بين سلطة الاستعادة وشعرية البوح قراءة أولية في استراتيجية الخطاب الموازي

Bengrad
2021-06-04T11:44:13+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 2020310 مشاهدة

عبد المالك أشهبون

في البداية …

تعتبر دارسة البوح والكتابة، دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي للباحث عمر حلي من الأعمال النقدية التأسيسية الرائدة في مجال السيرة الذاتية (1) بما توفرت عليه من خاصيات أساسية أهلتها لتقديم تصور جديد في الموضوع يعيد النظر في مشروعات سابقة على مستوى المقاربات النصية، أونقد النقد في مجال الأدب الشخصي بصفة عامة. وتتأسس أهمية هذا المشروع على طبيعة الوعي المنهجي بالظاهرة النصية وعلى طبيعة المفاهيم والمصطلحات النقدية المستثمرة التي توفرت لديها، من خلال الممارسة، كفايات تحليلية ذات إنتاجية وفعالة. كما تميزت الدراسة بوعي ضمني أطـر خلفيتها المنهجية انطلاقا من قناعة البـاحث بالمبـادئ الأساسيـة التالية :

– إن فهم الظواهر النصية المتعلقة بالسيرة الذاتية، فهم يتم بالبحث عن كيفية تشكل الظاهرة، وتكونها في علاقتها ببقية الظواهر المصاحبة لها.

– إن الظاهرة النصية المتعلقة بالأدب الشخصي هي أعقد الظواهر الأدبية، وذلك راجع إلى طبيعة تعقيد الظاهرة الإنسانية نفسها.

– وبالتالي فإن استهداف وضع ضوابط ومعايير شاملة لمفهوم السيرة الذاتية من الأمور المستعصية إن لم نقل المستحيلة، ما دامت هناك ذوات مختلفة وتعريفات متباينة وبالتالي تلقيات متنوعة لنفس الـظاهرة النصية. هذا ما يعني أن كل المعايير الرامية إلى حصر مفهوم الذاتية وتطويقه قابلة للمناقشة ولإعادة النظر فيها وتغييرها حتى، وفق المقاربات على ممكنات نصية أخرى في التحليل.

السيرة الذاتية : حدود الوعي المنهجي

لا يخفي الباحث تأثره بأعمال الناقد الفرنسي فيليب لوجون، باعتباره من الذين كرسوا، وبعمق، كل مجهوداتهم العلمية لتطوير مجال الأدب الشخصي سواء على صعيد التنظير أو التطبيق، إلا أن الباحث انفتح كذلك على دراسات أخرى في هذا المجال مستحضرا مجهودات كوكبة من الباحثين التي أدلت بدلوها والتي كان لها الفضل في اجراء تنقيحات وتعديلات هامة على مشروع لوجون الذي تكرس مع كتابه الشهير، >الميثاق السير الذاتي< (1975). هذه الملاحظات والإضافات التي يقر أهميتها لوجون نفسه، سواء تعلق الأمر بالتعريف الحدي لمفهوم السيرة الذاتية باعتبارها >حكيا استعاديا نثريا يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته …<. وبجرأة نقدية جسورة عمد لوجون إلى نقد بعض عناصر أطروحته هذه في كتابه >أنا أيضا< (1986) مؤكدا أن ما أثبته فيما يتعلق بقضايا التعريف، والتحديد، والمصطلح والعقد والتطابق… بجب إعادة النظر فيه على ضوء المستجدات المعرفية والنصية على حد سواء. مبرزا أن تعريفه، الآنف الذكر، للسيرة الذاتية سرعان ما تحول إلى سلطة دوغمائية تفتقر للدقة العلمية، مشددا على أن دارس السيرة الذاتية عليه أن ينشغل بالنص وبقضاياه بدل التهافت المتسرع لمعرفة الحدود، ووضع المعايير التي ستشكل في نهاية المطاف نوعا من التضييق، وتسييح الممارسة النقدية وخنق أنفاسها. وهذه الإشارات النقدية التقطها عمر حلي بعمق، مبينا عدم نجاعة الانشغال المحموم في وضع معايير قارة للسيرة الذاتية العربية، بقدر ما يحتم المقام التحليلي الإنصات إلى نبض النصوص وهو الأجدى من التهافت على معرفة الحدود أو وضعها أو العمل على تكريسها. وقد دعم الباحث أطروحته هذه استنادا على أعمال كل من إليزابيت بروس، جورج غوسدورف، جان ستاروبنسكي وغيرهم ممن شكلت أعمالهم الرائدة حافزا أساسيا في خلق مسافة نقدية بينه وبين أعمال لوجون، وحمته من الاجترار والترديد الحرفي لمقترحات لوجون على أهميتها وهذا ما فتح أمامه آفاق جديدة لمحاور بحثه ومنها الانفتاح على أهمية التلقي في الخطاب السيرذاتي، ودور القارئ في تفعيل شروط التلقي الإيجابي والذي تراهن النصوص الحداثية كثيرا على مساهمتة الخلاقة ومشاركته الفاعلة.

السيرة الذاتية وفاعلية التلقي الإيجابي

طالما تم تغييب محفل التلقي كاستراتيجية أساسية في مجال الأدب الشخصي بصفة عامة وفي السيرة الذاتية بصفة خاصة في النقد العربي التقليدي. والوعي بهذا الثغرة النقدية جاء لترسيخ العلاقة الوطيدة بين السيرة الذاتية والتلقي ذلك أن >السؤال الذي يهم تعريف السيرة الذاتية، يصب أولا وقبل كل شيء في العلاقات الممكنة بين النص والمتلقي<(ص277).

فخصوصية السيرة الذاتية تقوم على افتراض التلقي الفعال لعقد صريح أو ضمني يقترحه الكاتب ويروم من القارئ الاستناد إليه كخلفية نصية أساسية عند القراءة، وقد يعمد المؤلف إلى إشراك القارئ في صنع المشروع السير ذاتي بواسطة أشكال استحضاره الظاهر منها أو الضمني متوجها إليه بصيغ خطابية قد تصل إلى حدود استفزاز كفاءته في تقاليد الاستقبال الأدبي المتعارف عليها، باعتبار ذلك وحده القادر على توليد شعرية مغايرة للنص السيرذاتي، وبالتالي يبرم في ذات الوقت عقد قراءة مع قارئ قادر على أن يصنع للنص أفق انتظار متميز عن غيره من النصوص المشاكلة له. وهذا ما جعل الباحث يستشرف آفاق نظريات التلقي مع ياوس وأيزر وغيرهما لتوسيع مجال القراءة، وخلق آفاق نقدية جديدة ساهمت فيما وصفناه بالقيمة المضافة التي ميزت الدراسة ككل.

وينطلق الباحث كذلك من من جوهر المراجعة النقدية التي قام بها لوجون لمفهوم الحلف أو الميثاق، حيث كان يسود الاعتقاد أنه عندما يصرح الكاتب بطبيعة الجنس الأدبي الذي يقترحه على القارئ، يقوم هذا الأخير بالتصديق على ذلك الميثاق، مكيفا قراءته مع توجيهات الميثاق بما يشبه الخضوع لبنود الميثاق والاستسلام له، كما لو أن القارئ منزوع الإرادة في إمكانياته القرائية المتعددة، وهو الأمر الذي لا يمكن تحققه بهذا النوع من الآلية والدوغمائية. وقد أكد لوجون في هذا الصدد أن القارئ حتى مع وجود الميثاق يقترح لنفسه صيغ قراءة مختلفة عن تلك التي يقترحها عليه عادة الكاتب بموجب ميثاقه فضلا عن هذا أن بعض النصوص لا تحتوي على أية إشارة إلى أي عقد صريح. من هنا أعاد لوجون الاعتبار إلى القارئ الإيجابي المساهم في القراءة المنتجة والفاعلة بدل التشبث بالقارئ السلبي الذي يستهلك المنتوج الأدبي ويخضع لسلطة الميثاق لا سلطة النص. ونؤكد أخيرا أنه لا وجود لقراءة وحيدة للنص، خاصة إذا كان النص من طبيعة أدبية.

من التفاعل النصي إلى النص الموازي

إن الانشغال بالنص الموازي في الدراسات العربية المعاصرة يندرج في سياق ثقافي عام يتسم بالتفاعل مع مستجدات النظريات النقدية الحديثة كما أنه يشكل بالنسبة للباحث اختيارا استراتيجيا يتغيى من خلاله استشراف آفاق نقدية جديدة. ذلك أن التركيز على التفاعل النصي بصفة عامة وبالنص الموازي بصفة خاصة هو انكباب على أهم العلامات المفارقة في علاقة النص بالمتلقي ما دام هذاالأخير يتواصل مع النص وفق أنظمة نصية مدعمة بعناصر مصاحبة للنص، بغية تأسيس ذلك التعاقد الذي طالما حرص كل من القراء والكتاب على استحضاره أو التمرد عليه على حد سواء. كما أنه لا ينبغي إغفال أن هذه النصوص (النصوص الموازية) هي أول لقاء مادي ومحسوس بين الكاتب والقارئ الحصيف الذي تراهن استراتيجية الكتابة على حسه وحدسه النقدي الذي يشف عن أفعال قرائية تتعامل إيجابيا مع هذه النصوص من خلال ما تقدمه من اجتهادات وتأويلات وتنظيرات تزيد من غنى تلك النصوص وتفتح آفاق متعددة للقراءة. ذلك أنه بات من المعروف أن جمالية التلقي أشارت إلى الشيء الأساسي في قراءة الأعمال الأدبية وهو ذلك >التفاعل بين بنيته (أي العمل الأدبي) ومتلقيه (…) فالنص ذاته لا يقدم إلا >مظاهر خطاطية< يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص بينما يحدث الإنتاج >الفعلي< من خلال فعل التحقق. ومن هنا يمكن أن نستخلص أن للعمل الأدبي قطبين قد نسميهما : القطب الفنى والقطب الجمالي، الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ < ( 2)

النص الموازي في السيرة الذاتية

انتخب الباحث مجموعة من النصوص التي تنتسب لمجال السيرة الذاتية العربية التي شكلت متنا للانطلاق، وقد حكم هذا الاختيار هاجسان أساسيان هما : البعد الزمني، وكذلك التباين على المستوى الأدبي والإقليمي وذلك لغرض إدراك قوانين اشتغال النصوص الموازية. وبعد التوقف على أهمية النصوص الموازية في تأسيس ميثاق السيرة الذاتية في النصوص، يستعير من جيرار جونيت مفهومين محوريين من كتابه الشهير >عتبات< ( 1987).

– الأول هو مفهوم النص الحاشية (العنوان، المقدمة، الاستهلال، الخاتمة، …)

– الثاني هو النص الملحق (الحوارات والمراسلات واليوميات) مشددا على الطابع التفاعلي بين هذه النصوص التي تتكامل فيما بينها لخلق آفاق كتابية جديدة أو لتكريس قيم مألوفة.

ويفتتح دراسة هذه النصوص الموازية بالتوقف عند العنوان حيث يقدم لنا الباحث تصورات متفاوتة لنقاد أجانب تناولوا هذه الظاهرة النصية وأولوْها عناية خاصة في مشاريعهم النقدية أمثال كلود دوشي، ليو ه. هوك، جيرار جونيت، هوبير نيسان، … وتوقف الباحث عند أهمية تحليل العنوان على صعيدي الإنتاج والتلقي الذي أظهرت الدراسات النقدية الحديثة أهميته حين نقلت اهتمام النقاد به من مجرد تمثله كظاهرة نصية عابرة وعرضية إلى مستوى الانشغال به كعلم له خصوصياته تحت ما صار يدعى بـ : >علم العنونة<. ويقسم الباحث عناوين المتن المدروس إلى صنفين أساسيين هما :

1- النصوص ذات العناوين الموضوعاتية ويصنف في هذه الخانة أعمال كل من جبرا ابراهيم جبرا >البئرالأولى<، >شارع الأميرات<، عبد الغني أبوالعزم> الضريح<، ” حنا مينه >المستنقع< و>القطاف<، عبد الكريم غلاب >سبعة أبواب<، محمد شكري >الخبز الحافي< و>زمن الأخطاء< ( الشطار)، فدوى طوقان >رحلة جبلية رحلة صعبة< و>الرحلة الأصعب< وسليم بركات >هاته عاليا هات النفير على آخره<.

ويبدو أن استحضار الباحث كذلك لمضامين المراجعة النقدية التي أقدم عليها لوجون وجدت صداها في أعمال الباحث عمر حلي فلم تعد السيرة الذاتية هي محض كتابة مرجعية واقعية تروم الصدق والحقيقة وتفرض على القارئ ميثاقا موجها لعينة محددة من القراءة، بل أصبحت السيرة كذلك ذات أسلوب أدبي لا تتوق إلى الالتزام بالوضوح والتصريح بل تصر على استحضار مقاييس فنية الكتابة بما هي إيحاء وتضمين وحرص على عدم الوقوع في التبسيط والانعكاس المبتذل.

وفي هذا الصدد يسجل الباحث الملاحظات التالية :

– تركيز النصوص على علاقة العنوان بالعنوان الفرعي في نصها الموازي، بخلاف النصوص التي يؤشر عنوانها بشكل من الأشكال على انتمائها النوعي فتستغني بذلك عن هذا المكون المكمل.

-اعتبار العنوان علامة نصية تشير إلى عنصر من عناصر العالم السردي (الزمن، المكان، الشخصية، الحدث، …).

– تفاوت هذه العناوين في الإحالة على مضمون النص والإشارة إلى موضوعه ضمن علاقة غامضة بين العنوان والنص تبقى مفتوحة على التأويل.

2- العناوين النوعية : يضع في خانتها العناوين الموضوعاتية ذات الموضوع النوعي (الشكلي) والتي تشير إلى أن ما يروى في النص هو بطريقة ما استعادة لحياة المؤلف ويمثل لذلك بـ : >أوراق العمر< للويس عوض ، و>الأيام < لطه حسين، و>بقايا صور< لحنا مينه ، و>تربية سلامة موسى< لسلامة موسى، و>حياتي< لأحمد أمين، و>رجوع إلى الطفولة< لليلى أبو زيد، و>سبعون< لميخائيل نعيمة، و>في الطفولة< لعبد المجيد بن جلون، و>معي< لشوقي ضيف.

وقد توصل الباحث إلى أن هذا الصنف من العناوين ذات الحمولة النوعية يتميز بالاستغناء عن العناوين الفرعية، مع استثناء نصين اثنين هما >أوراق العمر< للويس عوض الذي يحمل عنوانا آخر فرعيا هو >سنوات التكوين<، وهو يزكي الدلالة النوعية للعنوان ،ونص >بقايا صور< لحنا مينه الذي يحمل عنوانا فرعيا إشكاليا هو >رواية<. ومكن تبرير ذلك بانتماء النص إلى ثلاثية تم تصنيف عنواني نصيها الأخيرين >المستنقع< و>القطاف< ضمن العناوين الموضوعاتية.

وينبه الباحث بعد ذلك إلى أن حضور العنوان الفرعي في نصوص السيرة الذاتية لا يلعب دائما وظيفة التوضيح أو التكملة كما لا يتوخاها منه القارئ، ولا تفشي دائما المضمون السير ذاتي المألوف في الكتابات السيرذاتية التقليدية. فمثلا عندما يضع حنا مينه لنصه >بقايا صور< عنوانا فرعيا هو >رواية< مع مراعاة ما يحدث ذلك من تشويش في الميثاق السيرذاتي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التمايز الحاصل بين الرواية والسيرة الذاتية على المستوى الأجناسي وما يستتبع ذلك. إلا أنه بعد الرجوع إلى المؤشرات النصية والمتانصية نجدها تفيد انتماء النص إلى السيرة الذاتية.

ويصل الالتباس ذروته مع كتاب >الخبز الحافي< لمحمد شكري. وعنوانه الفرعي >سيرة ذاتية روائية ورواية< أو عند صدور الجزءالثاني من هذه السيرة الذاتية بعنوانين مختلفين : >زمن الأخطاء< و>الشطار< في طبعتين صدرتا في فترة واحدة، وما يترتب عن تغيير العنوان من خرق لتقاليد النشر التي تربط النص بعنوانه بشكل وثيق حد الاقتناع بأن >تغيير العنوان يعني اقتراح عمل آخرعلى القارئ< على حد قول الباحث، لكي يخلص بعد ذلك إلى أن النص الموازي >لا يملأ دائما وظيفة مساعدة على تبين هوية النص، بل ينقلب أحيانا إلى عنصر يقود إلى تردد ولبس يحتاجان إلى الانفتاح على باقي مكونات النص الموازي سواء منها تلك المنتمية إلى النص الحاشية أو المنتمية إلى النص الملحق من أجل الخروج بخلاصة محددة عن انتمائه وأشكال عناصرالميثاق الذي يقترحه< (ص.63).

وفي هذا المقام يجيء دورالقارئ الحصيف الذي لا يكتفي بالحيرة والتردد بل يسعى جاهدا من خلال تجميع مكونات النص الموازي والمساهمة في تمثل ميثاق ضمني للنص، بناء على تفاعل إيجابي مع ما تقدمه العناصرالمصاحبة.

البعد الزمني للاستهلال

يتوقف الباحث على مفهوم الاستهلال، والدور الذي يؤديه داخل المعمار العام للنصوص سواء في النصوص التخييلية أو السرذاتية. ينطلق عمر حلي في هذا المبحث، كذلك، من >ميثاق< لوجون الذي أخذ عينه من عشرة كتب وجد أن تسعة منها تنضوي في إطار السيرة الذاتية الختامية، مستثنيا حالة واحدة تشذ عن القاعدة. وهذه الحالة هي التي فتحت أفقا جديدا للباحث لاستكشاف وجود إمكانيات متعددة للمغايرة مرتبطة بحساسيات الكتابة. وهذا ما سيفرز تصورين في هذا المجال هما :

1 – تصور تقليدي وتعبر عنه السيرة الذاتية الختامية، وهي تلك التي تتشبث بسرد طولي يبتدئ بلحظة الولادة، وتأتي في الغالب لتقديم خبرة حياتية يكون فيها التركيز على المضامين الحياتية أهم من التكيز على أشكال التعبير عن هذه الحياة وتغلب عليها سلطة الاستعادة ”الأيام” لطه حسين، ”حياتي” لأحمد أمين…

2 – تصور جديد يسعى إلى إعادة الاعتبار إلى فنية النص السيرذاتي وإلى أهمية المزاوجة بين المضامين والشكل التعبيري وهذه السيرة تتميز بكونها :

– تخرق طولية السرد بواسطة التلاعب بالأزمة.

– لا تسعى إلى التقيد بلحظة الولادة والانطلاق منها حتى لحظة الكتابة.

– تستهدف إلى خلق توترات جمالية بواسطة أشكال التعبير المتفاوتة .

وفي هذا النطاق يستخلص حساسيتين اثنتين :

الأولى : حساسية تتقيد بسلطة الكتابة، وهي التي تنشغل باستراتيجية محددة في الكتابة تعتمد على خلق اتجاه أدبي خاص، ويمثل لذلك الاتجاه بالروائين سليم بركات وعبد الغني أبو العزم.

الثانية : حساسية موجهة بشعرية البوح والتي لا تعير اهتماما كبيرا للترتيب الزمني أو الالتزام بتقاليد السيرة المألوفة بل يتم التركيز في هذه الحساسية على قوة المعاني المبثوثة في تفاصيلها، وكذلك ما تفترضه قوة الكتابة من اشتراطات فنية لابد منها.

البعد الزمني لخواتم

يؤكد الباحث أن السيرة الذاتية المحكومة بسلطة الاستعادة، التي تشكل صيغة ومضمون السيرة الذاتية التقليدية، من خلال المتن المدروس، تتصف بكونها موجهة بوظيفة ختامية تتويجية لمسار صاحبها. ويقسها الباحث إلى نوعين أساسين هما :

– نوع تقريظي : تكون خاتمته تمجيدية واضحة حازمة يغلب عليها الطابع التبوثي وغياب البعد الحواري (طه حسين، أحمد أمين، …)

– نوع نقدي ذاتي يغلب عليها التبرير والتذبذب أو إعادة المساءلة (ميخائيل نعيمة، عبد المجيد بن جلون، …)

أما خواتم السيرة الذاتية الموجهة بسلطة الكتابة أو بشعرية البوح فمن مميزاتها أنها لا تسعى إلى تتويج مسار صاحبها، ولا تغطي في الغالب إلا مراحل محددة من التاريخ الشخصي لكاتبها، لذلك فهي لا تنشغل بطولية السرد بل بالحفر في أعماق الذاكرة، إضافة إلى أن هذه الخواتم تؤكد استحالة هيمنة عنصر الحياة على عنصر الكتابة، وهذا يجعل خواتمها تمثل حسب الباحث نوعا من >عود على بدء< أي أن هذه الخواتم تصاغ في أفق البدايات، مرجأة ومتجددة أو ما يقترح الباحث تسميته بـ >خواتم الإرجاء< وما يميز الفرق بين الخواتم التتويجية والخواتم الإرجائية هو أن الأولى تتحدد وفق شرط الاكتمال بينما لا تتأسس الثانية إلا على أنقاض هذا الاكتمال.

ويخلص الباحث بعد ذلك إلى أن الاستهلالات والخواتم في النمط الأول (سلطة الاستعادة) هي تخليد للماضي عبر كتابته. بينما النمط الثاني (سواء المتعلق منه بسلطة الكتابة أو بشعرية البوح) يسعى إلى تخليد للكتابة عبر تسريد الماضي ونثره. كما أن الزمن يصبح بالنسبة لهذه الحساسية الجديدة بمثابة المكون الرئيسي لتجلية خرق الثوابت المألوفة في السيرة الذاتية التقليدية. هذه السيرة التي اختارت أن تؤسس لحضور ذاتي أكثر كثافة لا يقوم على سطحية الظهور الصريح بقدر ما يقوم على شعرية الغياب الإيجابي.

خلاصات أولية

– الانطلاق من أسس نظرية محددة يتأسس عليها الوعي النقدي والتحليلي دون الوقوع تحت سلطة وإغراء هذه النظريات، فالتنظير يحضر هنا كضرورة نصية لا كاستعراض يفيض عن الحد النصي ومقتضياته. وذلك بمدى معرفة الباحث بفعاليتها وحدود كفايتها النظرية والانصات للخصوصية النصية التي تتيح الغنى في التحليل وتجنب مغبة التكرار والإسقاط.

– إعادة النظر في بعض التصورات المألوفة في مجال الكتابة النقدية حول السيرة الذاتية في عالمنا العربي، هذه الكتابات تفتقر إلى النجاعة الكافية وهي تؤسس خطابها النقدي على مقولات ملتبسة كالأمانة والصدق والحقيقة مقابل دعوة الباحث إلى الانشغال بالنص وما يقترحه من إمكانيات التلقي المختلفة …

—————————————

هوامش

1 – عمر حلي، >البوح والكتابة، دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي<، مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، ط. 1 ، نونبر 1998

2 – فولفغانغ إيزر، >فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب<، ت. حميد لحميداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل ، 1995 ، ص. 123