نقدم في هذا العدد محورا خاصا ببعض القضايا والمفاهيم التي تثيرها ” سميائيات الإيديولوجيا”. وقد يبدو عنوان هذا المحور غريبا، بل قد يكون مثيرا للدهشة والاستنكار أن نربط بين الإيديولوجيا بوظائفها الشهيرة في التكريس والتبرير أو في التغيير واستنهاض الهمم، وبين حقل معرفي يرى في الكون كله بكائناته وأشيائه نسيجا لامتناهيا من العلامات. فهذا الربط قد لا يستسيغه قارئ تعود أن يرى في الإيديولوجيا مزيجا مركبا من الأفكار والمعتقدات غايتها الحفاظ على النظام القائم أو التطويح به.
والحال أننا لا نتحدث عن نفس الشيء ولا نتناول نفس القضايا. إننا لا نصوغ هنا مبادئ تخص موقف السميائيات من الإيديولوجيا، ولا موقف الثانية من الأولى، فذاك ترف فكري لا مردودية من ورائه لأن التقابل في أصله تقابل فاسد.
وبناء عليه، فالإيديولوجيا كما تراها السميائيات، ليست نظريات كبرى لبناء المجتمعات أو هدمها، وليست رؤى وتصورات تحدد للإنسان موقعه من نفسه ومما يؤثث كونه. فهي ليست أفكارا ولا مضامين على الإطلاق، وإنما هي، على النقيض، من ذلك “نحو” لتوليد المعاني، واستثمارها في المواد الدالة، كما يرى ذلك إليزيو فيرون. إنها، بعبارة أخرى، نمط لإنتاج الدلالات ونمط لتداولها واستهلاكها، أو هي الوجه المشخص للقيم، أي حدود تدرك من خلال سياقات تحددها الزمنية التاريخية والفعل الإنساني ( گريماص). وفي الحالتين معا، فإن الأمر يتعلق بزاوية نظر تلتقط لحظة التحول من المجرد إلى المحسوس ( انتقال الفعل من حالته الغفل إلى ما يشكل وجهه المشخص في سياق ما) واعتبارها لحظة الوسم الإيديولوجي. وهذا ما يبيح لنا الحديث عن “أنحاء” للمعنى : أنحاء للإنتاج وأخرى للتعرف وثالثة للاستهلاك. فهذا” المعنى لا يمكن أن يصبح مرئيا إلا في علاقته بالنسق المولد له”. ( إ . فيرون).
وهكذا، فحيث تلتقط الإيديولوجيا الفكرة والصيغة النهائية، تمسك السميائيات بالتمفصل، وحيث ترى الإيديولوجيا أحكاما قطعية ونهائية، تتحدث السميائيات عن تعددية تستوعب المعنى من كل الجوانب : في الاحتمال والتحقق والتحول، إنها تجاوز للعام واحتفاء بالخاص.
إن الكوني هو ما يحيل على المباشر من الحاجات، أو هو الحاجات كما تقتضيها الطبيعة الأصلية للكائن البشري : طبيعة لا ترى في الكون سوى امتداد لا نهاية له. والحال أن المعنى، في كل حالات الوجود الإنساني هو واقعة إيديولوجية، فهو يمتح عناصر وجوده من الثقافة لا من الطبيعة. وهذا أمر في غاية الأهمية : ففي عالم غفل تتوقف فيه وظيفة اللغة عند حدود التعيين والوصف المحايد والمباشر للكائنات والأشياء، تنتفي الحاجة إلى الحديث عن فحوى الدلالات وكنه المعاني، كما ينتفي التمايز والاختلاف. فالكلمات – مثلها في ذلك مثل الأعضاء والحركات والإيماءات والأشياء وكل اللغات الإنسانية الأخرى – وجدت لكي تدل على أبعاد وظيفية تستجيب للنفعي من الحاجات الإنسانية. فلا سبيل إذن، والحالة هذه، إلى استكناه عمق هذه الكيانات وجوهرها للمضي بها إلى ما يتجاوز ظاهرها.
وتلك حالة تأباها طبيعة المعنى وترفضها. فالمعنى متعدد ومتنوع في الجذور والامتداد، تعدد حاجات الإنسان ورغباته وتنوعها وتجددها. وهذا أمر في غاية الوضوح. فالإنسان يعيش وسط غابة من الرموز والإيحاءات والمعاني الثانية.إنه” مادة العلامة وحاملها، فهو الدال والمدلول، إنه علامة أي مواضعة ” ( بيير غيرو). ولأنه كذلك ولا يمكن أن يكون غير ذلك في الوجود وفي أشكال التحقق، فإنه يودع لغته سلسلة من الأحكام والتصنيفات العرقية والجنساوية والطبقية والأخلاقية ( روبول)، تماما كما يودع الأشياء والشارات وأسماء الأماكن وحالات الليل والنهار والألقاب قيما وأحكاما. وتلك هي المداخل نحو فهمه وقول شيء ما عنه. فـ” خلف الصوت الذي يتكلم تتوارى الثقافة التي أرست قواعد التأويل” ( غادامير). فما يأتي بعد الوجود النفعي هو ما يشكل عمق الإنسان وواجهاته المتعددة : معتقداته وأفكاره ومواقفه ورغباته.
من هنا كانت كل المعاني الثانية ( الإيحاء ) مرادفة للإيديولوجيا ( عند بارث على الأقل) ومرتعا خصبا لها. فالحالة الثقافية للإنسان هي ما يشكل ممرات التمفصل الإيديولوجي التي تتسرب من خلالها الأحكام والمواقف. فلا شأن للوظيفة بالثقافة، إلا أنها هي الخالقة للعلامة، وداخل فرجة الإجتماعي تغير العلامة من طبيعتها، وهذا التحول من الثقافي إلى الطبيعي هو ما يشكل إيديولوجية عصرنا ( بارث).
تلك بعض القضايا التي يثيرها هذا المحور من خلال مجموعة من المقالات القيمة التي قد لا تجيب عن كل الأسئلة التي قد يثيرها القارئ، ولكنها ترسم، بالتأكيد، الخطوط العريضة لما يمكن أن يشكل ميدانا وتوجها في أبحاثنا ودراساتنا الجامعية.
علامات
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6969