مقدمة لتنويع حول رواية جاك القدري لدوني ديدرو

Bengrad
2021-06-04T11:45:07+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 2020364 مشاهدة

ميلان كونديرا

ترجمة كمال التومي

(1)

عندما احتل الروس، سنة 1968، بلدي الصغير، كانت كل كتبي قد منعت وفجأة لم تعد لي أية إمكانية أتعيش منها. لقد أراد كثير من الأشخاص مساعدتي : في يوم من الأيام زارني مخرج مسرحي ليقترح علي تأليف اقتباس مسرحي يكون باسمه لرواية دوستويفسكي >الأبله<.

وبناء عليه أعدت قراءة رواية >الأبله< وأدركت بأنه لن يكون بوسعي إنجاز هذا العمل حتى ولو كان علي أن أموت جوعا. لقد كان ينفرني عالم هذه الرواية المليء بالسلوكات المنحرفة والنفسيات الغامضة والمبهمة والمشبع بالعاطفة العدوانية. وأحسست للتو، وبغموض، بالحنين الى رواية >جاك القدري<. قلت للمخرج >ألا تفضلون عملا لديدرو على عمل آخر لدوستويفسكي؟<

لم يكن يفضل ذلك، أما أنا فلم أستطع التخلص من هذه الرغبة الغريبة ولكي أظل أطول ما يمكن من الوقت بصحبة جاك وسيده، بدأت أتخيلهما كشخصيتين لمسرحيتي

(2)

لماذا هذا النفور المفاجئ من دوستويفسكي؟

أهو رد فعل ضد الروس لمواطن تشيكي مصدوم بسبب احتلال بلده؟ كلا، لأنني لم أفتأ أحب تشيكوف. أهو شك في القيمة الجمالية لأثر دوستويفسكي؟ كلا، لأن شعور النفور الذي أنا نفسي ذهلت له، لم يكن ينزع إلى أية موضوعية.

إن الشيء الذي كان يزعجني عند دوستويفسكي، كان هو مناخ كتبه، أي ذلك العالم الذي يغدو فيه كل شيء عاطفة، بمعنى آخر، ذلك العالم الذي يتم فيه الارتقاء بالعاطفة إلى مقام القيمة والحقيقة.

كان اليوم الثالث من الاحتلال وكنت في سيارتي ما بين براغ وبوديوفيتش (المدينة التي تدور فيها أحداث مسرحية ألبير كامو >سوء الفهم<) (1944) .على الطرقات وفي الحقول وفي الغابات، في كل مكان كانت جنود الروس تعسكر. أوقفوا سيارتي وطفق ثلاثة جنود في تفتيشها، بعد عملية التفتيش قال لي الضابط الذي أمر بذلك متحدثا بالروسية >كيف تشعرون؟ ماهي مشاعركم وعواطفكم؟< لم يكن السؤال ينطوي لا على خبث ولا تهكم بل بالعكس استطرد الضابط قائلا : >كل هذا سوء فهم كبير. لكن ستتم تسوية هذا الأمر. عليكم أن تعوا بأننا نحب التشيكيين. إننا نحبكم!<

تكتسح آلاف الدبابات البلاد، ويتعرض مستقبلها للخطر لقرون مقبلة ورجال الدولة التشيك يلقى عليهم القبض ويختطفون بينما يصرح لك ضابط جيش الاحتلال بحبه. لتفهمني جيدا أيها القارئ، لم يرد هذا الضابط التعبير عن عدم موافقته على الغزو. كلا، لم يكن الأمر هكذا تماما، كلهم كانوا يتحدثون تقريبا مثله، كان موقفهم مؤسسا ليس على رغبة الغزاة السادية وإنما على نموذج أصلي آخر، النموذج الأصلي للحب الجريح : لماذا لا يريد هؤلاء التشيكيون (الذين نحبهم غاية الحب) العيش معنا وعلى الطريقة التي نحيا بها. إنه لأمر مؤسف أن نكون مضطرين إلى استعمال الدبابات لكي نعلمهم ما هو الحب.

(3)

إن الحساسية ضرورية للإنسان ، لكنها تغدو رهيبة في اللحظة التي تنظر فيها إلى نفسها كقيمة، كمعيار للحقيقة وكتبرير لسلوك ما. إن المشاعر الوطنية الأكثر نبلا تكون مهيأة لتبرير أسوأ الفظاعات، وحين يكون صدر الإنسان منتفخا بالمشاعر الغنائية فإنه يرتكب، باسم الحب، أعمالا دنيئة.

إن الحساسية التي تأخذ مكان الفكر المطابق للعقل، تغدو الأساس عينه للا-عقل وللتعصب. إنها تغدو، كما قال كارل غوستاف يونغ >البنية الفوقية للعنف<.

إن الارتقاء بالعاطفة إلى مقام القيمة، يرجع إلى ماض سحيق، ربما إلى تلك اللحظة التي انفصلت فيها المسيحية عن اليهودية. قال القديس أغسطينوس >أَحِبِّ الله وافعل ما تشاء< هذه الجملة المأثورة بالغة الدلالة : إن معيار الحقيقة ينتقل، تبعا لذلك، من الخارج نحو الداخل، نحو اعتباطية الذاتي، إن غموض عاطفة الحب (>أَحِبِّ الله !< أمر مسيحي) يأخذ مكان وضوح الشريعة (أمر يهودي) ويغدو المعيار الغامض جدا للأخلاق.

يعتبر تاريخ المجتمع المسيحي مدرسة عتيقة جدا في الحساسية. لقد علمنا المسيح وهو مصلوب أن نعشق الألم واكتشف الشعر الفروسي الحب، وجعلتنا العائلة البورجوازية نشعر بالحنين تجاه الأسرة، ونجحت الديماغوجية السياسية في تحويل إرادة القوة إلى شعور وعاطفة. هذا التاريخ الطويل برمته، هو الذي صنع غنى وقوة وبهاء عواطفنا.

لكن الحساسية الغربية عرفت انطلاقا من عصر النهضة، توازنا بفضل روح مكملة : إنها روح العقل والشك، روح اللعب ونسبية الأشياء الإنسانية، وبهذا يكون الغرب قد دخل في اكتماله.

في خطابه المشهور بهارفارد، حدد سولجنستين بداية أزمة الغرب بالضبط عند تلك المرحلة من عصر النهضة. إنها روسيا، بما هي حضارة متميزة، التي تعبر عن ذاتها وتكشف عنها في هذا الحكم : ذلك أن تاريخها يتميز عن تاريخ الغرب بغياب عصر النهضة فيه والروح التي تولدت عنه. ولهذا السبب، فإن الذهنية الروسية تعرف توازنا آخر ما بين العقلانية والحساسية. في هذا التوازن (أو اللا توازن) المغاير، يكمن غموض النفسية الروسية الشهيرة (غموض دخيلتها وكذا عنفها). عندما انقضت اللاعقلانية الروسية غير المحتملة على بلدي، عبرت عن الحاجة الغريزية إلى أن أتنفس بقوة روح الأزمنة الحديثة الغربية. ولقد كان يبدو لي أن هذه الروح لم تكن مركزة بهذه الكثافة ولا في مكان آخر سوى في هذا الاحتفال بالذكاء والسخرية والخيال المبدع، هذا الاحتفال المتمثل في رواية >جاك القدري<

(4)

إذا كان علي أن أعرف بنفسي، قد أقول بأنني هيدوني وقع في فخ عالم مسيس إلى أقصى حد. إنها الوضعية التي تحكي عنها مجموعتي القصصية غراميات مرحة التي أحبها أكثر من كتبي الأخرى كلها لأنها تعكس الفترة الأكثر سعادة في حياتي. إنها لصدفة غريبة : لقد فرغت من كتابة آخر قصة من هذه القصص (وقد كتبتها على مدى سنوات الستينات) ثلاثة أيام قبل قدوم الروس.

عندما ظهرت سنة 1970 الطبعة الفرنسية لهذا الكتاب تم ربطه بتراث عصر الأنوار. وإذ أنا متأثر بهذه المقارنة، رددت بعد ذلك، باندفاع طفولي شيئا ما، بأنني أحب القرن 18. وللحقيقة أقول إنني لا أحب القرن 18 بل أحب ديديرو، ولكي أكون صادقا أكثر أحب روايات ديدرو، وبكل تدقيق أحب روايته جاك القدري.

إن هذه النظرة إلى أعمال ديدرو، هي بكل تأكيد نظرة شخصية جدا، ربما : لها ما يبررها بالطبع يمكن أن نتغاضى عن ديدرو المؤلف المسرحي، يمكن أن نفهم تاريخ الفلسفة بدون معرفة محاولات ديدرو كموسوعي كبير، لكني ألح : قد يبقى تاريخ الرواية غير مفهوم وغير كامل بدون رواية جاك القدري بل أكثر من ذلك أقول بأن هذه الرواية يلحقها الضرر عندما يتم التعرض لها فقط في إطار مجموع كتابات ديدرو وليس في سياق تاريخ الرواية العالمية. إن عظمتها الحقيقية غير قابلة للادراك إلا بجانب رواية دون كيشوت أو رواية جويس، إلا بجانب رواية أوليس أو رواية فيرديدوركية.

رب معترض سيقول : إلى جانب انشغالات ديدرو الأخرى، فإن روايته جاك القدري كانت بالأحرى تسلية. أكثر من ذلك، لقد كانت متأثرة كثيرا جدا بنموذجها العظيم : رواية تريسترام شاندي لمؤلفها لورانس سترن.

(5)

غالبا ما أسمع الناس يرددون بأن الرواية قد استنفذت كل إمكانياتها. أما أنا فلدي انطباع مناقض. إن الرواية أخفقت خلال أربعة قرون من تاريخها في استغلال العديد من إمكانياتها. لقد تركت الكثير من الفرص الكبيرة غير مستغلة، والكثير من السبل منسية، والكثير من النداءات غير مسموعة.

تعتبر رواية تريسترام شاندي للورانس سترن إحدى هذه الاندفاعات الضائعة. لقد استغل تاريخ الرواية إلى أقصى حد نموذج صامويل ريتشاردسون الذي اكتشف، في شكل >الرواية بالرسائل<، الإمكانيات السيكولوجية للفن الروائي. وبالمقابل، لقد أعار تاريخ الرواية قليلا جدا من الاهتمام للرؤية المتضمنة في مشروع سترن.

إن تريسترام شاندي هي رواية -لعبة. يتوقف سترن مطولا عند أيام تكون بطله في رحم أمه وميلاده وبمجرد ما يولد، يهمل تاريخ حياته بلا تحرج وتقريبا إلى آخر الرواية. إنه يتحدث إلى قارئه ويضيع في استطرادات لا تنتهي، يشرع في حكي مقطع روائي بدون أن يذهب بالحكي إلى نهايته : إنه يقحم إهداء الرواية ومقدمتها في وسط الكتاب، الخ، الخ، الخ. وباختصار : لا يشيد سترن حكايته على وحدة الحدث، ذلك المبدأ الذي أعتبر بكيفية آلية مبدأ محايثا لمفهوم الرواية ذاته. إن الرواية، تلك اللعبة الكبيرة بشخصياتها المبتكرة، تعتبر بالنسبة لسترن حرية لا محدودة للإبداع الشكلي.

كتب ناقد أمريكي مدافعا عن لورانس سترن >رغم أن رواية تريسترام شاندي تعتبر كوميديا، فإنها عمل جدي وتتسم كل مقاطعها بالجدية< ياإلهي اشرحوا لي ما هي كوميديا جدية وما هي الكوميديا التي ليست جدية، إن الجملة الواردة هنا لا معنى لها، لكنها تفضح تماما الارتباك الذي يعتري النقد الأدبي تجاه كل ما لا يبدو جديا.

والحالة هاته، أريد أن أجزم قائلا : ليس ثمة على الإطلاق رواية تستحق هذا الإسم تأخذ العالم مأخذ الجد. لكن، قبل هذا وبعده، ماذا يعني >أخذ العالم مأخذ الجد< ؟ هذا يعني بكل تأكيد : >أن نؤمن بما يريد العالم أن يوهمنا به<. إن الرواية تنتقد ما يريد العالم أن يوهمنا به بدءا من رواية دون كيشوت حتى رواية أوليس.

لكن يمكن أن يقال لي : بوسع رواية من الروايات أن ترفض الإيمان بما يريد العالم أن يوهمنا به وفي ذات الوقت أن تحافظ على الإيمان بحقيقتها الخاصة، بوسعها ألا تأخذ العالم مأخذ الجد، لكن بوسعها أن تظل جدية هي نفسها.

لكن ماذا يعني أن ”يكون المرء جديا” ؟ الشخص الجدي هو الذي يؤمن بما يوهم به الآخرين. وبالضبط هذه ليست حالة رواية تريسترام شاندي. فهذا العمل، لكي نحيل على الناقد الأمريكي من جديد، عمل لا جدي كليا، لا يوهمنا بأي شيء : لا بحقيقة شخصياته ولا بحقيقة مؤلِّفه ولا بحقيقة الرواية، بما هي نوع أدبي. كل شيء موضوع موضع تساؤل، كل شيء موضوع موضع شك، كل شيء لعب، كل شيء تسلية (بدون أن يخجل المرء من التسلية) وهذا مع كل النتائج التي تترتب عن ذلك بالنسبة لشكل الرواية.

لقد اكتشف سترن الإمكانيات اللعبية الهائلة للرواية وهكذا فتح طريقا جديدة أمام تطورها لكن لا أحد أصغى إلى (أدرك) >دعوته إلى السفر<. لا أحد اقتفى أثره، لا أحد سوى ديدرو.

ديدرو، هو وحده الذي كان مستجيبا لنداء الجديد هذا. قد يكون من العبث الحط من قيمة أصالته لهذا السبب. لا أحد يجادل في أصالة مؤلف كروسو ولا كلو وغوته بدعوى أنهم يدينون بالشيء الكثير (هم كروائيين و تطور الرواية برمته) لنموذج الهرم والساذج ريتشاردسون. وإذا كان التشابه صارخا إلى هذا الحد بين سترن وديدرو فلأن مشروعهما المشترك ظل، في تاريخ الرواية، مشروعا معزولا تماما.

(6)

إن الاختلافات بين رواية تريسترام شاندي ورواية جاك القدري ليست من جهة أخرى أقل أهمية من التشابهات. ثمة أولا اختلاف في المزاج : سترن بطيء طريقته هي التبطيء، ونظرته إلى الأشياء نظرة مجهرية (إنه يعرف كيف يوقف الزمن ويعزل ثانية واحدة من الحياة كما سيفعل ذلك فيما بعد جيمس جويس). بينما ديدرو سريع، طريقته هي التسريع، ونظرته إلى الأشياء نظرة شمولية (لا أعرف بداية أكثر سحرا بالنسبة لرواية ما من الصفحات الأولى لـجاك القدري : التغيير البارع للسجلات، دلالة الإيقاع وبداهته، الإيقاع السريع جدا للجمل الأولى).

ثمة بعد ذلك اختلاف في البنية : إن رواية تريسترام شاندي هي عبارة عن منولوغ لسارد واحد هو تريسترام نفسه. يتعقب سترن بدقة كل نزوات فكره الشاذ. بينما نجد عند ديدرو خمسة رواة يقصون حكايات الرواية وكل واحد يقاطع الآخر في الحديث :

1 – المؤلف نفسه (متحاورا مع قارئه)

2 – السيد (متحاورا مع جاك)

3 – جاك (متحاورا مع سيده)

4 – صاحب النزل (متحاورا مع مستمعيه)

5 – الماركيز ديزارسي.

إن التقنية المهيمنة في كل الحكايات الخاصة هي الحوار (وبراعة الحوار لا نظير لها). بيد أن الرواة يرون هذه الحوارات وهم يحاورون (كل الحوارات مندمجة في حوار واحد) إلى حد أن الرواية بكاملها ليست سوى محتورة طويلة بصوت مرتفع.

وثمة أيضا اختلاف في الروح : إن كتاب الكاهن سترن هو توفيق ما بين الروح الماجنةlibertin والروح العاطفية، ذكرى مأخوذة بالحنين إلى مرح رابليه مع مطلع العصر الفيكتوري المتميز بالحشمة والحياء. بينما رواية ديدرو انفجار حرية جريئة بلا رقابة ذاتية وانفجار إيروسية بلا حجة عاطفة.

وثمة أخيرا اختلاف في درجة الإيهام بالواقع. إن سترن يقلب التسلل الزمني للأحداث لكن الأحداث متجذرة على نحو متين في الزمان والمكان. إن الشخصيات غريبة الأطوار لكنها مزودة بكل ما يمكن أن يوهمنا بوجودها الواقعي.

إن ديدرو يخلق فضاء لم نر له مثيلا في تاريخ الرواية قبل ديدرو. إنه مشهد بدون ديكور. من أين جاءا؟ لا ندري. ما اسمهما؟ هذا أمر لا يعنينا. ما عمرهما؟ إن ديدرو لا يفعل قطعا أي شيء لكي يوهمنا بأن شخصياته توجد واقعيا وفي لحظة محددة. في تاريخ الرواية برمته. إن رواية جاك القدري تمثل الرفض الأكثر جذرية للإيهام الواقعي ولجمالية الرواية المسماة سيكولوجية.

(7)

إن تجربة تلخيص الكتب Reader’s digest تعكس بكيفية أمينة الاتجاهات العميقة المميزة لعصرنا وتجعلني أتصور أنه في يوم ما ستعاد بصفة كاملة كتابة كل ثقافتنا الماضية، وستهمل بصفة كاملة خلف إعادة كتابتها. إن الاقتباسات السينمائية والمسرحية للروايات المشهورة ليست سوى تلخيصات من نوع خاص.

لا يتعلق الأمر هنا بالدفاع عن العذرية المقدسة للأعمال الفنية. من المعروف أن شكسبير، هو أيضا، أعاد كتابة أعمال أبدعها آخرون لكنه لم ينجز اقتباسات بل استغل هذا العمل الفني أو ذاك ليجعل منه موضوعة لتنويعه الخاص به والذي صار مؤلفه بلا منازع. لقد أخذ ديدرو عن سترن كل حكاية جاك القدري الذي أصيب بجرح في ركبته ونقل على عربة وعولج من طرف امرأة جميلة. وديدرو، إذ يفعل ذلك، لم يحاك حكاية سترن ولا قام باقتباسها، لقد كتب تنويعا حول موضوعة سترن.

وبالمقابل، فإن عمليات النقل لرواية آنا كارنين المعروفة في المسرح أو السينما هي اقتباسات أي اختزالات. كلما أراد مقتبس أن يظل محتجبا باحتشام خلف الرواية كلما خانها. وباختزالها فإنه يسلبها ليس فقط سحرها وإنما أيضا مغزاها.

لنقف عند تولستوي. لقد طرح تولستوي، بطريقة جديدة جذريا في تاريخ الرواية، مسألة الفعل الإنساني : لقد اكتشف الأهمية الحاسمة، بالنسبة لقرار إنساني، للعلل غير القابلة للإدراك على نحو معقول. لماذا انتحرت آنا؟ يذهب تولستوي إلى حد استعمال منولوغ داخلي شبه جويسي لكي يبرهن على نسيج الدوافع اللامعقولة التي تحكمت في سلوك بطلته. والحال أن كل اقتباس لهذه الرواية يحاول بالضرورة وبالقياس لطبيعة التلخيص Reader’s digest أن يجعل علل سلوك آنا جلية ومنطقية، يحاول أن يعقلنها. وهكذا يغدو الاقتباس مجرد نفي لأصالة الرواية.

ويمكن أن نقول الشيء ذاته على نحو معكوس : إذا ما ظل مغزى الرواية على ماهو عليه بعد إعادة كتابتها فإنه الدليل غير المباشر على رداءة الرواية. والحال أن ثمة في الأدب العالمي روايتين غير قابلتين على الاطلاق لاختزالهما وغير قابلتين نهائيا لاعادة كتابتهما : تريسترام شاندي وجاك القدريس، هذا اللانظام المذهل كيف السبيل إلى تبسيطه حتى يتبقى منه بعض الشيء؟ وما الذي يجب أن يتبقى منه؟

بوسع المرء أن يعزل حكاية ما دام دولا بومري ويحولها إلى مسرحية أو فيلم (وقد حصل هذا) لكن الشيء الذي سيحصل عليه لن يكون سوى أحدوثة لا قيمة لها مجردة من كل سحرها. وبالفعل لا يمكن فصل جمال هذه الرواية عن الطريقة التي يرويها ديدرو بواسطتها.

1 – تروي امرأة من عامة الناس أحداثا تجري في وسط غريب عنها.

2 – كل التماهي الميلودرامي مع الشخصيات يبدو مستحيلا والسبب هو أن الحكاية تقطع باستمرار وبغتة بواسطة حكايات صغيرة وأحاديث أخرى.

3 – يتم التعليق عليها بلا انقطاع وتناقش.

4- لكن كل معلق على حدة يستنبط منها خلاصة مغايرة علما أن حكاية مدام دولابومري تنطوي على مغزى أخلاقي مضاد.

لماذا أسهب في الحديث عن هذا كله؟ لأنني أريد أن أعبر عن غضبي بمعية جاك >سحقا لكل أولائك الذين يسمحون لنفسهم بإعادة كتابة ما سبقت كتابته، ليخصوا ولتقطع آذانهم!<

(8)

وبالطبع، أسهب في الحديث عن هذا كله لأقول بأن مسرحيتي جاك وسيده ليست اقتباسا. إنها مسرحيتي أنا، >تنويع حول ديدرو خاص بي< >احتفائي بديدرو< ما دامت مسرحية تم تصورها وبلورتها في نطاق الإعجاب بديدرو.

هذا >التنويع -الاحتفاء< هو التقاء متعدد الأوجه : التقاء ما بين كاتبين، ولكن أيضا ما بين قرنين : التقاء ما بين الرواية والمسرح. لقد كان شكل أي عمل مسرحي صارما ومقننا أكثر من شكل الرواية. لم يعرف المسرح أبدا مؤلفا مبدعا في حجم لورانس سترن. وتبعا لذلك ألفت ليس فقط >احتفاء بديدرو< وإنما أيضا >احتفاء بالرواية< محاولا أن أمنح لنصي الكوميدي هذه الحرية الشكلية التي اكتشفها ديدرو الروائي والتي لم يعرفها ديدرو المؤلف المسرحي.

إن بناء هذه الكوميديا يكون على الشكل التالي :

على الأساس الهش لرحلة جاك وسيده تستند ثلاث حكايات غرامية : حكاية السيد وحكاية جاك وحكاية دولابومري. وفي الوقت الذي تكون فيه حكاية السيد وحكاية جاك موصولتين بكيفية ضئيلة (ضئيلة أكثر بالنسبة للحكاية الثانية) بخاتمة الرحلة، فإن حكاية مدام دولابومري التي تشغل الفصل الثاني من المسرحية تعتبر تقنيا مجرد فصل استطرادي (حلقة) (إذ أنها ليست جزءا متمما في الحدث الرئيسي) الأمر يتعلق هنا بخرق واضح لما يطلق عليه قوانين البناء الدرامي. وعند هذه النقطة وجدت رهاني :

التخلي عن الوحدة الصارمة للحدث وخلق انسجام لكل العناصر بواسطة أدوات دقيقة أكثر : بواسطة البوليفونيا (لا تروى الحكايات الثلاث الواحدة تلو الأخرى لكنها ممتزجة ومتشابكة) وأيضا، بواسطة تقنية التنويعات (كل حكاية من الحكايات الثلاث هي تنويع للأخرى). (وبالتالي، فهذه المسرحية التي هي >تنويع حول ديدرو< هي بذات الوقت >احتفاء بتقنية التنويعات< كما كان شأن روايتي >كتاب الضحك والنسيان< سبع سنوات فيما بعد ذلك).

(9)

لقد كان أمرا غريبا بالنسبة لكاتب تشيكي، في سنوات السبعين، أن يتخيل بأن رواية >جاك القدري< (التي كتبت هي أيضا في سنوات السبعين من القرن الثامن عشر) لم تنشر أبدا أثناء حياة مؤلفها وبأن بعض النسخ المخطوطة أمكنها أن توزع على جمهور محدود وسري. إن الأمر الذي كان استثناء في عهد ديدرو قد غدا قرنين فيما بعد، في براغ، المصير المشترك لكل الكتاب التشيكيين المهمين. هؤلاء الكتاب، إذ منعوا من النشر، لم يعد بوسعهم تصور كتبهم إلا على شكل نسخ مرقونة بالآلة الكاتبة. إن هذه الوضعية قد انطلقت مع الغزو الروسي وهي دائمة، وحسب كل احتمال، ستدوم.

لقد ألفت مسرحية جاك وسيده من أجل متعتي الحميمية، ولربما، بالفكرة الغامضة أنها ستقدم يوما ما على خشبة مسرح تشيكي تحت إسم مستعار. وعلى سبيل التوقيع، فقد نثرت في ثنايا النص (وهذا لعب أيضا، تنويع!) بعض العناصر التي تذكر بكتبي السابقة. فالثنائي جاك وسيده تذكير بثنائي الصديقين في قصة >التفاحة الذهبية للرغبة الخالدة< في غراميات مرحة. ثمة تلميح إلى روايتي الحياة هناك وتلميح آخر إلى روايتي فالس الوداع. أجل كانت (تلميحات) ذكريات كانت المسرحية برمتها وداع حياتي ككاتب >وداعا على صورة تسلية<. إن فالس الوداع، الرواية التي فرغت من كتابتها في ذات الوقت، كان من الضروري أن تكون روايتي الأخيرة. ورغم ذلك، فقد عشت تلك الفترة محروما من الطعم المر لفشل شخصي وذلك لأن الوداع الشخصي كان يتطابق مع وداع آخر هائل ويتجاوزني :

أمام أبدية الليل الروسي، عشت في براغ النهاية العنيفة للثقافة الغربية كما تم تصورها وصوغها مع فجر الأزمنة الحديثة، تلك الثقافة التي تقوم على الفرد وعلى العقل، على التعدد الفكري وعلى التسامح. لقد عشت نهاية الغرب في بلد غربي صغير. وهذا هو ما كان الوداع الكبير.

(10)

لقد خرج دون كيشوت، في يوم من الأيام من منزله، وبمعيته كخادم له رجل قروي أمي من أجل محاربة أعدائه. مائة وخمسون سنة بعد ذلك، سيجعل طوبي شاندي من حديقته تصميما مكبرا لساحة معركة وهنا استسلم لذكريات شبابه عندما كان محاربا، يساعده بأمانة خادمه تريم. كان هذا الخادم أعرج تماما كجاك الذي، عشر سنوات بعد ذلك، رفه عن سيده أثناء رحلته. لقد كان جاك ثرثارا وعنيدا جدا كما سيكون مائة وخمسين سنة بعد ذلك، شأن الضابط المرافق في جيش امبراطورية النمسا -المجر جوزيف شفييك الذي امتع وأرعب سيده الملازم الأول لوكاتش. ثلاثين سنة بعد ذلك، وفي انتظار غودو، يجد فلا ديمير وخادمه نفسهما وحيدين في قلب المشهد الفارغ للعالم. وبهذا تكون الرحلة قد انتهت.

عبر الخادم وسيده التاريخ الغربي برمته، في براغ، مدينة الوداع الأخير كنت أسمع ضحكهما وهو يتلاشى. بحب وبرعب ، كنت أتشبث بهذا الضحك كما يتشبث المرء بالأشياء الهشة والآيلة إلى الزوال والمحكوم عليها بالموت.

————————————————-

المعاني

تسريع Accélération

اقتباس Adaptation

نموذج أصلي Archétype

تبطيء Décélération

استطرادDigression

تسليةDivertissement

روحEsprit

هيدونيHédoniste

سخريةHumour

إيهام بالواقعIllusion réaliste

تعصبIntolérance

ماجن Libertin

ذهنية Mentalité

حنينNostalgie

اللاعقل Non-entendement

أصالة originalité

فكر مطابق للعقل Pensée rationnelle

اكتمال Pleinétude

شعر فروسيPoésie chevaleresque

بوليفونيا Polyphonie

إمكانية لعبية Possibilité ludique

إيقاع سريع جدا Prestissimo

مختصرReader’s digest

اختزال Réduction

إيقاع Rythme

حساسية Sensibilité

عاطفةSentiment

موضوعة Thème

تسامحTolérance

نقل Transposition

تنويعVariation