المسكوت عنه في الصورة

Bengrad
2021-06-04T11:43:38+00:00
العدد الحادي عشر
17 أغسطس 2020366 مشاهدة

عز الدين الوافي

نحن أمام صورة صحفية لوكالة رويتر * تسجل حدثا تاريخيا يندرج ضمن مسيرة المساعي الدبلوماسية لحل القضية الفلسطينية؛ ويتعلق الأمر بزيارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير – الذي عهدناه دائما والبسمة تعلو محياه – لمنزل عائلة فلسطينية بمخيم البقعة في الأردن. وقبل مباشرة القراءة والتأويل والقيام بعملية توليد المعاني وملئ الفراغات التي تقترحها علينا الصورة باعتبارها خطابا بصريا، لابد من طرح فرضية ما : إن لهذه الصورة التي تعتبر بعدا جماليا يثير عند المتلقي انفعالات وقراءات متعددة. إن هذه القراءات، رغم تعدد خلفياتها، تبقى إلى حد بعيد رهينة اعتبارات آنية تتداخل فيها الذات بالموضوع بشكل ديالكتيكي. إلا أن عملية التلقي والتأويل هاته هي بالأساس عملية متشابكة تطرح علينا إشكالية الضوابط التأويلية التي تستقي من القيم الاجتماعية والأخلاقية والجمالية مرجعيتها ومشروعيتها.

قد تتنوع قراءة هذه الصورة بتنوع المستقبل لها وحسب الظرفية والشروط الثقافية للسياق التاريخي. وهكذا يمكن أن تكون هناك قراءة بعيون ” فلسطينية” تبرز عودة الظالم لتضليل المظلوم الذي سلب منه حقه، وقد تكون هناك قراءة بعيون “إسرائيلية” تعتبر بلير دخيلا جديدا يحاول حشر أنفه فيما لا يعنيه. وقد تكون هناك قراءة بعيون ” بريطانية” تري في رئيس الوزراء رجل الساعة والمهمات الصعبة؛ وهناك قراءات عربية وأمريكية انطلاقا من مواقع ومواقف شتى.

إن التقسيم البياني المثبت على الصورة يبرز علاقة المركز بالمحيط أو ما يسمى التركيب composition أي علاقة الخطوط بالأحجام والكتل داخل فضاء الصورة، وهو دليلنا للاقتراب من وضعيات الأجساد وأشيائها البينة منها والمضمرة .

فمن معاني هذه الصورة ما يبدو ظاهريا وتتعرف عليه العين كواقع انطلاقا من التجربة المشتركة التي لا تستدعي سوى قراءة التجارب كما هي وهذا ما يسميه بارث ب ستاديوم stadium > فبفعل هذا الأخير اهتم بالعديد من الصور سواء أأستقبلها كشهادات سياسية أم تذوقها كلوحات تاريخية جيدة، وذلك لأن مشاركتي في الأوجه والسحنات والحركات والديكورات والأفعال مشاركة ثقافية.< (1) ومنها ما يتوقف على المشاهد كي ينفذ إلى أغوارها مستعملا آلياته الاستقرائية ولم لا الإسقاطية.

وحتى لا ننساق مع أية قراءة بريئة كما قد تدعي ذلك وسائل الإعلام، لا بأس أن نستعرض مجموعة من الشفرات الأىقونية التي ستمكننا من تكوين تصور تقريبي قد يسعفنا في اتخاذ موقف مغاير يتجاوزالمظهرالبريء للصورة. وبناء عليه، يمكن رصد هذه الشفرات في البنيات التالية :

– الفضاء العام للصورة

– تركيب الكتل

– اللباس

– وضعيات الأجساد

– رمزية الأشياء.

1- الفضاء العام للصورة

بالرغم من الطابع السياسي للصورة، فإنها خالية من تلك المصافحات والابتسامات الدبولماسية ” المفتعلة ” التي يكون الهدف منها أولا إعطاء الانطباع بتقارب وجهات النظر ورضى الأطراف عن بعضها البعض، وثانيا : اللعب على إيقاع العفوية وصدق المشاعر. وكما عودتنا دائما لقاءات القمة بين القادة، فإن الفضاء هنا خال من الأثاث الفاخر، واللوحات الزيتية، وتلك الأواني أوالمزهريات الجذابة. هناك بالطبع فقر في الديكور وغنى في دلالات الشخصيات، وما هذه الحيطان العارية إلا دليل على ذلك.

لقد وضعت الأم رضيعها على الجهة اليسرى وكأنه درعها الواقي. أما بلير فلا يخاطب الأم مباشرة، وكما يقال من أراد كسب عطف الأم فليقصد طفلها. ويبدو هذا بالضبط ما يفعله بلير وكأنه يحاول تصفية حساباته التاريخية مع الأم كرمز للماضي الثقيل بطمأنتها على مستقبله واستمراريتها المجسدة في الرضيع.

2- تركيب الكتل

يمكن تقسيم الصورة إلى أربع كتل تشكل محيطها وتمنحها بالتالي خصائصها المميزة ضمن سياق صور أخرى قد تكون التقطت لنفس الشخص – بلير – في وضعيات مختلفة. إنها صورة متوازنة يملأ نصفها الأيمن بلير والطفلة، بينما تحتل الأم والرضيع النصف الأيسر، ويبدو بلير والأم في شكل مواجهة، ولو أن بلير يحاول تلطيف أجواء هذه المواجهة بخلق نظرة مائلة وإرسال لمسات مداعبة. وتحاول الصورة إعطاء الانطباع بطيبوبة شخصياتها مستفيدة من كل الأدوات التقنية كالعدسات، والإنارة والواجهة، والإيحاء. وباختصار فإن الأمر يتعلق بمما يسمى بـ ” الهالة الروحية” وهذا يذكرنا ب Karch أحد أكبر المصورين الفوتوغرافيين في هذاالقرن > لقد كانت الصورة الضوئية لديه تلاعب عالما بالضوء على الوجه قبل كل شيء، وتوضيح العناصر الدالة، وإمساكا بالإيماءة -المفتاح، فقد كانت الصورة الضوئية لديه هي ضبط إطار المكان واكتشاف الوضعية الأكثر إيحاء <. (2)

الظاهر أن الأم تحتل حيزا أكبر ربما لأنها تبدو أكثر بدانة، وهذا بالفعل ما يعطيها هيبة خاصة بها. أما الكتلة الثالثة فتحتلها يد الأم وقدما الرضيع التي تشكل جسدا واحدا. الطفلة هي بطلة الكتلة الرابعة رغم نزوحها إلى خارج الإطار وكأن مؤثرا ما يلفت نظرها. غير أن الكتل 1 – 3 – 4 تحيط وتطوق بكتلة بلير الذي يبدو وكأنه محاصر من طرف أفراد العائلة والفتحة الوحيدة أمامه توجد بين ظهرالطفلة والرضيع. لكن يد الأم هناك وكأنها مستعدة للانقضاض على شيء ما.

3- اللباس

يحدث أحيانا عند زيارة مسؤول سياسي لبلد ما أن يلبس الزائر اللباس التقليدي للبلد المضيف تعبيرا منه عن أواصر المحبة والاهتمام. إلا أن كلا من بلير والأم متشبثان بلباسهما الذي يعبر عن هويتهما وجذورهما. فقد فضل بلير الظهور ببذلته الرسمية لأنه يعتبر نفسه في مهمة سياسية وليس في نزهة . من يدري .

إن عباءة المرأة تستبعد كل علاقة إثارة بين ذكر وأنثى خصوصا بعد تغييب صورة الأب. ويزيدها حضورا كأم حاضنة للأرض والتقاليد. وبينما يبرز حزام الأم كرمز أفقي للزمن، يظهر بلير وكأنه بدون حزام، وحزامه الوحيد هو ربطة عنقه في خط عمودي كرمز للمكان وكواجهة تؤكد جو الاختناق. (3)

4- وضعيات الأجساد ورمزية الأشياء

إن الشخصيات الثلاث في وضع الجالس وحتى بلير، بكل وزنه السياسي، يشاطر العائلة وضعية الجالس هاته، وهي طريقة شرقية في الجلوس. والرضيع وحده يبدو مستقيم القامة إلى حد ما وهو مستند إلى ذراع أمه. إنه بمعنى ما سيد الموقف. ورغم محاولة بلير الارتكان إلى حائط عار ومشاركة هذه العائلة، فإنه يدخل ” بيتها” الطاهر بحذائه الذي يرمز إلى التدنيس. إنه بشكل ما يدوس كرامتها وأرضها. ورغم محاولة الظهور بمظهر المساند، فهو لا يفهم شيئا في الأصول العربية. إن ظهرالأم مستقيم ورأسها منتصب، لذا تبدو واثقة من نفسها. أما بلير فهو مقوس شيئا ما وفي حالة انحناء.

وفي إطار العلاقات بين الأجساد والمساقفات الموزعة على الصورة، فإن الرضيع هو الذي يهبها عمقها المكاني والزماني بيد قابضة على سر ما، وكأنه يريد أن يوجه لكمة. وبيد أخرى موضوعة على ذقنه وهو مستغرق في التفكير ويريد أن يقول ” إني أتهم “. أما على مستوى النظرات، فالأنثى (الأم والطفلة ) توجه نظراتها إلى خارج الصورة. أما الذكر ( بلير والرضيع ) فإن نظرته موجهة إلى الداخل. إن بلير يحيد تماما بعينيه، فهو لا يريد إثارة الانتباه أو كشف ما بداخل روحه وكأنه لا يجرؤ على النظر وجها لوجه، أو خلق أي تواصل مع أي مشاهد. وفي نفس الوقت تحدق الأم جهة الأفق بعينيها الحادتين. فنظرتها ليست بالمطمئنة ولا بالباكية، إنها بكل بساطة نظرة موسومة بالدلالات المعبرة عن المعاناة الإنسانية. إلا أن الأم تحاول إرضاء متطلبات السياق الدلالي للصورة، لذا فهي تحاول إبداء نوع من الليونة، فهي تبتسم ابتسامة ليست كالابتسامات، إنها بين العضة على الشفاه والتكشير.

إن الأشياء المزينة لديكور الصورة لا تتعدى وسادة ولحافا. فهما شيئان يزيدان بكل تأكيد من ارتباط الإنسان بالأرض. وإذا كان بلير مثالا للرجل السياسي ذي الأصول الأرستقراطية، قد يسمح لنفسه مجالسة عائلة مشردة معطيا إياها هذا التمييز للظهور أمام كاميرات العالم. فما تملكه هذه العائلة كحلم ببزوغ فجر جديد لا يقبل الاستعراضات المجانية، وإذا كانت الوسادة هي القاسم المشترك، في هذه الصورة على الأقل، فالفرق سيكون لا محالة بين الأحلام الجميلة والكوابيس المرعبة .

————————————

الهوامش

* – جريد الحياة عدد 12830

1- رولان بارث : العلبة النيرة، ترجمة، ادريس القري، مراجعة محمد البكري ، سلسلة فضاءات مستقبلية ، دار وليلي للنشر ، 1989.

ص 27 ،

2-بيير بابان : لغة وثقافة وسائل اتصال، ترجمة ادريس القري ، دار الفارابي للنشر ،1995 ص 46

3- انظر R . Barthes : L’obvie et l’obtus , ed Seuil , 1982

صورة بلير برفقة العائلة الفلسطينية