عبد الكريم الشيگر
“On communique à l’interieur du monde de la communication et non pas pour ouvrir le monde à ce qu’il refuse” Serge Deney
«كلنا يحلم، لكنك إذا كنت عائدا فلا تكون مكتشفا»
عبد الله العروي
“Sortez de mon esprit , sortez de cette pièce ” Bruce Newman
بيئة : لعلنا نزداد وعيا بوجود وثقل بيئة قائمة الذات، بيئة لامناص من الاعتراف بدورها المتعاظم، بعيدا عن كل ممانعة زائدة أو تشنج لا طائل من ورائه. ذلك أن الأمر يهم كائنا يشبه باقي الكائنات، أو يكاد؛ كائن نسميه الصورة، بوازاة الحرف والرقم والصوت، بجميع أنواع أنواعها والتي أضحت تؤثر فينا وتتحكم في سلوكنا الفردي والجماعي إلى درجة تحدد مسار أحداث (أو حوادث) ذات أبعاد وطنية كقضية العميد ثابت (فيديو) وقضية الزيوت المدرسية المختلسة (فوتوغرافيا) وحادثة دورالدعارة بالحاجب (فوتوغرافيا) (1). إنها أحداث (أو حوادث) تمنحنا الدليل، بشكل لا رجعة فيه، أن الصورة قد أخذت موقع الظاهرة الفاعلة والمنفعلة في آن واحد بما تصنعه ويصنعها بشكل ما.
هيمنة : ما يرصد من مواقف وردود فعل إزاء ما يهم هذه البيئة الجديدة (الفيديو سفير، حسب ريجيس دوبري، 92) من تحولات تفوق حدود الوطن تتراوح أغلبها بين الخطاب السياسوي التقنوقواطي والخطاب الإيديولوجي القيمي، وكلاهما غير متباعد ولا متناقض تماما. فإذا كان شعارالأول يتحدد في ضرورة رفع الهيمنة المؤسساتية على حقل السمعي-البصري كشرط لا مفر منه لتحقيق الشفافية الإعلامية ، فإن شعار الثاني يتحدد في ضرورة مواجهة الغزوالإعلامي الأجنبي المتزايد. وكلاهما يطالب بممارسة الرقابة بل وأحياناالمنع. لنتذكر المواقف المترددة إزاء مسألة الهوائيات : فتارة طولب بمنع الوسيط وتارة أخرى الإرساليات وأحيانا هما معا. (قد يفسر قرار المنع، من وجهة نظر النخب السياسية، بمحاولة الحفاظ على أوضاع تتحدد طبيعتها في نطاق وحدود التراب الوطني التي تعود في مجموعها إلى عهدي اللوغوسفير بلغة دوبري أى إلى الأمية والشفاهية الخ.، من جهة والغرافوسفير، أي إلى هالة المكتوب (الثقافة العالمة للخاصة والثقافة “الأخرى” للعامة). وقد يفسر القرار أيضا بما يعنيه من حاجة إلى تهيئة الشروط المادية والمؤسساتية والتكوينية إلخ.، التي قد تجعل من الوسائط الجديدة أدوات (حوامل) لا تتعارض والمصلحة الوطنية وأهدافها (محمولاتها).
تلوث : تدل المعطيات والتجارب أن أغلب المواقف تكتفي بممارسة انتقائية أو ممانعة شعاراتية يزداد لهيبها ويخفت حسب الظروف والأحوال. الكل سائر في اتجاه قناعة يصعب التراجع عنها وهي أن الجماهير تطمح أن تتوفر بيوتها على ماء وكهرباء وغاز وهوائية وفوتوغرافيا (ولو عبر بطاقة وطنية)، أي أن الجميع مطالب بالتكيف مع الأمر الواقع، ثم إن الفضاء السمعي البصري لم يعد فضاء منفصلا بل أضحى جزءا لصيقا بباقي مكونات بيئة شاملة تجعل الناس تهتم، ولو بدرجات متفاوتة، بجودة الماء الشروب (مياه البحار لم تدرج بعد في جدول أعمال) قدر اهتمامها بقيمة ومصداقية الأخبار والمعلومات المقدمة لها عبر وسائل الإعلام. فلمفهوم البيئة اليوم (أوالتلوث حتما) معنى أعمق مما تعودنا عليه إلى حد الآن.*
إنسانية : ما يثيرالانتباه حقا هو أن أغلب المواقف إزاء ما سميناه بالأمر الواقع تلتقي وتتقاطع عند نقطة أساس وهي أن الوسائط بالنسبة لها مجرد أدوات كغيرها من الأدوات التقنية التي تظن أنها حوامل ليس إلا، ومهما شدد ماك لوهان على ضرورة اعتبارها إرساليات في حد ذاتها : >الوسيط إرسالية< كما يقول، فإن تلك المواقف لا تنتبه البتة إلى ما تصنعه وتحدثه الوسائط من مواقع وتأثيرات بغض النظر عن هوية وقصدية مستعمليها بل تتصرف وكأنها وجدت لتخدم غايات تظل هي هي مهما طرأ من تحولات داخلية (شروط الإنتاج) أو خارجية (شروط التلقي). هكذا غالبا ما يستبعد أن يكون للوسائط تاريخ خاص بها ابتداء من عهد الكتابة (اللوغوسفير) مرورا بعهد الحرف والطباعة (الغرافو سفير) وصولا إلى عهد الصورة (الفيديوسفير)، فكل الوسائط تظل في أعيننا عبارة عن “حوامل ” طيعة وجاهزة دوما لخدمة أهداف وغايات “إنسانية مفرطة في إنسانيته.
وسائل (غايات) : لعلنا في حاجة إلى صياغة ما يشبه فرضية : إذا كان الغرب يجتاز حسب البعض مرحلة تتميز بهيمنة كاسحة لـ”وسائل بلا غايات” ( ج. أكامبين، 95)، فإن الأمر بالنسبة لنا قد يختلف جذريا : نتصرف وكأن الوسائل، رغم حضورها المطلق، لن ترقى إلى حد استعمالها هي لنا، إن لغاياتنا نحن الكلمة الفصل دائما. فلذلك فإن ما يهم المؤسسات الوصية على الحقل السمعي-البصري هو ما توفره الوسائط من إمكانات وفرص للوصول والتدخل بسرعة أينما وجدت الجماهير. للوسائط فضائل التقرب كما يقال اليوم وبإلحاح، أي أن تصرفاتنا تنم عن أننا ما زلنا في عهد ما قبل “الاستنساخ التقني” (و. بنيامين) ، قبل ميلاد ما يميزالمجتمعات الحديثة ألا وهو “المتحف الخيالي” (أ. مالرو) الذي يجعلها، شاءت أم أبت، تحيا ضمن أروقة فضاء يضيع فيه الحد الفاصل بين الصورة – الأصل والصورة -النسخة وذلك مهما ارتفعت وتطايرت هنا وهناك أثمنة “التحف النادرة”. أي أن الصعوبة الكبرى اليوم هي الوصول إلى فرز ما هو من صميم الصورة-الأصل، وما هو من صميم الصناعة والاستيديوهات التي تغرق السوق (والمخيلة ) بمنتوجات تعويضية أو استبدالية (س. داني 91). ففي فترة كانت فيها التلفزة ما تزال في طور البدايات والبحث عن طرق لتعقيد لغتها، لم يفتأ أندري بازان ، مؤسس دفاتر السينما، يحذر من انزلاقات وخطورة التأثيرات المرتبطة بالتوليف (montage ) وبما له من قدرة على إتلاف “ثوب الواقع” والصورة معا. لن ننسى ما حدث خلال حرب الخليج حيث تم استبدال واقع دموي، مهول، بحرب نقية، كلها تركيبات وتوليفات افتراضية. فعبر دفاعه وباستماتة، عن عمق المجال ( la profondeur de champ) المميز للقطة المتوالية، فإن أ . بازان دافع عما يحافظ على الوحدة الزمكانية لما نعاينه أمامنا هنا والآن : بداهة “ثوب الواقع غيرالمخيط” بتعبيره. ميزة وأهمية اللقطة-المتوالية هي أنها تحول دون إتلاف أو تمزيق “الثوب” كما يحدث اليوم (2). ألا نحيا نتيجة لذلك، في متحف أو بحر من نسخ النسخ أضاعت وإلى الأبد هالة الصورة الأصل بتعبير والتر بنيامين؟
لقطة وتوليف : في سياق إسهام أ. بازان يقوم ورثته المبدعون أمثال جان لوك غودار وسيرج داني وآخرون بالنقد والتحذير من استحواذ “مهنيي المهنة” ( ج. ل. غ ) (3)، أصحاب الإشهار/ أو السينما، الأمر سيان، الساهرين على السلعة الكونية، “ككهنة” (س. د.) أو سحرة همهم الأساس هو صنع أصنام فقط، محولين اللقطة والتوليف إلى “نط” لا يهدأ. في شريطه الرائد عن القضية الفلسطينية “هنا وهناك” (75) يقف جان لوك غودار عند هذه “الواو” معتبرا إياها قنطرة لمؤاخاة أو تقريب المختلفات (التوليف) والانتباه والانغراس في المتشابهات (اللقطة الموالية)، قنطرة تتفادى المطابقة بين “الهنا والهناك” ، لكن دون إقامة تعارض مطلق بينهما. إنها “واو” الاختلاف فيما هو متشابه، والتشابه فيما نظنه مختلف. هكذا لا يمكن مثلا فهم صورة اليهودي وهو هيكل عظمي (أو يكاد) بالمعسكرات النازية الأمس إلا بربطها أو مقابلتها بصورة اليهودي وهو يكسر اليوم وببرودة يد طفل أو فتاة فلسطينية بالأراضي المحتلة. إن الجمع بين اللقطة والتوليف هو ما تتحاشى جمالية الإشهار التجاري (و/أو السياسي) إنجازه بكل الوسائل. واوها “واو” زيادة وتساوي وحشو ليس إلا. كثيرا ما تتباكى وسائل الإعلام الصهيونية أو القريبة منها على الصورة الأولى ولا تلتفت بالمرة للثانية. جلي إذا أن الرهان الأكبر اليوم هو البحث عن الطرق و الممرات أو “اللغة” (ن. د. الصايل، 88) الملائمة إلى حد ما لفهم ما يجري أمامنا، وبسرعة الضوء والوصول بالخصوص إلى فرزالصورة من بين ركام نسخ النسخ اللانهائية. نادرة جدا هي البرامج واللوحات والاستطلاعات والأفلام والحوارات، الخ. التي لا تبيع شيئا ما، فالواقع، أي واقع، يستبدل ويُعوض بالمنتوجات الجاهزة.
إنهاك : تستلهم إلى حد ما القناة الألمانية/الفرنسية ( ARTE) هذه البيداغوجية الجمالية/الأخلاقية الغودارية وذلك باعتمادها على المنطقين معا حيث الواو تساوي ou و et : هنا : هنا الآن / هنا الأمس و هنا / غدا ؛ هناك شمال الشمال وهناك جنوب الجنوب، وهناك شرق الشرق وهناك غرب الشرق وهناك شرق الغرب الخ معتمدة في ذلك على لقطات وتوليفات بطيئة (البطء درجات وأنواع) و/أو سريعة (السرعة درجات وأنواع). إنها قناة غنية بالدروس لمن زالت برمجته التلفزية كسولة وخائفة من ثوب الواقع كما هو أي من غير إبر (خيوط) أو عبر (توليفات ) مفرطة. للبرمجة التلفزية إيقاعات (وتوزيعات) لا تقل أهمية عن إيقاعات (زمنية) شريط سينمائي أو وثائقي! فما معني أن تبرمج نشرة أخبار وسط شريط لهتشكوك مثلا؟ ألسنا أمام إرادة تبريد، إلغاء وإنهاك لكل ما من شأنه التذكير بوجود ”تجربة” ما؟ محق گودار عندما يشير إلى أن ذلك دليل على أن التلفزة لا تبحث ولا تستعمل إلا نسخ النسخ أي أنها تهاب هالة النسخة – الأصل وما قد تولده من أزمنة وإيقاعات عصية على ”التبريد” أو الإتلاف.
ثنائيات : لم تعد الأسئلة (وليس فقط الأجوبة، الأوامر) الجمالية والأخلاقية، كما يظن البعض، حكرا على أحد : كل المجتمعات تواجه، بدرجات متفاوتة، تحديات عهد ما بعد غوتنبورغ. وقد نصوغ بعضا منها على الشكل التالي : أليست الصور ونسخها كائنات “تحيا وتموت” (ر. دوبري) بيننا كباقي الكائنات؟ أليس من الصعب إن لم نقل من المستحيل فهم ومسايرة والتحكم في آليات هذه البيئة الجديدة اعتمادا على ثنائيات مفاضلة تارة تبرئ الوسائط بهدف استعمالها ببرغماتية (انتهازية) لا تخجل من ذاتها، وتارة أخرى لا تولي وجهها إلا صوب غايات مزهوة بذاتها؟ كيف العمل أمام تزايد واتساع (خرقة) نسخ النسخ، على إيجاد الطرق والممرات القمينة بإبداع “هالة الأصل” وليس المراهنة إلى ما لانهاية على تخطيها أو ترميمها؟ أيكون الانتقال من عهد السمع (أوالحفظ) إلى عهد الكتابة (أوالقراءة) ثم الرؤية (أوالصورة) مجرد انتقال وتدرج عابرين؟ أليس ما يُعطل تعايشنا المتوارن والمبدع والمتطور مع هذه البيئة هو عدم قبولنا وتنازلنا لمنطق الوسائط (أوالوسائل) بما لها وما عليها؟ ألا يكون وقوفنا عند حدود “صورة الحقيقة” (أو نسخ نسخها ليس إلا) وعدم اهتمامنا بشكل صريح بـ”حقيقة الصورة” كما هي متغيرة ومتحولة بين من جهة نسخ النسخ (هالة زائفة مصطنعة) وهالة تبحث وتبدع ذاتها رغم كل الإكراهات المنصوبة في وجهها باسم المردودية و”التواصل”، من جهة أخرى، هروب إلى الأمام؟
تيه : إن “للتيه” (ن. د. الصايل، 96) داخل وخارج ما يتقاطع ويتناقض ويتكامل على مستوى الوسائط، كيفما كانت فضائل “البينية” المتحركة ضد الثنائية الضاغطة والقائمة أساسا على فرض اختيار دون آخر، شئنا أم أبينا : العرض ضدالطلب (أوالعكس)، القاعدة ضد الاستثناء (أوالعكس)، التوليف ضد اللقطة المتوالية (أوالعكس)، الأخلاق ضد الجمالية (أوالعكس)، الغرب ضد الشرق (أوالعكس)، الرجل ضد المرأة (أوالعكس )، الصورة ضد النسخة (أوالعكس )، اللغة ضد الصورة (أوالعكس) …الخ، بالتيه البيني هذا يمكن البحث وإبداع ممرات، ثقوب (بلغة نور الدين الصايل، 96) قد تفضي بنا إلى فضاءات، بؤر “توتر” (ج. دريدا) من شأنها تعطيل وتأجيل وعرقلة انسداد دائرة العرض (و ما يفوقه، ن. د. ص.، 96). قد يأتي يوم لن ينفع معه “التزرير” zaping ولا محاولة التحكم في الإرسال والبث والإنتاج كما نفعل اليوم (باحتشام). أليس ما يهددنا هو أن نصبح “كائنات فاقدة تماما لظلها” (ن. د. ص.)؟
أنا (الآخر) : ما يحصل اليوم مع الشاشة الصغيرة لم يحصل لا مع الفوتوغرافيا ولا مع السينما، ألا وهو الإبهار (والانبهار) التام للمجتمع بجميع فئاته. فلقد كانت الصور الشمسية (وما تزال) تولد شعورا وإحساسا ملتبسين، إذ يشعر المصوَّر قبالة المصوِّر وآلته، لحظة السكون الخاطف والمريب، وهو في وضعة (pose) ثابتة ومثبتة، بحراجة يسارع إلى الخروج من طوقها دون أدنى حسرة أو ندم. وليس غريبا لذلك أن تظل عملية “التأطير” الفوتوغرافي عملية مقلقة بشكل ما خصوصا وأن قدرتها التي يصعب ضبطها ومراقبتها بحكم ازدياد صغر حجمها وخفة وزنها، وعلى تنويع الزوايا والمواقع الملتقطة لهوية صاحبنا وغيريته ، أناه الأخرى. ومن يضيق منها ذرعا يحتج ويصيح : >إنها سارقة منتهكة …الخ < لا شك أن غياب الفوتوغرافيا (أو تغييبها) يعد بمثابة الحل الأمثل والمتمنى لمن لا يحتمل أدنى خدش في صورته، تشابهه، وإن غيابها (تغييبها) يفسح المجال أيضا أمام عين الفيديو الحنونة المداعبة والمشتهاة اليوم من طرف الجميع ؛ نادرة هي الحالات اليوم التي ” يتلعثم” فيها المستجوب أمام كاميرا التلفزة الوطنية : فالجمل جاهزة والابتسامات كذلك.
ملتوي (غامض) : ألا نمزق بعض صورنا إربا إربا لا لشيء إلا لأنها لا تتطابق دائما وما نظنه صورتنا – مرآتنا النموذجية ؟ ألا يكون مصدر القلق، دائما هو انعدام التطابق والتشابه التام (copie conforme) بين هذه وتلك ؟ إن جوهرالفوتوغرافيا يكمن في قدرتها على مجاورة الهنا والآن والماكان (ça été) (ر. بارث، 82) لكنها ازدواجية تحيل كذلك على الآتي، الغائب : كل صورة عزيز، فقيد، تذكرنا بموته هو وبشكل ما بموتنا نحن أيضا. ليس هناك وسيط قديم أو حديث يضاهي الفوتوغرافيا-الشمسية بما لها من قدرة على سحب ونشر بعض “الظلال” على ما يتجلى كثبات أو حضور لا غبار عليه؛ أمامها لا يسع المرء إلا أن يتساءل : أيغيب معها ما هو حاضر، ماثل أمامنا، مرئي، أم يحضر فيها ما هو غائب، لامرئي؟ من استحالة الجواب الحاسم تستمد الفوتوغرافيا خصوصيتها وقوتها الملتوية والغامضة. في كل مرة، وكلما أمعنا النظر فيها، تخترق فضاءاتها (شبه/تطابق/مرجع )، ومن كل جانب، زمنية متعددة، منفلتة وعصية على القبض النهائي.فليس صدفة أن يقوم الخطاب الوضعي-العلموي بعيد اختراع الآلة (العين) الجديدة بإزاحة وطمس هذه القوة الملتوية والغامضة وذلك بالدفاع عما هو “واضح” و”ثابت” فيها : فلا يعقل أن نشكك، بشكل من الأشكال، في فعالية ونجاعة الاستعمالات الوثائقية والعلمية والعائلية والمؤسساتية…الخ المرتبطة بها. في بدايةانتشارها مثلا بالبلاد العربية لوحظ استعمال أسلوب التوقيع بخط اليد على الصورالرسمية التي يتم انتقاؤها بعناية؛ العناية التي تفرضها قواعد مراعاة الوضعات (poses) الرسمية؛ وكأن هم المؤسسة كيفما كانت هوالحد مما يفضي إلى التباسات سواء على مستوى الإنتاج والتلقي أو الإرسال أوالاستعمال.
جذبة : في نص تحت عنوان Cinédays (95)، توقف الكاتب عبد الفتاح كيليطو عند حالة وضع المشاهد الذي تردد طويلا في فترة الحماية وبعيد الاستقلال على القاعات السينمائية الكائنة بالأحياء الشعبية، قبل تحولها إلى أطلال. كانت تلك الفترة تتميز بعروض هي عبارة عن فرجة يغيب خلالها وقار (وسلبية ) المشاهد المحترم والمنتبه تمام الانتباه لحرفية “قواعد الاتفاق” سردا وتوليفا الخ؛ تلك القواعد التي لم يكن يتوانى عن رفضها عبر الحركة والكلام والتعليق والقهقهة قبل وأثناء العرض وذلك مهما حاول المكلف بآلة العرض الموجود خلفه أو فوقه. أين نحن اليوم من تلك الفرجة ( الجذبة)؟ أحان الوقت للبكاء وللمرة الأخيرة على الأطلال /القاعات؟
طفولة : ذكريات الشاشة (81) يتابع كلود أولييي عبر مجموعة من المقالات، لعبةتجلي واختفاء عناصر ومواد الأشرطة التي شاهدها (وشاهدته : ج. م. شايفر، 80) كالضوء والطل والحركة والإيقاع والصوت واللون …الخ وكأن السؤال بالنسبة إليه هو : متى وكيف تنهض و/أو تنمحي مكونات الشريط في/من الذاكرة؟ أعظم الأشرطة، بنغالية كانت أو أمريكية، هي التي تعمل، تارة بقوة وتارة أخرى برهافة، على فسح المجال أمام “الفراغ وهباته” (م. بنيس). لنتأمل مليا عناوين مخرج مثل أنطونييني : المغامرة، الليل، الخسوف، الخ. ما يستوقف كلود أوليي هي الفراغات (الانقطاعات) اللامتوقعة، المشوشة على سيناريوهات تبدو للوهلةالأولى عاديةومعتادة ( قصة حب مثلا) . أقوى الأشرطة هوالذي يتضمن بشكل ما دهاليز يتدارك بفضلها المشاهد حريته، تيهه، أي ما تعمل السينما السائدة بالذات على مسحه وإتلافه بكل الطرق والوسائل. لم تعد السينما (و/أو الأفلام) مجرد مرجعية ثقافية كباقي المرجعيات : ثمة نصوص لا يمكن بتاتا فصلها عن تاريخ إبداعات الفنالسابع ؛ فالانكباب على مرحلة الطفولة وفضاءاتها (يقف ع. كيليطو عندالحمام والمسيد والدرب والأشرطة المصورة، والفوتوغرافيا كذلك) هو انكباب (وحفر) في فن الطفولة و/أو طفولة فن وما بقي منهما حيا مشعا*.
نبل (أناقة) : تقدم الكاتب والباحث عبد الفتاح كيليطو في معرض حديثه بمدينة مكناس (96) عن رواية >لعبة النسيان< لمحمد برادة (95) بملاحظة مؤداها أن شخصية الراضي عندما قررت عدم حلق رأسها على الطريقة السائدة آنذاك (عهد الحماية) متخلية عن ”الرزة” والشوارب والگطاية… فإنها كانت، في الواقع، تهيئ نفسها لمزاولة مهنة الكاتب بدل مواصلة القيام بدور (تقليد) الراوي المعتاد. كانت تلك علامة فيما نرى على إرادة جيل بكامله أراد الدخول في عهد جديد. ولعل بعض أشكال اللباس التي شب وشاب عليها سواء ”الإنسان العادي للسينما” (ج.ل شيفر) أوالإنسان المنتمي ”للخاصة” على غرار الوطنيين الذين جمعوا بين ”الطربوش” واللباس الأوروبي، آتية بشكل ما من أشكال لباس نجوم السينما المصرية (أمثال يوسف وهبي ومحمود المليجي وغيرهم) والعالمية (أمثال كلارك گيبل، وجيمس ستيورت وغيرهما). ويتجلى أن عملية البحث عن وجهية (صورة) جديدة كانت عملية تغذيها نجومية القاعات (سينما) والغرف (فوتوغرافيا) المظلمة أو السوداء. لقد صنعت السينما كما يكتب جاك رانسيير (92) ”نبل الأنذال” (noblesse des ignobles) نبل (وأناقة) أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في أحياء شعبية حيث لا مكتبة ولا متحف.
جمال ( أخلاق) : أضحى بالنسبة للعديد من النصوص الحديث عن مرحلة الطفولة حديثا عما بقي (و/أونسي) من تجربة فردية وجماعية لا شك أنها غنية بالدروس (والصور). فلقد كان إنسان القاعات السينمائية ”إنسانا عاديا” (ج. ل. ش.) لكنه ما زال إلى حد ما ”مجهولا” (ج. ل. ش. )، شاهد أفلاما بقدر ما ”شاهدته” (ج. ل. ش.)، تردد على القاعات مع الجماعة لكن >ليحيا تجربة فردية< (س. داني، 94) في وحدة أحيانا مطلقة غنية بإحساساتها الحاضرة، (الغائبة) بين ثنايا ذاكرته حيث يحتمي اليوم من أخطار ”جمالية التلاشي” (ب. فيريليو) التي لا تعبأ بتجربته إلا باعتبارها موضوعا كميا وإحصائيا صرفا (Médiamétrie) أي أن الكلمة الفصل تعود اليوم إلى ما من شأنه المساهمة في ”عولمة الزمن” (ب. فيريليو) وتحويل السوق السمعي-البصري إلى سوق ”السلعة الكونية” الحاضرة في كل لحظة وحين. لم تكن السينما (ولا الفتوغرافيا) على هذه الدرجة من الانصياع لأوامر التسليع والتنميط. سمحت القاعات السينمائية، وبشكل لا مثيل له في تاريخ البشرية، بتحقيق لقاء بين شعوب القارات الخمس وخلاصة الفنون جميعها : الفن السابع. وفي مجتمعات مثل مجتمعاتنا حيث تحتل >التربية الاخلاقية مركز الصدارة بالمقارنة مع التربية الجمالية< (ع. العروي، 95) فإن السينما كانت (وما زالت إلى حد ما) تتوفر على قدرات ”موسوعية وبيداغوجية” تتوافق والمشاريع التنويرية الوطنية والقومية.
——————————————-
الهوامش
1- ثمة حادثة (حدث) تهم الصورة التشكيلية. لقد تم سنة 1996إتلاف (سرقة) لوحة من الحجم الكبير للرسام الإسباني برتوشي، أنجزها سنة 1952، من بهو مكتب وزارة السياحة بتطوان، غير أن اللوحة أعيدت إلى مكانها بعد ضجة إعلامية محلية (انظر جريدة الجسر) ووطنية لا مثيل لها. إن تصبح اللوحة، طالما أدرجت مثيلاتها من نطاق الإرث الغرائبي لعهد الحماية، بازدراء أحيانا لا غبار عليه، محط اهتمام واسع فتلك بلا ريب علامة تستحق الاهتمام. يتم أيضا في نفس المدينة استنساخ، في شكل صور فوتوغرافية مكبرة ومصغرة، بعض المعالم العمرانية التي تم استبدالها مؤخرا كساحة الفدان، أوصلت مدنا إلى مرحلة الاهتمام الجدي بترميم وبناء -إبداع هويتها البصرية الجماعية؟ سؤال يفرض ذاته خصوصا وأن خطر تصحر الذاكرة (عبارة لحبيب المالكي من كلمة افتتاح سنة 97 معرض أحمد الشرقاوي بمدينة أبي الجعد، مسقط رأس الفنان) خطر قائم.
2- قد يمزق ويضيع ثوب أو بداهة المكتوب أو المنصوص أيضا من فرط كثرة هيمنة “الإبر وعبرها” أو خيوطها (عبد الفتاح كيليطو، 92)
3- استعمل عبدالرحمن التازي هذه العبارة الگودارية لانتقاد وفضح ما تعرض له شريطه >البحث عن زوج امرأتي< من قرصنة من طرف إشهار التوفير الوطني ( 96).
المراجع
-G. Agamben, moyens sans finis, Paris, Rivages, 95
R. Barthes, la chambre claire, Paris, Cahiers du cinéma/Galli /Seuil, 82
M. Bakrim, “Défense du cinéma” in Libération, Casablanca, Octobre, 98
R. Bellour, “Autoportraits” in communications, Paris, Seuil, N! 48, 1988.
G. Delenze, Pourparlers, Paris, Minuit, 90
S. Daney, ciné-journal, Paris, les cahiers du cinéma, 86, le salaire du zappeur, Paris, Ramsay, 88 , Devant la recrudescence des vols de sacs à main, Lyon, Aléas, 91
Daney (itinéraires d’un cinéfilms) : entretiens avec Régis DEBRAY, un film de Pierre André Boutang et Dominique Rabourdin, Ed.RezoFilms, 94.
O. Mongui, Face au scepticisme, Paris, Hachette, (Littérature), 94
C. Ollier, souvenirs écran, Paris, cahiers du cinéma, Galliard, 81
N.E. Saïl, “Face aux média” in Sigues du présent, Casablanca, N! 1, fév/Avril, 88., L’ombre du chroniqueur (roman), Rabat, Al Kalam, 90 , “Eloge des médias ou le bruitage éternel des espaces publicitaires n’effraie plus personne” in Economie et culture, Actes du colloque international (organisé par la Faculté des Lettres-Mohammadia), Casablanca, Ed. Wallada, 96.
J.L Schefer, l’homme ordinaire du cinéma, Paris, cahiers du cinéma/Galliard, 80
, “Lettre à Serge Daney sur l’interprétation des figures paléolithiques” in Trafic, Paris, N! 3, Ete/92.
J.Rancière, “le lieu “commun” in les cahiers du cinéma, Paris, N! 458, Juillet/Août/92
P.Virilio, “le bombardement de Nantes” (entretien) in les cahiers du cinéma, Paris, n! 503, Juin 96.
A Kilito, l’oeil l’aiguille, Casablanca, Ed.le Fennec, 92
La querelle des images, Casablanca, Ed.Eddifs, 95.
نشر الفنك 96
– ع، الشگر : >تأملات عبد الله العروي في السينما العلم (دجنبر 95)
– ع. الشاوي
-ح الزياني : >حوار مع المغترب السيد حميش حميدوش
الزياني < العلم ، العدد (أكتوبر 96)
– ن. د الصايل : >ملاحظات حول السينما المغربية الثقافة الجديدة العدد 16 السنة الرابعة 1980.
>حوار < العلم (الثقافي) (دجنبر85)
>حوار< الاتحاد الاشتراكي (لملحق آذاعة وتلفزة) (يونيو 94)
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6954