رشيد الحاحي*
بدءا، إذا اعتبرنا التصوير الفوتوغرافي تقنية ضوئية تقدم إمكانية تمثيلية كبرى لنقل المواضيع وإعادة إنتاج الواقع البصري، وحددنا خاصية آلة التصوير في مبدإ الغرفة المظلمة، فهل نكون قد استبعدنا البعد الفني في الفوتوغرافيا بترجيح مبدئها التقني المحاكاتي، أي نكون قد أقصينا أهمية الحس الخلاق والرؤية التشكيلية التي تسخر آلة التصوير باعتبارها أداة فحسب؟ دون ذلك يصبح المجال مفتوحا لتأكيد القيمة الإبداعية للتصوير الضوئي، والحديث عن جمالية الفوتوغرافيا، وخصوصياتها التشكيلية والتواصلية.
إن الحديث عن الفوتوغرافيا الفنية يفرض الانطلاق من الإمكانية التي يتيحها الحامل الضوئي لتوظيف الرؤية التشكيلية في إنتاجات تحظى بمشروعيتها الثقافية، فتصبح هذه الأعمال ذات قيمة فنية، تعكس دور المقومات الحسية ومؤاطراتها الخلاقة في إعادة إنتاج الموضوع البصري وتشكيله، وفق رؤية فنية تستقي أساسها الإبداعي من الثقافة الفنية والقيم الجمالية.
من هذا المنطلق، يجدر التدقيق إلى أن التصوير الفوتوغرافي الفني لا يقتصر في إطاره التجريبي على توظيف الإمكانيات التقنية لآلة التصوير وخاصيتها التمثيلية فحسب، بقدر ما يحيل على بعده التشكيلي المتمثل في الاشتغال على الخصوصيات للوسيط الفوتوغرافي، نافيا بذلك حياده.
فإذا كانت القيمة التشكيلية للصورة الفوتوغرافية تقترن إلزاما بالخطاب الذي يصوره حاملها، فإن هذا يعني أن إمكانية توظيف الحس الفني تخص الرسالة الفوتوغرافية، أكثر ما ستتناول الحامل في حد ذاته، فيصير الخطاب الفني مقترنا بأبعاد الترميز في الرسالة، وبالنسق الدلالي داخل خطاب الصورة.
أما إذا اقترن الخطاب الفني في الفوتوغرافيا بمستوى ثان، يتجاوز حدود الرسالة، ويركز على الوسيط باعتباره يقدم حاملا فنيا لمقومات الحس ومؤطرات الخيال، ودورها الخلاق في إنتاج جمالية بصرية، فإنه سيمكن تناول التصوير الفوتوغرافي كتقنية تشكيلية يمكن توظيفها في الإبداع الفني، وذلك دون أن تبقى القيمة الجمالية والخاصية التشكيلية حبيستي المبدأ التقني، ومجهوده المحاكاتي في صياغة الدال البصري وفق تعاقدية تضفي الدلالة وتولد المعنى.
في هذا السياق، يمكن صياغة ما سبق لطرح سؤال شائك عما إذا كانت القيمة الفنية للصورة الفوتوغرافية مرتبطة بطبيعة الوسيط وسعيه إلى إنتاج رسالة دالة، أم أنها مستقلة عن محتوى الخطاب، وتقتصر على شكله الصرف؟
فكل ما نسعى إليه من خلال هذه المقاربة هو محاولة إثارة بعض أسئلة المجاورة التي يطرحها التصوير الفوتوغرافي في علاقته بالتشكيل، والوقوف عند إمكانية توظيف خصوصيات الوسيط وطواعيته لإنتاج جمالية فوتوغرافية، وذلك اعتمادا على قراءة في ثلاثة تجارب طلائعية ساءلت هذه العلاقة واشتغلت أبعادها في أعمال فنية يشهد لها بقيمة الأثر والإبداع التشكيليين.
د. هوشني وزمنية الخطاب الفوتوغرافي
لقد أدرك هوشني(D.Hochney ) أن أي سؤال عن القيمة الفنية للصورة الفوتوغرافية، هو سؤال عن الزمن. وأنه مهما اتسع الفضاء لتمثلات الحس الإبداعي ومقوماته التشكيلية، فإن جوهرها لا يستقيم إلا في سيولة الخطاب، وفي ظل المعنى الذي يتولد عن حركة الزمن.
فكل حسه التجريبي يبدو وكأنه محاولات لفك هذا السؤال وكل مرة تبدو الإجابة زمنية صرفة، فبعد أن ساءل كثيرا ثبات الزمن في الصورة، وجمود اللحظة البصرية في خطابها، يصل إلى التخلص من قبضة >الآنية< التي يوهم بها التصوير الفوتوغرافي معتبرا الزمن في جوهره مسألة اتصال وامتداد، يتجاوز جهود اللحظة الفوتوغرافية وسعيها إلى المحايثة والآنية.
وأدرك الفنان، بتقدم حسه الفني، أن خاصية الصورة الفوتوغرافية أقرب إلى الطريقة التي ننظر بها إلى الواقع، أي ليس كعملية سريعة، لكن كمجموعة نظرات فريدة وسرية، تكمل محتوى تجربتنا في العالم (1) .
هكذا اشتغل هوشني على عملية الإدراك البصري في بعدها الواقعي، فقام بأجرأة خاصية النظر وامتداده في الزمن، فإنتاج إبداعات تجسد كرونولوجية اللحظات واتصالها في عملية المشاهدة.
فامتداد الزمن واسترسال النظر عبر وساطة الفوتوغرافية، لا يتمان إلا بتواز مع تقطعية الفضاء وتركيبه. أي أن كل نظرة هي تقطيع في المكان، واتصال النظرات يرتبط بتجزيء الفضاء الذي يشكل موضوع الصورة الفوتوغرافية.
بيد أن الصورة الوحيدة لا تتناول في موضوعها إلا جزءا مستقلا من فضاء عام، فهي لا تستدعي المشاهدة، باعتبارها فعلا في الزمن، بقدر ما تكتفي بإثارة لحظة ثابتة، حيث إن جزءا من الموضوع داخل إطار صورة مستقلة، يجعل النظرة معلقة، ويختزل المشاهدة في لحظة جامدة، فينفي اتصال الزمن.
في محاولة لتسريح خطاب الفوتوغرافية من قبضة اللحظة الجامدة، يأتي تفكير هوشني بإمكانية الربط بين تجزيء الموضوع عبر التقاطات بصرية عديدة ومتوالية، وبين استرسال عملية المشاهدة عبر معاينات، ينتج عنها تعدد النظرات واتصالها في الزمن.
يقدم الفنان عرضا تشكيليا مركبا من سلسلة صور فوتوغرافية ذات مواضيع تحيل، تكامليا، على أجزاء أو أوضاع لموضوع وحيد (2)، فيصير العرض البصري منسوجا في وحدة تكاملية تفرض على المشاهد استرسال النظر، وذلك بالانتقال من صورة إلى أخرى داخل تقطعية الفضاء وحركات الموضوع المنساقة في كرنولوجية زمنية، تنتج عنها وحدة النظر والمشاهدة.
يشخص الفنان من خلال مجموعة صور، عدة أوضاع وهيئات لموضوع مجزإ إلى وحدات بصرية متسلسلة، فيضفي على التركيب الفوتوغرافي خاصية الحركية والانتظام الإيقاعي، وذلك عبر عدة لقطات تصويرية لموضوع منساق في حركة تعبيرية أو عضوية. فتوقف عدسة التصوير وترصدها لانتقالات حركية لنفس النموذج، يعكس رغبة الفنان في القبض على الموضوع في عدة لحظات، تلك المفقودة في زمن المشاهدة. فيصيرالعرض الفوتوغرافي متشكلا من سلسلة >كلشيهات< مرتبطة عضويا بنفس الموضوع حسب إيقاع يفرض على المتلقي التوقف، بدوره، أمام كل حركة باعتبارها موضوعا مستقلا، في لحظة مفقودة.
إن التلقي البصري وعملية المشاهدة في معارض هوشني ينفلتان، بقدر الرؤية التشكيلية، من ثبات اللحظة، وهي تحرر زمنية النظر، حيث تصير المعالجة الفوتوغرافية في تقطيعيتها وتكاملها، صياغة فنية تتيح للزمن إمكانية الاتصال، وفق العين الخلاقة في القبض على اللحظات المفقودة وتركيب الفضاء، وبالتالي إيصال زمن المشاهدة.
>مقارنة مع الصباغة ، يظهر أن الفوتوغرافية هي التي خلقت الوهم… أعتقد أن الصورة الفوتوغرافية أحبطتنا، بمعنى أنها لم تقدم ما كنا ننتظر منها، حيث إنها تقدم رؤية ميكانيكية مجردة جدا من الحياة< (3) هكذا تحدث هوشني عن الفوتوغرافيا، وذلك بعد أن اشتغل بها كثيرا، وحاول إخضاعها لأبعاد الرؤية التشكيلية، وإطارها التجريبي الذي يندرج ضمن طلائعيات الفن الحديث.
وإذا كان هذا الفنان قد أمضى فترة طويلة في مساءلة الإمكانيات التقنية للتصوير الفوتوغرافي، محاولا أن يسحب إياه بطاقة اعتراف ضمن الفنون التشكيلية، فإن جنوحه العاطفي في تسخير تقنية التصوير الضوئي لتجسيد حسه الفني، ارتبط بجملة الأسئلة التي صاحبته طيلة محاولاته التجريبية تلك التي انتهت بيأسه والعودة إلى الصباغة وجوهرها الإبداعي الصادق.
روشنبيرغ واندغام الفضاء.
على خلاف هوشني الذي اشتغل، بامتياز، بزمنية الخطاب الفوتوغرافي، ومدى إمكانية توظيف الحس الفني ليعيد للصورة، من خلال سلسلة كلشيهات مرتبطة داخل وحدة إخراجية، بعديها >الأحدوثي< و >الدلالي< اللذان ينفيهما جمود اللحظة البصرية تأتي الرؤية التجريبية لروشنبيرغ (Rauchenberg ) بالتركيز في معالجة الفضاء التشكيلي/الفوتوغرافي على سند العمل الفني.
فانطلاقا من صورة فوتوغرافية متعددة المواضيع والمقاييس والصياغات، يقوم الفنان بتنضيدها في تركيب تشكيلي، فيقدم عملا يخلخل التوافق التمثيلي الذي يقوم عليه النظر في تلقيه للمادة البصرية.
يلتجؤ الفنان إلى تقنية الفوتو-مونتاج Photomontage لتركيب صور فوتوغرافية مختلفة في صياغاتها التواصلية، حيث يعيد توظيف الصور الصحفية والإعلامية، إضافة إلى صور فنية صاغها قصدا لإنجاز العمل، فيعيد تشكيلها في تركيبة بصرية، لا تستقي تناغمها من التماثل الواقعي، وإنما من إيقاع التنوع والتنضيد، وقيمتهما التشكيلية القائمة على وحدة السند (4).
فمن خلال مزحه بين مقومات الفوتوغرافية في تمثيل المواضيع المستوحاة من الواقع المرئي، وبين ترتيب الواقع البصري كوحدات فوتوغرافية متفرقة، تنزاح في تركيبها آلة التصوير في تمثيل الواقع.
هكذا يصير الفضاء الواقعي، أي الفيزيقي، مندغما في التشكيل الفوتوغرافي الذي يتجاوز حدود النقل والتأليف الحرفي متيحا لمؤطرات الخيال والخلق إمكانية تمييز مقومها الإدراكي، وذلك بإعادة إنتاج المرئي داخل وحدة تشكيلية متفردة.
يتشكل العمل الفني من عدة صور فوتوغرافية تختلف محدداتها التقنية، من خلال زوايا التصوير، وأبعاد المواضيع ومقاييسها، إضافة إلى نوعيتها ودرجات الضوء والنصاعة الغرافية في كل منها. فيعاد ترتيبها على مساحة الحامل وفق إخراج تشكيلي يخلخل لدى المشاهد خطية النظر، ويفرض عليه تعددية منظورية في زوايا الرؤية، وطريقة مقاربتها للمادة البصرية المقدمة.
يستطيع روشنبيرغ عبر معالجته تشكيلية للعمل الفوتوغرافي، أن يلزم المتلقي بتغيير مسالك قراءته البصرية، فيجعله خاضعا لتعددية المنظورات في الانتقال بين مختلف الصور المشكلة للعمل الواحد، وذلك بقوة التجزيء التي يخضع لها الموضوع الفوتوغرافي في كليته، والتي تصل بفضائه إلى حدود الاندغام.
إن جوهر الرؤية الفنية وإطارها التواصلي في أعمال روشنبيرغ ، تدلاننا على إمكانية إعادة تشكيل الفضاء البصري لإنتاج المعنى. لو كانت الصورة الفوتوغرافية تسعى إلى نفي الزمن وإقصاء المعنى، فإن الكذب، كما يرى رودان Rodin هو خاصية الصورة الفوتوغرافية، في حين أن الفنان هو الذي يسعى صدقا إلى الحقيقة، لأن الزمن لا يتوقف في الواقع (5) . فأمكن القول إذن، إن اندغام الفضاء وتجزيئه في التركيب الفوتوغرافي على مساحة السند، قد يحييان الزمن ويثيران المعنى في الخطاب الذي يمرره، ويتيحان بالتالي إمكانية توكيد جمالية الصورة وخطابها الفني.
وسعيا إلى إغناء تعبيرية العمل الفني، وإظهار البعد التشكيلي في تركيباته الفوتوغرافية، يلتجىء روشنبيرغ أحيانا إلى إدخال لمسات الفرشاة وبعض الأشكال الرمزية على إنجازاته، مبددا بذلك هشاشة الفواصل التي تحاول العزل بين الصباغة والفوتوغرافيا، رغم شساعة التعبير التشكيلي وطواعية تقنياته.
ك. بولتانسكي والتشكيل المضاعف
يدلنا الحس التجريبي وإطار الرؤية الفنية في أعمال هوشني و روشنبيرغ على الصياغة الإخارجية التي اعتمدها كل منهما في إنتاج المادة الفوتوغرافية، وتقديمها كأثر فني يستمد مقومه الخلاق من صياغات تشكيلية تركز على إثارة أبعاد العلاقة فضاء/زمن، والاشتغال بها في إنجاز تركيبي ونهائي.
وإذا كانت هاتين التجربتين ركزتا على إمكانية تشكيل مجموعة التقاطعات فوتوغرافية، وإعادة إخراجها في إنجاز تركيبي يحدده التفكير الفني والبصري الذي اشتغل به كل منهما، فإن الرؤية التشكيلية لدىبولتانسكي تتميز بالعمل على مبدأ التصوير الضوئي وتشكيل الموضوع المصور.
حقا، كان بولتانسكي مخرجا فوتوغرافيا بامتياز، وعمل على تسخير كل الإمكانية التقنية التي توفرها آلة التصوير، وذلك لتقديم فوتوغرافيا جديدة تستمد أساسها الجمالي من التحكم في مبدئها التقني، وصياغة موضوعها على المستوى العضوي والإخراجي، فأصبح دور التصوير في اعماله مختزلا إلى شكله الوساطي الصرف، لتبقى كل العمليات، إخراجية وتشكيلية، تخص المبدع ورؤيته الفنية.
ينجز الفنان أعمالا فوتوغرافية دون أن يدع أدنى إمكانية للصدفة، حيث يأخذ كل الترتيبات التقنية لالتقاط الصورة لموضوع تم تشكيله بدوره، فيختار تفاصيله العضوية وبنيته المادية والقياسية، إضافة إلى تدقيقه للوضع الفوتوغرافي على السند الحساس، مشكلا بذلك خطابا فنيا متميزا في سياق التجريب الفني الفوتوغرافي.
يلتجىء بولتانسكي في تشكيل مواضيع الصور الفوتوغرافية إلى التركيز على بنية النماذج المصغرة التي يبتكرها ويصوغها في تركيب متناسق ومنمنم، ثم ينتقل إلى دراسة الإخراج التصويري بتحديد المسافات البؤرية، وزوايا التصوير، وتوزيع الضوء، وتثبيت الظلال… مطوعا بذلك آلة التصوير، ومجزئا دورها التقني الوساطي إلى مستوى ثان في عملية الإخراج، فيجسد فوتوغرافيا ما تم تشكيله وإخراجه مسبقا(6).
إن فوتوغرافية بولتانسكي تختزل خطابها الفني في صياغتها التشكيلية الصرف، دون بحث عن المعنى الزائد الذي يتوهم أنه نتاج عناصر خارجية على الإخراج التشكيلي أن يتناولها بالأساس والتفصيل. فيصبح حضور هذا الفنان من خلال أعماله، يوحي بحميمية ونزوح تعبيري في تناول وتشكيل الصورة وخاصيتها الفنية المجردة، تلك الخاصية التي تتجاوز حدود المعنى، وتغض النظر عن عاملي الفضاء والزمن اللذين تنطوي عليهما دلالية الخطاب البصري، معتبرا بذلك فوتوغرافيته عملا فنيا محضا، يتخلص من قيد المعنى لكن مع إتاحته كإمكانية وإرادة، ما دام الفن قد يولد المعنى، أو أن هذا الأخير، على الأقل، مستقل كليا عن جمالية الصورة الفوتوغرافية وخطابها الفني.
انطلاقا إذن، من هذه النظرة السريعة على ثلاثة من أكبر التجاريب الطلائعية في مجال الفوتوغرافيا الفنية، يتضح أن مقومات الحس التشكيلي الخلاق في تسخير الحامل الفوتوغرافي لإنتاج خطاب فني وجمالي، قد تناولت مستويات مختلفة من الخصوصيات التواصلية لهذا الوسيط.
فإذا تناولنا خاصية الصورة الفوتوغرافية في إطار سيميولوجيا الصورة الثابتة، فإنها تبدو كما لو أنها نفي للزمن، ذلك أنها تجمده محولة اللحظة إلى أبدية (7). ومن خلال مبدئها التقني القائم على تمثيل المواضيع المصورة وإعادة إنتاجها، يظهر أن الرسالة الفوتوغرافية تقتصر على الفضاء الذي تحيل عليه، ولا تتعداه إلى إمكانية تقديم خطاب سردي أو حكائي، أي إمكانية الإحالة على الزمن.
وفي أقصى حدود الإحالة، فالفوتوغرافيا لا تستطيع أن تثير سوى ردود تلقي انفعالية بخاصيتها في التجميد الزمني، وتعليق اللحظة البصرية في رسالتها، حيث إن إثبات الزمن في الصورة الفوتوغرافية، كما أكده بارث ، لا يمنح نفسه إلا في صيغة زائدة ومخيفة، فالزمن مذبوح (8).
ولعل هذا العطب الحاصل على مستوى السردية الزمنية داخل خطاب الصورة، هو ما يدفع بالرؤية الفنية إلى اعتماد صياغة تشكيلية تخلخل محددات الصورة الفوتوغرافية، باعتبارها صورة ثابتة، فيتم إقحامها في العرض التشكيلي الذي يؤطره تصور إخراجي يتناول عامل الزمنية، ليس داخل المنظومة البصرية لصورة وحيدة ومستقلة، وإنما كأساس عملية المشاهدة والتلقي البصريين.
من هذا المنظور، بمكن مقاربة التجاريب التشكيلية لـهوشني و روشنبيرغ التي سعت إلى ربط زمن الصوة بزمن التلقي داخل وحدة الإخراج التشكيلي، فجسدت دور المقوم الحسي والرؤية الخلاقة في معالجة وتطويع قدرات الوسيط، وذلك لبعث زمنية الصورة في إطار الإمكانية التي تقدمها عملية التلقي والمشاهدة، وتحويل اللحظة إلى مدة، أي بتمديدها في ظل مجرى التواصل.
يستنتج، إذن، من هاتين التجربتين الفوتوغرافيتين أن تصورهما الفني المتميز بالاشتغال تشكيليا بالبعدين الزمني والفضائي في الخطاب الفوتوغرافي، قد اخترقتا حدودية التواصل التي تفرضها الرسالة الفوتوغرافية، حيث إن رؤيتهما التشكيلية تندرج، بكل تأكيد، في صيرورة التفكير الفني الذي حاول إضفاء قيمة الإبداع الصادق على نتاج الوسيط الفوتوغرافي، وليس، كما قد يبدو ذلك، محاولة للتحايل عليه.
إن الصورة الفوتوغرافية، كما يقول ديان أربيس Dian Arbus هي تقديم سر في موضوع سري (9) فهذا الانطباع المجرد ينطبق، ربما أكثر من غيره، على رؤية بولتانسكي وتجريبه الفني في مجال الفوتوغرافيا.
فاشتغال الفنان لم يقتصر على مساءلة الإمكانية التي يقدمها التصوير الفوتوغرافي باعتبار أساسه التقني فحسب، بل تجاوزها إلى تشكيل المادة المصورة، فنجده يصوغ مواضيعه على شكل مادة فنية، حيث إن تدخل تقنية التصوير لتجسيد الصورة، لا يأتي إلا في درجة مضاعفة، فتصير الصورة الفوتوغرافية مضاعفة، أي صورة لصورة(10).
يهتم بولتانسكي في أعماله بعمل الخلق والإبداع، أكثر منه بعمل الوسيط والتقنية، وبما أن الإبداع معناه إيقاف مجرى الزمن(11) كما كتب أحد النقاد، فإن التصوير الفوتوغرافي ليس أكثر من مجرد تقنية تشكيلية توظف، وفق مؤطرات الحس الخلاق، لتقديم خطاب فني له إطاره التواصلي وقيمته الجمالية المنفردة، تلك التي تتيح، بتعبير بروست متعة التواصل مع جوهر الأشياء خارج الزمن(12).
ويكون بولتانسكي، باستبعاده للحس الواقعي في نتاجه الفوتوغرافي، إضافة إلى تناسبه لعامل الزمنية في الخطاب البصري، رغم أن نوعية مواضيعه المصورة وابتكارها بهذا الشكل قد تبدو مبررة بحس الفنان الطفولي وحنينه إلى لحظات سرابية مفقودة، قد اشتغل بامتياز بجمالية الصورة التي بددت ماديتها، حيث لا يبقى إلا الخطاب الفني وحده في فوتوغرافية تؤكد قيمتها التشكيلية في صيغة صرفة ومجردة.
————————————————————–
هوامش
1- D.Hochney; Comeraworks, Thames and Hudson, Londres, 1984 P 11
2 – لنأخد كمثال توضيحي عمله رقم 86 من Comeraworks حيث قدم Hochney عرضا فوتوغرافيا من أربعة كلشيهات، موضوعها شخص Billy wilder يوقد سجارته، فيجسد الفنان فوتوغرافيا أربع لحظات سريعة من هذه العملية، بدءا من الرغبة في التدخين وإيقاد السجارة، حتى حالة الإشباع والارتخاء وإدغام عود الثقب في المنفضة.
3- D.Hochney; Painting and Photography, in David Hochney by David Hochney, P 130
4 – يقدم Rauchenberg في أحد أعماله الفوتوغرافية تركيبا لمنظر معماري متشكل من واجهات وأماكن مدينة شهيرة، وذلك بتركيب عدة صور فوتوغرافية مختلفة الأشكال والمقاييس، ذات مواضيع متباعدة في الفضاء الواقعي، لكنها متكاملة ومتداخلة تنضيديا على فضاء السند. انـظر مثلا، أعماله المطبوعة في :
L’Art de notre temps; Il Bruxelles, la connaissance; 1970
5- Rodin; l’Art, entretiens réunis par Paull Gsel, Paris; 1911, P 86
6 – يقوم Boltavski بابتكار مجموعة نماذج بواسطة أجزاء من الورق المقوى، ومسامير، وأزرار، وأوراق أشجار مختلفة الشكل والمقاييس، ثم يصغها في تركيب تعبيري متناسق، ليلتجئ بعد ذلك إلى دراسة وضعها الفوتوغرافي، ثم تصويرها وسحبها في حجم فوتوغرافي كبير.
انظر كتلوك Catalogue معرضه الذي أقيم بمركز Georges Pompidou باريس، فبراير 1984 .
7- G.Gauthier, Vingt leçons sur l’image et le sens, edilig, Paris; 1986 , P 47
8- R. Barthes, la chambre claire, note sur la photographie, Gallimard, seuil; paris, 1980 P 142
9- Dian Arbus, in La Photographie, de sontag, seuil, P 128
10- C.Boltanski, In Métamorphoses de Drahos, Créais, 1980 P 13
11- Cité par T.Maraini, Texte publié dans Lamalif, N! de Mars 1986 , P 89
12- M.Proust, A la recherche du temps perdu,le temps retrouvé, Gallimard, “pléiade” p, 871
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6963