الإيحاء والإيديولوجيا -بصدد بارث-

Bengrad
2021-06-04T11:39:32+00:00
العدد الثاني عشر
17 أغسطس 2020613 مشاهدة

كاترين أوريكيوني

ترجمة : أحمد الفوحي

تقديم

هذا المقال ترجمة لنص يمثل الفقرة السادسة ( ص 212 – 226) من الباب الرابع من كتاب La Connotation لصاحبته كاترين أوريكيوني أستاذة الدلالة بجامعة ليون الثانية، الذي صدر عن المنشورات الجامعية لليون ( P U L) سنة 1977. وتناقش في الجزء الذي نقوم بترجمته قضية العلاقة بين الإيحاء، باعتباره معنى أو معاني ثانية خاضعة للذات وأهوائها وثقافتها، وبين الإيديولوجيا باعتبارها ممارسة تطبيعية كما وردت عند بارث في مجموعة من أبحاثه ، أبرزها S/Z وأساطير. فإذا كان بارث يرى في الإيحاء صيغة إيديولوجية تتحول من خلالها الأبعاد الثقافية في الفعل الإنساني إلى وجه طبيعي يلغي الوجه الزمني لهذا الفعل، فإن أوريكيوني تشكك في هذا التصنيف وتشكك في الأسس التي قام عليها، وتستند في كل حججها إلى خلاصتين :

– لا تشكل كل الوقائع الإيحائية بالضرورة وقائع إيديولوجية

– لا يشكل التقرير حالة لاإيديلولوجية للغة، فقد تتسرب الإيديولوجيا من خلال التقرير أيضا.

الترجمة

إن الإيحاء هو الإيديولوجيا. وبعبارة دقيقة، إنها مجموع المدلولات الإيحائية، أي ما يعود إلى شكل مضمون اللغة الإيحائية الذي يطلق عليها بارث الإيديولوجيا. في حين تشكل أسنادها الدالة، أي مجموع الموحيات، بلاغة النص. هذا ما قاله بارث في بلاغة الصورة ( ص 49). وهو ما ردده في ” مبادئ السميولوجيا” : ” إن الإيديولوجيا هي، إجمالا، شكل مدلولات الإيحاء ( الشكل هنا بالمعنى اليالمسلافي للكلمة )، في حين تشكل البلاغة شكل الموحيات “. من هنا ستكون البلاغة هي الوجه الدال للإيديولوجيا ” (1).

ونلحظ في موقف بارث هذا تناقضين أو، على الأقل، التباسين :

1- ففي مقال بعنوان : ” كتاب ومثقفون وأساتذة ” (2) – وفي مقالات أخرى أيضا، يهاجم بارث القالب الجاهز، هذا المرض الذي ينخر اللغة، والرمامة التي تحدث ثقوبا في الكتابة. وهذه عادة بارث في التصدي لهذا العدو في جبهات متعددة. ويجعل نفسه مبشرا بموقف لغوي لساني ” نقدي”، ” غايته تأزيم اللغة “.

وقد ذكرنا من قبل أن بعض الممارسات الإيحائية تهدف ، بالضبط، إلى إقامة هذه الأزمة، ونعتقد أن بارث نفسه لا يخالفنا في هذا الأمر. وتجدر الإشارة إلى أن في هذا المقال نفسه يظهرالتقابل الذي لمحنا إليه في أحايين كثيرة ، وهو تقابل بين “التدليل” ( المعنى باق ولكنه متعدد )، وبين حالة تدليل مرضي(signifiose ) ( فوضى الدال تتحول إلى تيه هستيري، إن تحرير القراءة من أي معنى، هو في نهاية المطاف، محاولة مني لكي أفرض قراءتي الخاصة]. وبناء عليه، ينحط النص الأصلي ويتحول إلى ذريعة فحسب) (3).

2- إذا كان الإيحاء إيديولوجيا، فهل يمثل التقرير، لدى بارث، حالة لاإديولوجية للغة ؟ أثناء تحليل العنوان التالي المقتبس من جريدة فرانس سوار: > الأثمنة : التراجع الأول. الخضر بداية الانخفاض. الانخفاض ميسر بسبب الوفرة الموسمية، يكشف بارث إيحاء إيديولوجيا ( مدلول أسطوري ) : “الحاكمية”. ( فالفعل ” يسر ” يقتضي أن هناك عوامل أخرى، منها العمل الحكومي، أسهمت في هذا الأمر بكيفية فعلية). إن هذه الجملة يجعلها بارث في مقابل الجملة ” ذات الطبيعة اللسانية الخالصة” (غير أسطورية ) : “انخفض ثمن الفواكه لأن هذا موسمها “. وبالإعلان عن علاقة سببية زائفة يشوه الإيحاء الإيديولوجي اللغة الأولى المطابقة للحقيقة الفعلية.

كل هذا يفترض أن اللغة ” الأولى” ( التقريرية) متمنعة عن الإيديولجيا. إلا أن بارث تراجع عن هذه الفكرة بسرعة. وسيعبر عن ذلك بوضوح في ” بلاغة الصورة “، حيث يقول: إن التقرير هو الآخر مؤدلج. وإن لم يبد كذلك، فهو يزعم أنه “طبيعي “، غير أنه سيصبح مؤدلجا بفعل الإيحاء. ويخرج التقرير من اختلاطه بالإيحاء، المشبوه إيديولوجيا، خالصا نقيا . وبالمقابل، وهذا أمر أشد خطورة، فإن الإيحاء يصبح شريكا ضمن حاشية التقرير، مؤسسة التطبيع الخادعة ، ما دامت الموحيات المتقطعة مرتبطة ومحينة ومتداولة عبر مركب التقرير: > إن مركب الإرسالية التقريرية هو الذي يُطبِّع نسق الإرسالية الإيحائية حقيقة < ( بلاغة الصورة ص 50). وهكذا فإن اللغتين التقريرية والإيحائية تبرئان ساحة بعضهما البعض، كما تظهر ذلك القولتان التاليتان :

– > إن حرفية الصورة هي الدرجة الأولى للإدراك ( ولن يدرك القارئ بعد هذا المستوى، سوى الخطوط والأشكال والألوان). إلا أن هذا الإدراك يظل احتماليا نظرا لفقره، فكل من ينتمي إلى مجتمع حقيقي يمتلك دائما معرفة أعمق من المعرفة الأنتروبولوجية، ويدرك أكثر من المعنى الحرفي. وتعد هذه المعرفة تقليصية وكافية في الوقت ذاته. وهذا ما يفسر أن الإرسالية التقريرية تبدو، من زاوية جمالية، وكأنها حالة أولية للصورة؛ وتصبح الصورة موضوعية بشكل جذري، بتخلصها، وهما، من إيحاءاتها، أي بريئة في نهاية المطاف < ص 46

– > من الناحية الإيديولوجية تمنح لعبة الإحالة ( من نسق إلى آخر ) ، النص الكلاسيكي نوعا من البراءة : فمن بين النسقين التقريري والإيحائي، يعود النسق التقريري إلى ذاته ويصبح موسوما. إن التقرير ليس أول المعاني، ولكنه يوهم بذلك. وبهذا الإيهام، فإن التقرير هو آخر الإيحاءات. ( الإيحاء الذي يبدو أنه هوالذي يؤسس القراءة ويغلقها ). إنه الوهم الأسمى الذي يتظاهر النص، بموجبه، بالرجوع إلى طبيعة اللغة، اللغة كحالة طبيعية. ألا يبدو أن جملة ما ، مهما كان المعنى الذي تعبر عنه متأخرا عن ملفوظه، تقول شيئا بسيطا وحرفيا وأوليا، شيئا حقيقيا يكون كل ما يأتي بعده أدبا ؟ < ( S / Z ص 15 – 16).

إن التقرير هو آخر الإيحاءات : ماذا تعني هذه المفارقة المشار إلىها غالبا ولكن نادرا ما نوقشت ؟ هناك تأكيدان : التقرير إيحاء، ولكنه آخر الإيحاءات. إن المفارقة مزدوجة.

1- يعتبر التقرير بشكل عام – وبارث أيضا يعتبره كذلك -أول المعاني. ونعتقد أن هذا صحيح، لكن بارث يلمح إلى أن الحصول على هذا المعنى يتم عن طريق الاستنباط. قد يكون هذا صحيحا في حالة العلامة الأيقونية. ذلك أن هذه العلامة، لكي تشتغل بطريقة تقريرية خالصة، يجب أن يكون الرسم أو الصورة نسخة مطابقة للمرسوم أو المصور. وهذا شيء لا يمكن قبوله. فالمعنى التقريري لا يوجد إلا باعتباره حدا نهائيا. ويمكن أن نطلق التقرير على المضاف الدلالي لمجموع العناصر الدالة التي تسمح بالتعرف، بأبسط الطرق، على الموضوع المعين. إن هذه العناصر لا يمكن استخراجها إلا بالحذف المتتابع لكل الإضافات التأويلية، تماما كما نزيل أوراق الخرشوف. إلا أن اللغة تقرر الأشياء بشكل مختلف. إنها تقوم بذلك اعتباطيا وليس بشكل تعليلي. إن الدال لا يدعي تطابقه مع المرجع. ولهذا السبب فهو في حاجة ماسة إلى مواضعة تثبت معناه التقريري ( أو شروطه التقريرية، أي المعانم التي تشكل، كما رأينا، الشروط الضرورية والكافية لإنجاز آليات الإرجاعية ). وهذا المعنى يمكن إدراكه بطريقة مباشرة.

2- ومن جهة أخرى، فعندما يعتبر بارث أن المعنى التقريري يجب أن لا ينظر إليه إلا كحالة خاصة للمعنى الإيحائي ( الشيء الذي لا يلغي التعارض، ولا أن المضمونين ليس لهما نفس الوضع، فهو يعيد صياغة العلاقة – الاحتواء عوض الإلغاء – القائمة بين مجموعتي القيم )، فإنه يستند إلى البرهنة الضمنية التالية : إن الإيحاء إيديولوجيا. والحال أن التقرير هو أيضا إيديولوجيا. وبناء عليه، فإن التقرير هو الآخر نوع من الإيحاء، وسيكون هو آخرها، لأن الإيديولوجيا تتزيى داخله بزي الطبيعي.

وتلك الفكرة هي التي سنتناولها بالنقاش فيما سيأتي. ولكن القضية ليست بسيطة، وسنكتفي بطرح بعض المعالم :

أ – لا يبدو لنا أن الإيحاء يمكن مقارنته الإيديولوجيا، ولا باللاإيديولوجيا، ذلك أننا نعرف الإيديولوجيا بأنها :

– نسق للتمثيل ( شكل مضامين )

– ذات طبيعة تأويلية ( وليست موضوعية )

– تلعب دورا تاريخيا وسياسيا محددا ( إن العمل الإيديولوجي يهدف إلى تسويغ مصالح طبقة معينة ).

– تطمح بشكل مخادع إلى أن تكون كونية وطبيعية ( الإيديولوجيا لا تعبر عن نفسها باعتبارها إيديولوجيا. فهي لا تكف عن ترديد : أنا لست إيديولوجيا ).

– عندما تنتشر في اللغة، فإنها تشكل في ذاتها لغة مستقلة نسبيا.

وبهذا المعنى، فإن مدلولات الإيحاء المرتبطة – حسب بارث – بصورة الزنجي الذي يؤدي التحية العسكرية الفرنسية : الفرنسة، والعسكرية، الأمبريالية الفرنسية، تعود بالفعل وبالقوة، إلى الإيديولوجيا. ولكن تلك ليست حالة كل الوقائع الإيحائية.

ب- من اللائق أن نحاول الإحاطة – داخل مجموع الإيحاءات التي قمنا بإحصائها – بتلك القابلة لأن توصف بالإيحاءات الإيديولوجية. ولقد أشرنا بالفعل، في بداية هذه الدراسة، إلى وجود قسم من الإيحاءات الإيديولوجية، تركناه بعد ذلك فارغا. لقد كان ذلك من باب التراجع إلى الخلف للقفز بشكل جيد. ولكن من البديهي أن بعض الشرائح الإيحائية يمكن أن تدرج ضمن هذا القسم، وأن بعض المضامين الإيحائية ( وليس جميع المضامين بالتأكيد ) ذات طبيعة إيديولوجية مثل :

– القيم الأخلاقية التي تكشف عن سلوك المتلفظ التقويمي تجاه الموضوع المقرر. وهذا السلوك لا يعلل إلا داخل نسق إيديولوجي معين.

– كل الإيحاءات الأسلوبية قابلة، إلى حد ما، أن تؤول إيديولوجيا. ذلك أن كل اختيار أسلوبي يقتضي ضمنيا ربط هذا النمط الخطابي أو ذاك بقيمة معينة. فإذا أتيت بتورية ما، فلأنني بدون شك أقدر هذه التورية. وكيفما كان مضمونها -فهي قابلة لأن تستثمر إيديولوجيا- فإنني أقدر الوظيفة اللعبية للغة، وهو أمر يعد بريئا من الوجهة الإيديولوجية.

وقد يكون اختيار لغة تقريرية ما بشكل أساسي مرتبطا بتصور ما ( إيديولوجي ) للخطاب الأدبي”. ويتساءل بارث كيف يمكن أن نفسر وجود باروميتر فوق بيانو قديم في نص لفلوبير يصف فيه منزلا من الداخل، وفوق هذا الباروميتر رزمة من العلب ؟ يجيب بارث عن هذا السؤال : > إن كل العناصر المتبقية من التحليل الوظيفي تمتلك القاسم المشترك التالي : إنها تقرر ما نطلق عليه عادة الواقع المتحقق. إن الأمر يتعلق بأثر واقعيـ<. وتعلق نيكول غونيي على هذا بقولها : > إن وجود الباروميتر يوحي في الواقع بـ” مقولة الواقعي”، فهو تقريري في الظاهر فحسب <(4). إن البارومتير موزع في الواقع على السجلين معا : فمن خلال قيمته التقريرية يوحي بالجمالية الواقعية.

– يجب أن نضع في خانة الإيحاءات الإيديولوجية كل تلك ” الوحدات الإيديولوجية ( idé ologème) المرتبطة بالتسميات الخاصة ( وعامة ما تكون منزاحة عن التسميات العادية والمتوازية تقريريا)، ومن خصائص هذه الوحدات الخيانة السريعة لموقف المتلفظ على الرقعة السياسية/الإيديولوجية، وهذا ما يصدق على التلميحات المثمنة إيحائيا مثل : “الباحثين عن العمل “، أو تسميات من نوع ” ألمانيا الوسطى ” بالنسبة لجمهورية ألمانيا الديموقراطية، ” العالم الحر”، وهو حر فيما يتعلق بالحريات ” الشكلية ” ولكن أيضا فيما يخص قوانين اقتصاد السوق، ولذا فهو مستلب عندما يتعلق الأمر بالحريات ” الجوهرية “. وهذا المثال هو الذي دفع إيكو إلى القول : > بأن الصيغة البلاغية “الدفاع عن العالم الحر ” مرتبطة بمواقع سياسية تعود إلى الولايات المتحدة وحلفائها وإلى رؤاهم الإيديولوجية. وسيكون من السهولة بمكان بناء سنن إيحائي يجعل التعبيرالبلاغي المشار إليه الوحدة الإيديولوجية التي سيتم الكشف عنها. ويمكن أن نقوم بنفس الشيء مع صيغة من نوع ” المساعدة الأخوية للحلفاء الاشتراكيين”. إن السميائيات ستبرهن، من خلال كشفها عن الأسنن في مظانها، أن تحت ( أو فوق ) عالم الدوال ومدلولاتها يعتمل عالم الإيديولوجيات التي ستنعكس على مظاهر اللغة المعدة سلفا. إن طريقة خاصة في استعمال اللغة تكشف عن طريقة خاصة في التفكير في المجتمع< ( 5)

ويمكن أيضا أن نرد الإيحاءات الخاصة بالتداعيات إلى الخانة الإيديولوجية مثل تلك التي تعود، حسب بارث، إلى ” سنن المرجع “، أي كل القيم الدلالية التي تحيل على أنساق قوالب جاهزة جماعية (أسنن الانفعال، أو الفن والتاريخ، أسنن المواعظ، الأسنن البسيكولوجية )، التي إذا جمعت، فإنها ستشكل قاموسا للأفكار الجاهزة. ” > فإذا جمعنا كل هذه المعارف، وكل هذه الأفكار العادية فإنها ستشكل وحشا، وهذا الوحش هو الإيديولوجيا. إن سنن الثقافة، باعتباره جزئية إيديولوجية، ينتقل من وضع قسم إلى وضع مرجع طبيعي يضرب به المثل < (6).

وكذلك الأمر مع أغلب الإيحاءات الرمزية : السجائر في دون خوان كرمز للتبادل /العطاء، كما يكشف عن ذلك ألان باديو، أو تلك المرتبطة بالمعجم الهيغولي ( نسبة إلى فيكتور هيغو)، كما يكشف عنها بيير باربريس، عندما يقترح علينا (7) نوعا من ترجمة الحدود التقريرية إلى سنن رمزي :

المعجم بعض الإيحاءات

المروج العصرالذهبي، شانان

الزوجة، الخطيبة، بكارة،

شعوب، إخوة

أمم ناضجة الأسطورة الزراعية والشمسية لحفلات الزفاف

ولقد كان جان كلود كوكي على حق حين قال عن هذه العملية بأن > الإيحاءات التي عجز اللسانيون، رغم جهودهم الجبارة والمتكررة، على تحديد وضعها، تشكل مظهرا من مظاهر التأويلات الإيديولوجية < (8) ( وغالبا ما يكون هذا التأويل، في رأي كوكي، اعتباطيا، ولكننا لسنا بصدد مناقشة هذه القضية ).

وهناك في الأخير بعض الاستعارات، مثل تلك التي يسوقها ميشال لوغويرن. فإلى حدود القرن 17 كان الفعل ” حصد” ذا مضمون إيجابي ويوحي بالكثرة (9) . إلا أنه ابتداء من الفترة التي عاش فيها راسين تغيرت قيمة هذا الفعل، وأصبحت مرادفا استعاريا للإبادة (10). إنه تحول دلالي يعود إلى تغير في السلوك تجاه الواقعة الزراعية. فالأمر لم يعد يتعلق بذلك النشاط الممتع والمولد للرخاء. فالطبيعة لم تعد تمنح خيراتها بسخاء، بل وجب انتزاع هذه الخيرات انتزاعا، وهذا أمر شاق. إنه بداية لقطيعة بين الإنسان والطبيعة، بداية لمشكل اجتماعي بالأساس. وهذا ما يشير إليه الإيحاء الذي شحن به – في تلك الفترة – الفعل ” حصد”.

ولكن إذا كانت كل الاستعارات استعارات ذاتية وتأويلية، فليست كلها إيحاءات إيديولوجية. إن هذا التأكيد التعميمي يوقف النشاط الفكري أكثر مما يسمح له بالتطور.

إن الإيديولوجيا ليست تأويلا. إنها تمثيل تأويلي يندرج ضمن نسق محدد ويستجيب لوظيفة محددة. فليس مفيدا، في اعتقادنا، أن نرى الإيديولوجيا في كل شيء : “هنا إيديولوجيا”، ونحن لا نستطيع أن نرفق هذا التنبيه بتدقيقات تخص النسق والوظيفة التي تعود إليهما الواقعة المدانة باعتبارها إيديولوجيا.

3 – إن الإيحاءات الإيديولوجية تشكل فرعا داخل مجموع الوقائع الإيحائية. ويمكن للإيديولوجيا، على العكس من ذلك، أن تعبر عن نفسها بوسائل اللغة التقريرية. إن “الملفوظات الإيديولوجية القابلة للعزل ” التي تحدث عنها باديو، أو خطابا من خطابات جورج مارشي، هي أنماط من الإرساليات تقترب من طابع اللغة التقريري، رغم احتوائها بعض العناصر الإيحائية. ومع ذلك، فإن مضمونها موسوم إيديولوجيا بشكل قوي. فالتعارضان :

اللغة التقريرية (م) اللغة الإيحائية

غير إديولوجية (م) إيديولوجية

تعارضان غير متداخلين، لأن اللغة التقريرية قابلة لأن تحتوي العنصر الإيديولوجي، وأن اللغات الإيحائية لا تعد من هذه الوجهة عنصرا مميزا. وبتعبير آخر، فإن نسبة الإيديولوجيا الموجودة في ملفوظ ما، لا تناسب كثافة إيحاءاته، إلا إذا كنا سنتحدث عن إيحاء كلما كشفنا – ولو بشكل صريح – عن وحدات إيديولويجة، وهو أمر مقبول تماما. إن هذه الإيحاءات الإيديولوجية، تأتي لتضخم من الإيحاءات التلفظية، والحديث في هذه الحالة عن الإيحاءات فقط، وهو أمر بالغ الاعتباطية، يقود إلى نوع من التسيب الخاص بالاستعمالات العادية لهذا المفهوم.

4 – ولكن إذا لم يكن مصير الإيحاء مرتبطا بمصير الإيديولوجيا، فلا يمكن في المقابل عزله عن مفهوم المعيار. ويجب أن نقول هذا بصراحة. إن قبول وجود معنى تقريري، معناه قبول وجود تسمية عادية خاصة بموضوع ما، ووجود معنى عادي خاص بلفظ ما يتحدد، بطبيعة الحال، بالسياق ( ذلك أن هذا المعنى العادي داخل ملفوظ ما، لا يتطابق بالضرورة مع المعنى الأساس لوحدة متعددة المعاني، ولكنه يتحدد من خلال التأليف الدلالي ). وبناء عليه فإن القيم المضافة ستكون، في علاقتها بهذا المعنى، قيما إيحائية. وهذا يعني أيضا أن نقبل أن مصطلح “زنجي” موسوم أخلاقيا في علاقته بكلمة ” أسود”. وأن نقبل أيضا أنه في جل المقامات الإبلاغية، يجب أن نطلق على تلك المادة القابلة للاستهلاك” البطاطس ” أفضل من أن نطلق عليها” البطاطا”، حتى وإن كان المعيار، الذي لا يتحدد إلا داخل مقام تلفظي خاص وداخل نسق نصي معين، يمكن قلبه بسهوله. (11)

وعندما تدعي نيكول غونيي أنها تبني استدلالها انطلاقا من ريفاتير > الذي بين أن الكليشيه يمكن أن ينتقل – في حالة النثر الأدبي – من وضعية عنصر غير موسوم إلى عنصر موسوم < لكي يؤكد أنه > إذا كان التعارض موسوم ( م) غير موسوم واردا على مستوى اللسان، فإن تطبيقه على الكلام سيلقى معارضة شديدة < (12)، فإنها تحافظ، رغم ذلك، على مقولة الوسم، أي المعيار.

ونحن لا نعتقد أن اللسانيات، كيفما كانت التسمية التي تجعلها (13) للمعيار(14)، قادرة على التخلي عنه، ذلك أن أبسط تحليل يقتضي ضمنا هذه المقولة. وسنكتفي بمثال واحد : عندما يشير جونيت، وهو يتحدث عن بروست- عن> تلك المشاهد ( خاصة في صياغتها من خلال الماضي المستمر ) المقدمة كمشاهد مكررة، ولكن دقتها وغنى تفاصيلها تجعل من أي قارئ لا يعتقد جديا أنها حدثت مرات عديدة بنفس الدقة< (15)- إلى وجود استعمال ما يسميه “شبه المتكرر ” ، فإن المورفيم ” شبه ” يوحي بأن هذا الافتراض الجهي*( enallage) يتعارض مع الاستعمال العادي للمتكرر. ( أعني بالمتكرر حكيا من نوع ” منذ مدة، كنت آوي إلى فراشي باكرا ” يقوم بتأليف مجموعة من النسخ لنفس الحدث، أو مجموعة من الأحداث المتشابهة في ملفوظ سردي واحد ) (16). إن هذا المتكرر متجذر في عاداتنا اللغوية لدرجة يبدو وكأنه مسلم به، ويستنسخ، بشكل كامل وعادي وطبيعي، الواقع الحدثي.

وبرؤية أكثر شمولية، فإن التفكير السميولوجي كله(17)، مطروح في مقولة المعيار هاته : فالاستعمال التقريري في الفنون التشكيلية وفي السينما هو ما يتطابق مع بعض عادات التمثيل الجمعية المتغيرة حسب الزمان والمكان. فقبل ظهورالمنظور ( perspective) لم يكن يخطر ببال أحد أن يتهم نمط التمثيل الرسمي السائد آنذاك باللاواقعية. ونفس الشيء يصدق على لغة الفيلم التي يقول عنها ميتز إن >الأسنن التقريرية التي تمكن من التعرف على الموضوعات المرئية والمسموعة الممثلة في الفيلم استنادا إلى التشابه الناتج عنها، ليست نتاجا لمجموعة قليلة من الأشخاص، بل هي متجذرة في الجسم الاجتماعي كله ( التصنيفات الاجتماعية الثقافية التي تعدد ” الموضوعات” المدركة الخ )، ومتجذرة في السيرورة البسيكولوجية الفزيولوجية( الإدراك في حد ذاته ). إنها أشكال تنظيمية قارة وبالغة الانسجام و” مندمجة” ذات نمو بطيء ولاواعي، ومستقاة من التجديدات الفردية.

وفي هذا المجال تتعارض اللغة التقريرية مع الأسنن الإيحائية، أو مع ” الكتابة ” السنيماتوغرافية الخاصة بالمدارس والأنواع، التي تعد عملا واعيا لقلة من المخرجين الذين يمنحون الفيلم شحنة معنوية ثانية ( ليست “حرفية ” ) ولمسة سينماتوغرافية ( هذا فيلم ) (18).

إن الاستعمال التقريري يستند أولا ودائما، إلى إجماع – إجماع لا يخص منح دال معين قيمة دلالية معينة- ذلك أن الإيحاءات نفسها، وبارث يقر بذلك، مسننة أيضا، وإن كان تسنينها يتم بطريقة ملتبسة- وإنما يخص معيارية العلاقة السميائية، ووجود حالة لغوية محايدة تنتسب إليها بعض الاستعمالات وتنأى عنها أخرى. وقد أجاد بارث عندما حافظ على مسافة بينه وبين مفهوم ” الانحراف” وعوضه بمفهوم ” الانزلاق” الذي يعني، في واقع الأمر، الشيء نفسه. ( قد يكون مفهوم ” الانحراف” مزعجا إذا كنا نعني به وجود نموذج انتروبولوجي للحكي ينزاح عنه المبدع ) أو أونطولوجيا سردية ( ينتج عنها عمل أدبي غير قابل للتصنيف )، في حين لا يشكل النموذج السردي سوى ” فكرة ” ( خيال أو ذكرى من ذكريات القراءة ) (19). ولقد كان الغرض من هذه التحذيرات هوالتنبيه إلى الطابع الاعتباطي للمعيار ذاته، وليس التشكيك في ملاءمة الثنائية معيار/انحراف.

5- إن التأكيدات التالية ستمكننا من فهم صحيح لكيفية تمفصل مفاهيم التقرير/الإيحاء والمواضعة والإيديولوجيا.

– إن المواضعة حاضرة بقوة في اللغة، إنها تتحكم في الأسنن التقريرية والإيحائية معا.

– ولقد كان بارث على خطإ حين رد المواضعة إلى الإيديولوجيا. فأن تسمي ” القط ” ” قطا” ، معناه أنك تؤول المرجع ( تأسيس قسم من الموضوعات المستقاة من محاور تصنيفية قائمة على المواضعة ). ولكن لا نستطيع أن نقول دون تعسف لغوي، إن هذا التأويل هو في الوقت ذاته إيديولوجيا. فإذا كانت كل تسمية عملية اعتباطية بشكل مزدوج، فإن هذا لا يقودنا إلى القول بأنها مريبة وملطخة بالإيديولوجيا. وسيكون الأمر أخطر إذا نحن أولنا المواضعة على أنها كذب، وسيكون الأمر كذلك إذا نحن أولنا المعيار على أنه حقيقة. فالقول بأن الإيديولوجيا هي في كل مكان سيؤدي إلى تمييعها، وتحويلها إلى كائن غير ضار، أما القول بأنها ليست في أي مكان، فمعناه الوقوف في وجه أي تحليل. إن المواضعة حاضرة بقوة في اللغة، ولكن الإيديولوجيا لا توجد داخلها بنفس القوة، وما يجب حصره هو بؤرها وأنماط وجودها.

– إن هذه البؤر موجودة في لغتي الإيحاء والتقرير معا، مع وجود فارق بين اللغتين : فاللغة التقريرية تبدو بسيطة وصريحة وعادية وحرفية، وهو ما قد يجعل منها حقيقية وطبيعية.

ولقد سقط منظرو بور روايال ( Port Royal)، دون أن يدروا، في هذا الانزلاق من ” العادي” ( ما يطابق الاستعمال العادي ) إلى ” الطبيعي” ( ما يتطابق مع طبيعة الأشياء )، وهو أمر تحتوي عليه وتشجعه تعددية معاني هذه الألفاظ، عندما أعلنوا أن التعبير البسيط الخالي من التنميق والمحسنات، في مقابل التعابير المجازية، > لا يحيل سوى على الحقيقة العارية < (20). ولقد كان بارث على حق عندما ندد بهذه المخاطر المرتبطة بالتقرير الذي قد ينظر إليه على أنه ” حقيقة اللغة “. وهو على حق أيضا عندما يردد بقوة المهوس بأن المهمة العاجلة والنبيلة هي فضح التطبيع الثقافي أينما كان و كيفما كانت أشكاله.

وينبغي إبراز الطابع الاعتباطي لأنساق التمثيل وفصل النظام اللغوي عن النظام المرجعي، وقول وتبيان أن الخطاب لا يمكنه لأسباب تكوينية، أن يكون نظيرا تاما للواقع. فالكرونولوجيا النصية لا يمكنها أن تطابق الكرونولوجيا المرجعية، ومرد ذلك إلى أن كل ما يعود إلى اللغة يتم وفق المحورالتتابعي، في حين يحتوي الواقع على وحدات تزامنية أيضا، وأن الأسنن اللسانية مرغمة، رغم كل شيء، على اختراع ذرائع متنوعة للتعبير، من خلال أساليب غير مباشرة، عن معطيات مرجعية لا تستطيع إعادة إنتاجها كما هي.

– إن لغات الإيحاء، من هذه الزاوية، لا يهددها نفس الخطر. ذلك أنها بمجرد ما تتحول إلى معيار وعادة، تدخل في دائرة اللغة التقريرية. والحال أن العادة هي المسؤولة عن هذا التطبيع المسرف. فهي التي تحول الثقافي إلى طبيعي، أي تحول الضرورة، ( ضرورة تسمية القط قطا ) إلى إيهام تعليلي ( فأن نسند مرات متعددة هذا الدال إلى هذا المدلول يؤدي إلى منح هذا الترابط طابعا منطقيا وطبيعيا) (21)، وهذه العادة هي التي تغطي على المواضعة. (22). وضد هذا التكييف الذي يجنح إلى تحويل اللغة التقريرية إلى لغة طبيعية، يقوم الإيحاء بإجراءتكييف مضاد.

ولن يدفعنا هذا، مع ذلك، إلى القول بأن الإيحاء ( ومجاله التعبيري الأدب ) يشتغل بطريقة منافية للإيديولوجيا، بل يشتغل بطريقة منافية لأسنن التمثيل، وهذا شيء من طبيعة أخرى. ذلك أن الإيديولوجيا، وهي في تصورنا شكل من أشكال المضمون، مستقلة نسبيا عن أشكال التعبير التي تحققها. ويبدو لنا الحديث عن التخريب ” الإيديولوجي” في مجال ” الكتابات ” الإيحائية التي يهتم بها ميتز وبارث( 23) إفراطا في استعمال الإيدلوجيا كيفما اتفق.

كل هذا يذكرنا بالصراع بين الطلائعيين والأكاديميين. ففي مقدمة Sade, Fourier, Lyola يقدم بارث ثلاثة أنماط لتخريب الإيديولوجيا السائدة : اللاخطاب (يجب ألا نتكلم، ألا نكتب، علينا أن نناضل )، الخطاب المضاد ( لننشئ خطابات ضد الثقافة السائدة )، وفي الأخير سرقة /اغتصاب الدال. إنها الاستراتيجية الفعالة الوحيدة في نظره. > إن الرد الوحيد الممكن لا يكمن في المواجهة، ولا في التدمير، ولكن فقط في السرقة : في تجزيء النص القديم للثقافة والعلم والأدب، وبعثرته في صيغ لن يتم التعرف عليها لاحقا، تماما كما نُنَكِّر بضاعة مسروقة. ففي مواجهة النص القديم، أحاول محو الإزدهار المزيف الاجتماعي أو التاريخي أوالذاتي للتحديدات والرؤى والإسقاطات. إنني استمع إلى حدة الإرسالية وليس إلى الإرسالية، وأرى في العمل الأدبي انتشارا ثلاثيا للنص الدال، النص الإرهابي ، تاركا المجال للمعنى العادي لكي ينفصل كما لو أنه جلد قذر، والخطاب القمعي ( الليبرالي ) الذي يحاول دائما تغطيته.

إن التدخل الاجتماعي لنص ما ( الذي لا يتم بالضرورة لحظة ظهور هذا النص ) لا يقاس لا بشعبيته ولا بصدق الانعكاس الاجتماعي الاقتصادي الذي يندرج ضمنه، ليلتقطه بعض السوسيولوجيين المتعطشين له، بل يقاس بالعنف الذي يمكنه من تجاوزالقوانين التي يؤسسها المجتمع والإيديولوجيا والفلسفة للتطابق معها في لحظة تاريخية رائعة ومعقولة. إن هذا التجاوز له اسم : ” الكتابة “، وبهذا فإن Sade, Fourier, Lyola مخربة كذلك لأنها مبالغ فيها.

إن هذه الصوفية في الكتابة، وهذه التميمة الخاصة بالدال (الذي يحط من المعنى إلى الحد الذي يجعل منه حالة ” جلد قذر”) وهذا المدح الذي يكيله للتدمير اللغوي لا يعد عند ميشونيك سوى > الكافيار البرجوازية الجديد <. وفي جميع الحالات فإننا نرى فيه تناقضا، ذلك أنه من الصعب جدا أن نقبل في الوقت نفسه :

– انفصال أشكال التعبير انفصالا كليا عن أشكال المضمون،

– وأن تدمير الأولى يؤدي أوتوماتيكيا إلى تدميرالثانية.

وبالتأكيد، كما يلاحظ إيكو، > فإن طريقة ما في استعمال اللغة، تتطابق مع طريقة ما في رؤية المجتمع <، ومع ذلك، > بإمكاننا، دون شك، اقتراح مراجعة للانتظارت الإيديولوجية، باعتمادنا على وظيفة مرجعية بحت للإرساليات <. وهكذا إذا أراد شخص ما الدفاع عن لاأخلاقية الوحدة العائلية ( محدثا بذلك خلخلة في أنساق الانتظارات الإيديولوجية)، فإنه سيفعل ذلك من خلال إرساليات مهيكلة وفق قواعد التوقعية البلاغية. (من نمط أعتقد أن العائلة ليست نواة طبيعية، وأنها تمارس وظيفة إفسادية) < (24).

وعلى عكس الفرضية التي تسند ما نطلق عليه عادة الطليعة، فإننا نعتقد أن تدمير سنن التمثيل لا يؤدي بالضرورة إلى تدمير المضامين الإيديولوجية، وأن تأزيم اللغة، لا يعني بالضرورة تأزيما للإيديولوجية المهيمنة (25)، كما أنه بإمكاننا صب مضامين تخريبية في أشكال تقليدية (26)، وأن هناك نصوصا من الكتابة ” الكلاسيكية” تسيء إلى الإيديولوجيا المهيمنة بطريقة أكثر فاعلية من النصوص الطليعية. هذا مع العلم أن العملية قد تكون عكسية. فخلخلة الأشكال الدالة قد لا يترتب عنها أي مساس بالقوالب الإيديولوجية المهيمنة. ويجب ألا ننسى أن الأدب والشعر اعتبرا، ولمدة طويلة، ناطقين فصيحين باسم الإيديولوجيا المهيمنة، وهي الوظيفة التي يقوم بها حاليا الإشهاريون تصورا وإنتاجا(27).

وكل ما يمكن قوله هوأن الاعتناء بالدال داخل نص ما، يوحي بإيديولوجية الاشتغال بالدال، وهو أيضا تثمين لهذا الدال. كما يمكن القول، بعيدا عن هذه التوتولوجية، إن النص لا يشتغل ضد الإيديولوجيا، وإنما ضد واقعة إيديولوجية، أي ضد وهم اللغة الشفافة.

وهذا له دلالته. على أنه يجب أن نكرر أن هذا العمل الذي يتلخص في نزع السمة الطبيعية عن اللغة التقريرية، هو نفس عمل اللسانيات التي أثبتت، من خلال التحليل، ما يكشف عنه العمل الشعري عن طريق الإيحاء.(28) وليس من العدل القول، كما يذهب إلى ذلك ل. ج . كالفي، >بأن هناك لسانيات تدعم هذا الاعتقاد <، ويمكن وفقها، > أن نسمي القط قطا دون مشاكل< (29). وإذا كان كالفي يعني بـ “هذه اللسانيات” التقليد السوسيري، ولا نعتقد أن الأمر يتعلق بلسانيات غير هاته، فمن الواضح أنه كان سيء الظن.

6- هناك نقطة أخرى توضحها دراسة الإيحاء. وتتلخص في أن الإيديولوجيا لا تتسرب إلى اللغة /الموضوع فحسب: بل تتجاوزها إلى اللغة الواصفة أيضا، وتتحكم باستمرار في عملية فك التسنين. إن استخراج الإيحاءات يستدعي، وبشكل أكثر كثافة مما تستدعيه الخصائص التقريرية ( وهذه الخصائص، رغم ذلك تستدعي، بالإضافة إلى الأهلية اللسانية البحت، بعض المعارف التي يملكها الواصف عن المرجع ) أهليات ثقافية وإيديولوجية لدى من يفك السنن.

إن قراءة الصورة كما يبين ذلك رولان بارث تستدعي مختلف المعارف ( العملية والأسطورية ) التي قد يستثمرها القارئ العادي أو الحذق ( أي السميولوجي ). إن قراءة بسيطة لـ Z/S تبين أن بارث الذي قال هذا، هو نفسه الذي صرح بأنه راكم ” أفكارا” كثيرة مصدرها ثقافته من أجل استخراج المعانم والرموز.

إن هذه الملاحظة هامة جدا، لأنها توضح هذه الواقعة االبديهية والمسكوت عنها في غالب الأحيان : فبعيدا عن أن يكون الواصف محايدا، فإنه يتكلم من موقع إيديولوجي محدد وإن الميتا -نص قابل بدوره للتحيل المضموني (30) وهكذا دواليك.

وهذا ليس ضارا بالمرة. فالإيديولوجيا ليست “الرعب” أو”الوحش”، أو” الشر المطلق” ، كما يصرح بذلك بارث أحيانا، لأنه يطابق بين هذه الإيديولوجية (غير المحددة ظاهريا فحسب ) وبين إيديولوجية البرجوازية الصغيرة التي يمقتها. إن الإيديولوجيا توجد في كل مكان. إنها تخترق الخطابات العلمية نفسها، إلا أننا لا نستطيع تقويمها بمفاهيم الخير والشر إلا في علاقتها بمشروع سياسي شامل (31). إن الإيديولوجيا في ذاتها ليست لا جيدة ولا رديئة، ولعل هذا ما يجعلنا نندهش من كون التصريحات المتشبعة بالقيم، المُدينة بشكل هستيري للافتراضات الإيديولوجية التي تشكل على سبيل المثال أرضية لهذا النموذج اللساني أو ذاك، كما لو أن النماذج البديلة المقترحة، إذا وجدت، خالية من كل إيديولوجيا؛ وأن الإيديولوجيا هي دائما إيديولوجيا الآخر.

————————————–

الهوامش

1 – وهناك في كتابه ” أساطير” تأكيدات شبيهة بهذه. إلا أن هذا الكتاب، الذي يمثل في هذه المسألة أولى محاولات بارث في دراسة الإيحاء، فيه الكثير من التذبذب والتردد، مثال ذلك :

– إن بارث وهو يستعير مفاهيمه من يالمسليف يخلط بين الإيحاء واللغة الواصفة. ( ص 222)

– إن لفظ الإيحاء غير مستخدم في هذا الكتاب، وسيكون من الصعب معرفة ما إذا كان مفهوم الأسطورة عند بارث يصدق على ما سماه لاحقا بـ : لغة الإيحاء ” .

– إن الأسطورة هي نسق دال مؤدلج، إلا أن بارث لا يجيب بوضوح عن السؤال التالي : هل يمكن تشبيه كل الأنساق الدالة واللغات بالأسطورة؟

-وفي الأخير نعثر في ” أساطير ” على التباس دائم ( وهو ما قاده إلى اعتبار السميولوجيا جزءا من اللسانيات) بين اللغة واللغة اللسانية. فأن يكون العالم مسمطقا، وأن تكون الأشياء لغة ( أي تتخللها دلالات مؤدلجة) فهذا أمر صحيح إلا أن هذه اللغة مستقلة نسبيا عن ” اللغة اللسانية”. إن الأشياء موجودة باعتبارها علامات ( وهي بذلك قابلة للمعالجة السميولوجية ) حتي إن لم تكن قد تحولت إلى مراجع لإرساليات لفظية ( تعود إلى اللسانيات ).

2- Tel Quel , n 47 , p. 8

3- وهذا دليل على أن الحذر عند بارث مرتبط بالجرأة. إنه حذر في موقفه من الانزياح الذي أطلق عليه” الانزلاق” . ففي مقال مهدى إلى جونيت يؤكد بارث أن نظرية للانزلاق عليها أن تحدد ” الشروط التي يحتاجها التجديد السردي دون أن يؤدي ذلك إلى أي خلل” . انظر : La quinzaine Littéraire, n! 150 , 16 O / 1972 , p . 15

4- Langue Française , n 3 , p . 43

5- La structure absente , p 163- ويتصور إيكو من جهة أخرى ( ص92) ، وهو يقوم بجرد للإيحاءات، تلك التي يطلق عليها ” التعريفات الإيديولوجية” ( اللفظ ليس محل إجماع) : والتعريفات الإيديولوجية هي تعريفات ناقصة تكثف، في وحدة ثقافية أو داخل مجموعة من الوحدات الثقافية، نمطا واحدا لتصور الواقع. وهي، بهذا شبيهة بـ ” sinn” عند فريجه، أي تلك الطريقة التي نستدل من خلالها على الموضوع. مثال ذلك : / نابليون / يمكن تعريفه بـ : “المنتصر في معركة مارينغو ” أو ” المنهزم في معركة واتيرلو”.

6 – S / Z , p . 104

7- انظر : ” A propos de ” Lux” , Littérature n 1 , Fevrier 1971 , pp . 92 – 105

8- Sémiotique littéraire , p . 25

9- إن الفعل faucher هو الذي يحيل على الموت داخل نفس الحقل الدلالي بطريقة مجازية.

10- انظر على سبيل المثال هذه الأبيات :

لقد فقدت في زهرة شبابهم

ستة إخوة، يا له من أمل في منزل عريق

لقد حصد الحديد الجميع.

11- وهي، كما رأينا، نفس حالة المحسنات مثل الاستعارة أو السخرية التي تحول القيمة الحرفية ( العادية ) لألفاظ محرفة عن معانيها الأصلية إلى معاني إيحائية.

12- Langue Francçaise , n 3 , p p . 38 – 39

13- إننا نشير بطبيعة الحال إلى مفهوم ” النحوية “.

14- إن إيكو يبين بهذا ( La structure absente , p p 120 – 121) بأن مقولة ” الحكم التحليلي ” ذاتها لا معنى لها إلا في علاقتها بـ” التراث الفكري” الذي يمنح الوحدات المعجمية، مواضعة، مضمونا قصديا ما. ” ويؤكد وايت عن حق في انتقاده للتمييز التحليلي التركيبي، بأن الحكم يكون تحليليا انطلاقا من مواضعة ما، وبتغيير هذه المواضعة، فإن الأحكام التحليلية قد تصبح أحكاما تركيبية، والعكس صحيح.

15- Problèmes de l’analyse textuelle , p . 180

*- يظهر هذا في البلاغة عندما نستعمل صيغة نحوية محل أخرى بنفس القيمة والوظيفة. وقد ينطبق هذا على استعمال صيغة صرفية في غير زمنها، كالماضي في سياق المستقبل في أسلوب الدعاء، نحو : ” رافقتك السلامة” لمن يتأهب للسفر. (المترجم)

16-المصدرالسابق ص 177

17- سيكون من المفيد معرفة مدى قابلية نقل الإيحاء والتقرير إلى الميادين السميولوجية الأخرى. وهناك بعض المؤلفين الذين اهتموا بالمسألة والذين نحيل عليهم هنا وهم :

– في اللغة السينيماتوغرافية : وميتز من أهم هؤلاء. فقد خص هذه القضية بإضافات متعددة ( انظر على الخصوص الجزء الثاني من les Essais، الفصل الموسوم بـ : “الإيحاء من جديد”. أما فيما يخص لغة الصورة، فانظر بارث ( بلاغة الصورة ) في communications 4 وإيكو في La structure absente , p 254 وفي هذا الكتاب اهتم إيكو أيضا بالخطاب المعماري ودراسة التقابل الإيحاء/ التقرير في هذا الخطاب ( ص 271 – 275 ).

– أما في الخطاب الصوري فانظر J . L . Schefer ( Lecture et système du tableau ” في J . Kristéva ,et J . Rey -Debove , Essais de Sémiotique , pp 477 . 501 . إن المعنى التقريري، كما في كل اللغات التناظرية لا يتم الحصول عليه إلا من خلال الاستخراج: ” إن الوحدة المعنوية تظهر المستوى التقريري للفظ … انطلاقا من مدار إيحائي”.

– إن مقولة ” anagramme” بالخصوص طبقتها على الفنون التشكيلية فيفيان فوريستر ( التي تتحدث في La Quinzaine littéraire n 222 ,du 1 au 15 dec , 1975 , p 16 عن ” anagrammes du corps” عند بيلمير. كما طبقها بارث على الخطاب الموسيقي في “Rasch ) في Langue , discours , société , p . 219)

– ويمكن القول أيضا عن العلامات الشمية بأنها تعين الموضوع/سند للانطباع الحسي، وأنها توحي بقيم شتى اجتماعية وانفعالية وقيمية.

18- Langage et cinéma , p . 202

19- in, La Quinzaine Littéraire n 150 ,du 16 au 31oct. 1972 , p 15 ” Le retour du poéticien”

20- Logique, p . 131

21- يجب التذكير بأن مفهوم ” الضرورة ” لا يجب أن يخلط بمفهوم ” التعليل”، كما يحدث عادة ( انظر مثلا كل الاعتراضات المزعومة على مفهوم اعتباطية العلامة كما ورد عند سوسير) وهذا ناتج عن أن لكلا المفهومين مقابلا مشتركا هو ” الاعتباطية “.

22- وفي هذه الحالة، فإن اشتغال اللغة التقريرية شبيه باشتغال الإيديولوجيا، التي تنفي نفسها، لكي تستمر في الحياة، وتقدم نفسها على أنها طبيعية. ولكن هذا التشابه لا يجعل منهما شيئا واحدا.

23- Cf La Quinzaine Littérarire n 150 : ” إن الانزياحات ( الانزياحات عن السنن وعن النحو وعن المعيار ) هي دائما تجليات كتابية : فحيث يتم خرق القاعدة، تظهرالكتابة باعتبارها تجاوزا، لأنها تستوعب لغة لم تكن متوقعة “.

24 – La structure absente , pp . 163 – 164

ويضيف إيكو قائلا : > إلا أن خلخلة فعلية للانتظارات الإيديولوجية أمر غير ممكن إلا إذا تحقق من خلال إرساليات تخلخل أيضا أنساق التوقعات البلاغية. وكل خلخلة عميقة للتوقعات البلاغية هي أيضا تكليس للتوقعات الإيديولوجية<. وبناء عليه، فإن إيكو ينتهي، من خلال مفهموين فضفاضين : ” فعلي ” و” عميق”، إلى قبول فكرة أن تغيير المضامين مرتبط بتغيير أشكال التعبير.

25- ولنفس الأسباب ( استقلالية مستويات التعبير عن مستويات المضمون ) لا يمكن أيضا ربط التقرير بالإيديولوجيا السائدة، والإيحاءات بالإيديولوجيات الهامشية.

26- من” هؤلاء الأكاديميين الملتزمين، جان فيرا في مجال الأغنية، والأخضر حامينة في مجال السينما. وبالمقابل، فكثيرا ما أوخذ فيسكونتي، في ” الأرض تهتز ” وأعمال لاحقة، على أنه أبطل، من خلال بحثه الشكلي، مفعول المضمون الإيديولوجي لأفلامه. إننا لا نسوغ هذه المآخذ، بل نشير فقط إلى أن قضية العلاقة بين الشكل والمضمون هي علاقة مركبة على عكس ما يدعي بعض المناوئين للأكاديمية.

27- حول قضية العلاقة بين التحولات الثقافية والسياسية، نحيل على رأي ريجيس دوبريه : > إذا كان لا ينجم عن العواصف التي تحرك ملايين الجماهير تحولات حاسمة – بل تراجعات في غالب الأحيان – في البنيات الفوقية الثقافية للدول المعنية مباشرة، فلا وجود لطليعة ثقافية جدية لم تكن مرتبطة، على نحو ما، بانتفاضة اجتماعية، حرب أو ثورة< انظر Les rendez- vous manqués, Seuil, Paris 1975 , p 72 . إن هذه الملاحظة تقصي ضمنا المحاولات الطليعية المعاصرة باعتبارها غير جدية.

28- إن اللغة الشعرية ليست وحدها التي تخل بالمعيار. إن ” خروقات الخطاب المرضي، أواللغة الشعبية تسهم هي الأخرى في الإخلال بالمعيار. وهذا أمر يثير قضية شائكة : فالمعتوه والمفصوم يخرقان المعيار بسبب العجز. ولغة تلك العاملة التي حللتها إيفيت ديلصو هي الوحيدة التي كانت تستعملها. فهي لم تنتج هذا الخطاب بعد معاناة وطول تفكير، كما أنها لم تحترف هذا ” الفن ” ولم تصطنع ” اسما ” في الأوساط الأدبية. ولو قدر لخطابها أن يعرض على لجنة الامتحانات لكانت درجته الصفر. فهو خطاب مُقصى من المنتديات التي يرتادها الكتاب، كانوا من النخبة أو من العامة. فهو يصلح فقط لإثارة فضول الكاتب المسلي، الذي يعجب بالقريحة العامية للخادمة، عندما ينزل عندها في المطبخ، فيقوم بالتعبير عن هذه التجربة النادرة والعجيبة بنثر فني رفيع وحميمي ” Actes de la recherche en sciences sociales, n! 4 , p 33

فهل يعني هذا أن هذه اللغة العفوية أقل تخريبا من اللغة الراقية التي نجدها عند إميل أجار؟

29- L . J . Calvet ” Une sémiologie politique ” in L’Arc , n 56 ( numéro consacré à R . Barthes ) , 1974 p . 29

30- مثال ذلك أن الحضورالدائم للإيحاءات الجنسية والنصية في القراءات السميولوجية المعاصرة يوحي بتثمين ” إيديولوجي” لهاتين الحقيقتين.

31- وهكذا، فإن التأويل ” الجيد” لنص ما، حسب بريخت ( ذكره بارث في Tel Quel , 47 p 15)، هو ذاك الذي يسير وفق المسلمة الثورية.