سعيد بنگراد
نقترح في الصفحات التالية تقديم مجموعة من الملاحظات الخاصة بالوضع الثقافي والاجتماعي للذات النسائية بشقيها “المحلي” و”الوافد”، استنادا إلى الطريقة التي يتم من خلالها تمثيل المرأة في الوصلات الإشهارية المصورة التي تبثها التلفزة المغربية بقناتيها الأولى والثانية.
ونقصد بهذه الذات مجمل العوالم المجردة والمحسوسة التي تحيل عليها المرأة عبر فعلها وجسدها وكذا كل اللغات التي تعبر فيها ومن خلالها عن نوع خاص من الانتماء الثقافي والاجتماعي والحضاري.
فالمرأة في كل هذه الصور تحضر عارضة أو مستهلكة أو ذريعة، أو تحضر باعتبارها رمزا من رموز التبادل الاجتماعي والثقافي. فالمنتوجات التي يُلقى بها للتداول تأتي إلى الناظر، في أغلب هذه الوصلات، ممزوجة بكل ما يحيل عليه المتخيل الإنساني حول المرأة وملكوتها الخاص والعام.
1- الذات النسائية بين الوظيفة والإغراء
سننطلق في صياغتنا لهذا المقال من مسلمة تبدو لنا أنها على قدر كبير من العمومية والكونية، وهناك في الممارسة اليومية ما يبررها ويثبت صحتها. ومضمون هذه المسلمة يكمن في وجود روابط وثيقة بين اللسان وبين الملفوظ الإيمائي المرافق له. فلا يمكن، استنادا إلى هذه المسلمة، الفصل بين الإيماءات الصادرة عن ذات اجتماعية ما وبين اللسان الذي تستعمله. فهذا السجل الإيمائي أو ذاك مرتبط بهذا اللسان أو ذاك، ولا يمكن أن يشتغل مع غيره من الألسنة. وهذه الروابط ذاتها بالغة الحركة والديناميكية، فهي تتغير بحسب المجموعات الاجتماعية بحكم تنوع طباعها اللسانية والحركية والثقافية. ويمكن صياغة هذه المسألة بطريقة أخرى : إن الاستعمال الاجتماعي للسان مرتبط أشد الارتباط بالاستعمال الاجتماعي للجسد. فاللسان الأصلي المتجذر في وجدان الفرد له جسد أصلي يقابله. (1)
في ضوء هذه الملاحظة، نفترض – وهو افتراض سنحاول إثباته من خلال نماذج مستقاة من الوصلات الإشهارية ذاتها- أن الإشهار المغربي تتقاسمه امرأتان : امرأة بملامح عربية أو محلية، وأخرى بملامح أجنبية ( نفترض أنها غربية) :
– الأولى منبثقة من الفعل اليومي بجزئياته وتفاصيله وطابعه المكرر في الفضاء وفي الزمان. إنها امرأة لا تدرك إلا باعتبار كلية جسدها وأبعاده الوظيفية : إنها تغسل أو تنظف أو تحمل الخرق أو تطبخ. فلا وجود لهذه المرأة إلا من خلال تفاصيل ما يحيط بها من أشياء وكائنات ومنتوجات.
– أما الثانية فتعيش في متخيل المستهلك، أو هي نموذج للاستيهام الفردي والجماعي، إنها لا تملك صفة التمثيلية، ولكنها تعيش في الذاكرة على شكل موضوع جنسي لا حدود له. إنها اللذة القصوى أو هي الإغراء في شكله الكلي. ولهذا فإنها تحضر عبر جزئيات جسدها بكامل طاقاته التعبيرية : شكل العينين، واستفزازية اللباس، ولهاث النهدين، وامتداد الذراعين والساقين الخ.
ومن واقع الحال هذا، تنبثق الصور التي تمطرنا بها التلفزة كل يوم. إنها صور تعرض لعدد هائل من الحالات والأوضاع الجسدية للمرأة : فهي إما واقفة أو جالسة، وإما متحركة أو ساكنة، ضاحكة أو عابسة، باسمة أو مقطبة، عصرية أو تقليدية، شابة أو متقدمة في السن. وفي جميع هذه الأوضاع فإنها ليست ” هي الذات التي نعرف وندرك ونتملى “، فهي لا تحيل على فرد مخصوص، فكل حالة من هذه الحالات تحتوي على موقف مسكوك يحيل – داخل دائرة ثقافية ما – على قيمة هي ما يدركه الرائي وما يبحث عنه. فطريقة المشي أو الجلوس أو الوقوف أو الاتكاء أو طريقة إنتاج الإيماءات، هي من صلب الثقافة (2) التي تحتكم إليها الرؤية في تحديد انتماء الفرد وهويته ومستقبل أفعاله.
وفي مقابل ذلك، فإن نمط صياغة المنتوجات وتسميتها وعرضها كل ذلك ليس سوى الطريقة التي يتصور بها المجتمع نفسه، وطريقته في إنتاج قيمه وطريقته في تصريفها وتداولها. ولهذا السبب سيكون الفصل – ضمن هذه الحالات والأوضاع – بين ما يعود إلى المرأة وإحالاتها المتعددة، وبين ما يعود إلى المنتوج وخصائصه أمرا صعبا.
فهذه الأوضاع تتنوع بتنوع المنتوجات وتنوع الحالات التي تحيل عليها. فتارة تحضر المرأة في صيغة “محلية” تشير من خلال لباسها وعينيها وضحكتها وإيماءاتها إلى كون ثقافي مسكوك يعرفه المتلقي ويعرف خصائصه وهو، نتيجة لذلك، قادر على التماهي معه : إنها الجدة أو الأم أو الزوجة أو الأخت. وتارة أخرى يتوارى المألوف وتغيب ملامحه لتحضر المرأة في صيغة “أجنبية” تقصي المحلي وتُعوضه بصور شتى من الذاكرة أو من المكبوت أو من المسقط كحالات للتماهي الوهمي : إنها “امرأة الأفلام” و” الروبورتاجات ” وكل ” الصور المستوردة”. إن السر في هذا التباين والتفاوت في الحضور بين المرأة الأولى والمرأة الثانية يكمن في نوعية المنتوج الموضوع للعرض ووظيفته وموقعه من دائرة الاستهلاك اليومي : فهو إما يلبي حاجات الضرورة، وإما يشبع حاجات المتعة.
وهكذا فإن التمثيل البصري، في الحالة الأولى كما في الحالة الثانية، يهدف إلى إثارة حالات إنسانية لها علاقة مباشرة بكل حاجات الإنسان الغريزية والثقافية. فهو يحيل أحيانا على الاستهلاك اليومي المباشر بكل مقتضياته، أي كل ما يستجيب للحاجات التي تتطلبها الضرورة الحياتية وإرغاماتها : “الغسيل” و”الأكل” و”التنظيف” و”خرق الأطفال”، والقضاء على “الناموس والذباب وسراق الزيت”. وهنا تحضر “نساؤنا” باعتبارهن أسنادا لغايات إشهارية واضحة تقصي أية تعبيرية جسدية سوى تلك الطاقة المرتبطة بالبرهنة على صلاحية منتوج ما، أو التدليل على فعاليته، أو تلك التي تحدد انتماء الذات النسائية الثقافي والتاريخي والجغرافي ( طريقة النطق أو اللباس ).
وتارة أخرى يحيل هذا التمثيل على أشياء تحتفي بالذات وتمجدها وتعلي من شأنها، كأشياء الجاذبية والمتعة واللذة والإغراء الجنسي (العطور والشامبوان والنهديات …). وفي هذه الحالة تحضر “نساؤهم” بطريقتهن في اللباس والجلوس والمشي، وكذا كل اللغات التي لا تقول أي شيء عن المنتوج كما لا تقول أي شيء عن وظيفته وخصائصه، ولكنها تحكي قصصا شتى عن الجسد الحامل للمنتوج.
وهكذا يكون الجسد هو الممر الضروري نحو استجلاء حالات العرض والتداول. فعبر المرئي والظاهر، أي عبر الجسد العارض، يأتي المعروض إلى المتلقي ممزوجا بحالات يسكنها المتخيل والثقافي والاجتماعي وكل ما يخبر عن وضع حضاري ما. فالإدراك الرمزي للحالات الإنسانية، بغلافها الاجتماعي والثقافي، هو أساس بناء الوصلة الإشهارية وأساس نجاحها. فلا قدرة للمتلقي/المستهلك على الخروج من اللحظي والمباشر دون الاستعانة بطاقة رمزية تمكنه من إسقاط المعادلات المجردة للحدود المحسوسة على شكل عوالم يتماهى معها. وتعد هذه الصور المجردة عند المتلقي، الأساس الوحيد الكفيل بالخروج بالذات النسائية من دوائر الإدراك المباشر، إلى ما يشكل حالات الاستيهام الإغرائي، أو حالات إعادة إنتاج النماذج الحياتية المباشرة : الاستهلاك والتوالد والروابط العائلية وكل الانتماءات المشابهة.
فليس سرا القول إننا لا نشاهد البضاعة، ولا نحتفي بها ونادرا ما ننتبه إليها. فما يتسلل إلى اللاشعور لا يمكن أن يكون مادة استهلاكية، وإنما هو صور مرتبطة بهذه المنتوجات : فـ”النهدية” لا تخفي النهد بل تكشف عنه، و”الشامبوان” لا ينظف أو يلين ولكنه يطلق العنان للشعر ويهبه للريح تعبث به وتعبث بالقلوب الرائية، والعطر لا يفوح، ولكنه يغري وقد يجلب عشيقا أو زوجا. وفي كل ذلك، فإن الإشهار لا يكتفي بالترويج للبضاعة، بل يسهم في بلورة وبناء الهوية الاجتماعية للفرد ويحدد له حاجاته ورغباته وميولاته. إنه بعبارة واحدة هو الخالق للأذواق وهو المتحكم فيها.
وفي كل ذلك، فإن أساس هذه الحالات التعبيرية الصادرة عن الذات النسائية هو الجسد بكل إيحاءاته، بحضوره أو غيابه، بتعبيريته أو حياده، بسكونه أو هياجه. فالجسد هنا، وفي جميع الحالات أيضا، ليس رزمة من الأعضاء ولا سيلا من الوظائف، بل هو بنية رمزية > تحيل على واقعة من الوقائع العديدة للمتخيل الاجتماعي < (3). وبدون هذه الأبعاد الرمزية لن يكون للعين ولا لليد أوالجيد أو للساق سوى وظائف أولىة مباشرة ونفعية.
إن مجموع هذه الصياغات وكذا الأوضاع الناتجة عنها، تحيل، ضمنا أو صراحة، على إبدال* معرفي/حضاري يتم عبره تمثل المرأة وتمثل صورها المتعددة. فمن خلال الحد الظاهر للوصلة الإشهارية يتم تسريب كل الصور الواعية واللاواعية المرتبطة بالذات النسائية وملكوتها، من حاجات ورغبات ووظائف وأدوار وغرائز. وهذه الصور مرتبطة أيضا بالذات الاجتماعية ونمط توزيعها للرغبات والحاجات : ذات نسائية “للنسل” و”الشرف” و”الرابط الأسري”، وكل ما يحمي الذات الاجتماعية ويحفظ لها توازنها، وذات أخرى لا تنثني أمام القيم ولا تكترث لها، فهي للذة والمتعة وكل “الألعاب الممنوعة”.
إن وجود هذا الإبدال هوالذي يبرر محاولة رصد الاختلافات الحضارية بين صيغتي التمثيل، والكشف عن أبعادهما المباشرة وغير المباشرة. والاختلاف هنا لا يقف عند حدود الملامح أو اللون أو الانتماء – رغم أهمية هذه العناصر ودلالاتها- بل يروم الوصول إلى الكشف عن تباين في كيفية النظر إلى الذات والآخر، أي في تحديد الطريقة التي تتم من خلالها صياغة قيم تتحكم في اليومي والمباشر، وتعيد إنتاجه، وأخرى تغطي مناطق الإغراء واللذة والتمتع بمفاتن حسناوات خارج حدود المؤسسة وإرغاماتها.
فليس غريبا، وهذا ما سنقوم بتحليله لاحقا، أن يكون التمثيل مرتبطا في تحققاته المتنوعة بالاستجابة للحاجات المعيشية أولا، ومرتبطا بإرضاء متطلبات الانتماء ثانيا ( نوعية الفضاء الذي يتم فيه التمثيل مثلا). وهو أيضا وأساسا أداة لقياس درجة الوعي الثقافي الذي يميز هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك : نوعية الجمهور الذي تتوجه إليه الوصلات الأولى، وطبيعة الجمهور الذي تستهدفه الوصلات الثانية.
ومن المؤكد أن ما سنقدمه حول الأوضاع الجسدية لا يغطي مجمل الحالات الثقافية التي يتم تقديمها في الوصلات الإشهارية، فتلك مهمة أكبر من أن تستوعبها صفحات قليلة كهاته. ومع ذلك فإننا سنحاول، في عرضنا المختصر هذا، أن نحدد نوعية المنتوجات المتداولة وعلاقتها بالأوضاع الجسدية وتعابير الأعضاء وكذا فضاءات العرض والتداول.
2- “اليومي” والجسد المحايد
بإمكاننا الآن، استنادا إلى الملاحظات العامة الواردة أعلاه، تقديم مجموعة من الوقائع الفعلية التي قد تمكننا من تحديد نمط وجود الذات النسائية من خلال إحالتها على ما أطلقنا عليه في هذا المقال : “عالم اليومي ” من جهة و” عالم اللذة” من جهة ثانية. فكل عالم من العالمين يستدعي، في تحققه ( وهو الأمر الذي حاولنا توضيحه فيما سبق) نمطا نسائيا خاصا يستجيب في شكله ولباسه وحركاته للمقتضيات والمضامين الثقافية الخاصة بالعالم الأول أو العالم الثاني.
وسنقوم بذلك اعتمادا فقط على ما يقدمه المظهرالعام للمرأة وعلاقتها المباشرة بالمنتوجات التي تعرض لها وكذا القيم المرتبطة بها دون أن ندخل في الحسبان اعتبارات أخرى كالأحكام الإيديولوجية المسبقة، أو المقتضيات الدينية التي لا تفسر، في الحالة التي نقوم بدراستها، أي شيء.
وهذا الاختيار له ما يبرره، فالجسد هو الواجهة الأولى للذات ولانفعالاتها، وهو أيضا مفتاح الأفعال ومصدرها، إنه > الموجه الدلالي الذي تؤسس عبره بديهية العلاقة مع العالم، أي ما يعود إلى النشاط المحسوس والتعبير عن المشاعر، والكشف عن طقوس التفاعل، واللغة الإيمائية والاحتفاء بالذات، ولعبة الإغراء. ذلك أن الوجود هو قبل كل شيء وجود جسدي <.(4) فلا يمكن صياغة أي فعل، ولا تشكيل أية إيماءة خارج الممكنات التعبيرية التي يوفرها الجسد وخارج الدلالات المنبثقة عنها. > فالجسد يقوم، من موقع الرائي أو المرئي، بإدماج الإنسان داخل فضاء اجتماعي وثقافي معين<. (5)
وعلينا الآن أن نوضح، من خلال طريقة التمثيل فقط، الاختلافات الجوهرية، المتولدة عن تقنيات الجسد، بين القيم الأولى والقيم الثانية. وتقنيات الجسد هي البوابة للولوج إلى العالم العميق للذات. فهي الطريقة التي يستخدم بها الإنسان جسده من أجل خلق حالات تعبيرية موغلة في التفرد والخصوصية (6)، كأشكال الوضعة والاستخدام الاستعاري لليدين ودلالات النظرة ونبرة الصوت، وشكل الجلوس، وكذا اللباس، والنحافة والبدانة … فكل ما يعود إلى هذه التقنيات له موقع داخل السجل الثقافي/الاجتماعي الذي يؤوله ويمنحه دلالاته.
وهذا أمر طبيعي، فمجمل الإيماءات الصادرة عن الذات الإنسانية، إن لم نقل كلها، تعود إما إلى التعبير عن أحاسيس أولية ( كالخوف والغضب والتحدي )، وإما إلى التعبير عن العلاقات الرابطة بين الأفراد ( كالتفاوض والاعتداء وطلب النجدة )، وإما إلى أفعال عادية ( كالمشي والجري والسباحة ) (7). وضمن هذا المنظور التصنيفي، وضمن حالات التسنين هاته يجب النظر إلى الوصلة الإشهارية وإلى طريقتها في إنتاج مضامين إرسالياتها.
وبالعودة إلى الوصلات الإشهارية التي تقدمها التلفزة، سندرك بسهولة ما ذهبنا إليه في الصفحات السابقة. فقد لاحظنا وجود تقسيم للأدوار بين ذات نسائية “محلية” تتكفل بإدارة شؤون اليومي ( أي ما هو مرتبط بالقيم الاستعمالية )، وأخرى وافدة أسندت لها مهمة تشخيص حالات الإغراء والاحتفاء بهوية الذات ( أي ما يعود إلى القيم الأساسية ) (8).
ولأننا لا نستطيع، في هذه الصفحات، إثبات مجموع الصور التي تشكل المتن الذي نسائله، فإننا سنحاول ( وندعو القارئ إلى القيام بذلك أيضا) استحضار الصور التي تحضر فيها النساء عارضات لمساحيق ومواد شتى للتنظيف وغسل ملابس الأطفال، أو الطهي ومحاربة ” سراق الزيت “. فنحن لا نقوم هنا سوى بتقرير واقع ( وهو واقع غريب حقا) يدركه الجميع مع تفاوت في الوعي بالحالات الخاصة والعامة. فمواد الاستهلاك والتنظيف وكل ما يعود إلى شؤون البيت، تكفلت بعرضها وتداولها نساء من مختلف الأعمار، وذلك ضمن مؤسسة الأسرة، ووفق تقاليدها في العيش والتربية وتوزيع الأدوار( سنعود إلى هذه الفكرة ). فعلى ماذا تدل دائرة التخصيص هذه ؟ وما هي العناصر الثابتة والمميزة في هذه الصور؟
يمكن القول، دون تردد، إن هذه الصور تتميز بإحالتها على الطابع ” الشعبي” ، فكل شيء فيها يذكر بحياة مألوفة ومعتادة : لباس النساء وديكور المنازل والأصوات الرجالية المصاحبة للوصلات. إنها تتوجه إلى الأهالي بأسلوب بسيط يراعي هشاشة الحاجات اليومية وبساطتها. فالإشهار ” يخرج” ( أو هو يوهم بذلك، فكل شيء يتم وفق إخراج محكم ودقيق ) من قمقم الاستيديوهات ليلتحق بالشوارع والأزقة والحارات الشعبية، بل يصل إلى مناطق بعيدة في البوادي حيث الوحل والطين والطرق غير المعبدة، بحثا عن المزيد من النماذج الاجتماعية التي تشكل ما ينتمي، بالشكل والوضع والاسم والجسد، إلى “المحلي” و”الشعبي”. وفي هذا الوضع تتوالى السيدات ( وليس الآنسات وهذا له دلالته أيضا)- خديجة وزهرة ومونية وعائشة- بأزياء محلية وأسماء شعبية لعرض مسحوق جديد والإشادة بنظافة ليس لها مثيل.
وواضح أن “السيدات” في هذه الوصلات تحضرن من خلال بعد واحد يتخلل الوصلة من أولها إلى آخرها، ووفق غاية سابقة عن الصورة ومتجاوزة لها. فالبعد الوظيفي – الذي هو كل ما يمكن أن نستشفه من هذه الوصلات – يشكل عمق الرؤية واللقطة والتركيب، واعتبارا لذلك، فإنه يتحدد من خلال الاسم واللباس والوضعة وأفعال الجسد.
وهكذا، فإن النظرة لا تستوقفها تفاصيل الجسد، ولا تثيرها جزئياته، فهي لا تتوقف عند عضو بعينه أو حالة بعينها. فالجسد في حالة هذه الوصلات ذات الطبيعة المرجعية لا يلتفت إلى نفسه ولايقول أي شيء عنها. فهو من جهة محاط بلباس وأثواب ومعيقات أخرى تخفي معالمه وتضاريسه وتصد العين عن رؤية ما لا يمكن أن يُرى. وهو، من جهة ثانية، مغيب من خلال اللقطة ذاتها، فالموضوع البصري لا ينبني، في جميع هذه الوصلات، انطلاقا من تبئير للجسد في جزئياته ومكامن الرغبة فيه، وإنما انطلاقا من حجم الحضور الثقافي الذي يقود إلى تصنيف هذه الذات النسائية داخل خانة بعينها : هذه المرأة “جدة” أو “أم” أو “زوجة” أو “عروس”.
من هنا تأتي الأهمية التي تمنح لبعض الأعضاء على حساب أعضاء أخرى، فالفعل- أي فعل- لا يستعمل إلا أعضاء محددة دون غيرها، أي تلك التي تعتبر داخل سنن الفعل من أكثر الأعضاء تمثيلية. فالنص الجسدي يُعبىء من الطاقات ما يخدم مضمون الفعل ويحدد هويته الخاصة. والأمر يقاس، من زاوية أخرى، بالحاجة أو الحاجات المراد إشباعها. والحاجة التي نتحدث عنها هنا هي من طبيعة “عملية”، أي ذات بعد حركي، ولذلك فهي تقترب، في وجودها ونمط اشتغالها، من المظهر السردي الذي يستند إلى البعد الزمني باعتباره الوعاء الذي يستوعب الفعل ويحكم عليه. فإنجاز فعل ما يقتضي الكشف عن وجود نقص والقيام بإلغائه : وجود حالة أولى تشير إلى “الماقبل”، وحالة ثانية تشير إلى “المابعد”.
وبالتأكيد، فإن هذه الطبيعة هي ما يفسر الاستعمال المفرط لليدين والرجلين والرأس. وتعد هذه الأعضاء، كما هو شائع في التواصل الإيمائي، عناصر بالغة الأهمية وأكثرها قدرة على توصيل الإرساليات ونشرها. ورغم هذه الأهمية فإنها لا تحتاج، في إدراكها، إلى الكثير من الجهد، كما أن أمر إبرازها من خلال الصورة هين جدا. فاليدان والرجلان مرتبطتان بالحركة والفعل والتنقل والإنجاز : اليد ” تحمل” و”تصد ” و” تنشر الغسيل” و” تنظف الأرض”. أما الرجلان فهما الدعامة الأساسية للحركة والتنقل في الفضاء، وبدونهما يستحيل تصور فعل منجز أو فعل قابل للإنجاز. أما الرأس، ورغم أهميته وطاقته التعبيرية، فتضيق دائرته،في هذه الوصلات، لكي يتحول إلى صوت ملازم للصورة : صوت يحكي ” ما وقع “، أو صوت مصاحب لفعل في طور الإنجاز، أو حركات تدل على الرضى أو الرفض أو التردد بين الحالتين. وبطبيعة الحال لا حديث عن الشعر وانطلاقته، ولا حديث عن الشفتين، ونادرا ما يتم الالتفات إلى العينين ولونهما. فتلك أعضاء لا تمتلك أية مردودية تعبيرية ضمن سياق الوصلات الإشهارية التي نتحدث عنها. فالوصلة تقصي أي استعمال استعاري لهذه الأعضاء، إنها تركز على البعد التقريري الوظيفي الذي يستند في إدراكه إلى التجربة المشتركة فقط.
إن البقاء في حدود النص البراني للاستجابة للظاهر من الحاجات، يتجلى أيضا من خلال نوع الإيماءت وشكل الوضعات. فبما أن الأمر يتعلق بإقناع المستهلك بضرورة شراء المنتوج ” س”، فإن للوضعة في ذلك دورا هاما. فالوصلة في حاجة، لكي تقنع، إلى الكلام وحركات اليد والرأس، وهذا يستدعي نوعا خاصا من الوضعات : إما وضعة مواجهة : “أنا” مباشرة تتوجه إلى ” أنت” ( الشريحة المستهدفة ) ضمن خطاب مباشر ومرجعي يراد به الإقناع. ويتعلق الأمر بامرأة جالسة تحكي بوقار عن قساوة التجربة الماضية في غياب المنتوج ” س” إنها تفعل ذلك وهي جالسة على شكل جدة تحكي قصصا أو نوادر أو أحاجي، ولا شيء يوحي في صوتها أو حركات يدها أو نظرتها بشيء آخر سوى ” لذة ” الظفر بالمسحوق “س” . وإما من خلال لقطة من بعيد تمثل لمشهد تطبيقي يراد به البرهنة العملية على صلاحية منتوج ما. ويتعلق الأمر بامرأة تتلقى الإرشادات، بعد تجربة فاشلة، من سيدة أخرى تفوقها في السن والوقار والاحتشام. إنها لحظة حوار ثنائي يجعل من الماضي نبراسا للحاضر ويؤبد تقليدا يوغل في القدم : تداول المعرفة وانتقالها من جيل إلى آخر دون عسر أو مشقة. ووجود المرأة المسنة وحده كاف بأن يصرف نظر المتلقي عن أي رغبة سوى رغبة شراء المنتوج “س”. وبطبيعة الحال، من الصعب جدا تصور “صبية مهووسة بجسدها ورغباتها” تحكي عن عطرها في وقار وحشمة ورزانة.
وفي جميع هذه الحالات، فإن البرمجة المسبقة للفعل تستمد كامل مكوناتها من المعنى الظاهر للحركات والإيماءات، وتستمده أيضا من شكل إعداد الفضاء والتنقل داخله ( فالتنقل في الفضاء قد يكون من أجل تثمين أكبر للجسد ). فامتدادات الإنسان خارج نفسه ليست امتدادات ميكانيكية محرومة من أي عمق ثقافي، إنها على العكس من ذلك منغرسة في الوجدان الحضاري للفرد وهي ما يخبر عن انتمائه الجغرافي والطبقي والحضاري.
وهذا أمر في غاية البساطة، فإيماءات الحضري لا تشبه في شيء إيماءات البدوي. فالفلاح يستعمل يديه قياسا إلى الفأس والمذراة، ويستعملها العامل قياسا للمفاتيح الميكانية، كما يقيسها الحضري على الملعقة والفرشاة. وكذلك الأمر مع سكان الأحياء الشعبية، فهم يختلفون عن سكان الفيلات الفخمة في التعبير الإيمائي. من هنا، فإن التعبير عن الحاجات النفعية، سيكون مختلفا عن ذاك الذي يعود إلى حاجات إثبات الهوية وإشباع اللذات : فالأيادي التي ” تَفْرِكُ ” ليست هي تلك التي تشق عنان السماء استجداء للذة لا تنتهي.
والملاحظ، انطلاقا مما سبق، أننا نربط، ” بشكل طبيعي” بين النفعي من الحاجات وبين المؤسسة، وفي نفس الآن نقصي من الصورة كل الإيحاءات الجنسية : “السيدة” وليس “الآنسة”، “المتزوجة” وليس “العازب”، “المنزل” وليس “الطبيعة”، “اللباس التقليدي المحتشم” وليس “اللباس العصري الذي قد يكشف عن جزء من الجسد”، “البدانة” وليست “النحافة”، “اللغة اليومية المباشرة” وليست امرأة تغيب اللغة لتتهادى على أنغام موسيقى تأخذ الرائي إلى عوالم سحرية.
وهذا أمر يدركه المتفرج جيدا ( أو المتفرج الحذق على الأقل) : أيدي وأرجل ومنتوج وصوت وأشياء للتنظيف، ولا شيء في الصورة يقود النظرة إلى التوقف عند الجسد العارض أو التكهن بأسراره ومكوناته. ف> خديجة وعائشة وزهرة < لا تقمن، من خلال أيديهن وأرجلهن ولباسهن ونبرة الصوت، إلا بتأكيد حقائق بعينها :
– هذه المرأة بملامحها المحلية نموذج للمرأة التي تهتم ببيتها، فهي تغسل وتنظف وتطبخ، وتهتم بالأطفال، وتنتظر عودة الزوج من عمله. والوصلات التي تمثل لحالة الانتظارهذه كثيرة جدا : ” راجلي تشها علي… ” ، “راجلي حين كيرجع يوجد حوايجو …”، ” ادراري يلعبوا برا ويوسخو بسرعة الملابس ديالهم ” الخ.
– هذه المرأة بملامحها المحلية ” أم ” أو “جدة” أو “زوجة”. إنها الحد المجسد لمفاهيم مثل الواجب والمسؤولية والقناعة والرضى. فالثابت في الحياة – حسب هذه الوصلات -ليس الفرد بخصوصيته، بل المؤسسة بوظائفها وأدوارها ومقتضياتها.
– هذه المرأة بملامحها المحلية، لا تغري، وإذا فعلت ذلك فإنها تفعله سرا وأمام زوجها فقط. وكما لاحظنا سابقا، فإن كل النساء العارضات للمنتوجات نساء متزوجات، والزواج، في منطق الوصلات، خروج من دائرة ” اللعب الحر” والتزام بقواعد “الواجب” و” المسؤولية”. إن المتعة وقت فائض والأصل في الحياة هو الواجب !!!
إن كل هذه النماذج هي في صميمها أوضاع تحيل على تحديد مسبق للذات النسائية في صيغتها المحلية حيث يطغى الدورالعملي والجنسي /التناسلي ( أدوار الأم والجدة والزوجة) على ما يشكل هوية الذات في ذاتها أي من خلال “رغباتها” و”شبقها” و”هلوستها” و”هستيريتها”. إنها حالة ضبط طوعي للجسد أو هي انضباط جسدي تتخلى بموجبه المرأة عن فرديتها وأنوثتها وجمالها لتحتل موقعا داخل ” مؤسسة” لا تعترف لها ( أو لا تفعل ذلك علنا على الأقل ) إلا بإدارة شؤون صغيرة تخص البيت والتنظيف ورعاية الزوج والأطفال.
وقد يكون هذا الوضع العائلي أمرا عاديا، وهو كذلك ضمن ظروف بعينها. إلا أن الأمر يتخذ منحى آخر، حين تفاجئنا الوصلات الإشهارية بكون آخر يتناقض في الجوهر والتجلي والاشتغال عما رأيناه في الفقرات السابقة. إننا ننتقل من حالة النفعي والمباشر والاستهلاك المعاد، إلى التمثيل لحالات إنسانية نادرا ما نتعرف فيها على نسائنا وأنفسنا : فضاءات جميلة غناء، فتيات جميلات شقراوات ينتمين إلى عالم آخر غير عالمنا، إنهن نساء نأتي بهن من خارج ذاكرتنا الثقافية لنوكل إليهن مهمة إغرائنا. إن الكشف عن هذا الكون هو ما سنقوم به في الفقرات الموالية من مقالنا.
3- الجسد من الحياد إلى التواطؤ
>إن الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين لا يتكلمون لغتين مختلفتين فحسب، بل يسكنون عوالم حسية مختلفة< (9). تلك قاعدة ذهبية في تدبير الشأن الإنساني وفهم ميكانيزماته وصور وجوده. وهي قاعدة لا تتعلق بالنشاط اليومي في تجلياته العملية فحسب، بل تغطي حالات نقول عنها إنها برامج مسبقة تتحكم في كل العمليات اليومية كاللباس والمشي وتحريك الأعضاء، وكذا تقنيات القبلة وطقوس النداء وأشكال الإغراء.
ومن زاوية النظر هاته، يجب تناول الحالة الثانية ومناقشة أشكال تجلياتها. فبما أننا لا نقف عند حدود الظاهر من الحالات والأوضاع، بل نحاول استخراج الإبدال العام الذي يتحكم في كل حالة على حدة، فإن تحديد العناصر المكونة لهذه العوالم الحسية هو السبيل الوحيد إلى فهم الاختلافات بين الذوات النسائية كما تبدو من خلال الوصلات الإشهارية.
وهكذا وعلى خلاف كل ما رأيناه في الحالة الأولى، فإن المرأة تحضر في النوع الثاني من هذه الوصلات باعتبارها عارضة لأشياء لا تخص المطبخ والتنظيف وكل ما يندرج ضمن هذا السجل، وإنما تعرض لحاجات لها وقع مباشر على الذات النسائية ذاتها : على مظهرها وجاذبيتها وأناقتها وقدرتها على الإغراء. وتتجلى هذه الحاجات، بصفة خاصة، في أدوات التجميل وكل ما يرتبط بها، وكذا الدعاية للسيارات، وبدرجة أقل في بعض المواد الاستهلاكية التي لا تُتناول على نطاق واسع كدانون، باسيون أو ماشابه ذلك ( لنتذكر الإشهار الشهير : passion, je te désire passionnément ).
وسيلاحظ المتلقي أن الانتقال من برامج إدارة الشأن العائلي اليومي، إلى الالتفات إلى الذات النسائية وعوالمها الداخلية، يتطلب جلب نموذج نسائي جديد يختلف عن النموذج الأول في المظهر والحركة والملامح واللون وتجليات الجسد. فهذه المرأة التي تأتي إلينا مبشرة بالعطور والزهور وأدوات التجميل تطل علينا من عالم آخر، فهي امرأة لا تملك من البضاعات سوى”جسدها”، لذا فهي لا تعرض منتوجا ولاتدعو إليه، بل تقدم “مناطق” للرؤية والإغراء والاشتهاء. إنها أعضاء “تُرى “و”تسمع” و”توصف” في ذاتها، فهي أصل الرغبة ومنبعها ومنتهاها.
وبينما كانت الذات النسائية الأولى تحيل على واقع ” منمذج ” نتعرف من خلاله على أدوار محددة ( الأم والأخت والزوجة …) فإن الثانية ليست امرأة بالمفهوم العادي للكلمة، أي كيانا يأكل ويشرب ويسعل ويذهب من حين إلى آخر إلى المراحيض، بل هي التجسيد الأقصى للجمال والإغراء والفتنة والتناسق الجسدي. وبعبارة أخرى إنها امرأة تنتمي إلى العوالم الحسية التي يغيب فيها الرقيب والحسيب وإرغامات المؤسسة.
وتلك خاصية ستظهر بوضوح من خلال التركيب الصوري ذاته. فهذه المرأة تأتي إلى الصورة منفردة متفردة، مثلها في ذلك مثل البطل الرئيسي في الروايات. إنها وحدها وسط الطبيعة ممتزجة بها لونا وشكلا وحركة، أوهي وحيدة تسير في شارع مكتظ بالناس قبلة للرائين وموضوعا لاهتمامهم، أو منكبة على كتاب في الثانوية أو الكلية. وضمن كل هذه الأوضاع لا يتم الالتفات إلى الآثار الفعلية للمنتوج ولا يتم مدحها والاكتراث لها، إن الأمر على العكس من ذلك، فانتباه المشاهد يُثار إلى الحالات التي تتولد عن هذا المنتوج أو ذاك، فهذه المرأة هي المنتوج أو هي صنيعة من صنائعه.
ولعل هذا ما يفسر أن الوصلات الإشهارية التي تحضر فيها هذه المرأة نادرا ما تتحدث عن المنتوج بشكل مباشر، ونادرا ما تشير إلى مردوديته المباشرة كما هو الشأن في الحالة الأولى. إنها تدرجه ضمن غطاء إيحائي لا تتسرب معه صورة المنتوج واسمه إلى اللاشعور إلا متدثرا بحالة إثارة أو رغبة جنسية. فالهدف ليس المنتوج في حالته الغفل، بل ارتباطه بجسد ما أورغبة ما أو لحظة ما. وهذا ما يبدو من خلال الإخراج الإشهاري ذاته. فهو يقدم لنا نساء خارج ” الممنوع” ، أي “أجسادا طرية” بالإمكان امتلاكها في المتخيل. فالإيرورسية ( كل الرغبات الجنسية الممكنة ) كانت دائما إقصاءً لكل القيود المفروضة على الجسد.
فليس مهما أن نتحدث عن فعالية المنتوج ومردوديته، وليس مهما أن نبرهن على ذلك من خلال وقائع بعينها، فالأهم هو أن نسجل التغيير الذي يُلحقه المنتوج بالذات المستعملة له. وهذا التغيير نفسه لا يكون من طبيعة وظيفية أو عملية، بل هو حالة تصير إليها الذات النسائية بعد استعمالها لهذا المنتوج، مع كل ما ينتج عن ذلك من رد فعل يلحق الجسد وتعبيراته المختلفة، كحركة الأيدي والشفاه والفم والعينين والتنقل في الفضاء.
وهذا أمر في غاية الأهمية، فاللذة هي نقيض الفعل، فهي لا تحيل على أي شيء سوى ذاتها، لأنها تحمل غايتها في ذاتها. ولهذا السبب، ليس هناك رصد لأي نقص، وليس هناك أية إحالة مباشرة على مضمون زمني يوحي بانتقال من حالة إلى حالة، فالحالة الجديدة معطاة مباشرة مع المنتوج. إن اللذة تأتي دفعة واحدة، إنها توقف الحركة وتشل مفعولها.
وبطبيعة الحال، فإن الإدراك البصري يعتمد هنا أيضا على سنن أيقوني يسمح بمعرفة مضامين الإرساليات عبر تنسيق مجمل الوحدات الأساسية المكونة للإيماءة (10). فالغسيل، في الحالة السابقة، هو تركيب لمجموعة من الوحدات الحركية التي لا تمتلك أية دلالة في ذاتها، أي قبل التأليف فيما بينها ( فدون معرفة مسبقة بالغسيل لا يمكن قراءة الملفوظ الإيمائي باعتباره يحيل على نشاط نطلق عليه “الغسيل”).
وعلى النقيض من ذلك، فإن الإغراء نص مركب ومعقد ويحتاج إلى سننين على الأقل : سنن مباشر وهو ما ندركه من خلال التسنين الاجتماعي للإيماءات ذات البعد النفعي ( مستوى الدلالة المباشرة)، والثاني استعاري مشتق من الأول ومنفصل عنه، وهو ما يشكل مجمل الاستعمالات الاستعارية للإيماءة الواحدة ( مستوى الدلالات الإيحائية ).
وهكذا فإن البرمجة المسبقة للأفعال ( التسنين الذي يفترضه الإدراك ) تنتشل العضو من استعماله المباشر لكي تمنحه – صراحة أوضمنا – استعمالا استعاريا، وعبر هذا الاستعمال الاستعاري نحصل على المضامين المتعلقة بالإغراء. ومن هنا جاز لنا القول إن الإغراء في جوهره كوني، أما الغسيل والتنظيف فمحليان.
وهذه الملاحظة الأخيرة هي التي تقودنا الآن إلى الكشف عن تباينات أخرى بين الذات النسائية الأولى والذات الثانية. ومن جملة هذه التباينات هناك الفضاء الحاضن لمشاهد العرض والأفعال والصانع لدلالاتها المتنوعة.
لقد سبق أن رأينا أن “المرأة الأولى” تتحرك ضمن الفضاء الضيق للمنزل أوالمطبخ، أو تتحرك ضمن فضاءات لا تختلف عنه كثيرا : الباحة المقابلة للمنزل، أو الزقاق الضيق، أو سطح العمارة. وهذه كلها فضاءات مغلقة ومحدودة وتحيل على محدودية القيم المرتبطة بها. وهذا له ما يبرره، فهذه المرأة تعرض لمنتوج له علاقة مباشرة بكل ما يتطلبه المنزل.
وفي المقابل، فإن الثانية تتحرك ضمن فضاء مليء بالإيحاءات الإيجابية، فهي مفتوحة ومنفتحة على كل الاحتمالات : إنها تتجول في الشوارع (الإعجاب)، أو تتهادى في ممرات الحرم الجامعي حيث المعرفة والعلم، وحيث الشباب والانطلاق واللامبالاة أيضا (التنافس بين الأقران )، أو وسط طبيعة غناء تعج بالحياة والحيوية ( التماهي مع الأصل).
إن هذا التباين وحده يدلنا على الإمكانات الإيمائية التي يمكن أن تتولد عن جسد يتحرك في فضاءات متعددة الإيحاءات والإحالات الرمزية، وبين آخر تحاصره الغايات المباشرة، ويقبع داخل مطبخ ضيق، حيث إمكانات التأليف بين الإيماءات قليلة جدا، وحيث الدلالات الإيحائية محدودة كذلك. ولعل هذا التباين هو الذي يسمح لنا الآن بتحديد مخلفاته على مستوى إمكانات التأليف الإيمائية ووقعه على الفعل وآثاره على المتلقي.
لقد لاحظنا، ونحن نتحدث عن الحالة النسائية الأولى، أن الفعل الحركي يقتصر في إنجاز غاياته على أعضاء محرومة من أبعادها الإيحائية : اليدين والرجلين والصوت. وعلى النقيض من ذلك، فإن الحالة الثانية تقدم لنا ذاتا نسائية توجد في الصورة وفي العين وفي الذاكرة، من خلال جسد يسلم أسراره ولغاته من خلال إيماءات تسير من العينين إلى النهدين إلى الشعر والخصر والأرجل والأيدي وحركة الجسد في الفضاء :
– إنها تحرك رأسها يمينا فتتطاير خصلات الشعر في السماء، ومعها تتطاير قلوب المعجبين، وقلوب المشاهدين أيضا. ( الإشهارالخاص بأنواع الشامبوان مثلا)
– إنها تقرب الملعقة من فمها فتسبل عينيها وتغيب في لذة لا ندري أهي لذة “دانون” أم لذة من طبيعة أخرى، ومعها تغرق الشفاه في رحلة صمت رهيب. ( الإشهارالخاص بدانون ومشتقاته )
– إنها تركض وسط الطبيعة، فاتحة ذراعيها لكي تستقبل الحياة.
إن الجسد في كل هذه الحالات والأوضاع ينزاح عن نسق الاستعمال النفعي، لكي يتحول إلى شبكة من الرموز والإيحاءات الجنسية حيث لا وجود لعضو يحيل على وظيفة بعينها. فهو على العكس من ذلك يحيل على كل ما يثير النفس ويجلب النظر ويُغري ويستفز العين. ولهذه الغاية، فإن الصورة تبني موضوعها انطلاقا من “اللاتبئير”، فعيون المرأة لا تمسك بالمنتوج ولا تحدق في المشاهد، وهي لا ترى الطريق ولا تتبين الأشياء، إن عينيها تستوطنان حالة نشوة قصوى تشبه حالات الجذب أو حالات اللذة الجنسية القصوى.
إنها بالفعل حالات خارج حدود “اليومي” وخارج منطقه ومتطلباته، فالصورة تعيد صياغة كل الحدود في اتجاه تحويل الأعضاء إلى طاقة جنسية مستفزة. فالشفاه لم تخلق للكلام بل للقبل، والعين لا ترى بل تغري، والأنف لا يشم بل ينتشي، والرجلان لم تخلقا للمشي بل للرقص على أنغام اللذة، واليد لا تحمل الأعباء بل هي للعناق. إلى كل حالات الانتشاء هاته يضاف لباس المرأة ومشيتها وحالات الصفاء الوجودي المرافق لحضورها : الشمس والربيع والزهور والشوارع النقية والوجوه الباسمة.
إنه وضع يدعو إلى الافتتان بحالة لذة لا تقاس بأي شيء. فهذه المرأة لا تتحدث ولا تقطب ولا تعبس، إنها تبتسم، والبسمة وعد ودعوة إلى الفعل. إنها لا تحدق ولا ترنو ولا تختلس النظرة. إن العين تتخلص من كل أفعالها وحالاتها، لتنزاح عن المرئي والمسموع والمحسوس : تغمض عينيها لكي تتخيل كل شيء.
إن حالات الوجود هذه تبعدنا عن النموذج الأول وعن كل إحالاته، كما تبعدنا عن الإرغامات المتحكمة فيه. فهي ليست امرأة مهتمة بالوظيفي والمعاد والمكرر، بل هي للذة والإغراء والمتعة، أما المرأة الأولى فهي للمطبخ والمسؤولية وضمان الوجود.
خلاصة
لن نعيد ما قلناه سابقا، حسبنا أن نقدم في نهاية هذا المقال ملاحظتين أساسيتين تتعلقان بحالتي الوجود النسائي في الوصلات الإشهارية :
1 – إن النمذجة – وكل إدراك وكل تواصل إنما يتمان من خلال النموذج الحاضن للوقائع المجسدة – تستند في الحالة الأولى إلى جملة من التصنيفات والقيم : “الأسرة “و”الأب” و”الأم” و”الجدة” و”العامل” و”الأصالة” و”التقليد” و”الوقار” و”الصغير” و”الكبير”. فلا يمكن للفرد أن يوجد خارج هذه التصنيفات سلبا أو إيجابا. إن الذات النسائية الأولى تحضر من خلال جملة من الأدوار، وكل دور يحيل على حالة انتظار بعينها. أما في الحالة الثانية فإن النمذجة تستند إلى حالات تخص الهوية والوجود : “المرأة الجميلة”، “المرأة المغرية”، “المرأة الجذابة” ، “المرأة الشبقة”.
2 – إن هذا التمييز بين ذاتين نسائيتين هو تمييز مضمر ولاشعوري بين حاجتين تصعب المصالحة بينهما : حاجة معلنة تتعلق بالاستقرار والطمأنينة والتناسل والخلود، وحاجة مضمرة هي حاجة الإغراء والرغبة والمتعة التي لا تعترف بأي قيد. ولتحقيق الأولى نستنجد بالمحلي وكل الصور المخيالية والواقعية المتعلقة به، ولإرضاء الثانية نأتي بالوافد والغريب الذي لا ” يُذَكِّر بالزوجة أوالأخت أوالأم”.
إن هذا التمييز شبيه بتلك “الكليبات” التي تقدمها فضائيات الخليج : مطرب بعباءة بيضاء يتغنى بقيم الصحراء والقبيلة والخيام، وعلى أنغامه ترقص غادة شقراء من وراءالبحار، أما “أم العيال ” المتدثرة برداء أسود ، فلا تدركها الأبصار، إنها تقبع في البيت حافظة لفرجها وحافظة للعرض والشرف.
———————————–
الهوامش
1- David Le Breton : Des Visages, éd Métailié; 1992; p 141
2- Edward T . Hall : Au delà de la culture,éd Seuil , 1979 , p 76
3- David Le Breton :La Sociologie du corps , Que sais-je ,1992, p 33
* – إبدال : paradigme
4 – 3 David Le Breton :La Sociologie du corps , Que sais-je ,1992, p
5- David Le Breton :La Sociologie du corps , Que sais-je ,1992, p 4
6- انظر Michel Bernard : Le Corps , édition universitaire,1976 , p 124
7- Claude Bremond: “Pour un gestuaire des bandes dessinées” , in Langages 10 , 1968, p 96
8- نميز بين قيم استعمالية وأخرى أساسية، الأولى منبثقة عن الأبعاد المادية للأشياء والحاجات، فهي تحيل في مجملها على البعد النفعي والوظيفي اللذين يؤثثان ما يوجد خارج الذات، ولاتأثير لهما على الهوية الداخلية : إنها قيم تعود إلى الأبعاد الوظيفية/الاستعمالية للمنتوج ودوره في الحياة اليومية. أما القيم الأساسية فهي قيم تخص الهوية الحضارية للفرد، للمستهلك، أي ما يعود إلى ما يشكل الذات في أبعادها الوجودية.
9- انظر Edward T . Hall : La Dimension cachée, éd Seuil ,1971, p 15
10- على غرار اللسان فإن الإيماءة تتحدد هي الأخرى من خلال وحدات أساسية هي أصغر ما يمكن إدراكه. فمن أجل إنتاج ملفوظ مثل : “امرأة تصبن” نحتاج إلى سلسلة من الحركات التي تؤلف الملفوظ الإيمائي، وهذا التأليف وحده هوالذي يحيلنا على معنى تام للإيماءة.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6990