التأويل عند ابن تيمية

Bengrad
2021-06-04T11:45:20+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 20202٬486 مشاهدة

فريدة زمرو

مسألة علاقة العقل بالنقل، وموقع التأويل فيها، تعتبر احدى القضايا الحاسمة في منهج بناء النسق العقدي عند مفكري الاسلام على اختلاف مشاربهم. وقد وضعها البعض ضمن المقدمات الأولى في أنساقهم العقدية، ووضعها البعض الآخر ضمن قضية الحسن والقبح أهما عقليان أم شرعيان؟ بينما خصص لها كثير من المتكلمين والفلاسفة والصوفية والفقهاء كتبا ورسائل مستقلة صيغت أحيانا على شكل قوانين فكرية ومنهجية شاملة، وكان تقسيم اللفظ الى حقيقة ومجاز نقطة ارتكاز في تناول المسألة.

وبالنظر الى التعريف الذي وضعه أهل الكلام والفلسفة والتصوف للتأويل، فإنه يمكن القول إن التأويل لا يستقيم عوده لديهم إلا بالتسليم بثنائية الحقيقة والمجاز، كما رسمت حدودها البلاغة الفلسفية الكلاسيكية، وبلاغة النقاد والأدباء الذين تأثروا بالذاهب الكلامية المختلفة(1). ولما كان ابن تيمية قد وجه نقدا متفردا لأسس المنطق الصوري الأرسطي، واستبدل به منطقا استقرائيا تداوليا(2)، فقد دفعه ذلك إلى إعادة تأسيس نظرية المجاز ومراجعة مفهوم التأويل على ضوء ذلك المنطق(3). لذا، درس ابن تيمية مسألة العقل والنقل، وعلاقتها بقوانين التأويل. ثم أراد أن يحلل مفهوم التأويل بين السلف والخلف فقام بدراسة مقارنة ومصطلحية للمفهوم، في رسالة “الاكليل”. وكانت مناظراته ورسائله تتخذ من التأويل منطلقا لحل كثير من الاشكالات والمسائل العقدية المتداولة بين مفكري الاسلام.

لقد صاغ ابن تيمية أصل المشكلة والمدخل إليها فقال “سبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقاد كل من فهم معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن”(4)، وكان هذا “مثار فتنة”(5)، و”منشأ شبهة”(6)، وتحريفا للكلم عن مواضعه(7).

تبين هذه القاعدة نظرة ابن تيمية الى تعريف التأويل وتطوره التاريخي ونتائجه الفكرية والمذهبية، فلقد ردد ابن تيمية القول بأن لفظ التأويل فيه اشتراك بين معناه في القرآن، ومعناه عند السلف والخلف، ومن شأن هذا الاشتراك أن يضع اشتباها في فهم المصطلح. وقد حاول ابن تيمية رفع هذا الاشتباه بأن قام بدراسة مصطلحية وتاريخية مستفيضة للفظ من خلال النصوص الشرعية والفقهية والمذهبية التي تم تداوله فيها.

1- الدراسة المصطلحية للفظ التأويل

تتبع ابن تيمية معاني مصطلح التأويل من خلال المواضع التي أورد فيها في النص القرآني ونصوص الحديث وأقوال الصحابة والتابعين، وعند أهل اللغة، رابطا لفظ التأويل بالمصطلحات القرآنية الأخرى التي تتقاطع معه دلالة واشتقاقا، كالنسخ والتشابه والتحريف والظاهر والأول والمآل… منضبطا في كل ذلك بما وضعه من قواعد لغوية وتفسيرية.

فقد ورد لفظ التأويل في القرآن المجيد 17 مرة، تسعة منها مسندة الى الأحلام أو الأحاديث أو الرؤيا، وواحد مضاف الى العلم الإلهي الذي كان مع صاحب موسى، وخمسة منها مسندة الى القرآن متشابهه أو له، واثنان منها صيغة مصدرية(8)، تحيل إحداهما الى موضوع رد ما تنازع فيه الناس الى الله والرسول(9)، والثانية إلى موضوع الكيل والوزن بالقسطاس الستقيم(10). ومن الألفاظ الواردة في القرآن، والمتقاطعة مع التأويل اشتقاقا، لفظ الأول، والأولى والأولون، إذ ورد “الأول” في 24 وضعا و”الأولى” في 20 موضعا، و”الأولون” في 38 موضعا(11).

وأول موضع ثار فيه النزاع وكثر فيه الوهم والغلط، هو موضع آل عمران، وهو قوله تعالى “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب” -آية7-. ونظرا لأهمية مصطلح التأويل في هذا الموضع فقد جعله ابن تيمية نقطة انطلاق لدراسة موضوع التأويل -في رسالة الإكليل-(12) معتمدا في ذلك على منهج موضوعي شامل في تفسير الآية من خلال الصطلحات المجاورة له والمتقاطعة معه، والمواضع الأخرى التي ورد فيها اصطلاح التأويل في القرآن والمأثور الصحيح حيلا الى سبب نزولها وسياقها.

1-1- التأويل بين المحكم والمتشابه تصنف آية آل عمران كتاب الله تعالى الى محكم ومتشابه، ثم يقول تعالى “فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله”. لهذا يتوقف إدراك معنى التأويل على إدراك معنى المتشابه، ولما كان المتشابه، مقابلا للمحكم فابن تيمية يعود إلى النظر في اصطلاح المحكم وما يقابله من ألفاظ في كتاب الله تعالى، انطلاقا من تفسيره للفظ الإحكام في موضع “الحج” إذ قال تعالى “وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله علي حكيم* ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد* وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيومنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم* ” الآيات 52-51-50.

لقد لاحظ ابن تيمية التناظر بين هذه الآية من سورة الحج وبين آية المحكم والمتشابه في سورة آل عمران. وذلك يظهر في الجدول التالي

موضع آل عمران محور التناظر موضع الحـج

المحكم والمتشابه أقسام الكتاب المحكم والمنسوخ (ما يلقيه الشيطان)

1- أهل الفتنة أهل التأويل أقسام ا لناس 1- أهل الفتنة = اتباع المنسوخ

2- أهل العلم أهل الإيمان (ما يلقيه الشيطان)

2- أهل العلم أهل الإيمان

1- علة الفتنة 1- علة الفتنة

فساد القلب زيــغ العلة فساد القلب = مرض وقسوة

2- علة الإيمان 2- علة الإيمان

رد الكل إلى الله يقولون كل رد الكل إلى الله من عند ربنا يعلمون أنه الحق من ربهم

يتبين من هذا “أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ أخرى”(13) والكلام في المتشابه هناك يقابله هنا الكلام فيما يلقي الشيطان مما ينسبه الله ثم يحكم آياته(14). ولهذا ذهب طائفة من المفسرين المتقدمين -فيما يورده ابن تيمية- الى أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه المنسوخ “والنسخ هنا، رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله”(15).

وبيان ذلك أن “المنسوخ في اصطلاح السلف العام كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل، فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه في ذلك نسخا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن”(16). وعلى هذا يصح أن يكون المتشابه مناظرا للمنسوخ، إذ يشتركان في دلالة واحدة هي ما احتمل معنيين يرفع أحدهما على ضوء المحكم. وبهذا حافظ ابن تيمية على خاصية العصمة التي تميز النبي(17).

على أن في هذا التناظر إشكالا إذا تأملنا لفظ الإحكام في الموضعين؛ ففي موضع الحج جعل الله تعالى جميع الآيات محكمة محكمها ومتشابهها، وهذا يناظر قوله تعالى “ألر. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت…” -هود آية1- وقوله “تلك آيات الكتاب الحكيم” -يونس آية1-. وأما في موضع آل عمران، فقد جعل الآيات قسمين محكما ومتشابها. كما أن المنسوخ المتشابه في موضع الحج هو ما ألقاه الشيطان، بينما المتشابه في موضع آل عمران هو ما أنزله الرحمن(18).

فإذا كان هذا هكذا، كيف يناظر تقسيم الآيات إلى محكم ومتشابه هنا، تقسيمها إلى محكم ومنسوخ هناك؟. يجيب ابن تيمية عن هذا بالنظر إلى مدلول “الإحكام” في كتاب الله تعالى فيرى بأن الإحكام له معان ثلاثة(19) :

(الأول) الإحكام في التنزيل ومعناه الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي يحصل به تحقق الشيء وإتقانه، فيكون المحكم هو المنزل من عند الله فلا يشتبه بغيره، وهذا هو الذي يقابله ما يلقي الشيطان.

(الثاني) إبقاء التنزيل وعدم رفعه، وهو المعنى الاصطلاحي عند الأصوليين حينما يقابلونه بالنسخ الذي هو عندهم رفع ما شرع، وكل رفع نسخ سواء رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة مرجوحة. وعليه يكون إلقاء الشيطان حاصلا باتباع “ذلك المنسوخ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد، وعلى هذا التقرير فيصح أن يقال المتشابه المنسوخ”(20).

(الثالث) الإحكام في التأويل والمعنى وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها، وعلى هذا يكون المحكم الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه ما احتمل معنيين.

والجامع بين موضع الحج وموضع آل عمران -على مايبدو- المعنى الثالث وبعض من المعنى الثاني فإن المتشابه ينسخ بالمحكم لما يترتب على اتباع المتشابه في الموضعين من زيغ وفتنة، ولهذا كان تصنيف الناس بحسب موقفهم من المنسوخ هو نفس التصنيف بحسب الموقف من المتشابه. فهناك يكون أهل الفتنة هم الذين يتبعون ما ألقاه الشيطان وهو المنسوخ، وسبب هذه الفتنة فساد في القلب مظهره المرض أو القسوة، وهنا أهل الفتنة هم الذين “يتبعون ما تشابه منه” وسبب هذه الفتنة أيضا فساد في القلب ومظهره الزيغ، والزيغ في القلب قد يكون مرضا أو قسوة. وضد هذه الطائفة فئة أهل العلم، وقد سميت في موضع الحج بالذين أوتوا العلم، وفي موضع آل عمران بالراسخين في العلم، كما أن أهل العلم في الموضعين يؤمنون بالكتاب كله محكمه ومتشابهه ومنسوخه. ولهذا عرف العلم في الموضعين معا بموضوعه وهو ذلك الكتاب كله وأنه كله من الله، فالراسخون في العلم يقولون كل من عند ربنا… والذين أوتوا العلم يقولون إنه الحق من ربك، لذلك كان “العلم يدل على الإيمان في الموضعين] ليس لأن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان كما يتوهه طائفة من المتكلمين(21) بل معهم العلم والإيمان”(22). ويتأيد هذا -عند ابن تيمية- بنصوص قرآنية أخرى كقوله تعالى “لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك…” -النساء آية161- وقوله “وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث…” -الروم آية55-.

فإذا ثبت أن أهل العلم هم أهل الإيمان، انهار الفصل الكلامي الذي درج عليه المتكلمون بين طريقة السلف وطريقة الخلف، حينما وضعوا قولهم الشهير “طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم”. وهي عبارة جعل ابن تيمية نقضها مقدمة لنقد موقف أهل الكلام من آيات الصفات في “الحموية الكبرى” فجعلها مقالة أغبياء لا يقدرون قدر السلف(23)، ضمنوها نبذ الإسلام وراء الظهر والكذب على طريقة السلف والجهل بها، والضلال والجهل في تصويب طريقة الخلف نفسها(24)، تلك الطريقة التي تبنى على “استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات”(25)، جاعلة ذلك أساس التأويل الذي هو منهج الراسخين في العلم، بينما الإيمان منهج البله الصالحين من العامة، في اعتبار أولئك المتكلمين. وهو أمر رأى فيه ابن تيمية استجهالا واستبلاها للسابقين الأولين(26)، وكذبا على الله وعلى الرسول وعلى سلف الأمة وأئمتها إما عمدا وإما خطأ(27)، إذ “أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وفهم ذلك ومعرفته، وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب، وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعا وعقلا”(28).

إن ابن تيمية يجعل ذلك التناظر بين الآيتين -آية الحج وآية آل عمران- مقدمة ضرورية لفهم معنى التأويل وحدوده، وكأنه يحيل إلى السياق القرآني الشامل للفظ التأويل ومدلولاته التزاما بقواعده المنهجية اللغوية والمنطقية. فما حد التأويل في القرآن الكريم؟.

1-2- حد التأويل لقد تبين من الفقرة السابقة أن آية آل عمران تربط بين التأويل والتشابه والنسخ، واصفة أهل التأويل والنسخ وصفا قدحيا، فهم أهل فتنة وزيغ ومرض وقسوة في القلب جاعلة أهل العلم أهل إيمان وهداية. لكن هاهنا سؤالا هو كيف ينظر ابن تيمية هذه النظرة النقدية لمفهوم التأويل وهو من اشتهر بدعوته إلى التمسك بأقوال السلف وهم لم يتركوا آية في كتاب الله تعالى إلا وكان لهم فيها رأي وتأويل، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس أن يعلمه الله التأويل؟.

إن ابن تيمية -وهو من هو في درايته بالمأثور وحفظه لنصوصه- لم يغفل كل هذا. ولذا يلاحظ في معرض تفسيره لآية آل عمران “ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال “وما يعلم تأويله إلا الله” وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الوضع، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو”(29).

يفرق ابن تيمية إذن بين علم التأويل وعلم المعنى(30)، جاعلا من الاشتباه في هذه الثنائية أساسا للوهم والنزاع في فهم مسألة التأويل وعلاقتها بالحقيقة والمجاز.

لقد نفى الله علم التأويل، ونفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى(31) والدليل على ذلك النصوص المستفيضة التي تدعو إلى العلم بمعنى كلام الله تعالى إذ يرى ابن تيمية أن العلم بالمعنى يعبر عنه في القرآن باصطلاحات عدة منها التدبر “وما لا يعقل له معنى لا يتدبر”(32)، كما جاء في قوله تعالى “أفلا يتدبرون القرآن” -النساء آية81- وهذا يعم محكمه ومتشابهه. ومنها اصطلاح التفقه فأهل العلم والإيمان إذا لم يتفقهوا آيات القرآن كلها يكونون مشركين مع الذين على قلوبهم أكنة(33)، ومنها اصطلاح التذكر والتعقل والتفكر التي وردت في آيات كثيرة(34)، إذ الأمر بالتدبر والتفقه، والتذكر والتعقل والتفكر جاء في القرآن بصيغ عموم لا استثناء فيها، ويتأيد هذا بالسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، فالسلف كلهم “تكلموا في جميع نصوص القرآن، آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن” (35) وقد أفاض ابن تيمية في عرض أقوال السلف في ذلك بل جعل هذه المسألة قاعدة في “مقدمة أصول التفسير”.

وأما فهوم التأويل الذي نفاه الله تعالى> فإن ابن تيمية يتتبع ذلك في مواضع التأويل من القرآن الكريم، منها قوله تعالى في سورة يونس “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله” -آية39-، فسياق الآية يدل على أن “الكناية عائدة على القرآن”(36) فيلاحظ ابن تيمية أن الله تعالى “فرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل الإيمان بعلمه ولما يأتيهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله”(37).

خلاصة القول إن التأويل ليس علما بمعاني الأشياء الباطنة المختفية وراء ظواهرها المجازية كما يدعي المتكلمون، بل التأويل في المصطلح القرآني غير ذلك تماما. العلم بالمعاني مطلوب شرعا، أما التأويل فهو منفي نصا. ويوضح ذلك ابن تيمية فيقول “ونكتة ذلك أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني، ثم تتوسط ذلك أو تدل عليه الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية”(38).

فالنص كلام له معنى هو “خبر” عن “شيء” يخبر به، فهناك اللفظ الدال والمعنى المدلول والشيء المدلول عنه، “وفرق بين معرفة الخبر ومعرفة المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله”(39). ويستعين ابن تيمية هنا بما قرره في البعد المنطقي عن مراتب الوجود الذهني واللفظي والرسمي والعيني، فالتفسير حصول الوجود الذهني واللفظي والرسمي في القلب واللسان، وأما التأويل فهو حصول الوجود العيني الخارجي أي “نفس الأمور الوجودة في الخارج سواء كانت ماضية أو مستقبلية، فإذا قيل طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها(…) فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار؛ لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب إما بضرب المثل وإما بالتقريب وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك”(40).

يؤيد هذا، في نظر ابن تيمية، تتبع مصطلح التأويل في استعماله القرآني في المواضع الأخرى التي ورد فيها، ممعتبرا ذلك المعنى هو “لغة القرآن التي نزل بها”(41). فإذا أسند التأويل إلى الأحاديث والمنام والرؤيا في سورة يوسف عني به نفس مدلولها الذي تؤول إليه، وإذا أسند إلى صاحب موسى عني به تأويل عمل لا تأويل قول(42)، وإذا جاء التأويل في صيغة مصدرية كقوله تعالى “ذلك خير وأحسن تأويلا” عني به أحسن عاقبة ومصيرا، فالمعنى إذن هو واحد سواء في موضع يوسف أو الاعراف أو يونس أو آل عمران أو الكهف.

ويميل ابن تيمية إلى هذا المعنى الذي عليه الاصطلاح القرآني مدعما ذلك بالدراسة اللغوية الاشتقاقية للفظ التأويل. مبينا أن لفظ التأويل وما اشتق منه اشتقاقا أكبر مثل (الموئل) أو اشتقاقا أصغر مثل (الآل) و(الأول) يقصد به دوما المرجع والمآل(43). ومنه قول الأعشى

أؤول الحكم على وجهه / ليس قضائي بالهوى الجائر(44)

ذلك هو التأويل في الاصطلاح القرآني، وأما السلف فقد استعملوا لفظ التأويل بمعنيين الأول هو التفسير، تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التفسير والتأويل بهذا الاعتبار مترادفين أو متقاربين(45)، واستندوا في ذلك إلى ما ورد في السنة حيث دعا الرسول لابن عباس أن يعلمه الله التأويل ولذا استعمل الطبري لفظ التأويل بنفس معنى التفسير. والمعنى الثاني للتأويل عند السلف هو معناه القرآني أي المآل والعاقبة والمصير.

من شأن هذا التعريف الذي مال إليه ابن تيمية أن يحدث تحولا عميقا في مفهوم الحقيقة، في انسجام تام ودقيق مع نظريته اللغوية والمنطقية، ويقود في نهاية المطاف إلى نقض جذري لتقسيم الخطاب الشرعي إلى حقيقة ومجاز “فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه أو تأول هو إليه، والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف (لكل نبأ مستقر) قال حقيقة، فإنه إن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذبا، وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإن لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا. ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية “قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا”(46) قال إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.”(47)

فالحقيقة هي عين الشيء المقصود، أي ماهيته، وليست الماهية -على ما ثبت في البعد المنطقي- وجودا مجردا، بل تحقق عيني في الخارج. ولذا، فإن كان التأويل بحثا عن حقيقة الشيء، فليس يعني ذلك غير التحقق الفعلي لذلك الشيء.

لم تعد الحقيقة -في مذهب ابن تيمية- تشير إلى الماهية والذات المطلقة، بل حقيقة الشيء، ما به يتعين ويتكيف. ولذلك لم يعد للمجاز كما عرفته البلاغة الفلسفية القديمة موضع قدم في النسق الفكري لابن تيمية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجاز، عند مثبتيه، هو استعمال اللفظ في غير حقيقة الشيء الأصلية، فالخطاب الشرعي له مستويان تأويليان :

أ- التأويل بما هو فهم للمعنى، فهذا قد حدد الشرع ضوابطه التي هي قواعد التفسير. فلا مجاز فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هم أعلم الناس بدلالات الخطاب القرآني، وقد بينوها كلها لأنهم أهل لغة القرآن. وقد تبين في البعد اللغوي أن دلالة لغة ما تتوقف على فهم سياقها ومساقها. ولهذا تخضع عملية الفهم والتأويل -هنا- لضوابط دقيقة، هي القواعد الأصولية على مستوى الألفاظ والادلة، وهي قواعد استقرائية وكلية في نفس الوقت. هذه الضوابط تؤدي إلى إغلاق الخطاب(48) بحيث تعين الدلالة المقصودة شرعا من بين الدلالات الممكنة لغة. وليس هذا بدعا في الخطاب الشرعي بل هو قانون يعم كل خطاب، إذ لكل خطاب بنية منطقية استدلالية مرتبطة بحال الخطاب. وبالطبع فإن إغلاق خطاب ما لا يسمح بدعوى المجاز، إذ المجاز في أصله توسع!

وليس صحيحا ما ذهب إليه الأستاذ بنسالم حميش حين علق على نظرة ابن تيمية إلى معاني التأويل فقال “إن التأويل في هذه الحالة يفقد وظيفته البحثية، تلك التي تقوم على مقابلة ومقارنة الآيات قصد تحليلها، فلا تعود تقتصر إلا على إرجاع النصوص إلى بنيتها الجامعة”(49)، ذلك لأن التحليل ليس مقصودا لذاته حتى يكون للتأويل وظيفة بحثية صرفة. ثم إن المقابلة والمقارنة هي مستوى أرقى من مستوى التحليل. وهل يكون للتحليل أو المقارنة وظيفة غير إدراك دلالة الخطاب -من جهة- وكيفية تداوله من جهة ثانية؟.

ب- التأويل بما هو إدراك مباشر للحقيقة الخارجية للشيء. فما أطلعنا الله عليه من موجودات. فنحن نعرفه بالسمع والبصر والفؤاد في حدود ما تعين من كيفياته، فقد بين الله لنا تأويله، وهذا لم يعد متوقفا في إدراكه على مصطلح المجاز. إذ لم تعد له حقيقة مختفية، وما ادخر الله علمه لنفسه (كالروح والاستواء على العرش) أو أجله إلى حين (كالساعة)، فهذا لا ينفع في التطلع إلى معرفته سمع ولا بصر ولا فؤاد، إذ يستحيل حصول تأويله، ولذلك فالمجاز لن يغني شيئا في تحقيق ما لم يرد الباري عز وجل تحقيقه.

إن لفظ التأويل في القرآن وكلام السلف “لا يراد به إلا التفسير أو الحقيقة الموجودة في الخارج التي يؤول إليها”(50)، وعلى التقديرين تكون دعوى المجاز باطلة.

يبدو مما سبق أن ابن تيمية لا يهاجم التأويل وإنما يحدده اصطلاحيا، ويرتب حكمه عليه انطلاقا من المعنى الذي حدده، خشية الوقوع في الغلط الذي يسببه الاشتراك في لفظ التأويل، فإن كان التأويل تفسيرا فلا ريب أنه مندوب إليه شرعا إن لم يكن واجبا في حق أهل العلم. وإن كان التأويل الحقيقة الخارجية للشيء، فهذا لا يعلم حقيقته إلا الله، وفي كلا المعنيين لا يتوقف تعريف التأويل على شرط المجاز. ولهذا من وقف على “وما يعلم تأويله إلا الله” كان على حق إذا قصد المعنى الثاني للتأويل، ومن وقف على “والراسخون في العلم” كان على حق إذا قصد بالتأويل معنى التفسير(51). وقد كان ابن تيمية في رسالة الإكليل وفي القاعدة الخامسة من “الرسالة التدمرية”(52) يميل إلى الوقف على قوله “وما يعلم تأويله إلا الله”(53)، ولكنه في شرح حديث النزول وتفسير سورة الإخلاص يجعل القولين مأثورين معا عن السلف(54)، وبسبب ذلك، وتوخيا للدقة في بناء نسق عقدي مبني على الكتاب والسنة، مال ابن تيمية في العقيدة الواسطية إلى عدم ذكر لفظ التأويل فيها بنفي أو إثبات، لأنه لفظ له عدة معان، والقرآن إنما ذم التحريف(55).

———————————–

الهوامش

1- 1- قام تعريف المجاز ذاك على ثلاثة أسس أ- أن الحقيقة واحدة وثابتة ومطلقة، وأن للكليات الذهنية وجودا موضوعيا في الخارج. ب- أن تلك الحقيقة هي أصل اللفظ، وأن المجاز ضد الحقيقة. ج- أن المجاز أداة ضرورية لتأويل النصوص قصد ادراك باطنها الذي لا يعلمه إلا الخاصة، وهذا الباطن هو ما عليه مذهبهم.

2- بخصوص صفتي الاستقراء والتداولية في المنطق التيمي أنظر مناهج البحث عند مفكري الاسلام، علي سامي النشار، دار المعارف، القاهرة، ط 4 ، 1984. وخاصة المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني… حمو النقاري، نشرة ولادة، المغرب، 1991.

3- تحتاج نظرية المجاز هذه الى وقفة خاصة، وقصارانا أن نذكر هاهنا ما يمس قضية التأويل.

4- الاكليل في المتشابه والتأويل، ابن تيمية، تعليق محمد الشيمي شحاته، دار الايمان، الاسكندرية، (.ت)، ص 23.

5- نفسه، ص 25.

6- نفسه، ص 27.

7- نفسه، ص 25.

8- وهي في قوله تعالى “ذلك خير وأحسن تأويلا” النساء آية 58.

9- نفس الآية الكريمة السابقة.

10- وهو قوله تعالى “وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا” الاسراء آية 35.

11- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، ط 2، 1981، مادة (اول) ص 99-98-97.

12- وفي مواضع شتى من درء تعارض العقل والنقل، وصفحات هامة من تفسير سورة الاخلاص تح طه يوسف شاهين، دار الطباعة المحمدية، بالأزهر، القاهرة، (دت) ص 115-98، وغير ذلك.

13- الإكليل ص 9

14- نفسه وينظر تفسير الإخلاص ص 116 – 117

15 – الإكليل ص 6

16 – الإكليل ص 9 – 10

17- ينظر مجموع فتاوي شيخ الاسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمان محمد بن القاس وابنه، مؤسسة قرطبة 1969م، 290/10 – 292. وسنحيل إليه لاحقا بالرمز (ف).

18- الإكليل ص 11.

19- نفسه 12-11.

20- نفسه.

21- وقد انطلى هذا الوهم على بعض الدارسين المعاصرين حين جعلوا الفرق بين السلف وبين أهل الكلام كالفرق بين الإيمان والمعرفة، ونجد صدى لهذه التفرقة عند محمد مفتاح في التلقي والتأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت ، ط 1 ، 1994 ، ص 118.

22- الإكليل ص 7.

23- الحموية الكبرى ف 8/5.

24- نفسه، ص9.

25- نفسه.

26- نفسه، ص10.

27- درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد سالم، دار الكنوز الادبية، 1979، 379/5.

28- درء … 379/5.

29- الإكليل ص 12.

30- نفسه، 12 ، 45 ، 51.

31- نفسه، 45.

32- نفسه، 12 وينظر أيضا ص 46.

33- نفسه، 22.

34- الإكليل ص 45.

35- نفسه، 47.

36- نفسه، 20.

37- نفسه، 21.

38- نفسه.

39- نفسه.

40- الإكليل ص 28.

41- نفسه، 29.

42- نفسه 30-29.

43- ينظر تفصيل ذلك في الإكليل 32-30، وينظر مادة (أول) في كتاب العين للفراهيدي، تحقيق محسن مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، العراق 1980 – 1985 ، 368/8 – 369 + معجم مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، (د.ت)، 158/1 – 162. + لسان العرب لابن منظور الافريقي، دار صادر، بيروت، (د.ت)، 2/11.

44- البيت (من السريع) في ديوان الأعشى، دار صادر، بيروت، (د.ت)، حرف الراء، ص 186.

45- الإكليل ص 28 + كتاب الايمان لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 ، 1983م، ص 35 + تفسير سورة الاخلاص 103.

46- سورة الأنعام آية 66.

47- الإكليل ص 33-32. وينظر تفسير سورة الاخلاص 104 – 105.

48- المنهجية الأصولية، حمو النقاري، ص 33 ومابعدها.

49- التشكلات الايديولوجية في الاسلام، بنسالم حميش، الهلال للطباعة والنشر، 1988، ص 154.

50- شرح حديث النزول، ابن تيمية، منشورات المكتب الاسلامي، ط 6، 1982، ص 22.

51- شرح حديث النزول، ص 21.

52- الرسالة التدمرية، ف 54/3.

53- الإكليل ص 12.

54- شرح حديث النزول، ص 21.

55- ينظر حكاية المناظرة الواسطية في ف 165/3.