حسن مخافي – كلية الآداب – مكناس
1-1- تحتل قصيدة النثر، في أيامنا هذه، موقعا هاما في المشهد الشعري العربي، من حيث الكم على الأقل. وعلى الرغم من وفرة الإنتاج، على المستوى الإبداعي، إلا أن ذلك لم يسهم، بشكل حاسم، في بلورة مفهوم لقصيدة النثر، على المستوى النقدي، بصفة عامة، وعلى مستوى التنظير بصفة خاصة. فالكتابات النقدية العربية عن هذا النمط من الإبداع الشعري، مازالت تراوح مكانها منذ أن بشرت حركة مجلة >شعر< بقصيدة النثر، باعتبارها مخرجا لأزمة الحداثة الشعرية.
لقد مضت أربعون سنة تقريبا على منح شهادة الميلاد لقصيدة النثر في الأدب العربي الحديث، وكان من المفروض أن يستقيم هذا الجنس الشعري، وفق >قوانين خطاب< تمنحه خصوصيته، وتزيل عنه >عيوب< البدايات. ولكن المتتبع للإنتاج الشعري العربي الحديث يمكن أن يكتشف بسهولة، لا تحتاج إلى مجهود، أن مفهوم قصيدة النثر، لم يزدد مع انصرام السنين إلا غموضا وضبابية، فمجمل الكتابات عن قصيدة النثر ليست عاجزة فحسب عن السير قدما بمجهودات حركة مجلة >شعر< في هذاالمجال، ولكنها عاجزة أيضا عن استيعاب تلك المجهودات ومسايرتها، الشيء الذي نتج عنه نوع من الفوضى في الكتابة التي انحازت إلى هذا النمط، خاصة عند من يسمون الشعراء الشباب. ومن هذه الزاوية، فإن قصيدة النثر أصبحت في كثير من الأحيان >حمار الشعراء< يمتطيها من يفتقر إلى توازن كي يصعد سلم الشعر الطويل والصعب. وقد أدى هذا إلى سطوع نجم شعراء >حداثيين< ضاحلي الموهبة الشعرية، فقراء في لغتهم وخيالهم.
وعوض أن ينبري النقد العربي الحديث إلى تقويم هذه الوضعية الشعرية المزرية عبر تطوير المجهودات الأولى في التنظير لقصيدة النثر، فإنه ساير هذه الجوقة المتنافرة الأصوات، مرة تحت ذريعة النزعة الوصفية الفجة، وتارة عبر حشو المقاربة النقدية بمفاهيم مرعبة، تقمع القارئ وتؤدي إلى فقدان ثقته بنفسه، وتلوي عنق النص من خلال تأويلات بعيدة همها الوحيد أن تصبغ مشروعية على نص شعري ليس فيه من الشعر إلا الإسم.
لا تروم هذه الدراسة، بهذاالكلام، المس بمشروعية قصيدة النثر باعتبارها وجها من أوجه الإبداع الخلاق في الشعر العربي الحديث. فقد انطلقت بشكل واع مع نهاية الخمسينيات من هذا القرن لتفتح أفقا شعريا جديدا يضفي مرونة كبيرة على الخطاب الشعري ويعيد الاعتبار لتجربة الشاعر في حل عن الإكراهات العروضية واللغوية التي تضيق من مجال حركته. واستطاع رواد قصيدة النثر في زمن قياسي من أمثال أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس وغيرهم أن يفرضوا هذا النمط من الكتابة الشعرية، بأعمالهم الإبداعية التي لا تقل شعرية عن القصائد الموزونة وبمجهودات نظرية فذة، عملت على صياغة مفهوم حديث للقصيدة العربية عامة، كما حاولت تجنيس قصيدة النثر في الأدب العربي على وجه خاص.
ولكن الوضعية التي تجتازها قصيدة النثر والتي تمت الإشارة إلى بعض ملامحها الكبرى، تتطلب من النقد العربي -تنظيرا وممارسة- مساهمة جذرية في هذا الميدان؛ استكمالا لمساهمة أولئك الرواد من أجل تجنيس قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث بما يجعل منها اختيارا شعريا واعيا بخصائصه الفنية، ومدركا لخلفياته التي ترمي، من بين ما ترمي إليه، إلى إضفاء حركية جديدة على الكتابة الشعرية وإلى نوع من التعددية داخل الخطاب الشعري تمردا على كل ما هو رتيب وثابت.
2-1- وتقترح الدراسة الحالية مساءلة الأسس النظرية التي قامت عليها قصيدة النثر لدى حركة مجلة شعر، وذلك انطلاقا من الاعتبارات والفروض التالية :
1-2-1 تفترض هذه الدراسة، أن قصيدة النثر في الأدب العربي الحديث، قد عرفت انطلاقتها الأولى، في ركاب حركة مجلة >شعر< خلافا لما يذهب إليه بعض النقاد الذين يبحثون عن بداياتها، في التراث العربي، أو في كتابات العشرينيات والثلاثينيات، ويقوم هذا الافتراض على أن قصيدة النثر، تختلف اختلافا جذريا عما كان يسمى>الشعر المنثور< تارة أو >النثر الشعري< تارة أخرى، أو >الشعر المرسل< تارة ثالثة وهذا النوع من الكتابة الذي عرف به نجيب الريحاني، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهم.
1-2-2 إن مجلة >شعر< هي التي منحت لقصيدة النثر اسمها، الذي نعرفها به الآن، وذلك في مقابل ما يعرف في الأدب الفرنسي ب Le poème en prose ، الذي أرسى دعائمه بودلير وإطلاق إسم قصيدة النثر على الكتابة الشعرية التي لا تستجيب لقواعد العروض، هو تميز لها عن أنواع الكتابات النثرية المشار إليها، ولا يقتصر هذا التمييز على الإسم، بل يتجاوزه إلى اختلاف في مكونات الخطاب في كل منهما، كما سيتضح لاحقا.
1-2-3 إن اكتشاف قارة قصيدة النثر من لدن >شعر< في عالم الشعر العربي، قد دفعتها إليه دفعا رؤيتها إلى الحداثة الشعرية، وفق نسق نظري مبني، كان يروم صياغة جديدة لمفهوم القصيدة في الشعر العربي الحديث. ولا يمكن بأي حال من الأحوال استيعاب قصيدة النثر إلا في إطار هذا السياق العام، الذي تطمح هذه الدراسة إلى الكشف عنه.
1-2-4 إن اللجوء إلى قصيدة النثر، قد صاحبه، لدى حركة مجلة >شعر< وعي حاد بضرورة هذا النمط من الكتابة الشعرية، نتيجة للقول بالحداثة الشعرية، وهذا ما يفسر أن الحركة لم تكتف باعلان تبنيها له على المستوى الإبداعي بل أردفت ذلك -بصورة محايثة- بدراسات نظرية تكشف عن وعي متقدم بالحاجة إلى قصيدة النثر، بعيدا عن النزق التجريبي الذي نشهده عند بعض الشعراء في أيامنا هذه.
2-1 لقد كانت حركة مجلة >شعر< تؤكد على أولوية >المضمون< في تحديد مفهوم الشعر، ذلك أن مصدر الشعرية لديها لا يكمن في طرائق التعبير، بقدر ما يبرز في الشحنة الرؤيوية التي يفصح عنها، ومن الطريف أن الحركة كانت تعاصر ما كان يسمى >النقد الجديد<، الموسوم بنزعته الشكلانية في الغرب، دون أن تتأثر به، رغم أن جميع المؤشرات توحي بأن الشعرية الغربية كانت تشكل بالنسبة إليها أحد الإطارات المرجعية المعتمدة في التنظير للشعر الحديث.
إلا أن التركيز على >المضمون< كمصدر أساسي لشعرية نص ما، لم يكن ليلغي أهمية الأشكال الشعرية لدى >شعر< وإذا كان هم الحركة ينصب على البحث عن دور متميز للشعر، في العالم المعاصر، يضمن له خصوصيته الشعرية فإنها من جانب آخر، قد سعت إلى إيجاد صياغات جديدة، من شأنها أن تستوعب تجربتها الشعرية، دون أن تكون شاهدا على شعر الرؤيا.
ومن ثم، فإنها كانت تأخذ على التجارب الشعرية، التي سبقتها، أنها ما زالت مشدودة إلى الماضي، وانها لم تنجح في تغيير >جوهر< الشعر العربي، وأن الأغراض الشعرية التي عرفها العرب منذ القدم، ما فتئت تهيمن على الشاعر العربي الحديث، عن وعي، أو عن غير وعي. وذهبت -بالمقابل- إلى أن الخروج عن القالب الموسيقي القديم في الشعر، لم يحدث -بدوره- أي تطور جذري على القصيدة العربية. فإذا كان نظام البحر قد نجح في التقعيد للشعر العربي القديم، فإن نظام التفعيلة، لا يعدو أن يكون تنويعا على هذا التقعيد. ومن هنا رأت أن شعر التفعيلة قد أصبح عاجزا عن أن يشكل تحولا حقيقيا في مسيرة الشعر العربي.
إن عالم الرؤيا الذي رسمت >شعر< خطوطه العريضة هو عالم شخصي -بمعنى ما- ومن أجل استكناهه فإن الشاعر ينبغي أن يعتمد التجربة الفردية، التي هي منبع الرؤيا، الشيءالذي يجعله مشحونا بنزعة أنطلوجية ميتافزيقية. وهذا أدى على مستوى التعبير، إلى أن شعار >الحرية< كمحتوى قد انتقل إلى شعار يمس مكونات الخطاب الشعري نفسها. وإذا كانت >الحرية< التي كانت تدعو إليها >شعر< هي حرية فردية، فانها كانت تنادي -بموازاة مع ذلك- إلى حرية الشاعر في اختيار الأشكال التعبيرية، التي تجسد حرية >المضمون<. ومن هنا سقطت كل المقاييس لفرز ما هو شعر، عما ليس شعرا، وحلت محلها مقاربات، خالية من اليقينية والوثوقية وكأننا أمام >كتابة< ولسنا أمام شعر. وكما سيتضح لاحقا، فإن الحركة كان يحركها هاجس نص شامل، يخترق نظرية الأجناس الأدبية، ولا يستقر على مواصفات محددة. ورغم أن >شعر< لم تستطع أن تحقق هذا الهدف كاملا، إلا أن منابر أخرى، أتت من بعدها وعلى رأسها مجلة >مواقف< التي يمكن اعتبارها من هذه الزاوية امتدادا وتطويرا لمشروع >شعر<، قد عملت على تأسيس ما يمكن أن نسميه، كتابة عربية جديدة، وذلك من خلال الإبداعات التي كانت تضيق من التصنيف، وتعلن عن نفسها، تحت يافطة >النصوص< أو من خلال تنظيرات أدونيس خاصة، الذي كان يعتبر رائد المنظرين في >شعر<.
هكذا رأت حركة مجلة >شعر< أن أول شرط للإبداع الشعري هو الحرية، في بعدها المعنوي وفي بعدها الفني معا. وتجد هذه الحرية تجسيدها الملموس، لدى الحركة في التركيز علي نقطتين، لا يمكن الفصل بينهما.
2-1-1 أما الأولى فتكمن في التركيز على العلاقة الجدلية بين شكل العمل الشعري ومضمونه، رغم اقتناع >شعر< بتبعية الأول للثاني، وبناء على هذه العلاقة، فإن >الغالب هو جزء من بناء الفكرة العضوي مهمته تغذية الفكرة وتنميتها وإعطاؤها كل مدى أبعادها وظلالها بقدر ما تبيحه طبيعة الفكرة، وما تحتويه من أبعاد وظلال. القالب الجديد للفكرة أو العاطفة، أو الإحساس الجديد، ينتج عن ممارسة لحياة جديدة، وإيمان أعلى في الحياة الجديدة، أما القالب العتيق، فهو للفكرة العتيقة المنبثقة عن ممارسة لحياة عتيقة أيضا<(1). وهكذا ترجع >شعر< تطور القالب الفني، مثله مثل >المضمون<، إلى ضرورة الاستجابة لروح العصر. وبهذا المعنى، ينتفي كل صراع بين القديم والحديث، ما دام كل منهما يسعى إلى التعبير عن روح عصره : >أنا لا أومن بالتفرقة بين الشعر القديم والشعر الحديث، فالشعر هو الشعر، لا قديم فيه ولا جديد< (2). ولكن وجهة النظر العامة هذه، لم تمنع حركة مجلة >شعر< من توجيه نقد عنيف إلى الشعر العربي القديم، لأنه يولي أهمية قصوى للقالب، ويكاد يهمل >المضمون<. فالحياة العربية قد تعرضت -على مر العصور- لتحولات شتى، ولكن القالب الشعري الذي صاغ هذه الحياة بقي وفيا للنموذج الجاهلي، مما يدفع إلى القول، إن الشعر العربي يعتمد قوالب جاهزة وموروثة، محددة مسبقا، وهو ما أدى إلى كونه شعرا يتسم بالازدواجية.
أما المفهوم الشعري، الذي كانت >شعر< تدعو إليه، فينظر إلى القصيدة >بعكس مفهوم النقاد والشعراء العرب، حتى أيامنا، كمخلوق عضوي، لا ازدواجية فيه بين المعنى والمبنى، وهي تنمو بين يدي الشاعر، في المبنى والمعنى معا<(3).
لا شك في أن مسألة العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي عامة، وفي العمل الشعري بصفة خاصة، هي مسألة توكل إلى النقد أكثر مما تتعلق بالإبداع. هذا، على الرغم من أن >قوانين خطاب< ما تفرض تكييف المضمون مع الشكل، أو العكس. ومن هنا، فإن الذي يؤدي إلى الفصل بينهما، إنما هو الناقد الذي يفتقر إلى الأدوات المنهجية التي تربط بينهما. ولكن الشاعر أيضا، كثيرا ما يخضع إلى إكراهات اللحظة التاريخية التي ينتمي إليها، فيعجز عن إيجاد القالب المناسب للأفكار الجديدة التي يريد أن يعبر عنها. وبهذا يمكن أن نفسر ضيق الشعراء العرب -منذ القديم- بصرامة النموذج الجاهلي، وتمردهم عليه، بين الحين والآخر.
غير أن حركة مجلة >شعر<، كانت ترمي من خلال دعوتها تلك، إلى إحداث ثورة في مفهوم الشعر، كما عرفه الغرب إلى حدود منتصف القرن الحالي وهو ما يدخل في صميم أخذها بمبدأ >التحديث< الذي بشرت به، والذي يأخذ على عاتقه إعادة النظر في الموروث الشعري واقتحام مجال الحضارة االإنسانية الرحب، وهي بهذا منسجمة مع توجهها العام : فإذا كانت وظيفة الشعر لديها، تتمثل في الكشف عن عالم عائم، غير محدد، وميتافزيقي، فإن القالب الشعري الذي يتسع لاستيعاب تلك الوظيفة ينبغي أن يكون قالبا إنسانيا.
إن الفكرة في الشعر >تفرض شكله التعبيري، وإن القصيدة الحديثة تعبير عن فكرة كبرى، عن حقيقة إنسانية شاملة، من خلال الجزئيات، ولذلك تفرض وجود أسلوب تعبيري جديد. لا فرق في أن يكون مرسلا أو موزونا، المهم هو البحث عن طريقة تستوعب أعماق الفكرة وتستهلكها، والقصيدة الحديثة من هذه الناحية، لم تكتمل بعد، فهي أبدا تبحث عن مركز تستند إليه<(4).
ولما كانت >الفكرة الغيبية الكبرى< تنبع من التجربة الفردية للشاعر، فإن الشكل الشعري -بدوره- ينبغي أن يصدر عن نفس التجربة وليس عن قالب مسبق، وبذلك تضرب الحركة عرض الحائط بكل المقاييس >الثابتة< المتعارف عليها في الشعر، ويتمرد الشعر على كل التعريفات والصفات التي تحضره في نطاق معين، إذ ليس هناك >وجود قائم بذاته، جوهر ثابت، مطلق، نسميه الشعر، ونستمد منه المقاييس والقيم الشعرية الثابتة، المطلقة. ليست هناك بالتالي خصائص ثابتة مطلقة تحدد الشعر، ماهية وشكلا، تحديدا ثابتا مطلقا. الوجود الحقيقي هو الشاعر، هو القصيدة <(5). من هنا، فان أية قراءة للقصيدة، إنما هي قراءة لتجربة الشاعر وليس للشعر، على وجه العموم. لأن الشعر تبعا لتحليل أدونيس يصبح جنسا متنوعا بتنوع التجارب الشعرية.
2-2-1 أما النقطة الثانية، فهي امتداد للنقطة الأولى وتكملة لها، فما دام الشاعر هو مصدر الشعر، مضمونا وقالبا، فإن >شعر< ركزت على ضرورة إعطائه الحرية الكاملة في اختيار قالبه، دون حاجة إلى النظر إلى الأمام، وإلى الوراء إلا من أجل تجاوزهما. ولما كانت الرؤيا في الشعر فردية ومعادية لكل ما يمت إلى التقاليد الاجتماعية بصلة، فإن >شعر< كانت ترد ثبات الشعر العربي في قالب واحد، إلى أخذه بالأحكام >العامة، والمسلمات الاجتماعية والدينية القائمة، دون إخضاعها إلى تأمل ذاتي، نقدي من الشاعر<(6). وقد نتج عن هذا أن >تضاءلت التجربة الإنسانية الشاملة من الشعر العربي، وكادت تفقد التجربة الذاتية، ومظاهر القلق والصراع<(7) وبعبارة أخرى، فإن ذاتية الشاعر قد ذابت في ذاتية الجماعة، مما أدى إلى أن الشعر أصبح تجربة جماعية، ليس لذاتية الشاعر فيها مكان.
وبما أن الخضوع للجماعة يتم تحت اتفاق عرفي، فإن هذا الاتفاق قد جسد -إبداعيا- في قواعد الشعر المعروفة التي تتلخص في قول قدامة : >الشعر قول موزون مقفى، يدل على معنى<.
متى تم خروج الشاعر عن طوق الجماعة؟ الإجابة لدى >شعر< أن هذا الإنجاز تحقق عندما أدرك الشاعر وجوده المتافيزيقي، عبر فلسفات القرنين التاسع عشر والعشرين، وعندما وصل إلى الحقيقة التي تقول : إن وجوده في حريته الفردية. وقتذاك تمت عملية بعث الشاعر / النبي من جديد.
إن تركيز حركة مجلة >شعر< على الحرية الفردية، التي تصل إلى حد التقديس، قد أدى بها -في بعض الأحيان- إلى التنظير للشاعر أكثر من التنظير للشعر نفسه. ذلك أنها ذهبت إلى تأكيد الطابع الفردي والشخصي، للتجربة الشعرية وبما أن تلك التجربة الشخصية، التي هي مصدر الشعر- تتفاوت من شاعر إلى آخر، فان القول بوجود قالب شعري مسبق يلغي هذه التجربة، ومن ثم دعت الحركة في مواضع كثيرة إلى >التحرر في صناعة الشعر من جميع القوالب المسبقة، الموروثة، المفروضة على الشاعر خارج موهبته الفردية وذوقه الشخصي< (8)، كما حرضت على >إطلاق الشعر من كل قيد أو شرط، فلا قواعد عروضية مسبقة، ولا حدود تقف حائلا بين الشاعر والإبداع<(9).
ويمكن للمرء أن يتساءل -بعد هذا- عما بقي من الشعر للشعر إذا تخلص من الخصائص التي يعرف بها كخطاب؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تشكل قطب الرحى بالنسبة للبحث الحالي الذي سيحاول عبر مراحل تلمس الطريقة إلى تحليل التساؤل السابق. على أن البحث يبادر في هذه المرحلة إلى تسجيل ملاحظتين تبدوان في غاية الأهمية :
2-1-3 إن مجلة >شعر< وهي تأخذ بالتجاوز إلى حدوده القصوى، كانت مدركة لضرورة البحث عن >بديل< شعري، إن على المستوى الإبداعي، أو على مستوى التنظير. ويسود مجلة >شعر< – في مواقع كثيرة – إحساس بالحرج من جراء هذا الرفض المطلق لكل ما من شأنه أن يقنن الخطاب الشعري. فهذة خالدة سعيد – على سبيل المثال – تعبر عن ذلك الإحساس، وتقول >عناصر الشعر القديم الرئيسية هي الوزن والقافية، فهي الآنية التي تمسك، بالمادة الشعرية. جاء بعض الشعراء الحديثين ليتخلوا عنها، فكسروا الآنية. واندلق الشعر حيا بين أيديهم. وبالطبع حاولوا أن يصلوا إلى أسلوب يمكنهم من الاحتفاظ بالشعر، على الرغم مما فعلوا. السؤال الذي يواجهه شعرهم : ما هي المقومات التي اعتمدوها لتحل محل المقومات القديمة؟ إذ أن الشاعر الذي رفض العناصر الشكلية البحت، عليه أن يتوجه إلى نفس القارئ على متن أشرعة جديدة< (10).
2-1-4 إن هذا الإحساس بالحرج تجاه >البديل< هو ما جعل >شعر< تحد من جموح الحرية التي نادت بها تارة بالقول إن >الحرية لا تعني الفوضى، فالشاعر الحق يضع لنفسه، في حريته قواعد وحدودا، يستمدها من ذوقه الشعري السليم<(11) وتارة أخرى بالاعتراف بأن الحرية قد تؤدي إلى الفوضى، ولكنها >الفوضى التحريرية العارفة< (12) التي >يجب ألا تخيفنا بقدر ما يجب أن يخيفنا النظام القاصر العقيم< (13).
ويظهر أن حركة مجلة >شعر< في كل الأحوال لم تستطع أن تحقق هذا المشروع الطافح بالطموح، إلا بشكل نسبي، وبقدر ما تسمح به الشروط الموضوعية التي كانت تحيط بها : وهذا العجز لا يعوزه الدليل، فقد لاحظ كمال خير بك -عن حق- أن أعضاء >شعر< قد >كتبو أفضل أعمالهم الشعرية في أبيات موزونة مقفاة، لم تكن التعديلات الوزنية لتمنعها من الاحتفاظ بالنبرة الموسيقية النادرة للشعر العربي القديم< (14) بل إن >شعر< نفسها أصبحت تشكو من الشكل الشعري، الذي عملت على ترسيخه، وهو ما أكده يوسف الخال، حين أعلن أن >الشكل الجديد للشعر العربي المعاصر قد بلغ مرحلة الاستنفاذ<(15).
2-2-1 لعل أبرز ما يميز موقف حركة مجلة >شعر< من قوانين الخطاب الشعري العربي القديم، هو تلك الازدواجية، التي تتمثل من ناحية، في الدعوة إلى تحرر الشعر العربي الحديث من أي قالب مسبق، ومن ناحية ثانية، في إصرارها على اعتبار نفسها امتدادا للتراث الشعري العربي ويمكن أن نسجل الطابع >الشكلي< لهذه الازدواجية إذا أدركنا أن >شعر<، إنما لوحت بالانتماء إلى التراث، تحت ضعط الحاجة إلى>مظلة< إيديولوجية، تتيح لها فك العزلة التي ضربت حولها، نتيجة نزعتها >اللاقومية< في وقت كان فيه التراث يشكل الأرضية الأولى، لما كان يسمى في الأدبيات القومية آنذاك >الهوية العربية<. وقد تأكد انسلاخ >شعر< عن التراث في مفهومها لما كانت تسميه >القصيدة الرؤيا<، كما أنها أعلنت الانفصال عن التراث من خلال سعيها إلى لغة شعرية، لم تكن سوى صدى لدعوة بعض الشعراء الغربيين، إلى ضرورة الاقتراب من اللغة اليومية.
ولكن رفض حركة مجلة >شعر< للمضامين الشعرية، التي كانت سائدة في العالم العربي، ومحاولتها إعادة النظر في اللغة الشعرية، لا يمثلان في حقيقة الأمر سوى لبنتين في صرح مفهوم الشعر لديها. فقد كان طموحها يرمي إلى تحقيق حداثة تأسيسية تبحث عن >جوهر< جديد للشعر العربي. وهكذا فإنها لم تقنع بالإنجازات التي حققها رواد القصيدة الحديثة، لانهم >اقتصروا على التلاعب الجزئي والسطحي، ببعض جوانب الشكل غير الأساسية، بينما ظلوا في العمق مغمورين بالقديم< (16) والإشارة هنا، كما هو واضح إلى الشكل الوزني الذي يقوم على التفعيلة ولذلك يمكن القول إن مبدأ الاختلاف الذي قامت عليه >شعر< من أجل تغيير جوهر الشعر العربي، انما يجد صياغته الأكثر عنفا في رفضها للوزن كمكون ثابت في العملية الشعرية. وهي بذلك تضرب مفهوم الشعر كما تعورف عليه لمدة طويلة في الصميم، ليس لدى العرب فحسب، بل إن اقتران الشعر بالوزن، حتى عند الأمم الأخرى، ظل مبدأ راسخا، في كل ثقافات العالم.
ولا يمكن بحث علاقة الشعر بالوزن، كما رأتها >شعر< إلا بالارتباط مع مفهوم الحرية لديها، ولتأكيد أهمية هذا المفهوم، فانه نادرا ما تخلو افتتاحية من افتتاحيات المجلة، من الدعوة إلى >التحرر في صناعة الشعر من جميع القوالب الفنية الموروثة، المفروضة على الشاعر، خارج موهبته الفردية، وذوقه الشخصي<.(17).
ولكن تلك >الحرية< لا تنطلق من فراغ، وهو ما يحد من جموحها، وسوف يتضح أن >شعر< تبني قالبها الشعري انطلاقا من مرجعية خاصة، تتمثل من جهة في التحولات التي عرفها الشعر العربي، وفي نمط من الكتابة، عرف به جبران خليل جبران، من جهة ثانية وهذان المظهران بالإضافة إلى الكتابات الصوفية، التي لم تستكشفها >شعر< إلا في آخر عهدها سيلعبان دورا مركزيا في بلورة مفهومها لقصيدة النثر، الذي سيضعها أمام مشكلة الوزن، هل هو عنصر ضروري في الشعر ، أم هو مجرد تنويع جمالي زائد، يمكن الاستغناء عنه؟
2-2-2 ترفض مجلة >شعر< أن يكون الوزن مقياسا وحيدا لفرز الشعر عما هو غيره، لأن >تحديد الشعر بالوزن، تحديد خارجي، سطحي، قد يتناقض مع الشعر، إنه تحديد للنظم لا للشعر فليس كل كلام موزون شعرا بالضرورة، وليس كل نثر خاليا من الشعر بالضرورة، وبالمقابل فإن قصيدة نثرية، يمكن ألا تكون شعرا<(18). ويشتد هذا الرفض إذا تعلق الأمر بالأوزان الخليلية : >تحديد الشعر بالأوزان الخليلية التمانية نرفضه، لأنه تحديد غير شعري فالشعر لمسة الشاعر للأشياء لا خضوعه لها، إنه حضور داخلي، لا وقع خارجي والأوزان الثمانية، وكل قانون شكلي ومسبق، لا يقبله الشعر شرطا مسبقا< (19).
إن النفور من كل تحديد للشعر خارج التجربة الشعرية، يتوافق مع تمرد التجربة/الرؤيا على كل قانون خارجي يمكن أن يضعها في إطار تعريف ما هكذا رأت مجلة >شعر< في الأوزان الخليلية مكونا منافيا لمفهوم الشعر لوظيفة فهي منافية لمفهوم الشعر، لأن في >قوانين العروض الخليلي إلزامات كيفية، تقتل دفعة الخلق، أو تعيقها أو تفسرها، فهي تجر الشاعر -أحيانا- أن يضحي بأعمق حدوسه الشعرية، في سبيل مواضعات وزنية، كعدد التفعيلات أو القافية<(20). وبما أن الشعر لدى الحركة يقوم على الحدس، أو هو الحدس بعينه، لأن الرؤيا تتحدد في منطقة تماس بين الحلم والواقع، فإن الشاعر الذي يسكب رؤياه في الأوزان الخليلية يضيع منه الحدس، لأنه من الحلم إلى المنطق ومن التجرية إلى العقل.
وهي منافية لوظيفة الشعر الحديث، لأن الشعر هو ضرب من المعرفة بخبايا الأشياء، وهي معرفة جوهرية إلى الحد الذي تعانق فيه عالم الإنسان الأنطلوجي، الشيء الذي لا تستطيعه الفلسفة أو العلم، ولأن >الإيقاع الخليلي خاصية فزيائية في الشعر العربي، هذه الخاصة للطرب في الدرجة الأولى، وهي من هذه الناحية تقدم لذة للأذن أكثر مما تقدم خدمة للفكر<(21). فإن الأوزان الخليلية تمنع الشعر من ممارسة وظيفته التبشيرية، وتخاطب في الإنسان حاسة واحدة هي حاسة السمع، في حين أن الإنسان ينبغي أن يهتز للشعر أي ينبغي أن يغيره الشعر.
وكما تمردت حركة مجلة >شعر< على أوزان الخليل، فإنها أعلنت عصيانها على القافية، ولنفس الأسباب، لأنها عنصر خارجي يعرقل تعبير الشاعر عن تجربته، وتجعل الشاعر يفقد >اختيار الكلمات، وبالتالي اختيار المعنى، والصورة، والتناغم، فكثيرا ما تنحصر القافية في أداء مهمة إيقاعية، دون أن يكون لها وظيفة في تكامل مضمون القصيدة، بل ربما اضطر الشاعر إلى وضع قافية غريبة عن القصيدة، ودفعتها الشعورية الصميمية، وهكذا تكثر في القصيدة الزوائد، وتمتلئ بالحشو(22).
2-2-3 والحق أن هذه المبررات التي صاغتها >شعر< في رفضها للوزن والقافية، قد فطن إليها النقد العربي القديم، ونبه إليها. وقد نص >عمود الشعر< في صيغته النهائية التي سطرها المرزوقي، في المقدمة التي كتبها على شرح >حماسة أبي تمام< (23) على بندين، يتعلق أولهما بالتحام >أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن< والآخر بمشاكلة >اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية< أما الالتحام مع الوزن، فيكون مع المعاني ومع الألفاظ وقد حدد النقد العربي القديم، طريقة وشروط تحقق هذا الالتحام، فاشترط من جهة أن >تكون المعاني تامة مستوفاة لم يضطر الوزن إلى نقصها عن الواجب، ولا إلى الزيادة فيما عليه، وأن تكون المعاني مواجهة للغرض، لم تمتنع من ذلك، ولم تعدل عنه من أجل إقامة والصلب لصحته< (24) ومن جهة أخرى ألح على أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر، تامة مستقيمة >لم يضطر الوزن إلى تأخير ما يجب تقديمه، وإلى تقديم ما يجب تأخيره، ولا اضطر إلى إضافة نقطة أخرى يلتبس المعنى بها، بل يكون الموصوف مقدما والصفة مقبولة عليه<(25).
وأما اقتضاء اللفظ والمعنى للقافية، فإن >عمود الشعر< يشترط مساهمة القافية في إجلاء المعنى وتلاحمها مع ألفاظ البيت حتى تكون -كما قال أبو علي المرزوقي- >كالموعود المنتظر يتشوفه المعنِى بحقه، واللفظ بقسطه وإلا كانت قلقة في مقرها<(26). وقد تحدث قدامة بن جعفر عن ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر الأبيات فذكر من ذلك أن تكون >القافية متعلقة بما تقدم من المعنى تعلق نظم له، وملاءمة لما مر فيه< (27) وعدد أنواع الائتلاف وطرق تحققه.
يتضح من هذه الأمثلة وغيرها مما يحفل به النقد العربي القديم أن مشاكل الوزن والقافية، كما طرحتها حركة مجلة >شعر< كانت محل نقاش وبحث، منذ القديم مع فارق جوهري لا بد من تسجيله وهو أن النقد العربي القديم، كان يبحث في الوزن والقافية، ويرسم لهما الصورة المثلى، التي ينبغي أن يكونا عليها، وهو مقتنع بأنهما مكونان، لا محيد عنهما من مكونات الشعر، بينما كانت >شعر< تعدد عيوبهما من أجل إخراجها من دائرة الشعر، ومن هنا يلاحظ أنها أرادت بمناقشة مسألة الوزن والقافية مدخلا لرفضهما؛ لأنهما لا يتلاءمان مع مفهوم القصيدة الحديثة كما كانت تتصوره.
ولا شك أن منطق الهدم الذي اتبعته >شعر< في الحكم على الوزن والقافية، ينطوي على تنكر للمجهودات التي قدمها الشعر العربي، طيلة قرون عديدة، إذ استطاع أن يكيف – دلالة وأسلوبا- هذين المكونين مع البناء العام للقصيدة، وكان مما سهل عليه هذه المهمة التجاوزات التي أباحها علم العروض للشاعر، والتي تتمثل في الزحافات والعلل على أن الخليل بن أحمد الفراهيدي نفسه، لم يدع أن الأوزان الشعرية، التي قعد لها هي الشكل الموسيقي الوحيد الممكن في الشعر، إنها تشكل فقط ما توصل إليه من خلال عملية مسح واسعة، قام بها، لأشعار الجاهليين وبعض الإسلاميين، ولكن النزعة المحافظة، التي طبعت الثقافة العربية، منذ القرن الخامس الهجري خاصة هي التي كرست هذه الأوزان كقالب وحيد للشعر العربي، فكان أن لاءمت الشعر في وقت من الأوقات، وأصبحت دليلا على التكرار والثبات في وقت آخر.
من هنا يبدو قول يوسف الخال : إن >القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها، وإن الوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تشابك حياته وتشعبها، وتغير سيرها< (28) أقرب إلى واقع الشعر العربي، وأكثر انسجاما مع طرح >شعر< الذي كان يلح على ضرورة استجابة الشعر لما كانت تسميه روح العصر فالشعر الحديث >يحاول< أشكالا جديدة، تستطيع التعبير عن معطيات العصر الحديث، لأن الأشكال الشعرية القديمة، لم تعد صالحة لاستيعاب هذه المعطيات< (29) وكما >أبدع الشاعر الجاهلي شكله الشعري للتعبير عن حياته، علينا نحن كذلك أن نبدع شكلنا الشعري للتعبير عن حياتنا، التي تختلف عن حياته، من هنا كان شعراء هذا الجيل مدعوين إلى إبداع أشكال جديدة مستمدة من عبقرية اللغة العربية، وتراثنا الشعري، ومستفيدة إلى أقصى حد من تجارب الشعراء، في العالم المتحضر<(30).
إن مجلة >شعر< وفق هذا التحليل لا تخرج الشعر الموزون المقفى، من دائرة الشعر، بل تعتبره أحد الأشكال الممكنة، ضمن مجموعة لا نهائية من الأشكال فقد >يستعمل الشاعر الأوزان التقليدية، أو لا يستعملها لكتابة الشعر وهو في الحالين يكتب الشعر، وقد نعيش هذه الصفة إلى الأبد، لكنها ليست إلزامية في الشعر، إنها فقط إحدى أدوات الشعر الممكنة<(31). وإذ تتحفظ >شعر< عن التقيد الصارم بالأوزان الخليلية، لأنها لا تستوعب تجربتها، فإنها لا تقصي العنصر الموسيقي من العملية الشعرية، بل تدعو إلى حرية اختيار الشاعر لهذا العنصر، بعيدا عن الإكراهات العروضية، وملاءمته مع التجربة الشعرية.
3-1 إن فيما سبق إقرارا من لدن >شعر< بأهمية موسيقى الشعر، لأن الشعر >في شأنه ذو صلة بالموسيقى فقد كان تكرار الصوت في فواصل منتظمة، وتساوي اللحظة الموسيقية في الأبيات، أو توافقها يسهل التراسيم الشعرية القديمة< (32) ولا بد من أجل الوقوف على وجهة نظر >شعر< في القضية من التمييز بين ثلاثة مصطلحات كثيرا ما يتعامل معها كمرادفات، ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، وهي الموسيقى، والوزن، والإيقاع.
أما الموسيقى فتحيل على رنات متراتبة، ومتنافرة، داخل القصيدة، وكذلك فهي تشمل الوزن الذي يقوم على متواليات صوتية متوازنة، والإيقاع الذي هو نسق صوتي غير منظم، يمكن أن ينطوي عليه نظام الوزن، كما يمكن أن يجانبه وقد يكون الإيقاع خارجيا تدل عليه مخارج الحروف كما قد يكون داخليا لا تستطيع الأذن أن تتلمسه بسهولة لأنه مرتبط بالدفعة الشعورية التي تقذف بها القصيدة ومن ثم فان من المتاح للقارئ أن يقعد للوزن، وأن يضع يده على الإيقاع الخارجي، ولكن من الصعب تحديد ملامح قارة للإيقاع الداخلي، لأنه يقتضي قراءة تأويلية للنص.
ولما كانت حركة مجلة >شعر< لا تميز سوى بين الوزن والإيقاع، داخل موسيقى الشعر، فسيلاحظ أن الحركة كانت تفضل في غالب الأحيان استعمال مصطلح الإيقاع، نظرا لما يتضمنه من غموض، ولما يتطلبه من تأويل الشيء الذي يتيح لها التنصل من المسؤولية تجاه أي شكل من الأشكال الشعرية المعروفة.
وبهذا المعنى فان >شعر< لم تثر فحسب، على الأوزان الخليلية، بل عمدت أيضا إلى محاكمة شعر التفعيلة الذي لم يشكل بالنسبة إليها سوى تنويع على القصيدة العمودية، فليس >من حطم وحدة البيت شاعرا حديثا، وليس الشاعر الحديث من قضى على عمود الشعر العربي، بما في ذلك قافيته الواحدة أو المتعددة. هذا تحرر وتمرد على المألوف المتوارث، منه المزيف، ومنه الصحيح، منه الأصيل ومنه المصطنع< (33) ولعل هذا يحيلنا على مفهوم الحداثة الشعرية، لدى >شعر< الذي لا يقاس بتنويعات شكلية، على أهمية هذه التنويعات وانما يقاس بالرؤيا التي لا تتحدد إلا بملامح مضمونية فالذي يفرض شكلا محددا في العمل الشعري، هو مضمونه >تماما كما لو شئت تعبئة كمية معينة من القمح في كيس تأخذ الكمية، وتبحث عن كيس يسعها، وأنت لا تفعل العكس أو بمثل آخر، لا تشتري القبعة، أيا كان حجمها وتفرض على رأسك أن يلائمها، وإنما تأخذ رأسك إلى بائع القبعات، وتشتري قبعة تلائمه، هكذا في الشعر المضمون يأتي أولا. وأصالة المضمون، أي صرف معاناته، وتجربته، يفرض شكلا أصيلا من حيث تلاؤمه، مع هذا المضمون< (34).
إن في هذه الأمثلة التي يسوقها يوسف الخال، ما يكفي للدلالة على أن حركة مجلة >شعر< لم تكن تمتلك رؤية متقدمة لعلاقة الشكل بالمضمون في العمل الشعري رغم أن الحركة عاصرت مرحلة الحسم في هذه العلاقة في النقد الغربي، من ثم فإن جل مواقفها لم تكن تعكس سوى رد فعل رافض لما هو موجود كما كانت تعبيرا عن >إعجاب< لا مرد له بالإنجازات الشعرية التي تحققت في الغرب، وهكذا تمردت الحركة نظريا على الأقل، على كل شكل جاهز لكي تقترح بدائل مفتوحة، أدت بها في نهاية الأمر إلى قصيدة النثر.
3-1-1 والمتتبع للسياقات المتعددة، التي استعملت فيها >شعر< مفهوم الشكل، يجد أن هذا المفهوم يكتسي عندها حمولات متفاوتة، حتى لدى الناقد الواحد، فتارة يستعمل للإشارة إلى المكونات الفنية للقصيدة عامة، وتارة أخرى يوظف للدلالة على جانب فني واحد، كالجانب الموسيقي على سبيل المثال… وكما كان الوزن إحدى السمات البارزة للشكل الشعري، منذ القديم فإن مجلة >شعر< لم تكتف برفضه كدال على مهيمن على شعرية النص الشعري، وإنما دعت إلى التمييز بين الوزن والشكل ومن المفيد التلميح إلى مفارقة، وقعت فيها >شعر< بصدد هذا التمييز فهي عندما تحاور الشعر القديم، تركز على الوزن الذي يكاد يصبح -في هذه الحالة – مرادفا للشكل، ولما تتعرض للشعر الحديث، فإن الوزن لا يعدو آنذاك أن يكون عنصرا من مكونات الشعر فليس >الشكل موسيقى لكنه نوع من البناء، لهذا يتبقى ككل نوع من البناء، قابلا للتعبير والتجدد< (35).
ومع هذا فإن مجلة >شعر< تقر بضرورة العنصر الموسيقى في الشعر، ولكن موسيقية الشعر الحديث -كما تراها الحركة- تختلف تمام الاختلاف، عن موسيقية الشعر القديم، بل إنها تختلف بالتأكيد عن الفهم الذي كان سائدا -زمانها- لموسيقى الشعر لأنها موسيقى تتعذر >شكلنتها< مما يعني أن لكل شاعر موسيقاه. ومن أجل التأكيد علي هذه الخاصية ركزت مجلة >شعر< على الإيقاع بدل الوزن، أو الموسيقى، لأن الوزن يمكن أن ينظم في قواعد محددة، أما الإيقاع فهو مكون يلتصق بالنص في حد ذاته ويصعب تقعيده، خاصة إذا كان الأمر يتعلق باللغة العربية، التي ما زالت الدراسات الصوتية الخاصة بها متعثرة، ومن ثم ركزت الحركة على الإيقاع، بدل الوزن والقافية لأنه مصطلح غامض ولا يمكن إخضاعه لقاعدة واحدة، فإذا كان الإيقاع ضرورة في الشعر، فضرورته لا تعني أن يكون تقليديا موروثا، أو مفروضا على الشاعر، فالشاعر حر في إيجاد إيقاعه الخاص به وهذا ما يميز المفهوم الحديث للشعر، عن المفهوم القديم الذي يصر على نوع من الوزن، لا يكون الشعر إلا به<(36).
ولكن، كيف يتحقق الإيقاع في القصيدة؟ للإجابة عن هذا السؤال تربط >شعر< بين >إيقاع< الكلمات و>إيقاع الدلالة< وتضافر هذين النوعين من الإيقاع هو الذي ينتج الطابع البنائي للشكل، كما نص على ذلك أدونيس. لذلك فإنه لايمكن صياغة تعريف للإيقاع، بل يمكن البحث في مصادره التي تتجلى في نظام >الجملة وعلائق الأصوات، والمعاني والصورة وطاقة الكلام الإيحائية، والذيول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة< (37). من هنا فإنه لا يكفي لإنتاج الإيقاع في الشعر، أن يحرص الشاعر على تحقيق نوع من التجانس الصوتي بين الكلمات والحروف، بل لا بد أن يتبع ذلك إيقاع في المضمون، فوظيفة الإيقاع ليست سمعية فحسب، بل إنها تكمن أساسا في >أن ينبهنا لحركة الوجود، التي التقطتها القصيدة على إيقاع القصيدة أن يحيي نبض الوجود، كما يحيي نبض الدم إيقاع القلب<(38). من هذه الزاوية يكتسي الإيقاع لدى >شعر< بعدا رؤيويا، ولهذا السبب وجب تلمسه في المضمون الشعري. صحيح أن العلاقة بين الصوت والمعنى تتجاوز اعتباطيتها عندما تجاوز الدليل المفرد، و>تنتقل إلى النسق<(39)، كما يرى جان كوهين، ولكن مجلة >شعر< لم تكن تنظر إلى هذه العلاقة نظرة بنيوية، بل انطلقت من إيلاء كامل الأهمية للمعنى، وجعلت من التفريعات >الشكلية< تكملة له، أو دالة عليه، ولهذا السبب جاء حديثها عن الإيقاع، ودوره في العملية الشعرية شبيها بحديثها عن الرؤيا، كلاهما يصعب تحديده وإذا صح أن الأشياء تعرف بضدها كما قال القدماء فإن انعدام الإيقاع في القصيدة يعد إيقاعا في حذ ذاته لدى >شعر< التي كانت تحمل هم نص خارج كل الأشكال المتعارف عليها، وإذا كان الوزن قيمة فنية من القيم التي تساعد على تمييز الشعر عن النثر فماذا يبقى من الشعر للشعر، وقد جردته الحركة من هذه القيمة.
————————————–
الهوامش
1- نهاد خياطة : رأي في قصيدة النثر، مجلة “شعر” العدد 25 ، السنة السابعة، شتاء 1963 ص 97.
2- رفيق معلوف : ركن أخبار وقضايا، مجلة “شعر” العدد 3 السنة الأولى، صيف 1957 ص 110.
3- يوسف الخال : ركن أخبار وقضايا، مجلة “شعر” العدد 27، السنة السابعة، صيف 1963، ص 117
4- فؤاد رفقة : ركن أخبار وقضايا، مجلة “شعر”، العدد 13، السنة الرابعة، شتاء 1960، ص 114.
5- أدونيس : خواطر حول تجربتي الشعرية، مجلة الآداب، العدد 3، السنة الربعة عشرة، مارس 1966، ص 2
6- غازي يركس : القديم والجديد في الشعرالعربي عامة، مجلة “شعر” العدد 12، السنةالثالثة، خريف 1959، ص 101.
7- غازي يركس نفسه، نفس ص
8- يوسف الخال : من رئيس التحرير ( افتتاحية ) مجلة “شعر” العدد 10، السنة الثالثة ربيع 1959، ص 5
10- حزامي صبري : حزن في ضوء القمر، لمحمد الماغوط مجلة “شعر” ، العدد 11، السنة الثالثة، ربيع 1959، ص 94. وكان “حزامي صبري” هو الاسم المستعار الذي كانت توقع به خالدة سعيد مقالاتها في الأعداد الأولى من مجلة “شعر”.
11- يوسف الخال : من رئيس التحرير ( افتتاحية )، مجلة “شعر” ص 3
12 يوسف الخال : نفسه ص 5
13- يوسف الخال : نفسه، نفس الصفحة
14- كمال خير بك : حركة الحداثة في الشعرالعربي المعاصر، دار المشرق، الطبعة الأولى، بيروت 1982. ص 117
15- يوسف الخال : نحو شكل جديد لشعر عربي جديد، مجلة “شعر” العددان 31/32 السنة الثامنة ، صيف/خريف 1964 ، ص 126.
16 يوسف الخال : ركن أخبار وقضايا، مجلة “شعر” ، العدد 27 السنة السابعة ، صيف 1963، ص 117
17- يوسف الخال : من رئيس التحرير ( افتتاحية ) ، مجلة “شعر” العدد 12، السنة الثالثة، خريف 1959 ، ص5
18 أدونيس : محاولة في تعريف الشعرالعربي الحديث ، مجلة “شعر” العدد 11، السنة الثالثة، صيف 1959، ص 84
19-غير موقع : الرد على نازك الملائكة، مجلة “شعر” العدد 22 السنة السادسة ، ربيع 1962 ، ص 127
20- أدونيس : في قصيدة النثر ، مجلة “شعر” العدد 14 ، السنة الرابعة ، ربيع 1960 ، ص 76
21- أدونيس : نفسه ص 76
22- أدونيس : نفسه ص 76
23- تراجع مقدمة ” شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون، الطبعة الأولى القاهرة 1951
24- قدامة بن جعفر : المرجع نفسه ص 179
26- المرزوقي : شرح ديوان الحماسة لأبي تمام ( مرجع سابق ) الجزء الأول ، ص 14
27- قدامة بن جعفر : نقد الشعر ( م . سابق ) ص 191
28- يوسف الخال : ركن أخبار وقضايا، مجلة “شعر” ، العدد 3 ، السنة الأول ، صيف 1957، ص 144
29- نذيرالعظمة : أخبار وقضايا، مجلة “شعر” ، العدد 3 ، السنة الأولى، صيف 1957،ص 144
30- يوسف الخال : أخباروقضايا، مجلة “شعر” العدد 3 ،السنة الأولى، صيف 1957. ص 144
31- غير موقع : أخبار وقضايا، مجلة “شعر” العدد 14، السنة السادسة، ربيع 1962، ص 129
32- أدونيس : في قصيدة النثر ( م سابق ) ص 77
33 يوسف الخال : أخبار وقضايا مجلة “شعر” ، العدد 13، السنة الرابعة، شتاء 1960، ص 116
34- يوسف الخال : نفسه ونفس الصفحة
35- أدونيس : محاولة في تعريف الشعرالحديث ( م سابق ) ص 89
36- يوسف الخال : الحداثة في الشعر، دار الطليعة ، ط 1، بيروت 1978، ص 92
37- أدونيس : في قصيدة النثر ، م سابق ، ص 77
38- رينه حبشي : الشعر في معركة الوجود ، مجلة “شعر” ، العدد 1، السنة الأولى ، شتاء 1957 ، ص 92
39- جون كوهن : بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ، ومحمد العمري ، دار توبقال ، ط 1 ، الدار البيضاء . 1986 ، ص 75
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6951