بول ريكور
ترجمة عبد الحي أزرقان
لنسم النص كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة. ويكون التثبيت بواسطة، حسب هذا التعريف، مكونا للنص ذاته. ولكن ما الذي تم تثبيته هكذا بواسطة الكتابة؟ لقد قلنا : كل خطاب . فهل يفيد هذا ضرورة أن الخطاب كان من اللازم أن يتم التلفظ به في البداية ماديا أو ذهنيا؟ وأن كل كتابة كانت في البداية، بصفة كمونيةعلى الأقل، كلاما ؟ وباختصار ماذا عن علاقة النص بالكلام؟.
إننا نميل في البداية إلى القول بكون كل كتابة تنضاف إلى كلام سابق عليها. وبالفعل، إذا كنا نقصد بالكلام مع فردناند دو سوسير تحقق اللغة في حدث مرتبط بالخطاب، وإنتاج خطاب خاص من طرف متكلم خاص، فإن كل نص يكون، بالنسبة للغة، في وضعية التحقق ذاتها التي يوجد فيها الكلام. هذا بالإضافة إلى أن الكتابة، من حيث هي مؤسسة، تعتبر لاحقة للكلام فهي موجهة لأن تثبت، عبر رسم خطي مستقيم. مسار كل تمفصلاته التي سبق لها أن ظهرت في الشفاهية. إن الاهتمام الذي تكاد تنفرد به الكتابات الصوتية يبدو مؤكدا لكون الكتابة لا تضيف أي شيء لظاهرة الكلام غيرالتثبيت الذي يسمح بالحفاظ عليها. ومن هنا يأتي الاقتناع بأن الكتابة كلام مثبت، وأن صك الحروف، سواء أكان رسما خطيا أم تسجيلا، هو صك للكلام. صك يضمن للكلام ديمومته بواسطة الحرف الدائم الناتج عن النقش .
ليست الأسبقية السيكلوجية والسوسيولوجية للكلام عن الكتابة موضع تساؤل. ويمكننا أن نتساءل فقط عما إذا لم يحدث الظهور المتأخر للكتابة تغييرا جذريا في علاقتنا مع ملفوظات خطابنا ذاتها. لنعد فعلا إلى تعريفنا : النص خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة . إن ما تم تثبيته بواسطة الكتابة هو إذن خطاب كان من الممكن أن نقوله بكل تأكيد، ولكننا نكتبه بالضبط لأننا لا نقوله. إن التثبيت ينضاف بواسطة الكتابة ليحل محل الكلام ذاته، أي المحل الذي كان من الممكن أن ينشأ فيه الكلام. يمكن أن نتساءل في مثل هذه الحالة عما إذا كان النص ليس حقيقة نصا حينما لا ينحصر في تدوين كلام سابق، وإنما حينما يصك مباشرة بواسطة الحرف ما يريد الخطاب قوله.
إن ما يمكن أن يعطي وزنا لهذه الفكرة، فكرة العلاقة المباشرة بين إرادة القول للملفوظ والكتابة، هو وظيفة القراءة بالنسبة للكتابة. فالكتابة تستدعي فعلا القراءة حسب علاقة ستسمح لنا، بعد قليل، بإدراج مفهوم التأويل. لنكتف الآن بالقول إن القارئ يأخذ مكان المتكلم كما تأخذ الكتابة بشكل تناظري مكان العبارة والمتكلم. وبالفعل فالعلاقة الكتابة/القراءة ليست حالة خاصة للعلاقة الكلام/الجواب. إنها ليست علاقة تحاور، إنها ليست حالة حوار. فلا يكفي القول إن القراءة حوار مع المؤلف عبر مؤلفه؛ ينبغي القول إن علاقة القارئ بالكتاب من طبيعة مغايرة تماما؛ فالحوار عبارة عن تبادل الأسئلة والأجوبة، ولا وجود لتبادل من هذا النوع بين الكاتب والقارئ. فالكاتب لا يجيب القارئ. يقسم الكتاب بالأحرى فعل الكتابة وفعل القراءة اللذين لا يتواصلان إلى شقين : فالقارئ غائب لحظة الكتابة، والكاتب غائب لحظة القراءة. وهكذا ينتج النص إخفاء مزدوجا للقارئ والكاتب، وبهذه الطريقة يحل محل علاقة الحوار الذي يربط بشكل مباشر صوت الواحد بسمع الآخر.
إن هذا الإحلال للقراءة في المكان ذاته الذي لم يحصل فيه الحوار واضح جدا إلى درجة أنه حينما يحدث لنا أن نلتقي بالكاتب ونتكلم معه ( بصدد كتابه مثلا)، فإننا نشعر باضطراب عميق خاص بهذه العلاقة المميزة التي تجمعنا بالكاتب في إطار مؤلفه وعبره. ويسرني أن أقول أحيانا إن قراءة كتاب ما هي اعتبار مؤلفه كما لو كان قد مات، واعتبار الكاتب كما لو نشر بعد موت المؤلف. فعلا، فحينما يكون المؤلف قد مات آنذاك تصبح العلاقة مع الكتابة تامة، وبمعنى ما خالصة. فالمؤلف لن يتمكن من الجواب، وكل ما يبقى ممكنا هو قراءة مؤلفه.
يؤكد هذا الفرق بين فعل القراءة وفعل الحوار فرضيتنا القائلة إن الكتابة عبارة عن إنجاز يمكن مقارنته بالكلام، وأنه مواز للكلام. إنه إنجاز يحل محله ويوقفه بمعنى من المعاني. ولهذا سمحنا لأنفسنا بقول ما يلي : إن ما يصل إلى مستوى الكتابة هو الخطاب من حيث كونه فعل القول، وإن الكتابة هي صك مباشر لهذا القصد، حتى وإن كانت الكتابة من الناحية التاريخية والسيكلوجية قد بدأت بالتدوين الرسمي لعلامات الكلام. إن هذا التحرر للكتابة الذي يضعها محل الكلام هو شهادة ميلاد للنص.
والآن ماذا يحدث للتلفظ ذاته حينما يتم صكه مباشرة بدل أن يكون ملفوظا؟ لقد تم التأكيد دائما على الخاصية الأكثر إثارة للانتباه : يحافظ المكتوب على الخطاب ويجعل منه أرشيفا جاهزا في متناول الذاكرة الفردية والجماعية. يضاف أيضا أن الطابع الخطي للرموز يسمح بترجمة تحليلية ومميزة لكل السمات المتتابعة والمضمرة للغة، ويرفع بهذا من فعاليتها. فهل أحطنا بالمسألة من جميع الجوانب؟ إن المحافظة والفعالية المتزايدتين لا تميزان إلى حد الآن سوى صك اللغة الشفوية في شكل علامات خطية. إن تحرر النص من الشفوية يتبعه اضطراب فعلي في علاقات اللغة بالعالم. وكذلك في علاقة اللغة بمختلف الذاتيات المعنية، أي ذاتية الكاتب وذاتية القارئ. لقد شاهدنا شيئا ما من هذا الاضطراب الثاني عند تمييزنا للقراءة عن الحوا ، وما زلنا في حاجة إلى الذهاب بعيدا، ولكن مع الانطلاق هذه المرة من الاضطراب الذي يمس العلاقة المرجعية للغة بالعالم حينما يحل النص محل الكلام.
ماذا نقصد بالعلاقة المرجعية أو بالوظيفة المرجعية ؟ إننا نقصد بها ما يلي : تقول الذات المتكلمة، بتوجهها نحو متكلم آخر، شيئا ما عن شيء ما. ويعتبر هذا الشيء الذي تتكلم عنه الذات مرجعة الخطاب. وتكون هذه الوظيفة المرجعية، كما هو معلوم، محمولة من طرف الجملة التي تشكل أبسط وحدة للخطاب. إن الجملة هي التي يكون هدفها قول شيء ما حقيقي أو شيء ما واقعي، على الأقل في الخطاب التقريري. إن هذه الوظيفة المرجعية مهمة جدا إلى درجة أنه تعوض إلى حد ما خاصية للغة وهي فصل العلامات عن الأشياء. إن اللغة ” تقلب إلى كون (حسب تعبير گوستاف غيوم)، بواسطة الوظيفة المرجعية، هذه العلامات التي جعلتها الوظيفة الرمزية عند نشأتها غائبة عن الأشياء. فالخطاب على هذا النحو مرتبط دائما بالعالم. ذلك لأننا لو كنا لا نتكلم عن العالم، فعما سنتكلم؟
ولكن حينما يحل النص محل الكلام، فإن شيئا ما مهما يحدث. فالمتكلمان يكونان لحظة تبادل الكلام حاضرين وجها لوجه، ويكون أيضا حاضرا الوضع والجو والوسط الظرفي للخطاب. ووجود هذه العلاقة هو الذي يجعل الخطاب يكون دالا بشكل كبير. إن الإحالة على الواقع هي إحالة في نهاية المطاف على هذا الواقع الذي يمكن إظهاره “حول” المتكلمين. وإن صح التعبير “حول ” محفل الخطاب ذاته. إن اللغة على أي مسلحة بما فيه الكفاية لضمان هذا الرسوخ. فأسماءالإشارة، وظرورف الزمان والمكان والضمائر وأزمنةالفعل، وعلى العموم كل الضمائر “الإشارية ” أو “التوضيحية” تصلح لترسيخ الخطاب في الواقع الظرفي الذي يحيط بمحفل الخطاب. هكذا يميل المعنى المثالي لما نقوله داخل الكلام الحي نحو المرجعية الواقعية، بمعنى نحو ما نتكلم عنه. تنحو المرجعية الواقعية، في أقصى الحدود، نحوالاختلاط مع الإشارة التوضيحية، حيث يلتقي الكلام بحركة التبيين والإظهار. فالمعنى يموت في المرجعية وتموت هذه الأخيرة في عملية التبيين.
أما حين يحل النص محل الكلام، فإن الأمر سيختلف تماما، وستكون حركة المرجعية نحو التبيين موقوفة في الوقت ذاته الذي يكون فيه الحوار مقطوعا بواسطة النص. وأقول بالضبط موقوفة وليس ملغية. وبهذا الصدد سأتخلى بعد قليل عما أسميه منذ الآن إيديولوجيا النص المطلق الذي ينجز وفق إبدال نحوي مرورا خفيا إلى أقصى حد بالاعتماد على الملاحظات الصحيحة التي قدمناها قبل قليل. وكما سنرى، فإن النص لا يكون بدون مرجعية. وستكون مهمة القراءة، من حيث كونها تأويلا، هي بالضبط، إنجاز المرجعية. ويكون النص على أي حال في هذا التعليق، حيث المرجعية مؤجلة، نقول يكون النص بمعنى ما ” في الهواء”، أي خارج العالم أو بدون عالم. وبفضل هذا الانمحاء للعلاقة مع العالم يكون كل نص حرا في الدخول في علاقة مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتحل محل الواقع الظرفي المبين بواسطة الكلام الحي.
تولد العلاقة الرابطة بين النصوص، في إلغائها للعالم الذي تتحدث عنه، ما يحيل على ما يشبه عالم النصوص أو الأدب.
هذا هوالاضطراب الذي يؤثر على الخطاب ذاته حينما يتم توقيف حركة المرجعية نحو التبيين من طرف النص. إن الكلمات تكف عن الانمحاء أمام الأشياء، وتصبح الكلمات المكتوبة كلمات لذاتها.
إن هذا الإخفاء للعالم الظرفي من طرف شبه عالم النصوص يمكن أن يكون كاملا إلى درجة أن العالم ذاته يتوقف، داخل حضارة تعرف الكتابة، عن أن يكون ما يمكن إظهاره عندما نتكلم، ويختزل في تلك “الهالة ” التي تخلقها المؤلفات. هكذا نتكلم عن العالم الإغريقي وعن العالم البيزنطي. ويمكن أن نقول عن هذا العالم إنه مخيال، بالمعنى الذي يحيل على الحضور عبر المكتوب، هناك تماما حيث كان العالم ممثلا بواسطة الكلام. غير أن هذا المخيال هو ذاته إبداع للأدب. إنه مخيال أدبي.
إن هذا الاضطراب الحاصل في العلاقة الكامنة بين النص وعالمه هو مفتاح الاضطراب الآخر الذي تحدثنا عنه سابقا، ذاك الذي يؤثر في علاقة النص بذاتيتي الكاتب والقارئ. إننا نعتقد معرفة ما يقصد بكاتب النص لأننا نستقي منه المقولة الدالة على الشخص المستعمل للكلام. إن الذات المتكلمة، كما يقول بنفنيست، هي تلك التي تشير إلى ذاتها بذاتها بقول : أنا. حينما يحل النص محل الكلام فلا وجود للمتكلم، أو على الأقل لا وجود لتعيين ذاتي ومباشر وصريح للمحفل الذي يتحدث داخل الخطاب. ومحل علاقة التقارب هذه بين الذات المتكلمة وكلامها، ستحل علاقة معقدة للمؤلف بالنص، وهو ما يسمح بالقول بأن المؤلف يؤسسه النص وأنه يوجد ضمن الحيز الدلالي الذي ترسمه وتسجله الكتابة. إن النص هو البؤرة الخالقة للمؤلف. ولكن هل يحضر في شكل غيرذاك الذي يكون فيه كقارئ أول ؟ يشكل إبعاد المؤلف من طرف نصه ذاته ظاهرة مرتبطة بالقراءة الأولى التي تطرح دفعة واحدة مجموع المشاكل التي سنواجهها الآن والمرتبطة بعلاقات التفسير والتأويل وهذه العلاقات وليدة القراءة.
التفسير والفهم
إن القراءة هي فعلا المجال الذي سنرى فيه بعد قليل مواجهة بين الموقفين اللذين وضعناهما في البداية تحت العنوان الثنائي : التفسير والتأويل. إننا نقع على هذه الثنائية أولا عند مبتكرها دلتيي. لقد كانت هذه الفروق تشكل فعلا عند دلتيي بديلا يقصي فيه أحد الحدين الحد الآخر. إما أنكم >تفسرون< على طريقة العالم الطبيعي، وإما أنكم >تؤولون< على طريقة المؤرخ. إن هذا البديل ذا الطابع الإقتصادي هو الذي سيعطي قاعدة منطلق النقاش القادم. أقترح أن أبين أن فكرة النص، كما صغناها في الجزء الأول من هذه المحاولة، تقتضي تجديد فكرتي التفسير والتأويل، كما تقتضي، بفضل هذا التجديد، تصورا أقل تناقضا فيما يخص علاقتهما. لنقل فورا إن النقاش سيكون موجها عن قصد نحو البحث عن تكامل وتبادل حميميين بين التفسير والتأويل…
لم يكن التعارض قائما بالضبط في البداية عند دلتيي بين التفسير والتأويل، وإنما كان قائما بين التفسير والفهم، لكون التأويل يشكل ناحية خاصة للفهم. ينبغي الانطلاق إذن من التعارض بين التفسير والفهم. والحال، إذا كان هذا التعارض ذا طابع إقصائي، فلأن الحدين يفيدان عند دلتيي مجالين من الواقع، تفرض عليهما وظيفتهما الفصل بين هذين المجالين، وهما مجالي علوم الطبيعة وعلوم الروح. إن ميدان الطبيعة ميدان المواضيع الممنوحة للملاحظة العلمية والخاضعة منذ جليلي لمشروع المنظور الرياضي، ومنذ جون ستوررت ميل لقوانين المنطق الاستقرائي. أما ميدان الروح فهو ميدان الفرديات النفسية التي تكون فيها كل حالة نفسية قادرة على التنقل. والفهم هو ذاك الإسقاط على حياة نفسية غريبة. إن التساؤل عما إذا كان من الممكن أن توجد علوم الروح هو التساؤل عما إذا كانت المعرفة العلمية للأفراد ممكنة، وعما إذا كان في استطاعة هذا الإدراك لما هو فردي أن يكون موضوعيا بطريقته الخاصة، وعما إذا كان في إمكانه الحصول على شرعية شمولية. أجل، يجيب دلتيي، لأن الباطن يفصح عن ذاته في العلامات الخارجية التي يمكن إدراكها وفهمها من حيث هي علامات حياة نفسية غريبة : >نسمي الفهم، يقول دلتيي في المقال المشهور لسنة 1900 عن أصل الهرمينوتيقا (1)، ذلك المسار الذي بواسطته نعرف شيئا ما ذا طابع روحي بمساعدة العلامات المحسوسة التي تشكل تجليه<(ص.320).
هذا هو الفهم الذي يشكل التأويل أحد حقوله الخاصة. ونجد ضمن علامات الحياة النفسية الغريبة >التجليات التي تم تثبيتها بشكل دائم<، والـ>شهادات الإنسانية التي تم الحفاظ عليها بواسطة الكتابة<، والـ>المآثر المكتوبة<. هكذا يكون التأويل هو فن الفهم المطبق على تلك التجليات، وعلى تلك الشهادات، وعلى تلك المآثر التي تشكل الكتابة طابعها المميز.
داخل هذا الزوج الفهم/التأويل يقدم الفهم الأساس، أي المعرفة بواسطة العلامات للحياة النفسية الغريبة، ويأتي التأويل بدرجة الموضوعية، وذلك بفضل التثبيت والحفاظ اللذين تخولهما الكتابة للعلامات.
يبدو هذا التمييز في البداية بين التفسير والفهم واضحا، ولكنه مع ذلك يكتنفه الغموض بمجرد ما نتساءل عن الشروط العلمية للتأويل. لقد تم نفي التفسير خارج حقل العلوم الطبيعية، غير أن الصراع نشأ من جديد في قلب مفهوم التأويل بالذات بين الطابع الحدسي البعيد عن التأكد من جهة، وبين المطالبة بالموضوعية المرتبطة بفكرة علم الروح ذاتها من جهة ثانية. إن هذا التمزق للهرمينوتيقا بين منحاها ذي الطابع السيكولوجي وبحثها عن منطق للتأويل يضع في نهاية المطاف العلاقة بين الفهم والتأويل موضع تساؤل. أليس التأويل نوعا من الفهم يفجر النوع؟ أليس الاختلاف النوعي، أي التثبيت بواسطة الكتابة، في هذا الإطار، أكثر أهمية من السمة المشتركة بين كل العلامات، ونقصد منح باطن لكل خارج؟ ماهو الأهم في الهرمينوتيقا؟ أهو اندراجها في محيط الفهم أم هو اختلافها عن الفهم؟ لقد كان شليرماشير، قبل دلتيي، شاهدا على هذا التمزق الداخلي للمشروع الهرمينوتيقي. ولقد تجاوزه بواسطة الممارسة الإنسانية لمزج ناجح بين العبقرية الرومانسية والمهارة الفلسفية. لقد أصبحت المقتضيات الإبستمولوجية مع دلتيي أكثر إلحاحا، فأجيال كثيرة تفصله عن العالم الرومانسي، وأجيال كثيرة اقتيدت إلى التأمل الابستمولوجي، وهكذا ينفجر التناقض الآن بشكل جلي. لنستمع إلى دلتيي يشرح شليرماشير: >إن الغاية النهائية للهرمينوتيقا هي أن نفهم الكاتب بشكل أفضل مما فهم هو نفسه.< هذا فيما يخص سيكولوجيا الفهم. وها هو الآن ما يخص منطق التأويل :>إنها لوظيفة الهرمينوتيقا أن تؤسس نظريا، ضد التسرب المستمر للعشوائية الرومانسية والنزعة الذاتية الشكية في مجال التاريخ. للصلاحية الشمولية للتأويل التي تعتبر قاعدة كل يقين تاريخي<(ص. 333). وهكذا فإن الهرمينوتيقا لا تحقق مرامي الفهم إلا بانفلاتها من المباشرة الخاصة بفهم الغير : لنقل انفلاتها من القيم الحوارية. تريد الهرمينوتيقا أن تتطابق مع باطن الكاتب والتساوي وتضاهيه وتريد إعادة إنتاج المسار المبدع الذي خلق الأثر. غير أن علامات هذا القصد لا يمكن البحث عنها في أي مكان آخر غير ما كان يسميه شليرمشير >الشكل الخارجي< و>الداخلي< للكاتب، أو ما يسميه كذلك >الترابط< و>التسلسل< الذي يجعل منه كلا منظما. لقد زادت الكتابات الأخيرة لدلتيي (بناء العالم التاريخي في العلوم الإنسانية) في حدة التوتر، ازدادت، من جهة، حدة المنحى الموضوعي تحت تأثير الأبحاث المنطقية لهوسرل. (يشكل معنى الملفوظ عند هوسرل، كما هو معروف، مثالا لا يوجد لا في الواقع العالمي ولا في الواقع النفسي : إنه وحدة خالصة من المعنى بدون تحديد فعلي. ونشأت الهرمينوتيقا من جهة ثانية بطريقة مماثلة عن التحقق الفعلي للطاقات الإبداعية للحياة داخل الانتاجات التي تندرج بهذا بيننا وبين الكاتب. إن الحياة النفسية ذاتها وبديناميتها المبدعة، هي التي تنادي بهذا التوسط عبر >دلالات< و>قيم< و>أهداف<. هكذا فإن المقتضى العلمي يدفع بشكل مستمر نحو إبعاد الجانب السيكولوجي عن التأويل وعن الفهم ذاته، وربما حتى عن التأمل الذاتي، إذا كان صحيحا أن الذكرى ذاتها تسير في خط الدلالات التي ليست هي ذاتها ظواهر نفسية. يفيد عملية التعبير عن الحياة تلك الخاصية التي تكون دائما غير مباشرة وقائمة على الوساطة، خاصية تأويل الذات وتأويل الغير. ومع ذلك فإن ما يتعاطى له التأويل هو ذات وغير مطروحان في حدود سيكولوجية. وما يهدف إليه التأويل هو دائما إعادة إنتاج تجارب معيشية.
يقودنا هذا التوتر المزعج الذي يشهد عليه دلتيي إلى طرح السؤالين اللذين يتحكمان في ما سيأتي من النقاش : ألا نغادر بشكل واضح إحالة التأويل على الفهم ونتوقف عن اعتبار تأويل المآثر المكتوبة حالة خاصة من فهم العلامات الظاهرية لحياة نفسية باطنية؟ وإذا كان التأويل لم يعد يبحث عن معيار من العقلانية خاص به في إطار فهم الآخر، أفلا ينبغي أن نبدأ من جديد دراسة علاقته بالتفسير، تلك العلاقة التي وضعت خارج اهتمامات البحث؟
النص والتفسير البنيوي.
لننطلق مرة أخرى من تحليلنا للنص ومن الوضع المستقل الذي اعترفنا له به بالنسبة للكلام ولتبادل الكلام. إن ما أسميناه بإخفاء العالم المحيط بواسطة شبه عالم النصوص يخلق إمكانيتين : إمكانية البقاء، كقراء، في إطار التعليق الذي يعرفه النص، وتناوله كنص بدون عالم وبدون كاتب، فنفسره بها اعتمادا على علاقاته الداخلية، أي اعتمادا على بنيته؛ أو إمكانية إلغاء التلعيق والانتهاء بالنص إلى الكلام بإعادته الى التواصل الحي: وبفعلنا هذا نؤول النص. تنتمي هاتان الإمكانيتان إلى القراءة، والقراءة عبارة عن جدلية هذين الموقفين.
لنتناول كلا منهما على حده قبل اعتبار تمفصلهما : يمكننا أن نصنع من النص نوعا أولا من القراءة، قراءة تنفد عبر النص، إن صح التعبير، توقيف كل العلاقات مع العالم الذي يمكننا أن نبينه ومع الذوات التي يمكنها أن تحاور. يشكل هذا التحويل في >مجال< النص – وهو مجال ليس مجالا – مشروعا خاصا تجاه النص، مشروع تمديد تعليق العلاقة المرجعية بالعالم وبالذات المتكلمة. ويقرر القارئ، عبر هذا المشروع الخاص، الوقوف في >مجال النص< وفي >محيط< هذا المجال. واعتبارا لهذا الاختيار فإن النص يكون بدون خارج، ويتوفر على داخل فقط. وهو لا يهدف إلى التجاوز كما هو الأمر بالنسبة لكلام موجه لفرد ما بصدد شيء ما.
ليس هذا المشروع ممكنا فحسب بل يكتسي شرعية. فعلا يسمح تشكل النص من حيث هو نص، وشبكة النصوص من حيث هي آداب، بإيقاف هذا التجاوز المزدوج للخطاب نحو عالم معين ونحو غير. وابتداء من هنا يكون السلوك التفسيري إزاء النص ممكنا.
لا يكون بتاتا هذا السلوك التفسيري، على خلاف ما كان يعتقده دلتيي، مستعارا من حقل معرفي آخر أو من نموذج ابستمولوجي آخر غير نموذج اللغة ذاتها. لا يتعلق الأمر بنموذج طبيعي تم بسطه فيما بعد على علوم الروح. لا يلعب التقابل الطبيعة/الروح هنا أي دور. إذا كانت هناك إعارة فإنها تحصل داخل الحقل ذاته، حقل العلامات. إنه لممكن فعلا أن نتناول النصوص وفق قواعد التفسير التي تطبقها اللسانيات بنجاح على الأنظمة البسيطة للعلامات التي تشكل اللسان في مقابل الكلام. وكما هو معروف فإن التمييز اللسان/ الكلام هو التمييز الأساسي الذي يعطي للسانيات موضوعا متجانسا. فبينما ينتمي الكلام إلى الفزيولوجيا والسيكولوجيا والسوسيولوجيا ينتمي اللسان، من حيث هو قاعدة اللعبة التي يكون الكلام تنفيذا لها، إلى اللسانيات وحدها. وكما هو معروف أيضا فإن اللسانيات لا تعرف سوى أنظمة من الوحدات مجردة من المعاني الخاصة، وتحدد كل واحدة منها انطلاقا من اختلافها عن كل الوحدات الأخرى. إن هذه الوحدات تعارضية، وذلك سواء أكانت تمايزية محضة، كما هو شأن وحدات التمفصل الفونولوجي، أو دلالية، كما هو شأن وحدات التمفصل المعجمي. إن حركة التعارضات وتآليفها داخل قائمة من الوحدات المضمرة هي التي تحدد فكرة البنية في اللسانيات.
إن هذا النموذج البنيوي هو الذي يعطينا نموذج السلوك التفسيري والذي سنرى الآن تطبيقه على النص .
قد يتم الاعتراض، قبل البدء في هذا المشروع، بأنه لا يمكن أن تطبق على النص قوانين لا تصلح سوى للسان من حيث هو متميز عن الكلام. وقد يقال : ألا يصنف النص، من غير أن يكون كلاما، بجانب الكلام ذاته بالنسبة للسان؟ ألا ينبغي مقابلة اللسان، بشكل شمولي، بالخطاب من حيث هو سلسلة من التلفظات، أي في نهاية المطاف، سلسلة من الجمل؟ أليس التمييز الكلام/ الكتابة ثانويا بالنسبة لهذا التمييز الخطاب/ اللسان لكون اللسان والكلام يأخذان موقعهما بجانب واحد، جانب الخطاب؟ إن هذه الملاحظات مشروعة جدا وتسمح لنا بالاعتقاد في كون النموذج التفسيري المسمى بالنموذج البنيوي لا يستنفد حقل المواقف الممكنة تجاه النص. ولكنه من اللازم، قبل الإشارة إلي حدود هذا السلوك التفسيري، الإلمام بخصوبته. وهذه هي فرضية العمل بالنسبة لكل تحليل بنيوي للنصوص: رغم أن الكتابة تكون بجانب الكلام بالنسبة للسان، بمعنى بجانب الخطاب، فإن خصوصية الكتابة بالنسبة للكلام الفعلي تقوم على سمات بنيوية تسمح بالتعامل معها كمماثلات للسان داخل الخطاب. وفرضية العمل هذه مشروعة جدا. إنها تكمن في القول بكون الوحدات الكبرى للغة، أي الوحدات المحتلة لدرجة أعلى من الجملة تمنح تنظيمات قريبة من تنظيمات الوحدات الصغرى للغة، أي الوحدات المحتلة لدرجة أدنى من درجة الجملة، الوحدات التي تكون بالضبط من اختصاص اللسانيات .
يصوغ كلود ليفي ستروس في كتابه >الأنتروبولوجيا البنيوية<(2) فرضية العمل هذه بصدد صنف من النصوص، وهي الأساطير، بالشكل الآتي : >تتشكل الأسطورة، كما هو الأمر بالنسبة لكل كائن لساني، من وحدات تكوينية. وتفيد هذه الوحدات التكوينية حضور الوحدات التي تتدخل عادة في بنية اللسان، أي الوحدات الصوتية والوحدات الصرفية والوحدات الدلالية. ولكن وضعها بالنسبة لهذه الأخيرة (الوحدات الدلالية) هو وضع هذه الأخيرة ذاتها بالنسبة للوحدات الصرفية ومثل وضع الوحدات الصرفية هذه بالنسبة للوحدات الصوتية. يختلف كل شكل عن سابقه بدرجة عالية جدا من التعقيد. لهذا السبب سنسمي العناصر المنتمية إلى المجال الخاص بالأسطورة (وهي الأكثر تعقيدا من غيرها) : الوحدات التكوينية الكبرى< (ص. 233). وبفضل فرضية العمل هذه، سيكون من الممكن تناول الوحدات التي تساوي أصغر حدودها حجم الجملة، والتي تشكل، بوضعها حنب البعض، السرد الخاص بالأسطورة، نقول سيكون من الممكن تناولها وفق القواعد ذاتها التي نتناول بها الوحدات الصغرى المألوفة عند اللسانيين. ولعل إثارة أهمية هذا التماثل هو الذي جعل ليفي ستروس يتحدث عن الوحدات الأسطورية كما نتحدث عن الوحدات الصوتية والوحدات الصرفية والوحدات الدلالية. ولكن، ولكي نبقى في حدود التماثل بين الوحدات الأسطورية والوحدات اللسانية التي تكون من درجة دنيا، فإنه من اللازم أن يعمد التحليل إلى التجريد ذاته الذي يمارسه عالم الفونولوجيا. ليست الوحدة الصوتية بالنسبة لهذا الأخير صوتا ملموسا مأخوذا بشكل مطلق في إطار مادته الصوتية، وإنما هي وظيفة يحددها المنهج التبادلي، وظيفة تختزل في قيمتها التقابلية بالنسبة لجميع الوحدات الصوتية الأخرى. إنما ليست بهذا المعنى، إذا ما استعملنا تعبير ليفي ستروس، >مادة< وإنما هي صورة، أي لعبة من العلاقات. كما أن الوحدة الأسطورية ليست جملة من جمل الأسطورة، وإنما هي قيمة اعتراضية ترتبط بعدة جمل خاصة، تشكل في لغة ليفي ستروس>مجموعة من العلاقات< : >لا تحصل الوحدات التأسيسية على وظيفة دلالية إلا في شكل تأليف بين مثل تلك الركامات< (ص. 234). إن ما نسميه هنا الوظيفة الدلالية ليس بتاتا ما تريد الأسطورة قوله، أي حمولتها الفلسفية أو الوجودية، وإنما هو ترتيب الوحدات الأسطورية وتنظيمها، باختصار هو بنية الأسطورة.
سأذكر هنا باختصار التحليل الذي يقترحه ليفي ستروس لأسطورة أوديب حسب هذا المنهج. إنه يوزع جمل الأسطورة على أربعة جداول. يضع في الجدول الأول كل الجمل التي تتكلم عن علاقة القرابة المبالغ في درجة تقديرها (مثلا أوديب يتزوج أمه جوكاست، وأنتيجون تدفن أخاها بولينس رغم التحريم، ونجد في الجدول الثاني العلاقة ذاتها ولكنها متأثرة بالعلاقة المعكوسة : علاقة قرابة قل درجة تقديرها أو ضعفت قيمتها (أوديب يقتل أباه لايوس وإيتيوكل يقتل أخاه بولينس. ويخص الجدول الثالث الكائنات الغريبة وتدميرها، ويضم الجدول الرابع كل أسماء الأعلام التي تثير دلالتها صعوبة في المشي المستقيم (أعرج -أهوج – رجل منتفخة). تبين المقارنة بين الجداول الأربعة وجود تلازم بينها. نحصل عند المقارنة بين الجدولين 1 و2 على علاقات من القرابة ترتفع درجة تقديرها مرة وتقل مرة أخرى؛ ونحصل عند المقارنة بين الجدولين 3 و 4 على إثبات للموطنية الأصلية للإنسان، ثم على نفيها : >وينجم عن هذا أن الجدول الرابع يقيم مع الجدول الثالث العلاقة ذاتها التي يقيمها الجدول الأول مع الثاني … إن علاقة الإفراط في تقدير قرابة الدم بالنسبة للتفريط في تقديرها شبيهة بما هو عليه مجهود الانفلات من الموطنية الأصلية بالنسبة لاستحالة النجاح في ذلك <. تبدو الأسطورة في مثل هذه الحال كنوع من الأداة المنطقية التي توفق بين تناقضات من أجل تجاوزها. >إن استحالة وضع مجموعة من العلاقات في ترابط فيما بينها يتم تجاوزه ( أو بدقة أكثر يتم تعويضه) بإثبات كون علاقتين متناقضتين فيما بينهما تكونان متطابقتين، وذلك في حدود كون كل واحدة منهما تكون مثل الأخرى متناقضة مع ذاتها< (ص.239). سنعود فيما بعد إلى هذه النتيجة ولنكتف الآن بالتعبير عنها.
يمكننا القول فعلا إننا فسرنا الأسطورة، ولكن لا يمكننا القول إننا أولناها. لقد أبرزنا، بواسطة التحليل البنيوي منطق العمليات التي تجعل مجموعة من العلاقات يربط بعضها بالبعض الآخر: يشكل هذا المنطق >القانون البنيوي للأسطورة المتناولة<(ص.241).ولن يفوتنا تسجيل كون هذا القانون هو بامتياز موضوع قراءة، وليس بتاتا موضوع كلام، وذلك بمعنى الإظهار الذي تكون فيه سلطة الأسطورة قد أعيد تفعيلهما في وضعية خاصة. ليس النص هنا سوى نص، ولا تسكنه القراءة إلا من حيث هو نص، أي في حدود تعليق الدلالة بالنسبة إلينا، وفي حدود تعليق كل تحقق داخل كلام فعلي.
لقد تناولت قبل قليل مثالا في إطار الأساطير؛ يمكن لي أن آخذ مثالا آخر في مجال قريب من الأول وهو مجال الحكايات الفلكلورية. لقد تم تعميق هذا المجال من طرف الشكلانيين الروس أصحاب مدرسة بروب، ومن طرف المتخصصين الفرنسيين في التحليل البنيوي للحكايات أي رولان بارت وكريماس نجد عند هذين الكاتبين المسلمات ذاتها التي نجدها عند ليفي ستروس : تتوفر الوحدات المتجاوزة للجملة على التركيب ذاته الذي تتوفر عليه الوحدات التي تكون أصغر من الجملة. يكمن معنى الحكاية في الترتيب ذاته السائد بين عناصرها، ويكمن النص في سلطة الكل وقدرته على استدراج الوحدات الفرعية، ويكون معنى العنصر، على العكس من ذلك، هو قدرته على الدخول في علاقة مع عناصر أخرى ومع الكل الذي يشكله الإنتاج. تحدد هذه المسلمات المحيط المغلق للحكاية. ستكمن مهمة التحليل البنيوي في هذه الحالة في اللجوء إلى التقطيعية (المستوى الأفقي)، ثم إلى إقامة المستويات المتنوعة من الإدماج للأجزاء في الكل (المستوى التراتبي). هكذا، وحينما سيعزل المحلل وحدات من الفعل فإنها لن تكون بالنسبة إليه وحدات سيكولوجية يمكن عيشها، أو وحدات من السلوك يمكنها أن تسقط في إطار سيكولوجية سلوكية. وليست الحدود القصوى لهذه القطع سوى نقاط توجيه الحكاية بحيث يتغير باقي المجموعة كله إذا ما تم تغيير عنصر ما. نتعرف هنا على نقل المنهج التبادلي من المستوى الفونولوجي إلى مستوى وحدات الحكاية. هكذا يكمن منطق الفعل في مثل هذه الحالة في ترتيب مراكز الفعل التي تشكل كلها كمجموعة الاستمرارية البنيوية للحكاية. يؤدي تطبيق هذه التقنية إلى “إلغاء التعاقب الزمني” من الحكاية بطريقة تبين المنطق السردي المتضمن في الزمن السردي. سيتم إرجاع الحكاية في أبعد الحدود إلى تأليف بين مجموعة من الوحدات الدرامية – السماح والخيانة والمنع والمساعدة…إلخ – التي ستكون بهذا نماذج للفعل، وستكون القطعة هنا عبارة عن سلسلة من ترابطات الفعل يغلق كل واحد منها بديلا تم فتحه من طرف الترابط السابق. تندمج الوحدات الأساسية في الوحدات الأكثر اتساعا في الوقت ذاته الذي تترابط فيما بينها في شكل سلسلة : ينطوي اللقاء مثلا على الأفعال الأساسية مثل الاقتراب والمناداة والتحية… إلخ. إن تفسير الحكاية معناه الإمساك بهذا التشابك وبهذه البنية الخفية لمجاري الأفعال المتداخلة.
تطابق هذه السلسلة من الأفعال وتداخلها علاقات من طبيعة واحدة بين >العوامل< داخل الحكاية. ولا نقصد بها الشخصيات من حيث هي ذوات سيكولوجية تتمتع بوجود خاص بها، وإنما نقصد الأدوار الملازمة لأفعال أخذت هي ذاتها طابعها الشكلي. تتحدد العوامل بواسطة محمولات الفعل وحدها، أي بواسطة المحاور الدلالية للجملة والحكاية : إن العامل هو ذاك الذي … من أجله … والذي معه … إلخ أنجز الفعل؛ إنه ذاك الذي يعاهد، ذاك الذي يتلقى العهد، المانح، المتلقي،إلخ. والتحليل البنيوي يستند إلى هذا من أجل إظهار تراتبية العوامل الملازمة لتراتبية الأفعال.
من هنا سيتم النظر إلى الحكاية باعتبارها كلا وإعادة إدراجها ضمن التواصل السردي. وتكون بذلك خطابا موجها من السارد إلى المتلقي. ومع ذلك فإن التحليل البنيوي لا يستدعي البحث عن المحفلين معا في مكان آخر غير النص. لا يشار إلى السارد إلا بعلامات السردية، تلك العلامات التي تنتمي إلى تأسيس الحكاية ذاته. ولا وجود، خارج هذه المستويات الثلاث (مستوى الأفعال ومستوى العوامل ومستوى السرد)، لشيء ما يستمد وجوده من المعرفة الخاصة بالسيميولوجي. هناك فقط عالم مستعملي الحكاية الذي يمكنه أن ينتمي إلى ميادين سميولوجية أخرى (أنظمة احتماعية واقتصادية وإيديولوجية)، غير أن هذه الميادين ليست ميادين ذات طابع لغوي. إن إسقاط النموذج اللغوي على نظرية الحكاية يؤكد بالضبط الملاحظة التي انطلقنا منها. فالتفسير لم يعد، في وقتنا الراهن، مفهوما مستعارا من علوم الطبيعة ومسقطا على مجال غريب، مجال الآثار المكتوبة، إنه يعود إلى دائرة اللغة ذاتها عبر التحويل التماثلي بدءا الوحدات الصغرى للغة (الوحدة الصوتية والوحدة الدلالية) وانتهاء بالوحدات الكبرى التي تفوق الجملة، أمثال الحكاية والفلكلور والأسطورة. انطلاقا مما سبق، فإن معنى التأويل، إذا كان من الممكن منحه معنى، فلن يكون ذلك مواجهة بنموذج غريب عن العلوم الإنسانية؛ وإنما سيكون في خلق نقاش مع نموذج عقلاني ينتمي، من حيث النشأة، إن صح التعبير، إلى ميدان العلوم الإنسانية، وإلى اللسانيات باعتبارهاعلما يحتل صدارة هذا المجال.
من هنا فإن التفسير والتأويل سيتجابهان فوق أرضية واحدة وداخل دائرة واحدة للغة.
* -النص مأخوذ من :
1986Paul Ricoeur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, II, Coll. Esprit,
1- W. Dilthey, Origine et développement de l’herméneutique,(1900)n, in Le Monde de l’Esprit
2- C. Levi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1958- 1971
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6936