اللغة والإيديولوجيا * من الذي يتكلم؟

Bengrad
2021-06-04T11:39:56+00:00
العدد الثاني عشر
17 أغسطس 2020322 مشاهدة

أوليفيي روبول

ترجمة : حنون مبارك – جامعة الأخوين- إفران

الإيديولوجيا والاعتقاد والصدق

تشدد الوظيفة التعبيرية على مرسل الرسالة، أي ذلك الذي يتكلم أو يكتب. والتعبير، إذا نحن دققنا أكثر، لا يقتصر على الانفعال؛ فهو ينشأ منذ أن يتضمن الخطاب إخبارا عن مؤلفه : أي عن عاطفته واعتقاده وموقفه في الفضاء والزمان.

وإذا كان الخطاب الإيديولوجي خطابا يخفي مرجعه، فهو يخفي أيضا مرسله. فعبارة ” أعتقد” يتم التعبير عنها بعبارة تتخذ شكل ” هو”. كما يجب أن نتفاهم حول مدلول كلمة ” الاعتقاد”.

وبالفعل فالإيديولوجيا ليست اقتناعا فرديا، وإنما هي اعتقاد جماعي في خدمة سلطة ما. ذلك أن مرسل الخطاب الإيديولوجي هوالجماعة، ولو كان الفرد هو الذي يلقيه. ولهذا السبب بالضبط لا يمكن لهذا الخطاب أن يكون كونيا؛ فللجماعة عواطفها ومصالحها الخاصة التي تتعارض مع عواطف ومصالح جماعات أخرى؛ إنها تساند سلطة ضد سلط أخرى.

ولهذا فأنا لا أقول بأن الخطاب الإيديولوجي خطاب كاذب. فالكذب، في ذلك مثل الصدق، عبارة عن موقف فردي وواع؛ فأن تكذب يعني أن تضلل عن قصد أو على الأقل عن وعي. والخطاب الإيديولوجي، باعتباره خطابا جماعيا، لا يمكنه أن يكون كاذبا؛ لأنه إذا كان يمكنه الكذب، فيجب أن نسلم بنية الجماعة في التضليل، وهذا ما لا يمكن تصوره؛ فالفرد يمكنه أن يقول بأنه يكذب، لكن كيف يمكن لجماعة أن تقول عن” نفسها” ذلك دون أن تنسف، بطبيعة الحال، كذبها ؟ وعلى العموم فإن نية الذي يلقي خطابا إيديولوجيا نية سليمة، وما هو إيديولوجي في خطابه أمر صادر عنه دون دراية منه. وهنا يلتقي رأينا مع رأي كارل مانهايم الذي يحدد الإيديولوجيا باعتبارها ” وعيا مزيفا” (1)؛ ذلك الوعي غيرالقادر على التفكير بطريقة سليمة والذي يشوه مجموع ما ندركه.

ومع ذلك، قد يحدث أن يكون مؤلف خطاب إيديولوجي سيء النية، وأن يكون مدركا إلى هذه الدرجة أو تلك أن وعيه مزيف. إلا أن نيته السيئة ما زالت نية، إنها خيانة ذاتية؛ أنا لا أقول بأنه يعرف أن خطابه كاذب؛ بل أقول، بالأحرى بأنه لا ” يريد أن يعرفه”. وما أود توضيحه هو أن شكل الخطاب ذاته يدفع في اتجاه هذا ” الوعي المزيف”.

القول وفعل القول

ما معنى فعل القول؟

لننطلق من تمييز لساني، ذلك التمييز بين القول وفعل القول. ففعل القول هو فعل المرسل الذي تكون نتيجته هوالقول. لقد قيل، في الغالب، بأن فعل القول، وهو فعل سيكولوجي أو اجتماعي، ليس من اختصاص اللسانيات، وأنه من مجال ” الكلام”، لا من مجال “اللسان”. ومع ذلك، فالقول يمكنه أن يحتوي على علامات فعل القول، أي بعبارة أخرى صريفات لا معنى لها إلا بالإحالة على مرسلها. إنها إذن، وبحق، ” واقعة لغوية “.

فإذا قلت مثلا : ” في فصل الشتاء يكون الطقس باردا”. فإن جملتي هي مجرد قول بسيط، يمكنه أن يقال مرة أخرى بنفس المعنى من قبل أي كان وفي أي زمان؛ ويمكن ألا يكون دوما صادقا، مثلا في أقاصي الأرض، إلا أن معناها لا يتغير حينما يكررها شخص آخر في مكان آخر؛ وأسلم، كذلك، بأنه ربما ليس لكلمة ” بارد” نفس المعنى بالنسبة للابوني (un lapon) أو بالنسبة لإفريقي؛ إن المعنى يتعارض مع ” حار”، بالنسبة للإثنين معا على الأقل، مثلما يتعارض ” فصل الشتاء” مع ” فصل الصيف “.

أما حينما أقول : ” أحسست بالبرد أمس”، فإن الأمر يكون مغايرا. لنفترض أن شخصا آخر قد كرر جملتي بعد ثمانية أيام. فإن المعنى فيها يكون معنى آخر؛ فـ” أمس” لن تكون نفس ” أمس”، وضمير المتكلم لن يكون هو نفس ضميرالمتكلم. وبإيجاز، فإن الغير لا يمكنه أن يعيد قولي إلا بصياغته صياغة مغايرة معوضا ضميرالمتكلم بـ” السيد فلان”، و” أمس” بـ ” غداة اليوم الذي يتكلم فيه “. فمرجع الجملة، هنا، مقرون بمرسله وبالمكان والزمان اللذين يتلفظ فيهما بها. وهكذا،ففعل القول، من زاوية نظر لسانية، هو أن يتغير معنى قول حينما يتغير مرسله أو متلقيه.

ويتجسد الفرق بين فعل القول والقول بواسطة ” المزدوجتين”، أو أيضا بواسطة فقاعة الرسوم المتحركة : فالقول هو ذلك المكتوب في قلب الفقاعة، أما فعل القول فهو كون الفقاعة تخرج من فم شخصية ما، وهذه واقعة ضرورية لإنتاج المعنى.

ومن هنا استحالة بعض الجمل من قبيل : ” أنام ” و” أكذب” و” متنا” التي ليست جملا مقبولة إلا إذا نظرنا إليها باعتبارها جملا مجازية : فـ ” مت” تدل على ” متعب جدا”. وتبين استحالة إسناد معنى حقيقي إلى مثل هذه الجمل أن فاعل القول متميز عن فاعل فعل القول، وأن ” ضميرالمتكلم” الذي مات لا يمكن أن يكون هوالقائل.

إن بعض الإنجازات الساخرة تنجم عن الالتباس الحاصل بين المستويين : ” لنذهب إلى فوق لنرى ما إذا كنت هناك أو لا “؛ وبما أنني أتفوه بذلك فهذا يعني أنني لست هناك ! أو أيضا نكتة مارك توين القائلة : ” لقد كنا توأمين متشابهين تمام الشبه؛ مات أحدنا في الطفولة في المغطس؛ ولم نعرف أبدا من مات منا : أنا أم أخي”. إن السخرية ناتجة عن كون المرسل لا يمكنه أن يكون فاعل الجملة ؛ وإلا فإنها ستعني : ربما أنا ميت؛ إلا أن المسافة الفاصلة بين الفاعل ( ضميرالمتكلم المثنى) والمرسل ( أنا) لا تجعلنا نلاحظ الالتباس للوهلة الأولى، ولا تجعل اللامعقول يثار إلا بعد فوات الأوان.

وتنجم إنجازات ساخرة أخرى عن الالتباس بين القول وفعل القول، وذلك في تعابير تعين المكان والزمان. كتب حلاق عى بابه : ” غدا حلاقة الذقون هنا بالمجان” . وكان يجيب الزبائن الذين توافدوا عليه في الغد : ” انظروا إلى ما هو مكتوب، الحلاقة بالمجان غدا. في هذا المثال المشهور، الذي يعلن عن الخطاب الإيديولوجي، يلتزم الحلاق بالقول ويمكن لزبنائه أن يثيروا انتباهه إلى فعل القول، أي إلى لفظة “غدا” قد كتبت الغداة.

إن التعابير المعلمة لفعل القول هي، على العموم، ” المبهمات”، أو ” الإشاريات”. وهي ألفاظ يتوقف معناها توقفا تاما على المرسل والمقام، كما هو واضح في الأمثلة التالية :

“أنا ” في تعارض مع ” هو”

” أمس” في تعارض مع ” الغداة”

“هنا” في تعارض مع ” في ذلك المكان ”

“الآن” في تعارض مع ” في تلك اللحظة بالذات”

” بابا” في تعارض مع ” أبي” (2)

ولنشر ، أيضا، من بين علامات فعل القول، إلى كل الدلائل التي تحدد إلى أي درجة يتحمل المرسل مسؤولية قوله : ” أؤكد أن …” ، ” وفي رأيي…و” من دون شك” أو أيضا إلى استعمال أي جهة فعلية ما مثل الإمكان : ” قد يكون من الممكن أن … “. وهناك، أخيرا، الدلائل التي تخلق توترا بين المرسل والمرسل إليه : تعارض ” أنا” مع ” أنتم” أو التعارض بين” nous autres” و” eux autres” في الكيبيك بكندا.

ويبقى أن نذكر أن فعل القول لا تتم دائما ترجمته بنفس الوضوح. فقد يحدث، أحيانا، ألا يكون مرئيا على الإطلاق، ولا تتاح لنا إمكانية فهمه إلا من خلال السياق أوالمقام. ففي جملة : ” سيذهب إلى باريس غدا ” السياق وحده يمكنه أن يشير إلى ما إذا كان يتعلق الأمر بإخبار أو أمر، أو وعد، أو تهديد، أو بافتراض،..الخ. وقد تكون الجملة التالية : ” الشيوعية هي شباب البلد ” إعلانا عن أمل وتشجيع، أوتنديدا ( كل ما ليس بشيوعي فهو بال وعقيم )؛ أو تهكما إذا كان الخصم هو قائلها.

بلوم وطوريز 1939

لقد استشعرنا بذلك : إذ من الصعب أن نضبط مكان فعل القول في خطاب إيديولوجي. فهذا الأمر لا مفر منه من أجل تمييز ما يجعل من الخطاب خطابا إيديولوجيا، وما هي الإيديولوجيا التي ينتمي إليها. سأوضح ذلك من خلال مثالين :

لقد برهنت، بحق، ليسيل كوردوريس ( 1979 ) في مقالها ” بلوم وطوريز في ماي 1939″ كيف تتميز الخطابات التي ألقاها الزعيمان في نفس الفترة على حزبيهما بشكلها اللفظي تميزا أكثر من مضمونها. فليون بلوم (وهو اشتراكي) كان ينوع من علامات فعل القول : ” أنا” و”نحن” الخ ؛ ” أقول” و” أكرر” و” أعتقد”، و” أريد أن أقول ” و” أرى” و” أعرف أن ” ، مثلما كان ينوع من أدوات النفي التي تفترض وجود قول، صريح أوضمني، يعارضه الخطيب. ويشهد خطابه توترا بينه وبين جمهوره، ولا يعد جمهوره مكسوبا سلفا.

أما خطاب طوريز ( وهو شيوعي ) فهو، بحق، خطاب غير شخصي؛ إذ يستعمل، مثلا، ضمير المتكلم المفرد إحدى عشرة مرة؛ فيما يستعمله بلوم ستة وسبعين مرة مع العلم أن للخطابين تقريبا نفس الطول. ويفسر السياق، دائما، ضميرالمتكلم الجمع الذي يستعمله بلوم، بينما يُعين ضميرالمتكلم الجمع عند طوريز أحيانا أنا + أنتم ( أي الجمهور )، وأحيانا أخرى أنا + أنتم + كل الشيوعيين؛ وتارة أنا + المكتب السياسي؛ وتارة أخرى الحزب بأجمعه. وعلى نقيض بلوم، يستعمل طوريز عددا قليلا جدا من ظروف الزمان أو ألفاظ جهية من قبيل “أعتقد” و” بلا شك”؛ وهو يغير، في الغالب، الجمل المبنية للمجهول إلى مركبات اسمية : ” نقترح تعيين لجنة ” ، ” تطبيق البرنامج “.

وأمام فظاعات الحرب الأهلية الاسبانية، صرخ بلوم يوما ما قائلا : ” هذا يفزعني “؛ وربما لم يكن على طوريز أن يتلفظ أمام الملأ بجملة من هذا النمط، لا فقط بسبب مضمونها بل بسبب شكلها؛ إنه يعبر عن انفعال الحزب لا عن انفعاله. وتقول السيدة كوردوريس بأن قوة خطابه تكمن في كون ” الفرد المتكلم لا يظهر فيه “، ولا يعبر عن نفسه كما هو، ولا يحيل نفسه على مقام مباشر، ولا يسكب خطابه في جهية ما، هذا الخطاب الذي يبدو بهذه الطريقة خطابا ديالكتيكيا في جوهره؛ فهو يتوجه إلى الحزب الشيوعي وكأنه يتوجه إلى مجموعة متجانسة. ولا يعود ذلك إلى كون موريس طوريز عديم الشخصية، بل على النقيض من ذلك! إلا أن علاقته السلطوية بحزبه، ووضعه الإيديولوجي قد كانا مختلفين جدا عن سلطة شخصية مثل شخصية ليون بلوم، التي هي سلطة في جوهرها محط نزاع وقابلة للإبطال.

وصحيح من جهة أخرى أن طوريز نفسه، لم يكن بإمكانه، وهو يتوجه إلى جمهور غير شيوعي غير مكسوب سلفا، أن يلقي هذا النوع من الخطاب نفسه، وهذا يفصح عنه مثالنا الثاني، مثال ” اليد الممدودة “، ويتعلق الأمر بدعوة طوريز يوم 17 أبريل 1936 عبر الأثير وذلك قبل الانتخابات التشريعية.

اليد الممدودة

” أيها الكاثوليكي، أيها العامل، أيها المستخدم، أيها الفلاح، نمد إليك اليد، نحن العلمانيين لأنك أخ لنا ولأنك مثلنا تتملكك نفس الهموم “(3).

هذا النداء نداء مؤثر، وأكثر إثارة للاستغراب بالنسبة لعصره، حيث يتعارض شيوعي شديد المناهضة للمسيحية ( على الأقل في الاتحاد السوفياتي) مع اتجاه كاثولويكي رجعي رسمي وعريض. وقد رأينا في هذا النداء مناورة انتخابية، وبطريقة خاطئة جدا، لأن ” اليد الممدودة” قد ظلت خطا ثابتا في سياسة الحزب الشيوعي الفرنسي منذ 1936. ويمكننا أن نفكر في أنه يذهب إلى أبعد من مجرد الاستراتيجية السياسية، مادامت وحدة العمال تعد مطلبا حيويا بالنسبة للحركة الشيوعية. ومن زاوية أخرى، سيفسر طوريز لأطر الحزب، في تعليق مطول مؤرخ بـ 26 أكتوبر 1937، أن فكرة ” اليد الممدودة” تعود جذورها إلى ماركس ولينين.

وفي رأيي، فإن ماهو إيديولوجي في نداء طوريز يكمن في شكل فعله القولي أكثر مما يكمن في محتواه. ذلك أن ” نحن” تحيل، بطبيعة الحال، على الحزب الشيوعي، وكاف الخطاب لا تعدو أن تكون مجازا مرسلا الهدف منه تعيين مجموع العمال الكاثوليكيين. غير أن هذه الصورة البلاغية ليست بالصورة البريئة، ذلك أن ” نمد (إليك ) اليد ” قد تم إدراجها بواسطة ضميرين غير متكافئين : فالنداء ليس صادرا عن ” نحن” وموجها إلى ” أنتم “، وليس صادرا عن ” أنا” وموجها إلى ” أنت”، وإنما هو صادر عن ” نحن” وموجه إلى ” أنت”. وبعبارة أخرى، فالحزب، باعتباره مؤسسة، لا يتوجه إلى الكاثوليكية. وإنما يتوجه إلى العمال الكاثوليكيين منظورا إليهم باعتبارهم أفرادا معزولين.

إن الالتفات المتمثل في “نـ(مد) إليك ” موسوم، إذن، على المستوى الإيديولوجي؛ إن الأمر يتعلق بحزب قوي في توسع مطرد يدعو المنعزلين إلى الالتحاق به؛ وقد كان الأمر مغايرا بالنسبة للاتفاقات بين أحزاب اليسار التي كانت تشكل في تلك الفترة الجبهة الشعبية. ونحن نتفهم أن تكون الكنيسة قد احترست لأن النداء قد وجه إلى الكاثوليكيين دون أن يأخذ بعين الاعتبار وجودها هي .

ومع ذلك فالقول لا تدليس فيه. فهو يؤكد، بوضوح، أن الشيوعيين ” علمانيون”، بالمعنى الذي عند العقلانيين وارثي ديكارت وعصر الأنوار كما سيوضح ذلك تعليق 26 أكتوبر 1937؛ إلا أنه يرفض، في نفس الوقت، النزعة البدائية المناهضة للإكليريكية (4) مؤكدا أن الأمر لا يتعلق بمحاربة الدين وإنما بمحاربة الأسباب الاقتصادية للدين. إن العامل الكاثوليكي مدعو للالتحاق بالحزب الشيوعي الفرنسي لأن العامل يجد نفسه، بوصفه كذلك، ” مساندا مساندة فعلية ومادية واقتصادية واجتماعية ” من قبل العمال الشيوعيين، وهي مساندة تؤكدها الفقرة السابقة من نداء 17 أبريل مع التنديد بمستغلي فرنسا الذين يختزل عددهم إلى ” 200 عائلة “. وإذن، فالعامل الكاثوليكي ليس مطالبا بالتخلي عن دينه؛ وإنما يقترح عليه الالتحاق بالفعل السياسي للحزب، ويسمح له بالانضمام إلىه مع بقائه كاثوليكيا، ذلك أن لينين كان قد سلم بإمكان أن يناضل الكاهنفي صفوف الحزب (5).

ليس النص مضللا، إلا أنه بلاغي. وبلاغة هذاالنص أخاذة بطريقة متفردة. وهي أخاذة، قبل كل شيء، بلجوئها إلى لغة الآخر؛ إذ تستعمل ” الأخ” بدل الرفيق، وتستعمل ” تتملكنا نفس الهموم” عوض القول بأننا متضامنون ضد الاستغلال. وهي أخاذة ثانيا باستعمالها الحشو : فاستعمال ” مثلنا” و” أنفسنا” لا يقوم إلا بتعزيز الطابع التلفظي للنداء وحرارته. وهي أخاذة، أخيرا باستعمالها : ” لأن ” التي تلطف من فعل الأمر المضمر ( التحق) المؤسس على صيغة الرفع : ” أنت” الذي يعبر عن بداهة فعلية. إننا لا نشدد على الصورة البسيطة والمثيرة ” نمد إليك اليد “، وهي في نفس الآن كناية دليل واستعارة؛ وقد كانت صورة أكثر إثارة للاستغراب في الحقبة التي تتعارض فيها بوضوح مع ” اليد المقبوضة”. ويبقى أن “اليد الممدودة” تعفي من كل تدقيق سياسي أو قانوني في موضوع التحالف المقترح.

إن طوريز يزيل من رسالته كل علامات فعل القول ما عدا ” نحن ” و” أنت”، وإذا حولتم هذه الرسالة إلى النمط غير المباشر فإن بنيتها ستبقى من دون تغيير. وبعبارة أخرى، فإن كل الدلائل التي تجعل من الرسالة حدثا وتجديدا ( مثل ” الآن” و” من الآن فصاعدا” ) غائبة، وهذا ما كان مع ذلك! ذلك أن مبدأ ” اليد الممدودة” لم يطبق أبدا لحد الآن، وإن كان يوجد في الأدبيات الماركسية؛ فقد كان الدين مضطهدا في الاتحاد الاسوفياتي. إن المضارع ” نمد ” يتيح لنا أن نفكر في أن النداء حدث، إلا أن كل التعليقات التي أعقبته، وأيضا الـ” أنت”، تبين أن الأمر يتعلق بمضارع مستمر؛ فكما أن الأرض تدور، فإن الشيوعيين قد مدوا دائما اليد وسيمدونها دائما. ذلك هو ” التطبيع” الإيديولوجي : تقديم ” الآن” بوصفه ” دائما”، والشاذ وكأنه بديهي؛ وتحديد مبادراته باعتبارها بديهيات طبيعية، بحيث لا يمكن أن تنكر ذلك إلا الأرواح الشريرة وحدها.

وتعبير “نـ(مد) إليك” يدل على أن طوريز لم يكن بإمكانه أن يتوجه إلى الكاثوليكية كمؤسسة. ولم يكن بإمكانه كذلك أن يستهل نداءه ب” ؛أنا”، هو ذلك الشخص الذي كان يقدم دائما بوصفه الناطق باسم الحزب. وهو بهذا يختلف اختلافا تاما عن دوگول الذي كان ينتقل طواعية من ” أنا” إلى ” ضمير المخاطب الجمع” كما ” أنا فهمتكم “.

——————————————

الهوامش

*- هذا المقال ترجمة لجزء من الفصل الثاني من ص 81 إلى ص 88 من كتاب : Olivier Reboul : Langage et idéologie, P U F

1-Falsches Bewusstein ص 63 ، تبدو لي ترجمة تلك العبارة بـ ” الوعي الزائف ” لا معقولة : ذلك أن الوعي الزائف ليس وعيا على الإطلاق.

2- انظر E . Benveniste , Chz IV ; Dubois , 1973 , p 84 ; Ducrot – Todorov , 1972 , p 324; Jakobson , 1970 chp IX

3- Maurice Thorez , E , 1976 , p 56

4- نفسه ص 61

5- نفسه ص 6