التأويل بين بورس ودريدا

Bengrad
2021-06-04T11:46:27+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 2020913 مشاهدة

أمبيرتو إيكو

ترجمة وتقديم : سعيد بنگراد

تـقــديم

يتناول أومبيرتو إيكو في هذا المقال بالتحليل تصورين مختلفين للتأويل. يتحدث في البداية عما يسميه بـ المتاهة الهرمسية (انظرالهامش 2) باعتبارها تشكل نموذجا غريبا في التلقي والتأويل. فهذه المتاهة تدرج التأويل ضمن كل المسيرات الممكنة وضمن كل السياقات التي يتيحها الكون الإنساني باعتباره يشكل كلا متصلا لا تحتويه الفواصل والحدود. فالتأويل من زاوية الهرمسية لا يروم الوصول إلى غاية بعينها، فغايته الوحيدة هي الإحالات ذاتها. فاللذة – كل اللذة- هي أن لا يتوقف النص عن الإحالات وألا ينتهي عند دلالة بعينها. فمادام النص توليفا لأسنن بالغة التنوع والتعدد، فلا وجود لأية ضفة قادرة على استيعاب مخلفات سلسلة التأويلات هاته. فالبحث عن عمق يشكل وحدة كلية تنتهي إليها كل الدلالات سيظل حلما جميلا من أجله ستستمر مغامرة التأويل.

إن هذه المتاهة الممتدة الجذور في التاريخ الفلسفي والتقليد الهرمنطيقي تجد ضالتها الآن فيما تقدمه التفكيكية من نماذج تأويلية وتصورات نظرية، ويكتفي إيكو في هذا المقال بالإحالة على جاك دريدا باعتباره أبرز من يمثل هذا التيار.

في مقابل المتاهة الهرمسية، يقدم إيكو نموذجا آخر للتأويل ممثلا في السميوزيس اللانهائية ( انظرالهامش 1) كما يتصور حدودها السميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس. إن التأويل وفق الصياغة البورسية يتشكل من سلسلة لا تنتهي من الإحالات. فكل علامة تحيل على علامة أخرى وفق مبدأ المتصل الذي يحكم الكون الإنساني. إلا أن ما يحدد اللامتناهي هو في ذات الوقت ما يقف حاجزا أمام التأويل ويدرجه ضمن المتناهي. فمادام الكون يقتضي، لكي يدرك، مفصلة يمثل من خلالها باعتباره كيانات خاصة ( لا وجود لكيانات مطلقة حسب تعبير بورس )، فإن هذه الحواجز والحدود تقلص من حجم السميوزيس وتفرض عليها غايات بعينها. ولسنا هنا أمام كبت وكبح لجماح قوة لا تعرف التوقف، بل نحن أمام فعل ينمو ويكشف عن نفسه داخل السياقات الخاصة (تفضيل مدلول على آخر). وبناء على ما سبق، فإن التأويل ليس فعلا مطلقا، بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، وهي فرضيات تسقط، انطلاقا من معطيات النص، مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية.

ومن خلال هذين التصورين يحاول إيكو تسريب مواقفه ونظراته في قضية من أعقد القضايا وأكثرها خصوبة. فالقول بأن التأويل هو نتاج سلسلة من الأسنن المتنوعة والمستقلة لا يعطي الذات المتلقية الحق في استعمال النصوص في جميع الاتجاهات تحقيقا لأغراض تخرج عن طبيعة التأويل ذاته. وتلك هي الخلاصة الرئيسة التي يخرج بها إيكو بعد سلسلة من المناقشات الغنية بالإحالات والآراء المتنوعة.

إن كثافة النص وسمكه تفرضان على القارئ العودة باستمرار إلى تصورات مختلفة لفهم مضمون المقال واستيعاب أبعاده التحليلية والنظرية. فهو مليء بالإحالات على مفاهيم وتصورات تحتاج إلى ضبط وتحديد لفهم السياق الخاص الذي توظف ضمنه هذه المفاهيم. ولهذا السبب، ذيلنا المقال بهوامش نشرح فيها مضمون مجموعة من المفاهيم الواردة في النص مع الإحالات على جذورها الفلسفية وعلى موقعها داخل نظريات بعينها. ونتمنى أن يجد القارئ العربي في هذا المقال أجوبة عن بعض الأسئلة الخاصة بالتلقي والتأويل. ويشكل المقال الذي قمنا بترجمته فصلا من كتاب :

, de la p 369 à 384. Umberto Eco : Les limites de l’interprétation , éd Grasset , Paris 1990

المترجم

الترجمة

لقد خلف لنا التاريخ تصورين مختلفين للتأويل. فتأويل نص ما، حسب التصور الأول، يعني الكشف عن الدلالة التي أرادها المؤلف، أو على الأقل الكشف عن طابعها الموضوعي، وهو ما يعني إجلاء جوهرها المستقل عن فعل التأويل. أما التصور الثاني فيرى، على العكس من ذلك، أن النصوص تحتمل كل تأويل.

إن هذا الموقف من النصوص يعكس موقفا مشابها من العالم الخارجي. فالتأويل هو تفاعل مع نص العالم، أو تفاعل مع عالم النص عبر إنتاج نصوص أخرى. فشرح الطريقة التي يشتغل من خلالها النظام الشمسي، استنادا إلى قوانين نيوتن، يعد شكلا من أشكال التأويل، تماما كما هو الإدلاء بسلسلة من المقترحات الخاصة بمدلول نص ما.

وبناء على هذا، لن نعود من جديد إلى مناقشة الفكرة القديمة القائلة بأن العالم نص قابل للتأويل ( والعكس صحيح ). بل علينا الحسم في قضية المدلولات : هل هناك مدلول ثابت، أم هناك مدلولات متعددة أم على العكس من ذلك لا وجود لأي مدلول على الإطلاق؟

يشكل التصوران السابقان مثالين على نوع من التعصب الإبستمولوجي. يشهد على ذلك، بالنسبة للتصور الأول، النماذج الأصولية والأشكال الواقعية الميتافيزيقية المتنوعة ( كتلك التي دافع عنها توماس الأكويني، أوالتي دافع عنها لينين في كتابه: ” المادية والمذهب التجريبي النقدي” ). وفي هذه الحالة فإن المعرفة تأتي للوجود باعتبارها تشكل تطابقا بين الفكر والأشياء. أما التصور الثاني فيظهر، في صيغته الأكثر تطرفا، من خلال ما أطلقت عليه في الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب ( les limites de l’interprétation) بالسميوزيس(1) الهرمسية.

المتاهة الهرمسية (2)

إن الخاصة الرئيسة للمتاهة الهرمسية هي قدرتها على الانتقال من مدلول إلى آخر، ومن تشابه إلى آخر ومن رابط إلى آخر دون ضابط أو رقيب. فعلى عكس نظريات المتاهة المعاصرة، فإن السميوزيس الهرمسية لا تنفي وجود مدلول كوني واحد ومتعالي، بل تؤكد أن أي شيء يمكن أن يحيل على أي شيء آخر، يكفي في ذلك أن يتم ضبط الرابط البلاغي بين هذين الشيئين. وهذه الإحالة ممكنة بفضل وجود ذات متعالية وقوية، وهي ما يرادف الواحد (3) في الأفلاطونية الجديدة. فهذا الواحد يتحـرك – باعتباره مبدأ للتناقض الكوني، وباعتباره بؤرة تنتهي عندها كل المتناقضات، يستعصي على أي تحديد، فهو كلا وعدما، ومنبعا أصليا لكل شيء- في اتجاه ربط كل شيء بأي شيء استنادا إلى وجود نسيج لا ضابط له من المرجعيات المتبادلة.

وبناء على ما سبق، فإن السميوزيس الهرمسية تبحث في كل نص، كما في النص الكبير للعالم، عن امتلاء المدلول لا عن غيابه. ومع ذلك، فإن هذا العالم الذي تغزوه الذاتيات ويحكمه مبدأ التدليل الكوني، ينتج انزلاقات دلالية ] لاتتوقف، ومن ثم فهو يحيل على أي مدلول. فما دام مدلول كلمة أو شيء ليس سوى كلمة أخرى أو شيء آخر، فإن أي شيءليس سوى إحالة مبهمة على شيء آخر. ولهذا السبب، فإن مدلول نص ماقضية لا أهمية لها، و المدلول النهائي سر يستعصي على الإدراك.

السميوزيس اللامتناهية والمتاهة الهرمسية

قد تحيل السميوزيس الهرمسية على السميوزيس اللامتناهية كما صاغها بورس. وهناك فقرات في كتابات بورس تؤكد إمكان الحديث عن متاهة تأويلية لامتناهية : > لا يمكن لمعنى التمثيل أن يكون سوى التمثيل ذاته. وبالفعل، فإن التمثيل لا يمثل سوى نفسه باعتباره يُدرك خارج أي سياق. ولا يجرد هذا السياق من معناه وإنما يتم استبداله بمعنى أكثر شفافية. لذلك، فالأمر يتعلق باندحار لا متناهي للعلامة < ( C P 1. 339)*

فهل بالإمكان الحديث عن سميوزيس لامتناهية انطلاقا من قدرة المتاهة الهرمسية على الانتقال من حد إلى حد ومن شيء إلى آخر؟ وهل يمكن أن نتحدث عن سميوزيس لامتناهية من خلال الأساليب التي يستعملها القراء المعاصرون الذين يتيهون في النص بحثا عن لعب سري بالكلمات أوعن الاشتقاقات المجهولة، والتداعيات اللاواعية، والصور الغامضة التي يسبر أغوارها قارئ فطن من خلال النسيج اللفظي الظاهري حتى في غياب أي إجماع بيذاتي حول قراءة من هذا النوع ؟

تقوم سميائيات بورس على مبدأ أساس : ” إن العلامة شيء تفيد معرفته معرفة شيء آخر “. إن هذه المعرفة المضافة ( بالمعنى البورسي للكلمة ) تدل على أن الانتقال من مؤول (4) إلى أخر يكسب العلامة تحديدات أكثر اتساعا سواء كان ذلك على مستوى التقرير أو على مستوى الإيحاء. إن التأويل، باعتبار موقعه داخل نسيج السميوزيس اللامتناهية، يقترب أكثر فأكثر من المؤول النهائي المنطقي(5). فالسيرورة التأويلية تنتهي، في مرحلة ما، إلى إنتاج معرفة خاصة بمضمون الماثول(6) أرقى من تلك التي شكلت نقطة انطلاق هذه السيرورة.

إن مصدر هذه المعرفة هو أننا نقوم بتأويل العلامة ” بهذه الصفة أوبتلك الطريقة ” ( c. P 2.228)*. فالعلامة تحتوي أو تشير إلى مجمل مكوناتها الأكثر إيغالا في القدم. إلا أن معرفة هذه المكونات هي مجرد احتمال سيموزيسي لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن سياق محدد أو من زاوية بعينها. فالسميوزيس لامتناهية في المطلق، إلا أن غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غير المحددة من الإمكانات. فمع السيرورة السميوزيسية ينصب اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون خطابي محدد : > فليس هناك في المنطق التطبيقي أكثر خطرا من الافتراض القائل بأن الأشياء التي تتشابه تشابها كبيرا في بعض الصفات ستكون حتما أكثر تشابها في أشياء أخرى < ( C P 2.634)*

وعلى العكس من ذلك، فبالإمكان تحديد المتاهة الهرمسية باعتبارها حالة توالد إيحائي. ولن نناقش هنا هل الإيحاء وليد الأثرالسياقي أو هو من طبيعة نسقية . فكيفما كان الحال، فإن الظاهرة الإيحائية في الحالتين معا يمكن ردها إلى الترسيمة التي اقترحها يالمسليف وعممها بارث.

تم
تم

ت م

ت م (7)

أما ما تقدمه الترسيمة الموالية، فإنه يرمي إلى تأكيد النمو الإيحائي من النوع السرطاني :

م ت

ت م

ت م

فداخل هذه الترسيمة يقوم تعبير بسيط، ( الانتقال من تعبير إلى تعبير )، في لحظة ما، بفتح سلسلة جديدة من الإيحاءات المزيفة التي ينتفي فيها أي رابط بين مضمون العلامة الأولى ومضمون العلامة الجديدة.

في هذه الحالة نكون أمام ظاهرة متاهة شبيهة بتلك التي تنتج عن وجود سلسلة من التشابهات بين الفصائل ( انظر Bambrough : Universals and family ressemblances , 1961). ولنأخذ كمثال على ذلك سلسلة الأشياء التالية : A,B,C,D,E، وهي أشياء قابلة للتحليل من خلال الخصائص : a,b,c,d,e,f,g,h. إن هذه الأشياء لا تشترك مع بعضها البعض إلا في بعض العناصر. وسيتضح أنه، حتى في الحالة التي نقتصر فيها على خصائص محدودة، فإننا سنعثر على قرابة بين شيئين لا رابط بينهما في الواقع، ومع ذلك فهما مرتبطان هنا بسلسلة متتالية من علاقات التشابه :

A B C D E

abcd bcde cdef defg efgh

فلا وجود لأية خاصة تجمع بين A و E عدا كونهما ينتميان إلى نفس التشابه العائلي. فعندما نصل، ضمن هذه السلسلة، إلى معرفةE ، يكون كل ما يتعلق بـ A قد اختفى. ففي هذه الحالة تنتشر الإيحاءات بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى تم نسيان مضمون العلامة السابقة أو تم محوها. فجوهر اللذة التي تخلقها المتاهة تكمن كلية في الانتقال من علامة إلى أخرى، ولا غاية لهذه الرحلة اللولبية بين العلامات والأشياء سوى اللذة ذاتها.

وعلى العكس من ذلك، إذا أردنا تمثيل السميوزيس اللامتناهية، فإننا سنحصل بالتقريب على الشكل التالي :

ت م

ت م

ت م

حيث يؤول الموضوع المباشر (8) من خلال علامة أخرى ( الماثول في ارتباطه مع الموضوع المباشر الذي يناسبه )، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وبهذه الطريقة ننتج ما يشبه نموا لمدلول كلي خاص بالتمثيل الأول، أي ننتج مجموعة من التحديدات. ومرد ذلك إلى أن كل مؤول جديد يشرح الموضوع السابق انطلاقا من معطيات جديدة، ليصل بنا الأمر في النهاية إلى تكوين معرفة عميقة تخص نقطة انطلاق السلسلة وتخص هوية السلسة في الآن نفسه.

إن العلامة هي حقا شيء تفيد معرفته معرفة شيء آخر، إلا > أن قدرتي على معرفة شيء إضافي لا يعني أنني لم أنته من إنجاز ما قمت به < ( Boler : Habits of thought ,p . 394).

السميوزيس والتفكيكية

إذا كانت السميوزيس مختلفة جذريا عن الهرمسية، فإنها، على العكس من ذلك، حاضرة في نوع آخر من المتاهة، والأمر يتعلق بما تدعو إليه التفكيكية؛ ويشهد على ذلك أن النص، في تصور دريدا، آلة تنتج سلسلة من الإحالات اللامتناهية. فهذا النص، باعتبار ماهيته المتعالية، يشكو أو ينتشي من غياب ذات الكتابة ومن غياب الشيء المحال عليه أوالمرجع.

إن القول بأن العلامة تشكو من غياب مؤلفها ومن مرجعها لا يعني بالضرورة أنها محرومة كلية من مدلول مباشر. إن غاية دريدا هي تأسيس ممارسة ( فلسفية أكثر منها نقدية ) تتحدى تلك النصوص التي تبدو وكأنها مرتبطة بمدلول محدد ونهائي وصريح. إنه لا يريد تحدي معنى النص فحسب، بل يطمح إلى تحدي ميتافيزيقا الحضور الوثيقة الصلة بمفهوم التأويل القائم على وجود مدلول نهائي. إن ما يسعى إلى البرهنة عليه هو السلطة التي تمتلكها اللغة المتجلية في قدرتها على أن تقول أكثر مما تدل عليه ألفاظها مباشرة.

فعندما يُفصل النص عن قصدية الذات التي أنتجته، فلن يكون من واجب القراء ولا في مقدورهم التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة. والخلاصة، وفق هذا التصور، أن اللغة تندرج ضمن لعبة متنوعة للدوال، كما أن النص لا يحتوي على أي مدلول متفرد ومطلق، ولا وجود لأي مدلول متعالي، ولا يرتبط الدال بشكل مباشر بمدلول يعمل النص على تأجيله وإرجائه باستمرار. فكل دال يرتبط بدال آخر بحيث أن لا شيء هناك سوى السلسلة الدالة المحكومة بمبدإ اللامتناهي.

لقد استعملت عبارة ” إلى ما لا نهاية ” ( infinitum) لأنها تذكرنا بعبارة مشابهة كان قد استعملها بورس لتحديد ماهية السميوزيس اللامتناهية. فهل يجوزالقول إن المتاهة اللانهائية التي تتحدث عنها التفكيكية هي شكل من أشكال السميوزيس اللامتناهية ؟ إن ما ورد عند رورتي قد يشجع على تبني فرضية من هذا النوع. ففي مناقشته للتفكيكية وأشكال أخرى تنتمي إلى التسمية الشهيرة ” النصانية” ( textualisme)، تعامل مع هذه الأشكال باعتبارها حالات تنتمي إلى التداولية.

إن الواقعية الحدسية، حسب رُورْتي، تؤمن بوجود حقيقة فلسفية، وهي مقتنعة أن وراء النصوص يختفي شيء آخر لا يمكن أن يكون مجرد نص آخر، بل هو ما يضع النصوص في علاقة تناسب فيما بينها. أما التداولي، وعلى النقيض من ذلك، فإنه لا يؤمن بكل هذا، فهو لا يؤمن حتى بوجود شيء ننطلق منه لبناء القواميس والثقافات، ونستند إليه أيضا في مراقبة هذه القواميس والثقافات. ومع ذلك، فقد كان يعتقد أننا ننتج، عندما نضع القواميس في مواجهة الثقافات، أنماطا جديدة تخص اللغة والفعل. إنها كذلك لا في علاقتها بنموذج أمثل، بل تبدو جديدة في علاقتها بالأنماط السابقة.(Rorty : Idealism and textualism, 1982 )

إن براغماتية رورتي لا تشبه براغماتية بورس. لقد كان رورتي يدرك أن بورس، رغم أنه هو واضع كلمة براغماتية، ظل مع ذلك ” أكبر كانطي من بين كل المفكرين “. ورغم أن رورتي كان حذرا في استبعاد بورس من البراغماتية، فإنه لم يتردد في تصنيف تفكيكية دريدا ضمن حدود البراغماتية. والغريب أن دريدا هو الذي سيشير إلى بورس في كتاباته.

دريدا يحاور بورس

لقد انصب اهتمام دريدا، في الفصل الثاني من كتاب De la grammatologie ( 1967 ص 42 وما بعدها) على البحث عن سلطة معرفية ] تضفي نوعا من الشرعية على محاولته لضبط حدود سميوزيس للعب اللامتناهي والاختلاف والنمو اللولبي للتأويل. ولقد كان بورس من بين الأسماء التي استشهد بها بعد سوسير وجاكبسون. فبعد أن ذكر ببعض مواقفه مثل ” symbola grow ” و ” omne symbolum de symbolo ” ، كتب قائلا :

لقد ذهب بورس بعيدا في الاتجاه الذي أطلقنا عليه تفكيكية المدلول. فهذا المدلول سيقوم، في لحظة ما، بوضع حد نهائي للإحالة من علامة إلى أخرى. إن الأمر يتعلق هنا بشيء مثل التمركز الذاتي وميتافيزيقا الحضور المجسدة في الرغبة القوية والنسقية التي لا يمكن كبح جماحها. والحال أن بورس كان يعتبر لامحدودية الإحالة معيارا يدلنا على وجود نسق من العلامات. فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. فالشي ءذاته علامة.وهذه قضية لا يمكن أن يقبل بها هوسرل الذي تعد فينومينولوجيته – من حيث إنها “مبدأ المبادئ” – النظرية الأكثر انتقادا لميتافيزيقا الحضور.

إن الاختلاف بين فينومينولوجيا هوسرل وتلك التي نادى بها بورس اختلاف جوهري لأنه يتعلق بمفاهيم كـ ” العلامة” و” تجلي الحضور” وكذا الروابط بين التمثيل La re-présentation وبين الحضور الأصلي la présentattion originaire للشيء ذاته ( الحقيقة ). ولقد كان بورس دون شك أقرب إلى لامبير Lambert واضع كلمة فينومينولوجيا. فلقد كان لامبير هذا يطمح إلى ” تحويل نظرية الأشياء إلى نظرية العلامات “. إن التجلي في ذاته لا يدل، حسب ” فانوروسكوبيا” أو ” فينومينولوجيا” بورس، على حضور ما، بل يقيم دعائم علامة. وهذا ما نعثر عليه في ” مبادئ الفينومينولوجيا” حيث إن التجلي والعلامة يدلان على شيء واحد. فلا وجود إذن لظاهرانية تقلص من حجم العلامة أو من الأداة التي تمثلها كي يتمكن الشيء من الانتشاء بحضوره الخاص. فهذا الشيء في حد ذاته هو دائما ماثول يستخرج من ظاهر البداهة الحدسية.

إن الماثول لا يمكن أن يشتغل إلا من خلال إثارته لمؤول يتحول بدوره إلى علامة وهكذا دواليك. لذا فإن المدلول لا يستطيع أبدا التماهي مع نفسه. إن الخاصة الرئيسة للماثول هي أن يكون ذاته وشيئا آخر في ذات الوقت، أي المثول كبنية للإحالة وكقدرة على الانفصال عن نفسه، وأن لا يكون له وجود في ذاته، أي قريبا في المطلق من نفسه. والحال أن الشيء الممثل هو دائما ماثول، فلا وجود إذا للعلامات إلا من خلال وجود المعنى : إننا نفكر بالعلامات ( Derrida 1967, 71 – 73 ).

إن نظرية بورس حول السميوزيس اللامتناهية تشجع، فيما يبدو، تصورات دريدا الأكثر تطرفا القائلة بأنه ” لا وجود لشيء اسمه خارج النص “.

ومن حقنا أن نتساءل، مع ما لهذا التساؤل من طابع استفزازي، هل هذا التأويل الذي يقدمه دريدا لبورس تأويل صحيح من الناحيتين الفيلولوجية والفلسفية؟ فإذا كان دريدا يعتقد أن تأويله لبورس تأويل جيد، فعليه أن يعترف بأن نصوص بورس تؤكد وجود مدلول مفضل بالإمكان عزله، والتعرف عليه باعتباره كذلك دونما التباس. وعلى العكس من ذلك، فإن دريدا سيكون هو أول من يعلن أن قراءته هاته تحيد بالنص عن أصله وعن النوايا المعلنة للمؤلف. ولكن إذا كنا لا نملك الحق، في رأيه، أن نطلب منه قراءة بورس بشكل صحيح، فإننا، في المقابل، نمتلك الحق، من جهة نظر بورس، في أن نتساءل هل كان هذا التأويل سيرضي بورس؟

إن بورس يدافع بالتأكيد عن فكرة السميوزيس اللامتناهية، فـ>العلامة شيء يحدد شيئا آخر (مؤوله) لكي يحيل على موضوع ما. ويقوم المؤول من جهته بالإحالة على الموضوع بنفس طريقة الإحالة الأولى. وهكذا سيصبح المؤول علامة إلى ما لانهاية. وإذا توقفت سلسلة المؤولات هاته عند حد بعينه، فلن تصل العلامة إلى حالتها المثلى <( C . P . 2. 303)*

ولم يكن بإمكان بورس أن يقول غير ذلك، فهو يعتقد ( كما أشار إلى ذلك في questions concerning certains facultis claimed for man C . P : 213 – 263) بأننا لا نملك أية قدرة على الاستبطان، وأن معرفتنا للعالم الداخلي معرفة ناتجة عن برهنة افتراضية، كما أننا لا نملك أية قدرة حدسية، فمعرفتنا محكومة بمعرفة سابقة. ونحن لا نستطيع التفكير دون علامات، كما لا نملك أي تصور عن المجهول المطلق غيرالقابل للمعرفة ]. ورغم كل هذا فلا مجال للقول بوجود تطابق في المفاهيم بين السميوزيس اللامتناهية والتفكيكية.

ولست متفقا مع سورل حين يقول بأن > لدريدا ميلا مرضيا لقول أشياء خاطئة بشكل بديهي < ( Searle: Reiterating the difference, 1977 ). فدريدا على العكس من ذلك يتميز بطريقة رائعة لقول أشياء ليست صحيحة بشكل بديهي، أو هي صحيحة بشكل غير بديهي. فعندما يقول بأن الإبلاغ لا يمكن أن يختصر في إيصال مدلول أحادي، وإن المدلول الحرفي مدلول من طبيعة إشكالية؛ وإن التصور العادي للسياق قد يكون غير ملائم؛ وكذلك عندما يؤكد – في إطار سياق نص ما- غياب الباث والمتلقي والمرجع؛ ويتجه نحو سبر أغوار كل ممكنات حالة من الحالات غير القابلة للتأويل؛ وكذلك عندما يذكرنا بإمكانية الإحالة على أية علامة، وأن بإمكان هذه العلامة أن تحدث قطيعة مع أي سياق كيفما كان نوعه للإعلان عن ميلاد سلسلة لا متناهية من السياقات الجديدة؛ إن دريدا، في هذه الحالة وفي حالات أخرى، يقول أشياء لا يمكن لأي سميولوجي أن يتجاهلها. ومع ذلك، فغالبا ما يؤكد دريدا حقائق ليست بديهية، تقوده إلى اعتبار حقائق كثيرة بديهية على أنها حقائق نهائية.

إن دريدا نفسه هو أول من يعترف بوجود معايير للتأكد من صحة تأويل نص ما. ففي كتاب De la grammatologie يذكر قراءه بأهمية أدوات النقد التقليدي التي لولاها لسار الإنتاج النقدي في كل الاتجاهات ولسمح لنفسه بقول أي شيء. إلا أنه يضيف أيضا أنه إذا كانت هذه الأدوات قد شكلت حاجزا ضد أي انحراف، فإن وظيفتها اقتصرت على الوقاية ولم تشكل انفتاحا على قراءة جديدة.

فلنمنح أنفسنا لحظة لكي نحمي قراءة بورس عوض أن نبالغ في انفتاحها.

بورس وحيدا

إن التأويل اللامتناهي أمر ممكن عند بورس. فالواقع يمثل أمامنا باعتباره متصلا (9) (continuum ) حيث لا وجود لكيانات مطلقة. وفي هذا الصدد يتحدث عن الامتداد : إن المتصل الحقيقي هو الشيء الذي لا يمكن لمجموعة كبيرة من الأفراد استنفاد كل ممكناته التحديدية <( C P 6.170)*

إن الواقع كيان “متصل” وغارق في اللاتحديد، ولهذا السبب يمثل مبدأ الامتداد ( continuité) ما يسميه بورس ب ” الهشاشة ذات البعد الموضوعي”. فإذا كانت إمكانية الخطإ واردة باستمرار، فإن السميوزيس غير محدودة. إن الطابع اللامحدد لمعرفتنا يفترض وجود نوع من الغموض : > فالموضوع يتحدد من خلال خصائص محايثة له ( كونية وثابتة )، وفيما عدا ذلك فإن هذا الموضوع يوجد خارج أي تحديد < ( C P 5.447)*

وفي هذا الاتجاه يتحدث بورس عن مبدإ السياقية : قد يكون شيء ما صحيحا داخل حدود كون خطابي ما ومن خلال خصائص بعينها. إلا أن هذا الإثبات لا يستنفد مجموع التحديدات الأخرى غير المتناهية لهذا الموضوع. إن كل حكم هو حكم جزئي. وهناك، داخل هذا الكون الذي ” تغزوه العلامات”، ما يبرر( وهذا أمر غريب ) كون ” العلامة تعهد إلى مؤولها مهمة منحها جزءا من مدلولها”.

ومع ذلك هناك أفكار أخرى تدمرالقراءة التي يقدمها دريدا. فإذا كانت السميوزيس اللامتناهية تُعد، عند رورتي، مظهرا من مظاهر النصانية، أي مظهرا من مظاهر المثالية، فإن الأمر عندنا مختلف، فنحن لا يمكن أن نتجاهل العناصر الواقعية في مثالية بورس.

فرغم وجود “الهشاشة” و”الامتداد ” و”الالتباس”، فقد صيغت فكرة المدلول عند بورس بشكل يقود إلى الإحالة على غاية ما ( C P 5 . 166). إن وجود فكرة “الغاية” هاته أمر طبيعي عند مفكر غائي، إلا أنها، على العكس من ذلك، أمر مزعج عند مفكر تداولي ( بالمعنى الذي يعطيه رورتي لهذه الكلمة ). وقد لا تكون لفكرة الغاية هاته أية صلة بفكرة الذات المتعالية، إلا أنها مع ذلك تحيل على الفكرة القائلة بأننا نؤول وفق غاية خارج – سميوزيسية. فعندما اقترح بورس تعريفا لـ اللتيوم ( Lithium ) على شكل معلومات تقود إلى التعرف على اللتيوم وإلى إنتاجه، لاحظ : > أن ما يميز هذا التعريف هو أنه يوضح دلالة كلمة اللتيوم من خلال الإشارة إلى ما يجب عمله للحصول على معرفة خاصة بهذا الموضوع < ( C P 2 .330 ) .

إن كل فعل سيميوزيسي يتحدد من خلال موضوع ديناميكي (10) (وهو بهذه الصفة يوجد خارج السميوزيس ) يمكن تحديده > باعتباره الواقع الذي يقوم، بوسائل ما، بتحديد العلامة عبر ماثولها< ( C P 2. 536). وفي هذا السياق يمكن الحديث عن موضوع ديناميكي، حتى عندما يتعلق الأمر بالنصوص. ذلك أن هذا الموضوع يمكن أن يكون عنصرا داخل ما يؤثث الكون المحسوس، ويمكن أن يكون أيضا فكرا وانفعالا وإيماءة، كما يمكن أن يكون شعورا ومعتقدا. فمن الجائز أن نؤكد في البداية أن “الموضوع” في عملية تأويلية لجملة من نوع : “سلاح” ( présentez armes ) هو ” الكون الذي يرغب فيه النقيب في هذه اللحظة .” أي ما يعود إلى قصدية المتلفظ. إلا أنني أتفق مع دريدا عندما يقول > بأن للعلامة الحق في أن تحدد قراءتها حتى ولو ضاعت اللحظة التي أنتجتها إلى الأبد، أو جهلت ما يود كاتبها قوله. فالعلامة تسلم أمرها لمتاهتها الأصلية<( Derrida : Signature, événement , contexte , in Marges de la philosophie, 1972, p 377). فبمجرد ما يتجسد الماثول – في صيغته المركبة كما هو الشأن مع النص – فإنه يكتسب استقلالية سيموزيسية، حينها قد تصبح قصدية المتلفظ غير ذات أهمية، قياسا لموضوع النص الذي نقوم بتأويله وفق القوانين السميوزيسية الثقافية القائمة.

ومع ذلك، فإن بورس يشجع على اتخاذ موقف أكثر جذرية : فما دام الموضوع النصي ملقى للتأويل، فإن النص نفسه يصبح موضوعا ديناميكيا منه سنستخرج، في عملية التأويل اللاحقة، الموضوع المباشر المناسب. فعندما نقوم بتأويل نص ما، فإن حديثنا ينصب على شيء سابق في الوجود على تأويلنا، وعلى المرسل إليه عقد نوع من الاتفاق حول العلاقة القائمة بين تأويلنا وبين الموضوع المحدد لهذا التأويل.

صحيح أننا لا نستطيع التحدث بشكل ” موضوعي ” عن نص ما من زاوية كونه موضوعا ديناميكيا. فنحن لا نعرفه إلا من خلال كونه موضوعا مباشرا. فعندما تتم عملية التأويل يغيب الموضوع الديناميكي ( وقبل إنجاز هذا التأويل لم يكن النص سوى سلسلة من الماثولات).

ولكن حضور الماثول وكذا حضور الموضوع المباشر ( في الذهن أو في مكان آخر ) معناه أن الموضوع الديناميكي غائب، لقد كان موجودا في مكان ما. وأن يكون غائبا أو في مكان ما، فإن موضوع التأويل موجود بشكل سابق.

وبالإضافة إلى ذلك، يشترط في الموضوع الديناميكي (” الذي كان موجودا” والغائب حاليا عن الموضوع المباشر) لكي تحتضنه السلسلة اللامتناهية للمؤولات الخاصة به، أن يتجسد في شكل من الأشكال. وأنا هنا لا أردد إلا ما قاله بورس : > فالسلسلة اللامتناهية من التمثيلات تحتوي على شيء مطلق الوجود هو ما يشكل نهاية السلسلة. وإلى هذا الحد قد لا يعترض دريدا ]. فكل تمثيل يحتوي على تمثيل سابق عليه < ( C P 1 .339 )

إننا أمام ميلاد شيء جديد لا موقع له في التفكيكية : خارج المؤول المباشر، الانفعالي أو الطاقوي والمنطقي، وكلها مؤولات توجد داخل السميوزيس، هناك المؤول المنطقي النهائي، أي العادة.

إن تشكل العادة، باعتبارها إطارا للفعل، يؤدي، ولو مؤقتا، إلى توقف السميوزيس اللانهائية للتأويل : العادة > التي قد تكون علامة بصفة من الصفات. ولكنها لن تكون كذلك ضمن سياق يستند إلى وجود مؤول منطقي < ( C P 5 .491 ) *.

إذا كان مدلول أية جملة، حسب التصور التداولي، ليس شيئا آخر سوى الإمكانات العملية التي يستدعيها تحققه، وإذا كانت الجملة صحيحة، فإن السيرورة التأويلية يجب أن تتوقف- مؤقتا على الأقل- خارح إطار حركية السميوزيس. إن الآثارالعملية لا يمكن، بالتأكيد، التعرف عليها إلا في العلامات ومن خلالها. وصحيح أيضا أن التوافق بين أفراد المجموعة البشرية الواحدة لا يمكن أن يتخذ إلا شكل سلسلة جديدة من العلامات. ومع ذلك، فإن هذا التوافق ينصب على شيء يُعد – وإن كان جزءا من السميوزيس- أساسا للسيرورة السميوزيسية.

ومن منظور النص، فإن معرفة ما يود النص قوله معناه الانتصار لموقف يكون منسجما بالنظر إلى القراءات المتتالية التي سيتم إنجازها. إن قرارا من هذا النوع يعتبر ” عادة مشروطة ” .( C P . 5 .517).*

إن النظر إلى العادة باعتبارها قانونا معناه النظر إليها بصفتها ما يشبه المحفل المتعالي، أي باعتبارها مجموعة بشرية تعد ضمانة بيذاتية على مقولة الحقيقة، حقيقة غير حدسية، وليست واقعية بشكل ساذج ولكنها عرضية. وبدون هذا لن نفهم لماذا يتحول المؤول، انطلاقا من سلسلة من التأويلات، إلى > تمثيل آخر يصاحبه مشعل الحقيقة < ( C P . 1.339)*

هناك مبدأ معرفي ننظر بموجبه إلى الواقع باعتباره ” واقعا مبنيا “. ومصدر هذا المبدإ هو وجود مجموعة بشرية ما ( C P . 5.356 ) . إن فكرة المجموعة البشرية تشتغل باعتبارها مبدأ متعاليا يتجاوز القصديات الفردية للمؤول الفرد. وهذا المبدأ ليس متعاليا بالمفهوم الكانطي ( Kant) للكلمة، لأنه لا يوجد قبل السيرورة السميوزية بل يأتي بعدها. فالتأويل ليس وليد بنية الذهن البشري ولكنه وليد الواقع الذي تشيده السميوزيس.

وفي جميع الحالات، فإن المجموعة البشرية عندما تتفق على تأويل ما، فإنها تنتج مدلولا، إن لم يكن موضوعيا فهو بيذاتي، وسيتم، على أية حال، تفضيله على أي تأويل آخر لم يتم الحصول عليه نتيجة إجماع المجموعة البشرية عليه. إن ناتج سيرورة البحث الكوني يسير في اتجاه تأكيد نواة فكرية مشتركة ( C P. 5. 407 ). ” فأن يتفق الناس على نتيجة مشتركة، فهذا يعد واقعة غفلا ” ( Smith 1983 . 39 ) . إن الفكر أو الرأي الذي يحدد الواقع يجب أن يرد إلى مجموعة من الخبراء. وعلى هذه المجموعة أن تكون مبنية ومنظمة انطلاقا من مبادئ تتجاوز الأفراد.

وما يبرر وجود المجموعة البشرية هو عدم وجود حدس بالمفهوم الديكارتي للكلمة. فالمدلول المتعالي ليس معطى بشكل قبلي ولا يمكن الإمساك به إلا من خلال حدس تصويري. ولقد كان دريدا على حق عندما أكد أن فينومينولوجيا بورس – على عكس فينوميونولوجيا هوسرل- لا تتحدث عن حضور. فحتى في الحالة التي لا تقوم فيها العلامة بالكشف عن الشيء، فإن السيرورة اللاحقة للسيميوزيس ستنتج مقولة مشتركة بين الجميع وتعترف المجموعة البشرية بصحتها. إن المدلول المتعالي لا يوجد في أساس السيرورة السميوزيسية، بل علينا أن نسلم به باعتباره هدفا ممكنا ومؤقتا لكل سيرورة.

خلاصات

لا يعني كل ما سبق أن النص عند بورس يجب أن يخضع لقراءة مفضلة واحدة. إن المبدأ البورسي للهشاشة يعد هو الآخر، من الزاوية النصية، مبدأ لتعددية التأويل. وبالإضافة إلي ذلك، فإن ” القانون الذهني” الذي يشبه القوى ” غير المحافظة” للفيزياء مثل ” اللزوجة وأشياء أخرى ” لا يقتضي أي تطابق تدقيق.( C P 6 . 23 ) .

ومع ذلك، على أية مجموعة من مؤولي نص ما ( لكي تكون فعلا المجموعة المؤولة لهذا النص ) أن تتفق ( بشكل مؤقت وعرضي إن اقتضى الحال ذلك ) على نوعية الموضوع السميوزيسي الملقى للتأويل. ولهذا فإن على هذه المجموعة، من أجل استعمال نص لاختبار السميوزيس اللامتناهية في جميع السياقات، أن توقف، ولو مؤقتا، هذه المتاهة غيرالمحدودة. ولن يتاح لها ذلك إلا من خلال حكم توافقي ( ولو كان هذا الحكم عرضيا). وفي الواقع، فإن الرموز تتكاثر ولكنها لا تبقى أبدا فارغة.

إذا كنت قد توقفت طويلا عند الاختلافات الموجودة بين مواقف بورس وبين الأشكال المتنوعة للمتاهة، فلأنني لاحظت، في الكثير من الدراسات الحديثة، وجود ميل عام نحو تحويل السميوزيس اللامتناهية إلى قراءة حرة يقوم وفقها المؤولون بنخل النصوص للوصول بها إلى الشكل الذي يرضي نواياهم.

أما أنا فغايتي من مخض نصوص بورس ( بشكل ينم على الاحترام ) فهي تبيان أن الأمور ليست بالبساطة التي نتصورها بها. فمن الصعب معرفة ما إذا كان تأويل ما تأويلا صحيحا، وفي المقابل من السهل جدا التعرف على التأويل الرديء. ولذلك لم تكن غايتي هي إعطاء تعريف للسميوزيس اللامتناهية، بل حاولت تحديد الشكل الذي لا يمكن أن تكونه.

* كل هذه النصوص وردت بالأنجليزية في النص الفرنسي، وقد قام ذ. عبد الله مالكي، أستاذ الادب الأنجليزي بكلية الآداب مكناس، بنقلها إلى العربية، فله منا جزيل الشكر والامتنان .

أ- ( ورد بالأنجليزية في النص ) > بما أن الموضوع يمكن أن يحدد كليا من خلال ضم أو إبعاد كل صفاته، فإن صياغة أية قضية حول الكون لا بد وأن تكون غامضة. ( Almeder 1983 : 331) ولهذا فإن الغموض يمثل نوعا من العلاقة بين التحديد النهائي والمطلق ( وهو تحديد لا يحدث إلا في ظرف مثالي )، وبين التحديد الفعلي للمعنى ( إدراك، معنى، دلالة ) من خلال فعل سميوزيس ملموس . < Nadine 1983 , 163

ب- ( ورد بالأنجليزية في النص ) > تتميز المحاولات الراهنة لإقامة نظرية للواقع بالغوص في أعماق الواقع وتخليصه من الجدل غيرالمجدي بين المثالية والواقعية. وهو جدل يجب معالجته على مستوى آخر. ولقد قام بورس بالخطوة الأولى والحاسمة في هذا الاتجاه، وتُفسر هذه الظاهرة المضللة السبب الذي جعل بورس في كتاباته ينعت موقفه هذا أحيانا بالمثالي وأحيانا بالواقعي دون أن يغير ذلك من الأمر شيئا < Oehler 1979 , 70

———————————————–

هوامش المترجم

1- السميوزيس ( sémiosis): لقد كان شارل سندرس بورس (C. S. Peirce) أول من أدخل مفهوم السميوزيس إلى ميدان السميائيات. بل لقد كان أول من أرسى دعائم نظام للتدليل وإنتاج الدلالات يمر عبر ميكانيزم خاص أطلق عليه اسم السميوزيس. والسميوزيس في نظره “سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة” وتستدعي، من أجل بناء نظامها الداخلي، ثلاثة عناصر هي ما يكون العلامة ويضمن استمرارها في الوجود : ما يقوم بالتمثيل (ماثول) وما يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وما يشتغل كمفهمة تقود إلى الامتلاك الفكري ” للتجربة الصافية ” ( مؤول). إن تمثل كل التجارب الإنسانية بكل أحجامها وامتداداتها وأشكالها يمر عبر هذه السيرورة . وانطلاقا من هذا المفهوم سيتم التعامل مع التجربة التأويلية باعتبار لانهائيتها في المطلق الكوني، وباعتبار محدوديتها ضمن السياق الخطابي الخاص.

2- الهرمسية ( Hermetisme) : نسبة إلى هرمس Hermes وهو إله إغريقي متعدد الوظائف والمجالات والاختصاصات و يرمز إلى المعرفة الكلية والتأويل الشامل، ورسول الحكمة إلى الناس، إنه أيضا رمز”الكلمة التي تنفذ إلى أعمق أعماق الوعي” . وبالإضافة إلى ذلك فهو إله الفصاحة ورمز للتعدد التأويلي والمعرفة الآتية من كل أصقاع الكون. ( انظر في هذا الباب : J Chevalier – A Gheerbrant : Dictionnaire des symboles

ومن هذه الزاوية، فإن نسبة السميوزيس والتأويل عامة إلى هرمس، وكذا نحت الصفة ” هرمسية” يعود إلى هذه القدرة في تخطي كل الحدود والإتيان بكل التأويلات حتى ولو تطلب الأمر تدمير مبدأ من مباءئ العقلانية الإغريقية : مبدأ الثالث المرفوع كما يعتقد ذلك إيكو. وقد خصص م . ع . الجابري لهذه الظاهرة الفلسفية فصلا كاملا في كتابه ” تكوين العقل العربي” حيث أطلق عليه ” العقل المستقيل في الموروث القديم ” ، وفيه يعرض بإسهاب لظاهرتين متقاربتين هما الهرمسية والغنوصية . انظر ص 162 إلى 183

3- الواحد ( UN) : > يرد أفلوطين ( Plotin ) الواحد إلى مبدأ الخير، ويضعه فوق الكينونة والعقل ذاته. ولا يعني هذا أن الواحد ليس موجودا وغير قادر على التفكير، بل إنه يتجاوز كل وجود وكل تفكير محدد فهو مبدأ التفكير<. فإذا كان الكائن والفكر متعددان، وإذا كان التعدد يفترض الوحدة، وجب وضع مبدأ يوجد خارج أي تعددية قبل الكينونة والفكر. A. Lalande : Vocabulaire technique et critique de la philosophie

إن الأمر يتعلق، في الحالة التي نناقش، بمفهوم وكنه الدلالة. فإذا كان النص في جوهره الأسمى ممارسة دالة، فإن كل الدلالات المنبعثة منه هي دلالات جزئية. وهي كذلك لأنها ليست سوى تحيين ناقص كما هو الشأن مع كل تحيين. أما الدلالة في معناها المحايث فتظل خارج دائرة التحقق من خلال النص الواحد والمسيرالتأويلي الواحد. فنحن لا نؤول للوصول إلى دلالة نهائية، بل نحاول فقط الاقتراب من جوهر يستعصي على الضبط والتحديد.

4- المؤول ( interprétant) : المؤول هو الحد الثالث داخل البناء الثلاثي للعلامة في تصور شارل سندرس بورس. فالعلامة هي ماثول ( Representamen) يحيل على موضوع ( objet) عبر مؤول ( interprétant). ويشكل المؤول أداة التوسط الإلزامي الذي يقود معطيات التجربة الصافية إلى التزىي بزي القانون والضرورة والفكر. إن غياب العنصر الثالث داخل سيرورة إنتاج العلامة معناه الاقتصار على تجربة غفل لا تعرف الفكر ولا تعرف الماضي ولا المستقبل. إنها مثيرات لحظية تنتهي بانتهاء اللحظة التي أنتجتها.

5- المؤول النهائي المنطقي : يقسم بورس الماثول إلى ثلاثة أنواع : هناك في المقام الأول المؤول المباشر الذي يكتفي بتقديم المعلومات الأولية الخاصة بموضوع ما (معنى الواقعة أو العلامة )، وهناك المؤول الديناميكي الذي يخرج بالعلامة من دائرة التعيين البسيط إلى التأويل بمفهومه الشامل. فهذا المؤول لا يكتفي بما تقدمه العلامة في مظهرها المباشر بل يمتح عناصرتأويله من المحيط المباشر وغيرالمباشر للعلامة. ويرى بورس أن هذه القوة الهائلة التي يطلق عنانها هذا المؤول يجب أن تتوقف في لحظة ما لكي تستقر الذات المؤولة على دلالة ما، إن هذه الوظيفة التحجيمية يتكفل بها مؤول ثالث يطلق عليه المؤول المنطقي النهائي.

6- الماثول ( representamen) : الماثول عنصر من عناصرالعلامة، إنه أول هذه العناصر وسندها في التمثيل والتعريف بالشيء الممثل. وهو ما يعادل الدال في تصور سوسير. ويعرفه بورس بأنه الأداة التي نستعملها للتمثيل لشيء آخر، أو هو شيء يحل محل شيء آخر. ويستعمل بورس كلمة ” شيء” لأنه لا يمنح اللسان أي امتياز في بناء تصوره للعلامة، فالتجربة الإنسانية بكامل مكوناتها يمكن أن تشتغل كسند للتمثيل.

7- اقترح يالمسليف ترسيمة تصنيفية لمجمل الأنساق السميولوجية : التقرير ( dénotation)، الإيحاء ( connotation)، اللغة الواصفة ( metalangage). وتشتغل هذه الترسيمة من خلال العلاقات التالية :

– التقرير : تعبير ( علاقة ) مضمون ويرمز لها بـ : ت ع م

– الإيحاء : تعبير ( علاقة ) مضمون ] علاقة – مضمون. ويرمز لها بـ : (ت ع م) ع م

– اللغة الواصفة : تعبير – علاقة تعبير -علاقة – مضمون]. ويرمز لها بـ : ت ع ( ت ع م )

إن التقرير يتكون من التعبير في علاقته بمضمون، أما الإيحاء فيتكون من مجمل العناصر المكونة للتقرير زائد مضمون جديد. وللحصول على اللغة الواصفة يجب تحويل كل العلامة التقريرية إلى مجرد مضمون في علاقته بتعبير .

8- الموضوع المباشر ( objet immediat): يميز بورس بين موضوعين، أحدهما مباشر والثاني ديناميكي. الأول معطى مع العلامة ذاتها بشكل مباشر، أما الثاني فيحتاج للوصول إليه إلى النبش في ذاكرة العلامة. مثال ذلك إذا أخذت كلمة “مطر” ، فإنني سأكون أمام معرفتين، الأولى هي ما تقوله الكلمة مباشرة من خلال مدلولها ( مؤولها) المباشر : “ماء ينزل من السماء على شكل زخات وهو نتيجة لعوامل طبيعية متعددة “. يطلق بورس على هذه المعرفة “الموضوع المباشر”. لكن المتكلم يعرف عن المطر أشياء كثيرة، ويتعلق الأمر بمجمل رموزه المباشرة وغير المباشرة كالخير والخصوبة والتطهير الخ، وهذه المعرفة غيرالمباشرة هي ما يُطلق عليه الموضوع الديناميكي.

9- المتصل ( continu) : يشير لالاند في قاموسه إلى > أن المتصل في معناه العامي يحيل على كيان لا يعرف التوقف عند حد بعينه كما لا يعرف النواقص. أما من الناحية الفلسفية، فإن المتصل هو كيان لا يتكون من عناصر مميزة، أي أنه لا يحضر في الذهن من خلال عناصره < A. Lalande :Vocabulaire technique et critique de la phikosophie

وفي حالتنا فإن الأمر يتعلق بتصور يفترض وجود حالة سابقة عن أي تمفصل، حيث تمثُل الكتلة الفكرية من خلال كل عديم الشكل. وهذا الكل يخضع، لكي يصبح قادرا على التدليل، إلى مفصلة تخبر عن وحداته المكونة له. ولهذا السبب، فإن ما نعرفه عن الدلالة هو شكل وليس مادة.

10- الموضوع الديناميكي( objet dynamique) : انظر الهامش (8)