالم الملتبس والنسبي للرواية مجبولان كل واحد على حدة من مادة مختلفة كليا. إن الحقيقة الشمولية تقصي النسبية والشك والسؤال ولهذا السبب لن تستطيع أبدا أن تتصالح مع ما أسميه روح الرواية.

لكن ألا يتم في روسيا الشيوعية طبع مئات وآلاف الروايات بعدد ضخم من السحب وبشهرة كبيرة؟ أجل، لكن هذه الروايات لم تعد تواصل أبدا غزو الكينونة. فهذه الروايات لا تكتشف أية منطقة جديدة من الوجود وإنما تؤكد فقط ما قيل سلفا. أكثر من هذا إن في تأكيد ما قيل (وما يجب قوله) يكمن سبب وجودها ومجدها وجدواها في المجتمع الذي هو مجتمعها. ولأنها لا تكتشف أي شيء ولا تساهم أبدا في >تعاقب الاكتشافات< الذي أسميه تاريخ الرواية، فهي تموقع نفسها خارج هذا التاريخ أو أنها روايات ما بعد تاريخ الرواية.

منذ نصف قرن تقريبا توقف تاريخ الرواية في الإمبراطورية الشيوعية الروسية، وهو حدث هائل بالقياس إلى عظمة الرواية الروسية من غوغول إلى بييلي. إن موت الرواية ليست فكرة وهمية، فهذا الموت سبق أن وقع ونحن نعرف حاليا كيف تحتضر الرواية فهي لا تختفي بل إن تاريخها هو الذي يتوقف : لا يبقى بعد هذا التاريخ إلا زمن التكرار حيث تعيد الرواية إنتاج شكلها مفرغا من روحه. إن الأمر يتعلق إذن بموت غير معلن لا ينتبه إليه أحد ولا يصدم أحدا.

8 – النداءات الأربعة]

لكن ألا تقترب الرواية من نهاية مسارها بفعل منطقها الداخلي الذاتي؟ ألم تستغل كل إمكانياتها وكل معارفها وكل أشكالها؟ لقد سمعت من يقارن تاريخها بمناجم الفحم التي نضبت منذ زمن بعيد. ألا يشبه هذا التاريخ بالأحرى مقبرة الفرص الضائعة والنداءات غير المسموعة؟ ثمة أربعة نداءات أتجاوب معها بشكل خاص :

نداء اللعب : في الوقت الحالي تبدو لي رواية تريسترام شاندي للورانس سترن ورواية جاك القـدري لدوني ديدرو كأكبر عملين روائيين عرفهما القرن الثامن عشر، صيغتا كلعبة رائعة، قمتان في الخفة لم يصلهما أحد لا من قبل ولا من بعد. فالرواية التي جاءت بعدهما قيدت نفسها بمستلزمات الاحتمال vraisemblance والديكور الواقعي والصرامة الكرونولوجية. لقد تخلت الرواية عن الإمكانيات الكامنة في هذين العملين الجبارين اللذين كان بوسعهما أن يؤسسا تطورا آخر للرواية غير ذلك الذي نعرفه (نعم يمكن أن نتصور كذلك تاريخا آخر للرواية الأوربية).

نداء الحلم : أيقظ فجأة فرانز كافكا الخيال الراقد للقرن التاسع عشر، كافكا الذي نجح فيما نشده السورياليون بعد كافكا نفسه دون أن ينجزوه فعلا : أي انصهار الواقع والحلم. إن هذا الاكتشاف الضخم هو انفتاح غير منتظم أكثر مما هو اكتمال تطور الراوية؛ وهذا الانفتاح يخبرنا أن الرواية هي المكان الذي يمكن للخيال أن يتفجر فيه مثلما يتفجرفي الحلم. وبأن الرواية يمكنها أن تتحرر من ضرورة الاحتمال vraisemblance، تلك الضرورة التي تبدو ظاهريا حتمية.

نداء الفكر : لقد أدخل موزيل وبروخ إلى فضاء الرواية عقلا مطلقا ومشعا ليس بغرض تحويل الرواية إلى فلسفة، وإنما بغرض تحريك على قاعدة الحكي كل الوسائل المعقولة واللامعقولة، السردية والتأملية التي يمكنها أن تضيء كينونة الإنسان وأن تجعل من الرواية أسمى تركيب عقلي . فهل نجاح موزيل وبروخ هو اكتمال تاريخ الرواية أم هو بالأحرى دعوة إلى رحلة طويلة؟

نداء الزمن : إن مرحلة المفارقات القصوى تدفع بالروائي إلى ألا يحصر مسألة الزمن في المشكل البروستي للذاكرة الشخصية بل إلى توسيع نطاقه ليشمل لغز الزمن الجماعي، لغز زمن اوروبا، أوربا التي تلتفت لكي تنظر إلى ماضيها وتقيم مسارها وتدرك تاريخها مثل رجل عجوز يقبض بنظرة واحدة على حياته الخاصة الماضية. ومن هنا تأتي الرغبة في تجاوز الحدود الزمنية لحياة فردية، تلك الحدود التي تقوقعت فيها الرواية إلى حد الآن، والرغبة في إدخال مراحل تاريخية متعددة في فضاء هذه الحياة (لقد سبق لأراغون وفونتيس أن حاولا ذلك من قبل).

لكن لا أريد أن أتنبأ بالمسارات المستقبلية للرواية التي لا أعرف عنها شيئا، أريد فقط أن أقول شيئا،إذا كان على الرواية فعلا أن تختفي، فليس لأنها استنفدت قوتها، بل لأنها توجد في عالم ليس هو عالمها.

9 – دوامة الاختزال]

إن توحيد تاريخ كوكب الأرض، ذلك الحلم الإنسانوي الذي سمح الله بتحققه بلا رحمة، تصاحبه سيرورة اختزال هائلة. صحيح أن أرضة الاختزال تنخر دائما الحياة الإنسانية : حتى أكبر حب ينتهي إلى اختزاله في هيكل من الذكريات الشاحبة، لكن طبيعة المجتمع العصري تذكي بوحشية هذه اللعنة. فحياة الإنسان اختزلت في وظيفته الاجتماعية، وتاريخ شعب ما اختزل في بعض الأحداث التي اختزلت بدورها في تأويل مغرض، والحياة الاجتماعية قد اختزلت في الصراع السياسي الذي بدوره اختزل في المواجهة بين قوتين كونيتين كبيرتين فقط. إن الإنسان يوجد في دوامة حقيقية من الاختزال فيها يلتبس بشكل قاتل >عالم الحياة< الذي تحدث عنه هوسرل، وفي خضم هذه الدوامة تسقط الكينونة في النسيان.

والحالة هاته، إذا كان سبب وجود الرواية هو أولا المحافظة على >عالم الحياة< مضاء دائما وثانيا حمايتنا ضد >نسيان الكينونة<، أفلا يكون وجود الرواية ضروريا اليوم أكثر من أي وقت مضى؟

بلى، فيما يبدو لي. لكن للأسف، الرواية تنخرها هي كذلك أرضة الاختزال التي لا تختزل مغزى العالم بل مغزى الآثار الأدبية كذلك. فالرواية (كالثقافة برمتها) أصبحت في يد وسائل الاعلام أكثر فأكثر ولأن وسائل الاعلام غدت عوامل لتوحيد تاريخ كوكب الأرض، فإنها تضخم سيرورة الاختزال وتقننها. وتنشر في العالم كله التبسيطات نفسها والكليشهات نفسها التي يمكنها أن تقبل من طرف أكبر عدد من الناس ومن طرف الكل ومن طرف الإنسانية جمعاء. وتبعا لذلك، فليس من المهم كثيرا أن تتجلى وتبرز مختلف المصالح السياسية في مختلف وسائلها الإعلامية. وخلف هذا الاختلاف السطحي يسود فكر واحد. ويكفي المرء تصفح الأسبوعيات السياسية الأمريكية أو الأوروبية، اليسارية منها أو اليمينية من التايم إلى شبيغل ليجد أنها تملك الرؤية نفسها للحياة التي تنعكس في الترتيب نفسه الذي تشكل وفقه فهارسها، في الأقسام نفسها للمجلة، في الأشكال الصحافية نفسها وفي القاموس نفسه وفي الأسلوب نفسه وفي الأذواق الفنية نفسها وفي الترتيب نفسه لما تجده مهما ولما تجده غير ذي قيمة. إن هذه الروح المشتركة بين وسائل الإعلام الثاوية خلف تنوعها السياسي هي روح عصرنا، وهي روح تبدو لي مناقضة لروح الرواية.

إن روح الرواية هي روح التعقيد. فكل رواية تقول للقارئ >إن الأشياء أعقد مما تتصور<. إنها الحقيقة الأبدية للرواية، تلك الحقيقة التي ما انفك صوتها يخفت شيئا فشيئا وسط ضجيج الأجوبة السهلة التي تسبق السؤال وتلغيه. فبالنسبة لروح عصرنا : إما أن آنا كارنين هي على حق وإما زوجها هو الذي على حق. وتبعا لذلك فإن حكمة سرفانتس القديمة التي تتحدث لنا عن صعوبة المعرفة وعن الحقيقة المنفلتة تبدو حكمة مزعجة ولا جدوى منها.

إن روح الرواية هي روح الاستمرارية. فكل عمل روائي هو إجابة عن أعمال روائية سابقة. إن كل عمل روائي ينطوي على تجربة سابقة للرواية، لكن روح عصرنا هي روح منصبة على الراهن وهو راهن على قدر من الشساعة والشمولية إلى حد أنه يلغي الماضي من أفقنا ويختزل الزمن إلى الثانية الحاضرة وحدها دون سواها. والرواية، إذ تكون مدمجة في هذا النظام، تكف عن أن تكون أثرا دuvre أي (شيئا منذورا للديمومة لربط الماضي بالمستقبل) بل تغدو حدثا من أحداث الراهن مثل أحداث أخرى، تغدو فعلا لا غد له.

10- الرواية بعد نهاية تاريخ الرواية]

فهل معنى هذا أن الرواية ستختفي في العالم الذي ليس هو عالمها؟ وأنها ستترك أوروبا تضيع وتفنى في >نسيان الكينونة<؟ وأنه لن يتبقى منها سوى لغو الكتبة الذي لا هدف له؟ سوى روايات ما بعد نهاية تاريخ الرواية؟ لست أدري. أعتقد فقط بأنني أعلم أن الرواية لن تتعايش مع عصرنا : فإذا كانت ما تزال تريد اكتشاف ما لم يتم اكتشافه وإذا كانت ما زالت تريد أن >تتقدم< باعتبارها رواية فإنها لن تستطيع ذلك إلا في تعارض مع تقدم العالم.

لقد نظرت الطليعة إلى الأشياء بشكل مختلف، فهي كانت مسكونة بطموح انسجامها مع المستقبل. لقد أبدع فنانو الطليعة أعمالا جريئة حقا وصعبة ومستفزة ومرفوضة، لكنهم أبدعوها وهم متيقنون من أن روح العصر معهم ولصالحهم وأنها قد تنصفهم في المستقبل.

في الماضي اعتبرت أنا كذلك أن المستقبل هو الحكم الوحيد المؤهل لمحاكمة أعمالنا وأفعالنا. ولم أع إلا فيما بعد أن مغازلة المستقبل هي أبشع السلوكات الرجعية والنفاق الجبان الموجه إلى الأقوى والسبب هو أن المستقبل أقوى دائما من الحاضر. إنه هو بالفعل من سيحاكمنا لكن بدون أن يكون بالتأكيد كفؤا لذلك.

لكن إذا كان المستقبل لا يمثل قيمة في نظري، فبمن أنا مرتبط : بالله أم بالوطن أم بالشعب أم بالفرد؟

إن جوابي سخيف بقدر ما هو صادق : لست مرتبطا بأي شيء سوى بالإرث المذموم لسرفانتس.

الفصـــل الســابع

الرواية وأوروبا

…] إني أستلم هذه الجائزة بصفتي روائيا، أؤكد روائيا ولا أقول كاتب. إن الروائي هو ذلك الشخص الذي، حسب فلوبير، يريد أن يختفي وراء عمله الإبداعي. أن يختفي الروائي خلف عمله الإبداعي يعني أن يرفض لعب دور الشخص العمومي. وهذا ليس اليوم بالأمر الهين بحيث يجب على كل شيء يبدو مهما أن يمر عبر المشهد المضاء بكيفية غير محتملة من طرف وسائل الاعلام. إن وسائل الإعلام، على عكس ما يرمي إليه فلوبير، تغيّب العمل الإبداعي خلف صورة مؤلفه. في ظل هذه الوضعية التي لا يمكن لأحد أن يفلت منها تماما، تتجلى لي تقريبا ملاحظة فلوبير كتحذير : عندما يلعب الروائي دورالشخص العمومي فإنه يعرض للخطر عمله الإبداعي الذي ربما قد يظهر كمجرد امتداد لأفعاله ولتصريحاته ولمواقفه. والحال أن الروائي ليس الناطق باسم أحد. وسأذهب بهذا التوكيد إلى حد القول بأن الروائي ليس حتى الناطق باسم أفكاره الخاصة هو. عندما وضع تولستوي الخطاطة الأولى لروايته آنَّا كارنين، كانت آنَّا امرأة سمجة جدا وكانت نهايتها المأساوية نهاية مبررة وعادلة.

إن الصيغة النهائية للرواية مختلفة تماما، لكن لا أعتقد أن تولستوي قد غير آنئذ أفكاره الأخلاقية، بل بالأحرى أقول إنه كان ينصت أثناء الكتابة إلى صوت آخر غير صوت إيمانه الأخلاقي الشخصي. لقد كان ينصت إلى ما أود تسميته حكمة الرواية. كل الروائيين الحقيقيين ينصتون إلى هذه الحكمة. مما يفسر أن الروايات الكبيرة تكون دائما شيئا ما أكثر ذكاء من مؤلفيها. على الروائيين الذين يكونون أكثر ذكاء من أعمالهم الإبداعية أن يغيروا مهنتهم.

لكن ما هي هذه الحكمة؟ ما هي الرواية؟ ثمة مثل يهودي رائع يقول : >الإنسان يفكر والله يضحك<. وأنا ملهم بهذه الحكمة، يحلو لي أن أتخيل بأن رابليه قد سمع في يوم ما ضحك الله، وبأنه، تبعا لذلك، انبثقت فكرة الرواية الأوروبية الكبيرة. يحلو لي أن أتصور بأن فن الرواية أتى إلى هذا العالم كصدى لضحك الله.

لكن لماذا يضحك الله وهو ينظر إلى الإنسان الذي يفكر؟ لأن الإنسان يفكر وتضيع منه الحقيقة. لأنه كلما فكر الناس أكثر ابتعد فكر الواحد عن فكرالآخر. وفي الأخير لأن الإنسان ليس أبدا على الصورة التي يتصور نفسه عليها. إن هذه الوضعية للإنسان الخارج لتوه من العصر الوسيط هي التي تتجلى وتنكشف مع فجر الأزمنة الحديثة. دون كيشوت يفكر وتابعه سانشو يفكر ولكن ليست حقيقة العالم وحدها التي تضيع منهما، وإنما أيضا حقيقة أناهما ذاتهما] الخاصة. لقد عايش الروائيون الأوروبيون واستوعبوا وضعية الإنسان هذه وأسسوا عليها الفن الجديد، فن الرواية.

لقد ابتدع فرانسوا رابليه كلمات لم تكن موجودة من قبل ودخلت فيما بعد ألى اللغة الفرنسية وإلى لغات أخرى. لكن من بين هذه الكلمات، ثمة كلمة اعتراها النسيان ويمكن أن نأسف لذلك، إنها كلمة أجيلاست AGELASTE. أخذت هذه الكلمة عن اللغة اليونانية وهي تعني : الشخص الذي لا يضحك، الذي لا يملك حس السخرية. كان رابليه يكره الأجيلاست. لقد كان يخاف منهم. إنه كان يشكو من كون هؤلاء الأجيلاست كانوا شرسين في مقاومته إلى حد أنه كاد أن يتوقف عن الكتابة وإلى الأبد.

ليس ثمة هدنة ممكنة بين الروائي والأجيلاست. إن الأجيلاست، وإذ لم يسبق لهم أبدا أن سمعوا ضحك الله، فإنهم يؤمنون إيمانا عميقا بأن الحقيقة واضحة وجلية وبأن على الناس جميعا أن يفكروا بالشيء ذاته. إنهم يؤمنون إيمانا عميقا بأنهم هم أنفسهم تماما ما يتصورونه أن يكونوا عليه. لكن الإنسان يغدو فردا وذلك بالضبط عندما يفقد يقين الحقيقة ويفقد حس التوافق الجماعي للآخرين. إن الرواية هي جنة الأفراد المتخيلة. إنها الأرض التي لا يملك أحد فيها الحقيقة، لا آنَّا ولا كارنين، بل يتمتعون كلهم فيها بالحق في أن نتفهمهم، في أن نتفهم شخصية آنا وشخصية كارنين معا .

في الكتاب الثالث لــ غارغانتويا وپانطغرويال، پانورج – الذي يعتبر أول شخصية روائية كبيرة عرفتها أوربا – يقلقه السؤال التالي : أعليه أن يتزوج أم لا؟ يستشير پانورج الأطباء والعرافين والأساتذة والشعراء والفلاسفة الذين يستشهدون بدورهم بأبوقراط وأرسطو وهوميروس وهيرقليط وأفلاطون. لكن بعد هذه الأبحاث الهائلة المتبحرة التي تشغل الكتاب برمته يجهل پانورج دائما ما إن كان عليه أن يتزوج أم لا. نحن القراء بدورنا لا نعرف ذلك، لكننا بالمقابل نكون قد استكنهنا من مختلف الزوايا الممكنة الوضعية المضحكة والبدائية بذات الوقت للشخص الذي لا يعرف إن كان عليه أن يتزوج أم لا.

مهما كان تبحر رابليه المعرفي عظيما، فإن له إذن معنى مغايرا لذلك الذي تميز به ديكارت. إن حكمة الرواية مختلفة عن حكمة الفلسفة. فالرواية لم تنبثق من العقل النظري وإنما من روح السخرية. إن من بين إخفاقات أوربا، إخفاقها في أنها لم تستوعب أبدا الفن الأكثر أوروبية -الرواية – ولا روح الرواية ولا معارفها الرحبة ولا اكتشافاتها ولا الاستقلال الذاتي لتاريخها. إن الفن الملهم بضحك الله ليس خاضعا، قياسا لجوهره، لليقينيات الإيديولوجية وإنما هو مناقض لها. إن الرواية، مثل پنيلوپ، تنقض ليلا النسيج الذي حاكه البارحة الثيولوجيون والفلاسفة والعلماء.

جرت العادة في الفترات الأخيرة أن يتم الحديث عن القرن الثامن عشر بسوء. وقد بلغ الأمر إلى حد استعمال هذه الصورة السلبية كليشيه] : إن شر الكليانية الروسية هو ثمرة أوروبا، وبالخصوص ثمرة العقلانية الملحدة لعصر الأنوار ولإيمان هذا العصر بالقوة المطلقة للعقل. إنني لا أجد نفسي قادرا على الدخول في مناظرة مع أولئك الذين جعلوا من فولتير مسؤولا عن الغولاغ، بيد أنني أجد نفسي قادرا على القول بأن القرن الثامن عشر ليس عصر روسو وفولتير وهولباخ، وإنما أيضا (إن لم يكن بصفة خاصة!) عصر فييلدينغ وسترن وغوته ولاكلو.

من بين كل روايات هذا العصر أفضل رواية تريسترام شاندي للورانس سترن. إنها رواية نادرة وعجيبة. يفتتح سترن هذه الرواية باستحضار الليلة التي تكون فيها تريسترام شاندي في رحم أمه. لكن بمجرد ما شرع في الحديث عن هذا التكون أخذته فكرة أخرى، وهذه الفكرة استدعت، بواسطة تداع حر، فكرة أخرى، ثم حكاية أخرى، على نحو يجعل الاستطراد يعقب استطرادا آخر، والنتيجة هي أن تريسترام بطل الرواية يتم إهماله على مدى مائة صفحة. إن هذه الطريقة غير المألوفة في تركيب تأليف] الرواية، يمكن أن تظهر كمجرد لعب شكلي. لكن في الفن، يكون الشكل أكثر من شكل. كل رواية، شئنا أم أبينا، تقترح جوابا للسؤال التالي : ما هو الوجود الإنساني وأين تكمن شاعريته؟ لقد نجح معاصرو سترن، على سبيل المثال فييلدينغ، في أن يتذوقوا بالخصوص السحر العجيب للفعل والمغامرة. إن الجواب الضمني في رواية سترن مختلف : فمن وجهة نظره، لا تكمن شاعرية الرواية في الفعل وإنما في انقطاع الفعل وتوقفه.

ربما حصل، بشكل غير مباشر، حوار كبير بين الرواية والفلسفة. لقد تأسست عقلانية القرن الثامن عشر على الجملة المشهورة للايبنز: >لكل شيء موجود علة<. فالعلم الذي يثيره هذا الاعتقاد، يختبر بحدة وعناد علة كل شيء بشكل يبدو معه كل شيء موجود قابلا للتفسير وإذن قابلا للحساب. إن الإنسان الذي يريد أن يكون لحياته معنى، يرفض كل فعل سلوك] لا علة ولا غاية له. كل السير مكتوبة على هذا النحو. إن الحياة تتجلى كمسار واضح مكون من علل ونتائج وإخفاقات ونجاحات. والإنسان، إذ يحدق بنظره المتلهف في التسلل السببي لأفعاله، فهو يستعجل سباقه المجنون نحو الموت.

في مواجهة هذا الاختزال للعالم في التعاقب السببي للأحداث، تؤكد رواية سترن بواسطة شكلها فقط الحقيقة التالية : لا تكمن الشاعرية في الفعل وإنما حيث يتوقف الفعل، حيث تنقطع الصلة بين العلة والنتيجة، حيث يتيه الفكر في حرية لطيفة وخاملة. إن شاعرية الوجود، حسب رواية سترن، تكمن في الاستطراد. إنها توجد فيما لا يمكن حسابه. إنها في الطرف الآخر من العلية. إنها بدون علة. إنها في الجانب الآخر من جملة لايبنز.

لا يمكن إذن أن نحكم على روح عصرما انطلاقا من أفكاره ومفاهيمه النظرية فقط دون أن نهتم بالفن وعلى نحو خاص بالرواية. لقد اخترع القرن التاسع عشر القاطرة، وكان هيغل متأكدا بأنه قد استوعب روح التاريخ الكوني، واكتشف فلوبير البلاهة. يمكن أن أقول بأن اكتشاف فلوبير كان أكبر اكتشاف عرفه عصر كان مفتخرا كثيرا بعقله العلمي.

وحتى قبل فلوبير بالطبع لم نكن نشك في وجود البلاهة، ولكن كنا ندركها بطريقة مختلفة شيئا ما. لقد اعتبرت البلاهة مجرد غياب للمعارف، كعيب قابل للتصحيح بواسطة التربية. لكن في روايات فلوبير تعتبر البلاهة بعدا ملازما للوجود الإنساني. إن البلاهة تصاحب إيما بوفاري المسكينة طيلة عمرها حتى إلى سرير الحب، حتى إلى سرير الموت الذي بقربه إثنان من الأجيلاست الرَّهِيبَين، هومي وبورنيزيان، سيتبادلان بلاهاتهما كما لو أن الأمر نوع من التأبين. لكن الشيء المفزع أكثر والفاضح أكثر في رؤية فلوبير للبلاهة هو التالي : إن البلاهة لا تنمحي ولا تزول أمام العلم والتقنية والتقدم والحداثة، بل بالعكس فإنها هي أيضا تتقدم مع التقدم.

بشغف شيطاني كان فلوبير يجمع الصيغ التافهة المقولبة] التي كان يفوه بها الناس من حوله ليظهروا بمظهر الأذكياء والعارفين بمجريات الأمور. لقد وضع انطلاقا من هذه التعابير، >قاموس الأفكار الجاهزة<. لنستعمل هذا العنوان ونقول : إن البلاهة الحديثة لاتعني الجهل، وإنما اللاتفكير في الجاهز من الأفكار. إن الاكتشاف الفلوبيري أكثر أهمية بالنسبة لمستقبل العالم من أفكار ماركس وفرويد الأكثر إثارة وتأثيرا. والسبب هو أنه بوسع المرء أن يتصور المستقبل بدون الصراع الطبقي أو بدون التحليل النفسي ولكن ليس بدون التنامي القوي والمحتوم للأفكار الجاهزة. وهذه الأفكار الجاهزة المسجلة في الحواسيب والمروجة من طرف وسائل الإعلام توشك أن تغدو عما قريب قوة ستقضي على كل فكر أصيل وذاتي وستقضي، تبعا لذلك، على جوهر الثقافة الأوروبية للأزمنة الحديثة نفسه. ثمانين سنة بعد ما كان فلوبير قد تصور شخصيته إيما بوفاري، سيتحدث روائي كبير آخر، هرمان بروخ، في الثلاثينات من القرن العشرين، عن المجهود الخارق للرواية التي تتصدى لموجة الكيتش، والتي ستنتهي إلى إنهزامها أمامه. كلمة كيتش تعني، موقف الشخص الذي يريد أن يعجب الآخرين بأي ثمن وأن يعجب عددا كبيرا من الناس، ولكي يعجب الآخرين، يجب عليه أن يؤيد ما يريد الكل سماعه، أن يكون في خدمة الأفكار الجاهزة. إن الكيتش هو ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان. إنه ينتزع منا دموع الإشفاق على أنفسنا، على التفاهات التي نفكر فيها ونحس بها. بعد خمسين سنة، تغدو جملة هرمان بروخ حقيقية أكثر من أي وقت مضى.

إن جمالية وسائل الإعلام هي حتما جمالية الكيتش بالقياس إلى ضرورة إثارة الإعجاب الحتمية وبالتالي لفت انتباه عدد كبير من الناس. وبقدر ما تشمل وسائل الإعلام مجموع حياتنا وتحيط بها وتخترقها ، بقدر ما يغدو الكيتش جماليتنا وأخلاقنا اليومية. إلى عهد قريب، كانت الحداثة تعني تمردا غير محافظ ضد الأفكار الجاهزة وضد الكيتش، أما اليوم فتقترن الحداثة بالحيوية الكبيرة لوسائل الإعلام. وأن يكون المرء حديثا يعني أن يبذل مجهودا خارقا ومتواصلا لكي يكون مواكبا لما يجري وأن يكون محافظا، محافظا جدا أكثر من المحافظين بشدة. لقد ارتدت الحداثة رداء الكيتش.

إن الأجيلاست واللاتفكير في الأفكار الجاهزة والكيتش، هم جميعا العدو ذاته والوحيد ذو الرؤوس الثلاثة لفن الرواية الذي انبثق كصدى لضحك الله، والذي نجح في خلق هذا الفضاء الساحر والمتخيل حيث لا أحد يمتلك الحقيقة وحيث لكل واحد الحق في أن يتم تفهمه. فهذا الفضاء المتخيل قد نشأ مع أوروبا الحديثة، إنه صورة أوروبا، أو على الأقل، حلمنا بأوروبا، حلم لطالما تعرض للخيانة مرات عديدة، ولكنه مع ذلك من القوة والصلابة بحيث من شأنه أن يوحدنا في نطاق من الأخوة التي تتجاوزإلى حد بعيد قارتنا الصغيرة. لكننا نعرف أن العالم الذي يكون فيه الفرد محترما (عالم الرواية المتخيل وعالم أوروبا الحقيقي) عالم هش وقابل للزوال. إننا نرى في الأفق جيوشا من الأجيلاست يتربصون بنا. ولقد ألزمت نفسي بألا أتحدث إلا عن الرواية بالضبط في هذه المرحلة من الحرب غير المعلنة والمستمرة وفي القدس، المدينة ذات القدر الأكثر درامية وقسوة. لقد أدركتم بدون شك أن الأمر بالنسبة لي ليس شكلا من أشكال التهرب من الأسئلة التي يقال إنها خطيرة. فإذا كانت الثقافة الأوروبية تبدو لي اليوم مهددة، إذا كانت مهددة من الخارج والداخل فيما هو ثمين لديها (احترامها للفرد، احترامها لفكره الأصيل واحترامها لحقه في التمتع بحياة خاصة غير قابلة للانتهاك)، فإنه يبدو لي إذن أن هذا الجوهر الثمين للروح الأوروبية مودع (كما لو كان كنزا في صندوق فضي) في تاريخ الرواية، في حكمة الرواية. فلهذه الحكمة أردت أن أوجه التحية في كلمة الشكر هاته. لقد آن الأوان أن أتوقف لقد نسيت بأن الله يضحك عندما يراني أفكر.

*********

معجم المصطلحات الواردة في النص

الفصل الأول

أجيلاستAgélaste

كوسموبوليتيةCosmopolitisme

استطرادDigression

تبحر معرفيErudition

روح السخريةEsprit de l’humour

صيغ تافهة (مقولبة)Formules stéréotypées

غولاغGoulag

شخص عموميHomme public

أفكار جاهزةIdées reçues

بلاهةIdiotie

كيتشKitsch

العصر الوسيطMoyen-Age

حنينNostalgie

شاعرية الوجودPoésie de l’existence

شاعرية الرواي ةPoésie du roman

عقلانيةRationnalisme

حكمة الروايةSagesse du roman

عصر الأنوارSiècle des Lumières

أوروبا فوق-وطنيةSupranationale (Europe-)

الأزمنة الحديثةTemps modernes

كليانيةTotalitarisme

الفصل الثاني

التباسAmbiguité

نداء اللعبAppel du jeu

نداء الحلمAppel du rêve

نداء الفكرAppel du temps

نداء الزمنAppel du temps مساح أرضArpenteur مظاهر الوجودAspects de l’existence طليعةAvant-garde الهزليComique (le-) خطاب يقينيDiscours apodictique خطاب دوغمائيDiscours dogmatique أنوات متخيلة (الشخصيات)Ego imaginaires (personnages) أنا مفكرةEgo pensant روح الروايةEsprit du roman بحثEssai كينونة الإنسانEtre de l’homme استكشافExploration الإنسانية الأوروبيةHumanité européenne هوية روحيةIdentité sprituelle لا نهائي العالمInfini (l’-du monde) لا نهائي الروحInfini (l’ – de l’âme) تركيب ذهنيIntellectuelle (composition) عقلIntelligence لا عقليIrrationnel الله Juge suprême لحظة منفلتةMoment insaisissable عالم الحياةMonde de vie (die Le-benswel) نسيان الكينونةOubli de l’être مقال هجائيPamphlet مفارقةParodie شغف بالمعرفة Passion de connaître

اليومي Quotidien

الحياة اليومية Quotidieneté

حكمة اللايقين Sagesse de l’incertitude

عواطف، مشاعر Sentiments موضوعة وجودية Thème existentiel

فرادة Unicité

إرادة الإرادة Volonté de volonté

إرادة القوة Volonté de force

الاحتمال Vraisemblance