دراما محمد تيميد وآليات التقعير مقاربة لنص “كاهنة المطبخ”

Bengrad
2021-06-04T11:44:26+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 20201٬024 مشاهدة

خالد أمين – كلية الاداب -تطوان

لقد تعامل المسرح المغربي، كما هو معلوم لدى الباحثين، مع ربرطوار مسرح العبث عبر مرحلتين مختلفتين من تطوره : المرحلة الأولى هي مرحلة النقل السلبي عبر الاقتباس والمغربة والتي في أغلب الأحيان تضفي الطابع المغربي على النص دون مساءلة ظاهرة العبث ومكوناتها الفلسفية وحدود تكييفها داخل بنية عربية إسلامية؛ من بين إفرازات هذه المرحلة >في انتظار مبروك< للطيب الصديقي… أما المرحلة الثانية فهي التي سوف أقف عندها وهي مرحلة تأصيل ظاهرة العبث. لقد اخترت >كاهنة المطبخ< لمحمد تيمد لاعتبارين : الأول، هو أن هذا النص الدرامي يتقاطع مع مجموعة من النصوص الدرامية البيكيتية على الخصوص؛ إلا أنه ينزاح عنها ليؤسس مفهوما مغايرا للعبث، بل يتجاوز أنظومة اللامعنى واللاجدوى اللذين يمثلان صلب مسرح العبث ليستشرف أفقا بأكمله من المغايرة. أما الاعتبار الثاني فهو كون هذا النص لـمحمد تيمد (ضمن نصوص أخرى كثيرة، والتي يرجع الفضل في إخراج بعضها إلى حيز الوجود إلي أستاذنا الدكتور حسن المنيعي)، يعتبر نموذجا من التهجين الذي يميز الكتابة الدراماتورجيا المغربية حاليا. إذ لا يمكن لهذا المسرح إلا أن يتشكل كفضاء هجن في حدود تمفصلية بين الأنا والآخر.

إن أهم ما يميز الكتابة الدراماتورجيا لدى محمد تيمد هو إطراح البنية الدرامية المألوفة عبر مجموعة من الانزياحات، إذ تنزع بشكل ملح نحو ارتباط عضوي بين الشكل والمضمون، الإطار الدراماتورجي والإطار المسرحي. كما تفصح عن بينة من التوقعات في حدود علاقاتها بأفق بأكمله من الغياب. وبذلك تقدم لنا، وبسخرية لاذعة، عكس ما نتطلع إليه أثناء قراءتنا لنص درامي أو مشاهدتنا لعرض مسرحي معين. إن عشق محمد تيمد لمسرح العبث وخاصة مسرح صامويل بيكيت أمر يقر به عدد من الباحثين المنشغلين بالمشهد المسرحي المغربي، ذلك أن هذا العشق أصبح يتشكل ضمن النسيج العام للاوعي مسرحي شديد البروز في الممارسة المسرحية التيمدية، ولكن لم يتوج هذا الإجماع بدراسات مقارنة تكشف حدود الإختلاف والائتلاف بين الكاتبين. وهذا الغياب، طبعا له مبرراته : أولهما ندرة نصوص محمد تيمد (رغم أن الرجل قد ترك كما هائلا من المخطوطات يفوق المائة). من هنا يمكن اعتبار هذه الورقة (مقارنة أولية في طور الإنجاز) دعوة للاهتمام النقدي بمحمد تيمد ومدى قدرته على تشكيل رؤية مسرحية تنطلق من سؤال الهوية (سؤال الأنا، الهنا، والآن) منفتحة على التجارب العالمية عبر تناص ضمني لا يقف عند حدود التأثر فقط.

1 – البنية الدرامية :

تعرض مسرحية >كاهنة المطبخ< لمحمد تيمد، كما هو الشأن بالنسبة لـ >في انتظار غودو< السيميوزيس المسرحي من حيث هي بنية توقعات تتسم فيها العلامات بانفصالها عن النسق المفاهيمي المألوف. كما تنزاح بنية النص عن التسنين الخطي الذي يعيد استنساخ العالم الخارجي، نمثل لهذا بعدم قارية الشخوص. فجوهر الحكي الذي يتم تسنينه عبر الشخصية، سواء أثناء تلفظها أو استماعها، يمنح المتلقي الأدوات التي يمكن اعتمادها في تشكيل صورة عن وعي الشخصية الموجودة على الورق أو فوق الركح. ما نتمثله في >كاهنة المطبخ<، على سبيل المثال، ليس حضور شخصية في محض سلوكها اليومي ولكن ظلال شخوص قدف بهم نحو الوجود رغما عنهم. ومن ثم تعرض تلك الظلال علامات تحيلنا إلى تجربة حياتية مأساوية عبر موجة من الهذيان العبثي. من هنا يمكن القول بأن البنية الدراماتورجية في كاهنة المطبخ (التي توجد في فصلين كما هو الشأن بالنسبة لـ >في انتظار غودو<) تعتمد على سلسلة من الحلقات المفرغة (على شكل بنيات مصغرة) بدءا باللوم والعتاب في المشهد الأول إلى التجميد والموت في المشهد ما قبل الأخير من المسرحية.

كما تشكل لحظات الصمت التي تتخلل حوارات الزوجين إيقاعات متصاعدة في النسيج الدرامي. تتكرر كلمة صمت أربع مرات في صفحة واحدة (ص.19) استشرافا للوضع المأساوي، وتصل ذروتها أثناء عزوف المرأة عن التلويح وعودتها إلى الكرسي (الذي يرمز إلى الواقع الحال). والأهم من هذا هو ظهور الطفل بين الفينة والأخرى حاملا أخبار العالم، إذ يمكن اعتباره الخط الفاصل بين مجمل الحلقات المفرغة. ظهور الطفل أولا في (ص. 15) يحمل الجرائد؛ فالإعلان في الجريدة يوازي رسالة الصبي >في انتظار كودو< ويبعث الأمل والحياة من جديد، ليعلن بدء حلقة مفرغة جديدة يظهر الطفل ثانية بعد إفراغ شحنة من المآسي، ورسالته تؤكد الوضع العبثي الذي يوجد فيه الزوجان من خلال المفارقة بين لا جدوى الإعلان من جهة وضرورة التمسك ببريق أمل من جهة ثانية. يظهر الطفل للمرة الثالثة (ص. 34) ومعه كتاب الرجل العجوز، ثم يظهر مرة أخرى (ص. 58) أثناء توجه الرجل والمرأة إلى الفندق، يدخل وهو يركب دراجة، ينعكس نورها بعد أن زادت الإنارة خفوتا… لكن هذه المرة يحمل معه قرار الطرد، على عكس >في انتظار كودو< الطفل هنا يحمل رسالة الأمل والحياة من جهة، والنهاية والموت من جهة أخرى، ويظهر الطفل للمرة الخامسة في المشهد الأخير (الذي سأعود إليه بعد حين).

2 – الإحالات الميتادينامية التي تحيلنا إلى آليات صناعة الفرجة

من خصوصيات الكتابة الدراماتورجية عند محمد تيمد التي تميز هذا النص الضمني خاصية التقعير.

الإحالات على الإنارة : نور المصباح الذي ينبغي أن لا يضيء إلا نفسه (ص.1) تبقى الإنارة على الكرسي وحده. وهي جميعها عمودية من أعلى (ص.11) تشتمل الإنارة على الرجل الشاب… (ص. 47) ظلام…

نلاحظ من خلال هذه الإحالات أن محمد تيمد يكتب برؤية إخراجية متكاملة تفرض مستلزماتها على القارئ المحتمل.

الإحالات على الأكسيسوار والديكور. (التقني يصنع برميل مماثل بالكارطون) (يطلق البرميل ويسقط ثم يدخل البرميل) ص.51 (الكرسي…)

اختبار البرميل مثلا له أكثر من دلالة، فهو يحيلنا مباشرة على وضعية ناك ونيل في >نهاية اللعبة< التي تشبه إلى حد بعيد وضعية الرجل والمرأة العجوزين. الموزة الرجل العجوز : (جالس على الكرسي تحت إنارة يأكل موزة) ص. 29

– الموز الذي يذكرنا بأحد الرموز الأكثر دلالة في مسرحية >آخر شريط لكراب< ذلك أن أكل الموز وشرب الكحول أضحى عادة ملازمة لشخصية كراب، أما بالنسبة للرجل العجوز في >كاهنة المطبخ<، فقد استبدل شرب القهوة بالكحول.

من هنا يمكن القول بأن الموزة ترمز إلى أكثر من دلالة.

1 – إنها علامة قضيبية تحيلناعلى عجز الرجل العجوز جنسيا…

2 – والأهم من هذا هو بعدها الاستغلالي، إذ ترمز إلى النزعة الاستغلالية التي تتمظهر من خلال أكل ما بداخل الموزة وإطراح القشرة الخارجية التي لا فائدة منها. وبالتالي فإذا كانت الموزة تتوفر على داخل وخارج، باطن وقشرة، أو بالأحرى وجودين، فإن الرجل العجوز مثله في ذلك من كراب عند بيكيت يوجد في الحد الفاصل بين كينونتين : الأولى هي القاضي العادل أثناء شبابه وقمة عطائه. أما الثناية فهي ترمز إلى الرجل العجوز الذي يحتضر، وهو صاحب فندق العدالة، ولعل المفارقة بين الرجلين هي مصدر الوضعية المأساوية التي يمكن نعتها بالعبثية في حدود تمفصلها داخل مجتمع المفارقات.

3 – الإحالات إلى الخلفية ثم ما وراء الخشبة والكواليس.

من الخاصيات الميتادرامية في كاهنة المطبخ استعمال ما وراء الخشبة كفضاء وظيفي داخل المشهد المسرحي، وبذلك يصبح هذا الفضاء هو الرابط بين الدراما والمسرح. في المسرح مثلا، الخشبة هي المكان الذي تدور فيه الأحداث، ولكن أي خشبة تنطوي على فضاء غير مرئي من لدن الجمهور، إذ يتم عبره تفضيء الفعل المسرحي. يعتبر هذا الفضاء إذن امتدادا للخشبة. فمن خلال تفعيل مستويات هذا الامتدادا نجح محمد تيمد إلى حد بعيد في إقامة إحالات ميتادرامية تلفت الانتباه إلى : الكواليس، الإنارة، الصوت المسجل… ما يوجد وراء الخشبة هو الفندق الفارغ من السياح، البحيرة المقفولة، الأرض الخراب… إنه عالم ميت، كما ذهبت إلى ذلك المرأة العجوز، >لقد نزلت بمقبرة< (ص. 33) من هنا يمكن القول إن هذا العالم الميت أشبه بكثير بعالم صمويل بيكيت في متنه الكامل. نمثل لهذا بـ>نهاية اللعبة< التي يمكن اعتبارها تتمة لـ >في انتظار كودو<، فكل ما يوجد خارج الحجرة فهو ميت باستثناء الطفل الصغير الذي يحتضر ببطء دون منقذ. واستعمال تيمد لما وراء الخشبة يدخل في سياق تجريبه للإمكانيات المتاحة داخل المسرح ومن خلاله. وتمثل >كاهنة المطبخ<، في مجملها، الحوار بين حضور مرئي للرجل العجوز والمرأة العجوز، من جهة، وحضور صوتي مسجل وخاطف كثيرا ما يحيلنا إلى ماض قد ولى.

يصدر هذا الأخير من الكواليس ويرمز إلى الذاكرة ولعبة التذكر. كل هذا يذكرنا بمسرحية >آخر شريط لكراب< لصامويل بيكيت، حيث يتم التركيز على الحضور الصوتي من خلال التسجيل الذي يحيلنا على مراحل مختلفة من حياة كراب.

– تمة عديد من النقاد أمثال Robbe- Grillet الذين أكدوا مفهوم >الوجود هنا< dasein

كما كان هو الأول الذي أقام القطيعة بين الخشبة كوجود و ما وراء الخشبة كعدم. يقول الرجل : كل ما يوجد، يوجد هنا فوق الركح، لا يوجد أي شيء وراء الخشبة، من هنا فـ>كاهنة المطبخ< تؤكد عكس ما يذهب إليه R. Grigget إذ أنها تلح خاصة في المشهد الأخير على الحقيقة التي مفادها أن ما وراء الخشبة يمثل الحقيقة أكثر من الخشبة ذاتها.

الإحالات على الكتابة، >يجلس الرجل ويأخذ في الكتابة< ص. 30. طبعا هنا محمد تيمد يحيلنا مباشرة على عملية الكتابة أثناء كتابته، إذ ينبني المشهد على بعد إيجابي قوي : تصبح الكتابة بؤرة التمثيل والتمثل، تحيلنا على ذاتها أكثر مما تحيلنا على نسق مفاهيمي خارجي.

الجمهور فوق الخشبة : كثيرا ما يتمثل الرجل والمرأة العجوزين الجمهور أثناءمراقبة بعضهما البعض أو مراقبة الزبناء خوفا من أن يسرقوا أو يفروا. وتتكرر كثيرا هذه العملية عند بيكيت مثلا في >نهاية اللعبة<، ناك ونيل يشاهدان، يلاحظان وقليلا ما يعلقان على الأحداث الجارية. وشخصية w في >روكابي< التي تمثل الجمهور لصوتV. أحيانا تكون هذه الإحالات إلى الجمهور ضمنية عند بيكيت. نمثل لهذا بدعوة بوزو مثلا >هل الكل ينظر إلي<؟

إضافة إلى ما سبق ذكره هناك إحالات أخرى تحيلنا على مرجعيات مسرحية سابقة. مثلا بعد قراءة قرار الطرد في (المشهد الرابع. الفصل الثاني) تموت المرأة ويظل الرجل ناظرا إلى البرقية وقد جمد هكذا، يحيلنا هذا المشهد مباشرة إلى مشهد مماثل في >انتظار كودو<.

إذ يقرر كل منEstragon و Vladimer الذهاب ولكنهما لا يتحركان كما أن محاولة الانتحار الفاشلة تؤكد أنه لا خيار لهما سوى الانتظار وهذا يحيلنا مباشرة إلى نصوص متعددة لدى بيكيت إذ تفشل الشخصية أثناء محاولة الإنتحار.

خلاصة :

تعد وظيفة كشف التضليل وأنسنة ما أصبح مشيئا بالأمس القريب والتي يطلع بها المشهد الأخير من المسرحية تجاوزا للوضعية العبثية التي تدور في فلك مغلق عند كل من بيكيت وهارولد بيتر وأداموف وجنيه ويونسيكو.

– الطفل >وقد تحول إلى شاب يحمل شارة مرشد، يدعو إليه الجمهور الذي يصعد<(ص 61 ).

– الطفل : >هلموا الآن لنلقي نظرة على ما لم يستطيعوا تغييره من معالم فندق العدالة< (يدخل الكواليس والناس يتبعونه، وهناك يدور حديث حر حول المسرح والمسرحية مع الممثلين والمخرج والتقنيين) ص. 62

تدور أحداث المشهد الخامس من الفصل الثاني في فضائين : القصر باعتباره فضاء للحكي وتمثيل الحقيقة المزيفة، والكواليس باعتبارها تجسيدا للحقيقة المسرحية. ومع التحاق الجمهور بالخشبة ودخولهم إلى الكواليس يقوم تيمد ليس فقط بإطراح البعد العبثي بإبراز البعد الحقيقي لفضاء ما وراء الخشبة حيث يسقط قناع الوهم ليدخل متلقيه في حوارية كاشفة من خلال مرآة اللاتماهي. ينزع المشهد أساسا نحو كشف القناع – قناع التضليل والحقيقة الزائفة – عبر إبراز آليات صناعة الفرجة وإحالة المتلقي إلى كواليسها ودواليبها كي يتسنى له المشاركة في النقاش الحر الذي يدور بين المخرج، الممثلين، المؤلف… ثم الجمهور لاحقا… هذا النقاش من شأنه أن يضع حدا لوباء التشيؤ والوضع العبثي، وحتى لما نروم الحديث حول كتابة محمد تيمد يسقط القناع، قناع ذاكرة المحو لنؤكد أن الفنان الكاتب محمد تيمد سيخلد بفنه. إذن يمكن القول بأن علاقة >كاهنة المطبخ< بنصوص بيكيت لا تقف عند حدود المناصة بحيث أن تيمد يتعمد إطراح مفهوم العبث في النهاية ليسقط قناع اللاجدوى واللامعنى وذلك من خلال إبراز أهمية المسرح كوسيلة لمساءلة التشيؤ والعبث.