سعيدي المولودي – كلية الآداب – مكناس
1- يضعنا العنوان احتمالات” (1) في مهاوي دلالية وتأويلية عميقة وشاسعة تتحرك في اتجاهات متباينة. وهذه الشساعة هي في واقع الأمر جزء من طبيعته البنائية. فهو صيغة جمع، أي يجمع بين أكثر من”مدلول”، من جانب آخر وهو نكرة أي أنه لا يؤشر إلى مدلول بعينه. وربما اعتبارا لهاتين الخاصيتين يستعصي على القبض أو التحديد، ويحتمي بظلال امتدادات دلالية متعددة. على أنه يضعنا في كل حال في مدارين دلاليين كبيرين :
– يتصل أولهما بما يؤدي معنى المكابدة أو المعاناة وتداعياتهما. فالاحتمال “إتعاب للنفس في الحسنات” كما يقول صاحب التعريفات (2)، أي تكليفها المشقة وحملها عل الصبر والإطاقة وترويضها على مواجهة الخطوب.
– أما الثاني فيرتبط بمظاهر الارتباك والشك وغياب اليقين والثبات (3). ومن ثمة يستغرق دلالات ووقائع عشوائية تتأرجح بين مقتضيات الصدفة والضرورة، والإمكان والاستحالة من حيث إن احتمال الأشياء جزء من صفاتها الموضوعية (4).
وفي اعتبارنا أن البعد الدلالي للعنوان يختزن طاقات هذين الجذرين/المدارين وتلاوينهما المتعددة، بمعنى أنه يحمل بعضا من قيمته المعرفية الشعرية من حضورهما المباغت أو الدائم، فهو يستقطب حركة الذات بما يجسد معاناتها وأحلامها وعشقها وهواجسها، وفي الوقت ذاته يؤسس لأفق الحيرة والتردد وانعدام اليقين الذي يراوده، أفق محمل بأبعاد رؤية شمولية تتصارع حقائقها ووقائعها، وتختلط فيها الأشياء، وتتعب الذات في مناخاتها وهي تبحث عن لحظة الخلاص أو اليقين.
وفي هذا المستوى يخترق العنوان تضاريس المزج بين الذاتي والموضوعي، والكائن والمحتمل والمطلق والنسبي، ويلح على ” وجوده” المتلون الغامض تموجات القصائد التي يؤويها. وصيغة الاختراق لها مؤشراتها الفعلية إذ أنه يجتذب عناوين فرعية من مجموع القصائد. فثمة على الأقل ثلاث قصائد تتقاطع وتتماس مع دلالاته هي :
-احتمالات التراب (ص29)، احتمالات الطفولة (ص35)، احتمالات الحلم والحصار(ص41). ولعل بهذا المعنى يتخلل امتدادات القصائد في دوراتها وترابطاتها المختلفة مما يؤهله لاحتواء أفقها الشمولي.
غير أنه عمليا لا تتيسر قراءة هذا العنوان معزولا عن سياق تطور تجربة الشاعر علال الحجام، بما تستوجبه من تكامل وتلاحم وتماسك. لذاك تجدر الإشارة إلى أن طبيعة العنوان مشدودة إلى عناوين سابقة، وتختبئ في إشعاعاته بهذا القدر أو ذاك. فاحتمالات تتقاطع وتتداخل عبر دوائر وحلقات عديدة مع عنوان المجموعة الأولى للشاعر التي صدرت سنة 1975: الحلم في نهاية الحداد. فالحلم مثلا ليس إلا ضربا من الاحتمال، مثلما أن الاحتمال يمتلك كل سمات وخصائص الحلم. وكذلك الأمر بالنسبة لعنوان المجموعة الثانية ” توقعات العاشق” 1981. فالتوقع مظهر للاحتمال والاحتمال جوهر التوقع.
وتتيح لنا هذه المعطيات في النهاية الوقوف على حافة التداخل أو التآلف والتماسك والتكامل الذي تتحرك تجربة الحجام على إيقاعها، وسيرورتها التي تتغذى من أعراض التجانس ولغة الانسجام بين مستوياتها، دون أن يلغي هذا البعد عناصر التوتر أو التباين التي تفرض وقعها في كل مرة، وتشغل منطق القصيدة.
هكذا يظهر أن العنوان بقدر ما يحقق هويته الخاصة، ويحصن استقلاله، ويفتح آفاق تجاوز تسند كيانه، ينزع إلى التجذر في طقس التجربة شموليتها واستدرار رموزها وثوابتها، وينغرس في أرضيتها ليحمل شاراتها الخفية أو المعلنة.
وإذا جاز لنا أن نستجمع كل الطاقات الدلالية والتأويلية لكل هذه العناوين في بؤرة واحدة أو خندق واحد، فإن ” احتمالات ” يتجاذب صيغته عاملان أساسيان هما : التداعي والاستدعاء، استدعاء مناخ التجربة والاحتماء بمكوناته، واختراق نسيجه الكلي؛ وفي ضوئه تهطل التداعيات لتمنح رقعته صيغة علاقاتها وعناصر انسجامها وخصوصياتها.
وسنلاحظ مثلا أن الاشتغال على لفظة ” الحلم ” يتسع مداه ويواصل حضوره المتعدد في ثنايا القصائد وعروقها حتى أنه يتردد بمعدل مرتين في كل قصيدة، مع الإشارة إلى أن قصيدة ” احتمالات الحلم والحصار” كما هو واضح تجاور بين الدالين : الاحتمالات والحلم ، ويحمل أحد مقاطعها كذلك عنوان ” حلم “.
ومع أن لفظة التوقع تتراجع في هذا السياق، إذ أنها لا توظف إلا مرتين في قصيدة ” إشراقات المدينة الصاخبة ” في المقطع الثاني :
حينما جرحها الوثني استقر بقلبي
قامت رياح المحبة تحقنه
في الجبال وأنهارها
وملح التوقع يوقد جمراتها عاصفا (ص 15)
وفي المقطع الخامس :
اشتهيتك…. ثم أتيتِ
وراء حدود التوقع عاصفة (ص19)
إلا أن سياق توالجها أو تقاطعها مع الحلم أو الاحتمال، قد يغني بمعنى ما عن تصريفها أو استثمارها باستمرار، وبذلك يظل صداها الدلالي يفيض على امتدادات أو ظلال أو إحالات تجد متسعا لها في دائرة الحلم والاحتمال أو ما يرتبط بمجراهما الدلالي.
غير أن الحفر في هذا الاتجاه لا يسمح لنا بالبحث عن مظهر سافر للتطابق أو تبعية دلالة العنوان لفضاء القصائد أو التجربة برمتها، لأن هذا المظهر قد يلقي بنا في دوامة الوقوف عل السطح دون النفاذ إلى جوهر العلاقات المتوارية الخفية التي تصهر حضور العنوان في قرارات القصيدة وأعماقها وفق تجليات لا نهائية وسلسلة من التحولات في حركة العلاقات الداخلية لدلالاتها، وهي لا ترتكز على عناصر التجسيد الشائع أو التقريرية المباشرة.
2 – يؤوي عنوان ” احتمالات ” اثنتي عشرة قصيدة. يضع أحد الاستهلالات سياجا زمنيا لها يستغرق عشر سنوات تمتد ما بين 1982 – 1992. وهو مدى يحاصرالأفق الدلالي لها، ويجعله أسير تاريخ-زمن يستدرجه، وقد لا يستطيع الانفلات من قبضته. على اعتبار أن هذا التسييج الزمني يفرض سلطته ومرجعيته، ولو أن القصائد جميعها لا تحمل أو تحيل على تاريخ أو زمن كتابتها، لكنها بالضرورة تمتلك سلطة انتمائها وحقها في الارتباط بهذا المدى الزمني.
ومغزى هذا لو استبقنا الأبعاد الدلالية لمجموع هذه القصائد أن تفاصيل هذا المدى الزمني وانشغالاته لا تكف عن الحضور المشع في امتداداتها وتقف في مهبها متدثرة بلغاتها وإنجازاتها. وبمعى آخر، فإن هذه التفاصيل تسم حياتها وتملأ أرجاءها، دون أن يؤشر هذا الوضع إلى أن القصائد بهذا المستوى لها بداياتها ونهاياتها وإن إيقاعاتها تحكمها التبعية. ومن ثمة قراءتها باعتبارها مدى دلاليا مغلقا مشبعا بخطوط محاكاة باردة، ومتلبسا بحدود وملامح تاريخية وزمنية مرسومة. إذ أن استطالات الزمن الشعري تستدعي بالضرورة الماقبل والمابعد، وتربط صيرورته بمسافات ومساحات شاسعة لا نهائية.
وقد يتيح لنا هذا السياج الزمني من زاوية أخرى أن نراهن على تمثل بعض الثوابت أو مرتكزاتها الجوهرية. وما يمكن أن تحمله من اختراق أو انسلال واحتلال لأغوار القصائد دون أن تتوحد طرائق حضورها أو صيغة تجليها هنا أو هناك. فهذا المدى الزمني مثلا يحيل على حقبة حبلى بالتحولات والانهيارات والانكسارات والتغيرات الرهيبة التي زلزلت كيان العالم، واهتزت لها أرجاؤه. وفيها تداعت كثير من القيم والمثل المتوهجة وانهارت قارات من أحلام كانت تستهوي الأجيال، مما أثار موجات متصاعدة من الغضب الحزين والاحتمال المقلق والدهشة والسؤال، واستوى قطب الرأسمالية على عرش العالم. وتصاعدت وتيرة الصراع حول منابع النفط التي أضرمت ثارات حرب الخليج الثانية الدائمة وترسخ منطق الحصار كسلاح متقدم للقهر وإذلال وإبادة الشعوب…. ويتوازى ذلك مع خلفيات أو تجليات الصراع في بلادنا والمخاضات والتفاعلات الاجتماعية المصاحبة. كما يمكن مثلا أن تجسدها أحداث يناير 1984 ودجنبر 1990 وسواها. وقد لا نعدم إضاءات تنير هذا الاتجاه في قصيدة “احتمالات الحلم والحصار” مثلا. وهذه الإحالات على دجنبر :
عجبت من إغفاءة النشرات
لما تسكر الجمرات ثم تصول
حاكمها التراب الغض
تذبحه ثلوج دجنبرالقاسي
وفي مكناس شمس لم تذب مقدار خردلة من البرد
فأغرقها الطمى الموبوء باليأس ( ص 70)
أو:
دجنبر أحزن الأيام تذرف
دمعها المدرار في مجرى مآقيه
وفي آثار وقع خطاه
تحفر خندقا في ظلمة التيه ( ص73)
هكذا يبدو طبيعيا ومفترضا أن يكون لظلال هذه الأحداث حضورها الكثيف، تعلو نبرتها أو تخفت لكنها بالضرورة تهبط إلى قرارة الدلالة وتتزيأ بتلاوين غير محددة أو تتحول إلى إشارات عابرة غامضة تظل تومض عبر تضاريس القصيدة، وتمنحها دفقها اللامرئي، فيها تؤسس وجودها على أنقاض العلائق الخفية القائمة بين الذات والموضوع ( الواقع ) واختلالاتها الممكنة.
على أن هذا لا ينبغي أن يحملنا على توهم أن عناصر أو مظاهر تجليات هذه الظلال ستطفو على السطح بشكل سافر أو صارخ إذ أن لها قدرتها على التخفي والمخاتلة والخداع.
في هذا المستوى ينهض التسييج الزمني عامل وحدة وخيطا حميميا يصل بين أبعاد القصائد وتوجهاتها الدلالية المختلفة ويحقق بأي شكل من الأشكال تناغمها وتقاطعاتها.
3 – من الوجهة التشكيلية أو الشكلية كل القصائد قصائد مقطعية عدا واحدة. ويختلف عدد المقاطع من قصيدة إلى أخرى. فقصيدة ” إشراقات المدينة الصاخبة ” يبلغ عدد مقاطعها عشرا ، قصيدة ” ليت للبراق عينا ” سبعة مقاطع. و”احتمالات الحلم والحصار ” ستة مقاطع، وقصائد “مكاشفة أولى ” و” باب الرحيل” ، و” عطش الماء ” و” في ساحة التحرير ” خمسة مقاطع ، أربعة مقاطع، وقصائد ” أول السفر ” ، ” احتمالات الطفولة ” و” أنا لي ملكوتي ” ثلاثة مقاطع، و” احتمالات التراب ” ثلاثة مقاطع.
وليس ثمة ما يشير إلى أية معايير تبرر هذا التفاوت في التشكيل غير بناء القصيدة ذاتها وطبيعة تضاريسها وفضاءاتها الخاصة. أي أن عملية الاتساع هنا هي سياق بنائي يرتبط بحركة النسيج العام للقصيدة، وحركة إيقاعها الكلي، وليست مشروطة بنظام أو ترتيب خاص، وبهذا تؤسس كل قصيدة شكلها وتتعدد ملامحها انطلاقا من إمكاناتها وانشغالاتها الخاصة التي تهيئ لها قدرها الشكلي الحتمي.
وأهمية التشكيل المقطعي تنبع من كونه يفسح المجال أمام إيقاعات القصيدة وتقابلاتها لتشق طريقها ودفعها إلي الأمام في محاولة لاستيعاب تطوراتها الدلالية. ثم إنه يحرر القصيدة من نوبة الانغلاق أو الرتابة ويسمو بها نحو التصعيد والنمو المضاعف ويخلق مجالا خاصا أو يؤسس بناء خاصا لكل مقطع على حدة ويوجه حركته وأسلوبه. ثم هو يصون موسيقى القصيدة من الانكسار ويوفر لها إمكانات إيقاعية جديدة، ويمكنها من الفكاك من القافية الموحدة حيث تسهم القوافي المتغيرة أو الموحدة أحيانا في إبراز عناصر وتجليات الإيقاع بشكل أكثراختلافا وتباينا. ومن خلاله يتم التعبير غالبا في كل مقطع عن فكرة واحدة يتولى المقطع الشعري الموالي تطويرها أو تجاوزها أوالانتقال بها إلى مستويات أخرى.
وفي ظل هذا الوضع التشكيلي تصبح القصيدة معتركا ( أو ملتقى) لمشاهد ولوحات يمثل كل مقطع مشهدا قائما بذاته في الوقت الذي يمهد فيه للمشهد الذي يليه، ولاتستوفي القصيدة طاقاتها إلا عبر استيفاء تفاعلات هذه المشاهد جميعها حتى لتكاد تمثل في نهاية المطاف مجموعة من قصائد متعانقة متشابكة تتجمع تفاصيلها على ضفافها.
وتتفاوت المقاطع من حيث حجمها من قصيدة إلى أخرى، حيث تنهض على خصوصيات متفردة لا حصر لها هي ما يحكم تموجاتها، امتدادها أو انقباضها وطولها أو قصرها. وتلعب تقنية التشكيل هنا دورها البارع في توجيه حركة الكونين الأبيض والأسود، وهي حركة لا تخضع كذلك لمعيار ثابت، وإنما هي خاضعة لسلطة تحولات القصيدة ومكوناتها وحركة إيقاع السطور الشعرية وإيقاعات الدلالة الكلية. وعلى العموم يسوغ القول إنها غالبا ما تسير وفق حركتي المد والجزر. حيث تتفاوت مظاهر ومراحل استغراق البياض للسواد أو السواد للبياض من قصيدة لأخرى ومن مقطع لآخر، كما تتفاوت تموقعات كل منهما على أديم الصفحة، وتتنوع علاقات التجاذب التي تعضد وجودهما معا. ومن البديهي الإقرار بأن طاقة حس تشكيلي خاص مبيت يحكم سيرورة تطور شكل القصائد ورسم مداراتها وفضاءاتها بما تعكسه نمطية الاستغراق أحيانا أوالتناوب أوالتوازي أو التقابل التي تؤازر حركة البياض والسواد في مستويات قارة ومتقلبة، وهو أمر يستحق الدرس والفحص العميق.
وأغلب القصائد على الرغم من تشكيلاتها المقطعية، تتعلق أو تتحصن بعنوان رئيسي واحد، حيث إن توزيع المقاطع لا يتم إلا عن طريق الأرقام وفق ترتيبها التصاعدي بطبيعة الحال، وهذا المنحى يؤكد إلى درجة ما الهيمنة الكلية أوالمطلقة للعنوان الرئيسي واختراقه المفترض لحركة امتدادت القصيدة وتطورها الدلالي. ويؤشر أيضا إلى أن حركة الدلالة تصاعدية تتجه من السفح إلى الذروة ومن البسيط إلى المركب وتتأسس على اهتزازات متباينة تتجمع كروافد تضع ثقلها في النهاية في بؤرة العنوان. كما أن تقنية اعتماد الأرقام يضعها في دوامة التجريد ويفتح باب التأويل والاحتمال وتوجيه مسار القصيدة في مسالك ومنحنيات دلالية متعددة .
وثلاث قصائد فحسب هي التي تعتمد في تمييز مقاطعها عناوين فرعية هي : ” احتمالات الحلم والحصار” و” أنا لي ملكوتي ” و” في ساحة التحرير” . على أن ترتيبها ينبني على وضع الأرقام بشكل تصاعدي دائما . أي أن موقعها في معمار القصيدة محكوم باستراتيجية خاصة تتصل غالبا بهواجس معينة للوصول إلى بناء حقيقة القصيدة. ويكون العنوان الرئيسي في هذه الحال مجمعا أو جماعا لعناوين خاضعة لإرادة توزيع وتصنيف وتنظيم دقيق.
وبين العنوان والقصيدة غالبا لا تتدخل أية عوامل خارجية (إحالات أو استهلالات ) يمكن أن توجه القارئ إلى مرامي القصيدة وأبعادها، عدا قصيدة إشراقات المدينة الصاخبة التي تتدخل فيها تقنية الإهداء لتحدد مدار الانطلاق ومحطة الوصول.
من الناحية التركيبية يمكن توزيع صيغة بنية العناوين إلى هذه المستويات :
– العناوين المفردة : وهذه الصيغة البنائية أو التركيبية تتعلق أصلا بالعناوين الفرعية وهي سبعة، خمسة منهاء معرفة بـ “الـ” ، واثنان منها نكرتان ( الشاهد الرحلة، الحصار، المرأة، المتحف/ذاكرة، حلم ).
– العناوين المركبة وهي عناوين إما في صيغة جمل ومنها : “وأنا لي ملكوتي”، “سآمرهم إذا سمعوا”، “ليت للبراق عينا”. أو مركبات وصفية، وتقوم على صيغة موصوف + صفة : “لحظة عابرة”، مكاشفة أولى”، “المدينة العاشقة”. أو مركبات إضافية ، وتتألف من المضاف والمضاف إليه وبعض متعلقاتهما، وهي الصيغة الأكثر سريانا واعتمادا حيث إن سبعة من العناوين الرئيسية : “أول السفر”، “إشراقات المدينة الصاخبة”، “احتمالات التراب”، “احتمالات الطفولة”، “باب الرحيل”، “عطش الماء”، “احتمالات الحلم والحصار”. وستة من العناوين الفرعية : “أول الغيث”، “زهرة البراري “، “رؤيا جلجلمش “، “ردة بسطام في مراعي نفطويه”، “أمام تمثال بدر شاكر السياب”، “أمام جدارية فائق حسن”، تنهض على صيغة هذا التركيب.
ويمكن القول إن الحقل الدلالي الذي يستقطب اتجاهات العناوين على وجه العموم هو الحقل الصوفي حيث تتسع ذاكرة كل عنوان لتلتقط من مداه بعضا من تجلياتها، والاتكاء على طبيعة التأويل الصوفي يمنح الدلالة عبر العنوان والقصيدة معا نبضا خاصا مسكونا بالدهشة، وفاعلية إخصاب متجددة تحمل اللغة على تجاوز ذاتها وتفجير علاقاتها في كل اتجاه. وهذا ما يمكن أن تشير إليه هذه الدوال : احتمالات ، إشراقات ، مكاشفة ، ملكوت ، الشاهد ، رؤيا ، حلم ، ردة ، أول السفر … وينبغي تبعا لهذا أن تسند هذه المرجعية كذلك أسلوب المفارقات الذي تنهض على أساسه بعض العناوين : عطش الماء، لحظة عابرة، المدينة العاشقة …
وجدير بالإشارة هنا أن بعض العناوين تتردد في صلب بعض القصائد بشكل عادي قبل أن يتم احتواؤها واقتيادها إلى واجهة العنوان، عطش الماء مثلا يتخلل المقطع الأخير من قصيدة احتمالات التراب :
أيا عطش الماء
قاوم هجوم الرمال
أو اغرس بكثبانها
نخلة تستفز الدمارا (ص 40)
قبل أن يتربع عرش عنوان قصيدة بكاملها.
وقد يعكس هذا بشكل أو بآخر طقس اختراقات العنوان وعبوره لامتدادات القصائد وأفق الترابطات العميقة التي تؤلف بين سياقاتها الدلالية وتوحد بين مستوياتها واحتمالاتها.
4 – أما الإيقاعات التي تؤوي مجموع قصائد الديوان فهي متعددة، تنهض سبعة منها على إيقاعات المتدارك والمتقارب وهو ما يمثل النسبة العليا، وثلاثة منها على إيقاعات الرمل، واثنتان تعتمدان إيقاعات الوافر. وتوظف إيقاعات المتدارك والمتقارب في سياق من التنوع غير متوازن حيث تكون الغلبة لهذا أو ذاك تبعا لضرورات تشكيل القصيدة وبناء عمرانها مع ما يمكن أن ينشأ في ظل إيقاع أي منهما من تداخل أو انحراف أو انحياز إلى ظلال الآخر وهي ظاهرة تؤازر موسيقى المقاطع أوالقصائد على اكتساب نمطية إيقاعية جديدة تنتشلها من الرتابة أوالانكسار.
أما الإيقاعات الأخرى ( الرمل، الوافر) فإنها وظفت بشكل موحد في كل مراحل القصائد التي تؤويها رغم تعدد مقاطعها وتباينها .
ويتجلى من طبيعة هذه الإيقاعات ( الأوزان ) أنها جميعها بسيطة أو صافية، إذ تقوم على وحدة إيقاعية واحدة ( تفعيلة )، وتغيب بذلك صورة الإيقاعات المركبة أو تشكيلاتها، وهذه هي السمة الكبرى التي تحكم القصيدة العربية الحديثة كما هو معروف. إذ إنها تجاوزت سطوة الإيقاع الخارجي الهادر والصاخب لمقتضيات البحور العربية الفخمة الصارمة، وفسحت المجال أمام الانفكاك من مغبة الرتابة في الإيقاع، وضمن سيرورة البحث عن إيقاع يتيح للقصيدة الحديثة أن تخلق شكلها الملائم لها.
وتكاد القصائد جميعها تحافظ على وقع القافية باستمرار، لكن دون الالتزام بإطار ثابت ومتصلب لها، إذ تنهض بدورها على طاقة التنويع والتغيير تبعا لتغيرات منحنيات الدلالة وتطور أبعادها.
5 – استرعاني في احتمالات الاشتغال المتميز على قيم العناصر الأربعة : التراب والماء والنار والهواء، ورموزها. وبعض القصائد تنبني حياتها على احتمالاتها واستقراء أبعادها الحضارية، فهناك مثلا قصيدة احتمالات التراب، وقصيدة ” عطش الماء”. وهي مؤشرات تحيل بالضرورة على سياق احتواء هذه العناصر وانتزاعها من تاريخها الأسطوري والرمزي واستعادة تأثيراتها الدلالية البعيدة.
من هنا يمكن إدراك المفارقات التي ينتظم فيها سياق التضاد أو التنافر القائم بين هذه العناصر : “أوقدي الماء”، “أيا عطش الماء”، “نار تطفئ الأنواء”، “شلال نور”…
والاشتغال على هذه العناصر كذلك هو ما يبرر الحضورالشاسع لظلال ملحمة التكوين البابلية التي نصادف غير ما مرة لمحاتها وآثار أبطالها ( عشتروت وجلجامش) وربما كان هذا صيغة استدراج لأساطير الخلق الأولى وتوظيف عناصرها في أنساق جديدة تتشابك فيها وتتنافر الإشارات والعلاقات والصور … وفي تقديري إن هذه الظاهرة تحتاج إلى مزيد من الاستقصاء والبحث انطلاقا من امتدادات تجربة الشاعر علال الحجام وتطورها العام .
—————————————
الهوامش
* نص العرض الذي ساهم به صاحبه في الحلقة الدراسية التي نظمتها شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، بمكناس حول قراءة الديوان علال الحجام : “احتمالات”
1- علال الحجام : “احتمالات” ط 1 سنة 1998
2- الشريف علي بن محمد الجرجاني : التعريفات، دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 1988. ( مادة : الاحتمال ).
3- يقول صاحب التعريفات أيضا : الاحتمال ما لا يكون تصور طرفيه كافيا بل يتردد الذهن في النسبة بينهما ويراد به الإمكان الذهني . نفسه ، مادة الاحتمال .
4- انظر بهذا الخصوص : مادة : منطق الاحتمال ونظرية الاحتمال، الموسوعة الفلسفية بإشراف : م . روزنتال و ب . يودين . ترجمة سمير كرم ، دارالطليعة بيروت ط 6 ، 1987
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6997