الدلالة المبتورة قراءة في تاريخ انفصال الدال عن المدلول

Bengrad
2021-06-04T11:38:43+00:00
العدد الثاني عشر
17 أغسطس 2020374 مشاهدة

عبد الستار جبر الأسدي – بغداد – العراق

1 – … ليس المهم من أين يبدأ الشرخ في المرآة، المهم هو حدوثه، كذلك الأمر بالنسبة للأرضية الثابتة التي يقف عليها كل من الدال والمدلول في علاقتهما المتبادلة، والتي تستند حسب التقنين السوسيري للغة إلى أن يكون الدال مدخلا للمدلول وهو الذي يحيل عليه، وفي الحقيقة فإن الأمر يأخذ نوعا من الاشتراط الحتمي وكأنه أشبه بقانون دلالي، فكل دال يحيل على مدلول، لأن مقتضى كلمة دال يعتبر ناقصا ومتعديا إلى مقابل آخر هو كلمة مدلول، والدال ذو طبيعة إشارية فهو بحاجة إلى المدلول عند ذكره وتواجده على المستويين اللغوي والوجودي، وإلا لانتفى الغرض الدلالي والتسموي من ذكر دال بلا مدلول أو مدلول بلا دال، وقد سجل التاريخ المعاصر في المجالات اللسانية والأدبية والسيميولوجية محاولات عديدة لتكوين القطيعة الدلالية بين الدال والمدلول وتعميق الانفصال والطلاق بينهما، وقد سعت هذه المحاولات إلى فهم أواصر العلاقة بين قطبي الدلالة الأساسية وتغيير الأطر الثابتة لعلاقتهما وتاريخهما الدلالي الذي كان يتمتع بحسن جوار متوافق بين كل منهما، وقد شهدت الدراسات الحديثة مناوشات متفرقة في هذا المضمار ارتأينا تتبع اتجاهاتها الزاحفة لزلزلة جغرافية وتاريخ هذين العنصرين في مجالين هما الأدب وعلم الدلالة بالرغم من ضمور مساعي الترجمة العربية لهذه الدراسات المعاصرة وتعثر بعض منتجاتها في توضيح المصطلحات وكشف النص بلغته البيضاء بدلا من الرمادية التي نراها ونتلمسها في كثير من محاولات مترجمينا الأفاضل، والغاية ليست تصحيح مسار اتجاهات متفرقة قطعت شوطا بعيدا في حفر خنادق الإنفصال في تربة هذه العلاقة، ولكن رسم أطر واضحة لأهم الاتجاهات وربط خيوطها المتشابكة في عقدة يبدو أنها انطلقت وتفرعت منها جميعها، وقد ضيقنا على أنفسنا الخطوات، ففي المجال الأدبي حصرنا دراستنا في جنسين أدبيين هما الشعر والرواية، أما في مجال علم الدلالة فقد اقتصر بحثنا على المدخل العام لمفهوم العلاقة اصطلاحيا، توخيا في ابراز صورة واضحة لما يجري في مرآة هذه العلاقة التي تعكس ذوبان الجليد وانجرافه بعيدا عن ضفاف كل من الدال والمدلول وتآكل بنيتهما الدلالية…

2 – لنرسم لخطواتنا بداية المسافة انطلاقا من التقنين الدلالي للغةالذي قام به سوسير باعتباره الكلمة دالا ومعناها مدلولا : بل حدد المدلول بمدى أوسع من نطاقه المعجمي وأطلقه في فضاء الدلالة السايكولوجية بارتباط التصور النفسي للكلمة لما تحمله من مفهوم يحدده هذا التصور، فهو بدلا من أن يعطي الكلمة مطلقية التشكيل الدلالي، سحب بساط السلطة من تحت قدميها وأسنده للتصورات النفسية والمقصود بها الفهمية على المستوى الذهني الشخصي، فعلى حد مثاله المتداول لن يكون مدلول كلمة ثور هو الثور كحيوان بكيانه الوجودي وانما صورته النفسية وهذا ما تتفق عليه اللسانيات عموما كما يشير إلى ذلك بارت في كتابه >مبادئ علم الأدلة<(1) ص 71، وهو يؤكد على ملاحظة مهمة تتعلق بالعلاقة التشكيلية بين الدال والمدلول في مجالهما اللغوي مشيرا إلى متانة هذه العلاقة ومدى ثباتها المعجمي والاجتماعي : >يستحيل علينا عندما يتعلق الأمر باللغة البشرية أن نفصل المدلولات عن الدوال<(2) / ص 68 ، لكون الدوال ليست كيانات قائمة بحد ذاتها لا تملك استقلالا ذاتيا، إنها باستمرار وعلى الدوام تمد اصبعها للإشارة إلى وجود مدلول يكمن خلفها، وهي لن تكون أكثر من تشكيل لفظي وكتابي بدون مدلول يسند وجودها اللغوي اللساني، لكنه في مجال آخر يرى أن هذه العلاقة الثابتة في مستواها اللغوي تتعرض لعوامل تغيير في بنيتها الدلالية في المستوى الأدبي داخل التجنيسية المختلفة وعلى رأسها قرنه الجهنمي : الشعر، ويرى أن هذه العلاقة تنزاح وتتحول استجابة لتحديدات الاديولوجية الجمالية < (3)، خاصة في فترة محددة من تاريخ الأدب الفرنسي تناولها في كتابه، >درجة الصفر للكتابة< حسب تتبع ايجلتون له في ذلك : لكن بنفنيست (وقد سبقه سوسير) يرى أن هذه العلاقة في مستواها اللغوي هي علاقةاعتباطية في تشكيلها الدلالي،(4) فهو لا يتصور أن هناك علاقة منطقية أو من نوع أكثر توحيدا وذي طبيعة ثابتة بين صوت ثور وعلاقته بالحيوان ثور، فلو كان الأمر كذلك لاتفقت جميع اللغات البشرية على كلمة واحدة تدل على الحيوان نفسه، والأصح سينتفي تعدد اللغات البشرية في توحدها الصوتي فلن تكون هناك سوى لغة بشرية واحدة ذات دوال واحدة قائمة على التشابه الصوتي ، غير أن الملاحظ في تعدد اللغات اختلاف الدوال وتشابه المدلولات تقريبا ، وهذا يعني أن الدوال تمتلك بنية ذات طبيعة وظيفية تتخصص بالإشارة إلى واقع تعمل عليه هو المدلولات التي تأخذ الحيز الثابت في كيانها الوجودي على العكس من الإختلاف الوجودي للدوال في طبيعتها التشكيلية صوتا وكتابة، فعندما أقول (ox) باللغة الأنجليزية و (ثور) باللغة العربية يفهم على الفور أنهما تعنيان الحيوان ثور، فقد ظل الحيوان ثور (المدلول) القاسم المشترك بين كلمتين مختلفتين لفظا وكتابة / دالين مختلفين لمدلول واحد/، فماذا ينتج من ترجمة موحدة لجميع اللغات البشرية؟ دوال مختلفة ومدلول واحد فقط، لكن سوسير أراد انفتاحا أكثر لهذه العلاقة اللغوية غير المتوازنة، فحاول كسر هيمنة المدلول على الدوال، وجعل للدوال ظلالا دلالية يكونها مصدر نفسي هو الشخص المستقبل للدال /الكلمة، فنقل المدلول من رقعته الثابتة معجما وسوسيولوجيا إلى حرية الفضاء السايكولوجي، وتنفس الدال منافذ جديدة لمدلولات مختلفة وليس لمدلول واحد فقط، فقد تعني كلمة ثور عند شخص ما وعند شخص آخر وآخر المدلولات التالية : 1- الحيوان ثور، 2- مصارعة الثيران ، 3-ا لغضب والعصبية، 4 – الهمجية، 5 – القذارة، ومدلولات أخرى، غير أن شتراوس قرب مجهره النقدي أكثر على شريحة هذه العلاقة فلم يأخذ بتصور بنفنيست وسوسير الإعتباطي لها بل رأى أنها علاقة ضرورية (5) لكونها تمتاز بعاملين : أ- تطابق الدال مع المدلول، وضرب لها مثلا خارج المجال اللغوي وهو نظام اشارات المرور : فالضوء الأحمر لا يعطي مدلول التهيؤ الخاص بالضوء الأصفر، فلكل ضوء دوره الدلالي الذي يتطابق فيه الدال مع المدلول، وكذلك نرى نحن أن الأمر نفسه في المجال اللغوي فلا يمكن لكلمة ثور أن تعني أو تشير إلى القلم كمدلول مادي، فلكل كلمة موقعها الخاص الذي لا يؤديه غيرها من الكلمات في الاشارة إلى المدلول، وكل كلمة تحمل مدلولها الخاص . ب – الدور المتبادل بين الدال والمدلول، فالدال يشير إلى مدلوله، والمدلول يختار داله لفظا وكتابة.

والحال ليس كما هو عليه في المجال الأدبي، فالعلاقة بين الدال والمدلول يدب فيها الصدع ويصيبها التزعزع، وتبدو الأمور وكأن كل واحد منهما يحاول الانفصال عن الآخر وينادي بالاستقلال الشخصي، وقد تغدو الأمور بشكل آخر وكأن كلا منهما يسعى جاهدا ومكافحا للتفوق والهيمنة على الآخر والحصول على كرسي السلطة الدلالية، بل ويصل الأمر إلى نفي الآخر والحكم بإعدامه وإلغائه من الوجود الدلالي والإشاراتي، فجاكسون من مؤيدي وأنصار الدال ومن المتحمسين لترشيحه لمنصب الرئاسة الدلالية، فهو يرى أن فن الكتابة الذي يمهر فيه الكتاب هو الوسط الذي يتأسس ويبرز فيه الدال كلغة خاصة لا تحتاج إلى المدلول، إنه فن الدوال المحض لا فن المدلولات، أما بارت الذي يرفع الراية بعد جاكوسون ويدلي بصوته لصالح الدال فهو يصنف بصورة أكثر تحديدا بين الكاتب والمؤلف مؤسسا الفرق والاختلاف بينهما ليس على حساب الإنتاج بل على لغة كل منهما،(6) فالكاتب في نظره هو من يُحَمِلْ على كواهل لغته أطنانا من لافتات المدلول التي تشير إلى ما يكمن وراء لغته وما يريد قوله من خلالها وعلى حد تعبيره يكون عنده فعل الكتابة متعديا ينقل القراءة إلى العالم الذي يقبع خلف كلماته /كتابته، أما المؤلف فهو على النقيض تماما حيث يبني لغة مستعملة لا تشير إلى أي شيء وراءها، لغة دوال ليست بحاجة إلى مدلولات، وتكون كتابته تأليفا لازما غير متعدي، لذا يمنحه بارت هوية مؤلف وليس هوية كاتب كما سلمها له من قبل جاكسبون : ولا يكتفي بارت بالتصنيف والتحديد بين المؤلف والكاتب باعتبارهما منتجي نصوص، بل يطال قلمه الناقد حيث يعتبره منتجا يعمل على نص يمتلئ فضاؤه بالدوال المستقلة ولكنه يمنحها مداليل جديدة على حد زعمه، إنه يهب الناقد قدرة دلالية واسعة وخارقة تجعله يخترع مدلولات لنص يرفض المدلول كما يشير بنفسه إلى ذلك، (7) ويطلق على اللغة المشتركة التي لا تحتاج إلى المدلول بين المؤلف والناقد : فن الدوال، ويشرك موسيقى الجاز كفرع من هذا الفن الذي يتكون وجوده بصورة كاملة من طبيعة حالات فقط لا غير، فهل غاب عن بارت أن الموسيقى يترجمها المتلقي إلى أحاسيس ووجدانات مختلفة يتأثر بها حسب طبيعتها التركيبية والإيقاعية وما تخلقه من مناخ نفسي؟ وهذه الاستجابة المختلفة من المتلقي للموسيقى هي المدلولات التي أفرزتها عند نفاذها من خلال موشور التلقي، كذلك الأمر بالنسبة للمؤلف الموسيقي أوالملحن فموسيقاه التي يبتدعها هي ترجمة واعية أو لاواعية لأحاسيسه الشخصية أو تأثيره بحالة ما، ففن الموسيقى ليس في حقيقته سوى فن مدولالات يصنعه الموسيقي ويستلمه المتلقي ليشارك الاحساس بهذه المدلولات المعزوفة موسيقيا، أما سطح النوتات الموسيقية فهي ليست سوى مفاتيح تؤدي وظيفة الترابط الإستعمالي كرموز لطريقة الاستخدام الترتيبي آلات الموسيقية، وهي التي يمكن اعتبارها دوال كالكلمات التي تشير إلى مدلول ما يرتبط بكيانها التشكيلي…

إن إعلان جمهورية الدال الإنفصالية دعمته وتوجت ثورته حركة الشكلانيين الروس، في بحثهم عن لغة مطلقة تحاول التخلص من كل التبعات الدلالية لتؤسس وجودها المركزي فقط، وقد عثروا على ضالتهم في الشعر كلغة أصبح همها الكلي في تاريخها الحديث أن تكون لغة دوال فقط بلا مدلولات، كما بين ذلك شارحهم المعروف تودوروف في تساؤلهم المستمر عن اللغة التي لا تحيل إلى أي شيء خارجها؟(8) وهي >اللغة المختزلة إلى ماديتها وحسب إلى أصوات أو أحرف< إنها كما يسمونها >اللغة التي ترفض المعنى< والمسألة هنا تدعونا إلى طرح تساؤلات مضادة، هل يمكن تصور كلمة ليس لها معنى أو مفهوم معين؟، إن تجريد الكلمة من معناها يعني سلب ديمومتها التواصلية والمعجمية والنفسية وتحويلها إلى هيكل تشكيلي لفظيا وكتابيا يسقط التعارف عليه لأنه بلا فائدة أو جدوى وليس له بنية وظيفية ما، قد تصبح له طبيعة جمالية فقط كخط أو كصوت لكنه سيغدو معزولا في خانة البروزة الفارغة ليس إلا، وبالتالي فإن اللغة التي تتألف من كلمات فقط بلا معاني هي لغة الفراغ، اللغة الصفر، أو لغة العدم الدلالي لأنها لا تشير إلى كينوتها الأخرى التي لا غنى عنها لها، أما لغة الشعر فهي موضوع تناولنا القادم…

3-… يرى أحد أتباع الشكلانيين الكبار، وأحد أهم المتصدرين لقائمة منظريهم الأساسيين جاكبسون أن جوهر الشعر يتميز ببنية ولغة خاصتين لا يقومان على وظيفة التوصيل التقليدية التي اعتاد عليها الشعر في مراحله السابقة وتاريخه الذي شهد تحولا جذريا في الحقب المعاصرة(9)، فهو يرى أن الاتجاه الدلالي للشعر يتأسس على الكلمة ككيان ذاتي مستقل ومتوحد بلا محمول تقليدي أو نفسي معين وبلا إشارة خارجية لأي غرض كان أي بلا مدلول، فهو يقول : >تتجلى الشعرية في إدراك الكلمة لا ككلمة ولا كمجرد بديل عن الشيء المسمى ولا كتفجير لعاطفة، إنما تتجلى لا في كون الكلمات ونحوها ومعناها وشكلها الخارجي والداخلي علامات لا مبالية للواقع في كونها تملك وزنها الخاص وقيمتها الذاتية، (10) إنه يجرد ويسلب الكلمة من جميع خصائصها المادية كتشكيل لفظي-كتابي، ومن سماتها الروحية باعتبارها ترتبط إشاراتيا وتمثيليا بمعني خاص بها لا يمتلكه سواها في البنية الكلية لوجودها اللغوي، فما هو وزن الكلمة بلا معناها؟، وما فائدة أن تصبح الكلمة خالية الوفاض من طبيعتها الوظيفية في حمل المعنى والإشارة إليه والتي من خلالها أصبح لها كينونة وماهية وجودية وديمومة تواصلية، هذا الإستلاب الذي تعانيه الكلمة يفرغها ويعزلها بعيدا عن حيويتها التداولية ويجعلها تقاسي اغترابا دلاليا عن ارتباطها الجذري الأصولي، بل يحولها إلى هيكل عظمي كتابي ولفظي محنط في قالب ميت، فأن أتلفظ بكلمة ثور أو أكتبها ولا تمثل لي الحيوان ثور فهي ستكون أشبه بأي تلفظ عشوائي أتفوه به مثل نوس مثلا ولا تعطيني أي معنى ما، فأية قيمة ووزن خاصين سيكون لها إذن؟…

إن التغيرات الانعطافية في مسار الشعر حديثا وتحوله من اللغة الخارجية إلى اللغة الداخلية، اللغة التي واجه بها نفسه ورفض أن يصبح فيها وعاء مستهلكا يمتلئ بمواضيع ومداليل تفرضها عليه روافد خارجية تحكمه في سياقات التعبير والاستخدام الأداتي كوظيفة توصيلية يتكرس همها فقط في تكوين جمالية تتوحد من أجل الموضوع المراد التعبير عنه، وليس من أجل الصياغة فقط، فالانتقالة الثورية في المسيرة الشعرية تمت من الاهتمام بالموضوع أو المدلول على حساب صياغة التراكيب العباراتية إلى الانصباب الغزير على تقنية الصياغات اللغوية، على الدوال، ولكن هذا لا يعني أن اللغة الشعرية المعاصرة هي لغة دوال فقط بلا مداليل، لأن كل كلمة تأخذ موقعها في العبارة وتعطي مدلولا جديدا مغايرا من خلال تشكيلها في النسق اللغوي، فبول ايلوار عندما قال في قصيدة له >الأرض زرقاء كبرتقالة< لم نتلقها بلا مدلول بل على العكس أثارت فينا مدلولات متعددة أضفاها عليها تركيبه اللغوي اللامألوف، فهو قد يعني أن الكرة الأرضية تشبه البرتقالة شكلا لكنها تختلف لونا عن لون البرتقال الطبيعي والمفروض أن يكون التشبيه على أساسه، وقد يدل على أن الأرض برتقالة زرقاء غير واقعية ولكنها نفسية في لا وعي الشاعر، فقد يكون للون الأزرق بالنسبةله علاقة الاطمئنان والهدوء والراحة الطبيعية التي تشعره بتماثل الأرض والبرتقالة ولكن من خلال لونه المفضل، وربما العكس المناقض تماما، فقد يكون الأزرق لونا مكروها ومقززا بالنسبة له، ومزاجه المضطرب أحاله إلى هذا التشبيه المعاكس الذي ربط به الأرض بالبرتقال، ولعل الأمر كله لا يعدو أن يكون لعبة شعرية يقوم بها من أجل إدهاشنا فقط أو محاولة للعصيان والثورة على الأبنية اللغوية التقليدية ومحاولة تغييرها بأية صورة مضادة، ولكن بالرغم من ذلك وفي كل الأحوال فإن في أي مكان تحفر المسحاة يخرج ماء، هذا هو حال أي بناء لغوي كان ونتيجة أية صياغة عباراتية، فإن وليدها هو مدلول قد يكون مختلفا ومتناقضا وغير مفهوم أو صعب التلقي، إن هذا الاهتمام بتشييد صروح الأبنية اللغوية على حساب القصدية الدلالية وانجرافا وراء المجانية الدلالية التي تتيحها سلاسة الاستخدام والاستعمال العشوائي للدوال في اللغة الشعرية المعاصرة أغرى جاكوسون وغيره وجرهم أنواره السطحية الباهرة إلى الإعلان عن قيام جمهورية الدوال المستقلة على أرض الشعر: الجنس الأدبي الأشهر ذيوعا والأرحب فضاء وحرية في قبول الحركة الجديدة غير مبالي بانعكاس نتائجها الدلالية على واقعه الأدبي في مرحلته الراهنة والمراحل القادمة من تاريخه على المستوى النصي حيث ستتيح هذه المجانية الدمقراطية بأن تفتح الأبواب على مصاريعها لكل من هب ودب لأن يكتب شعرا، لن يكون أكثر من نصوص ذات بنية تلاعبية بتشكيلات عشوائية تخلق مدلولات مشوشة غير واضحة التركيب والتصوير، هذه من أخطر المنزلقات الواقعية التي تشهدها الساحة الشعرية الآن، فالشعر الذي يريد أن يمتلك الحرية المطلقة في تأسيس لغة خاصة ومتفردة ترفض اقامة علاقات وظيفية واستخدامية تحولها إلى وسائل تعبيرية، عليه أن يواجهه من جديد ولا ينجرف وراء غايات لعبية كالادهاش والتضاد فقط بل أن يختار تقنيات واضحة التعبير والتركيب تعطي مدلولات مغايرة جديدة تخلق عوالم مألوفة لا تفقد عناصرها وأبعادها الجمالية كشرط أساسي في تكوينها وصياغتها، وأن تقيم علاقات متقاربة بين دوال تقبل الانسجام والتناغم فيما بينها لتفيض عنها مدلولات متناسقة الصور والوضوح، ومن المؤكد أن هذه اللغة الشعرية الجديدة ستطفو في بحر دلالتها الإيحائية في إطار عالم خاص تخلقه لنفسها تعيش في كنفه وأجوائه، فباختين يقول : >لغة الجنس الشعري هي عالم بطليموس واحد وفريد وخارجه لا يوجد شيء”،(11) وهذا النفي الخارجي ليس كما يحدده باختين نفسه باعتقاده أن الأسلوب الشعري يرفض تناول عوالم لسانية دالة ومعبرة في آن واحد من خلال أنساقه التركيبية، بل إن التصحر خارج السهول الشعرية هو أن اللغة الشعرية تولد في منطقة خضراء معزولة عن أية منطقة أخرى حتى وان تشابهت تضاريسها معها، فتقنية الأسلوب الشعري الحديثة وخصوصا في قصيدة النثر تخلق مناخها الدلالي الخاص بصياغاتها التركيبية والذي يرفض أن يكون ظلا وتابعا أداتيا لأية فكرة ما تضعف من قوته وطاقته الأسلوبية، ولكن هذا الأمر لم يعد مقتصرا على الشعر كجنس أدبي وحيد شهد صراع الدال مع المدلول ومحاولة الأول الهيمنة والتسلط على الثاني بل التجرؤ على قلته، وهذا ما يجعلنا نقلب الصفحة لنتفرج على مشهد آخر ووجه مختلف من وجوه محاولات نفي المدلول وطرده من وطنه بل دفنه حيا في جنس أدبي آخر أقل ثورة وانتفاضة من الشعر هو الرواية كمقابل قطبي له، هوية مختلفة أدبيا باعتباره الرأس الأكثر بروزا وتميزا للنثر ذي الطبيعة المختلفة تماما للشعر …

4-… يقول إيجلتون : >حتى النص النثري يعيد إنتاج /وإن لم يكن بدقة وإتقان/ هيمنة الدال على المدلول التي تعرفها القصيدة<(12)، إنه يشير إلى الغيرة والتقليد اللذين أصابا النثر الحديث في سعيه للحصول على تغييرات جديدة في اتجاهاته البنيوية والدلالية في مجاله الأدبي يشابه فيما سبقه إليه الشعر في ذلك، فخارطة التغييرات الأدبية الجديدة تشهد انهيار الجدران البرلينية وسقوطها بين حدود الأجناس الأدبية، وانزياح التركيبات البنائية لكل واحد منها في الآخر، ولكن المهاجم النشط في الساحة الذي يخترق الحدود والحواجز هو الشعر أو ما أطلق عليه مؤخرا الشعرية (الصياغة التركيبية ذات الروح الشعرية) التي تغلغلت في النصوص النثرية وطعمتها بتقنيات حديثة ساهمت في إغناء وتغيير تضاريسها ومعالمها البنيوية في مستويات نسبية وليست مطلقة كليا لأن النص النثري في جوهره غير قابل للتحول إلى نص آخر يختلف عن طبيعته البنائية لأنه سيفقد هويته كجنس أدبي، ولكنه يسعى الآن لامتلاك تقنية انتاج سلطوية مشابهة للتقنية الشعرية التي تسعى إلى تكثيف وطغيان الاتجاه الدلالي الأحادي المفرد في تصدير الدال واعلائه على حساب إلغاء العنصر المجاور له وهو المدلول، وقد انتبه تيار الرواية الجديدة المنبثقة من رحم الأدب الفرنسي وعلى يد الأب الروحي والمنظر الأول لها، >الآن روب غرييه< والذي يبدو أنه لم يكن بعيدا عن المناخ التأثيري الذي أحدثته حركة الشكلانيين الروس، ورياحها التغييرية التي عصفت بأرجاء النقد الفرنسي المعاصر واستلهامها لمفردات الملامح الجديدة التي رسمتها على اللوحة الأدبية خصوصا في شقها الشعري، فهو في تنظيراته المقالاتية وكتاباته الروائية حاول تأسيس واقعية جديدة بدون قصدية دلالية معينة، فهل نجح في ذلك؟، في محاولته لبتر اتجاه الدلالة ونفي مدلولها والاعتماد فقط على الدال باعتباره علامة ذاتية للشيء نفسه، فهو يرى أن الأشياء الموجودة في الواقع هي أشياء خاصة بالواقع فقط ولا يمكنها أن تحيلنا إلى أي مدلول نضفيه عليها،(13) ويعتبرها دلالات على نفسها فقط، ولكن الدال إذا أشار إلى شيء حتى وإن كان إلى نفسه، فستصبح نفسه مدلولا لأنها ستنفصل عن كيانه الشكلي الخارجي، وفي هذه الحالة سيتطابق الدال مع المدلول في ذات الشيء، فالثور مثلا كدال يشير إلى نفسه، إلى هويته الحيوانية وتصبح نفسه هي المدلول الذي سقطت عليه إحالة وإشارة داله، هيئته السطحية الخارجية، وغريبة يقصد بتقطيعه لشريحة علاقة الدال عن المدلول في مجاله الوجودي اللالغوي، فهو يريد من الرواية أن تتعامل مع أشياء الواقع بلا معاني ومداليل نفسية، حيث يقول : >في الرواية الأصلية كانت الأشياء والحركات التي تستخدم كقوالب العقدة مختفية تماما تاركة مكانها للمعاني، فالكرسي غير المحتل مثلا لم يكن إلا تعبيرا عن التغيب أو الانتظار، إن الذي يمسنا الان ويظل باقيا في ذاكرتنا هي الحركات نفسها والأشياء نفسها وكل ما استطاعت الصورة أن تبرز واقعيته دون قصد<(14) غير أنه في نهاية الأمر يكتب رواياته لغويا باستخدام كلمات تعتبر هذه الأشياء الواقعية التي يتعامل معها مدلولات وليست دوالا، أما أن تتحول إلى دوال تشير إلى مدلولات نفسية تعاملت معها أنماط الروايات الأولى فهذا أمر طبيعي يرتبط بالمركزية الذاتية للإنسان/المؤلف الذي يمتص الواقع ثم يفرزه بطريقته الخاصة، يطبع الواقع ببصمته الذاتية وتصوراته، أما لغة التشيؤ التي ينادي بها غرييه فهي ليست الدفاع عن حقوق الأشياء واستقلالها عن النفس الانسانية بل تصوير لوحة جامدة ومستنسخة لغويا لأشياء الواقع وحيثياته التي ستصيبنا بالملل والفتور الاستجابي، لكنه يجاهد من أجل خلق يوتوبيا روائية تستبعد العوالم الدلالية بأكملها عن مفرداته الواقعية ليست بمستواها النفسي فقط وانما الأخلاقي والاجتماعي كذلك : >ينبغي أن نحاول بناء عالم أكثر صلابة ومباشرة بدلا من عالم الدلالات الخلقية والاجتماعية والوظيفية ولتفرض الأشياء والحركات نفسها بطريقة الحضور<…(15)

5-… إن شحة المصادر غير المتوفرة تحت أيدينا قرائيا ضيقت من أفق موضوعنا، وجعلتنا نطل من نوافذ لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة، فوسمت دراستنا اليسيرة بالهزل الاخصابي وليس المعرفي، ولكن حيوية الموضوع تسربت منذ الصفحات الأولى لما يتميز به من موقع استراتيجي أساسي في مساعي المحاولات الحديثة لتهديم العلاقة الدلالية بين عنصريها الجوهريين، وتغيير ثوابتها الاشتراطية، ليس تحت فضاء علم الدلالة غير المكتمل منهجيا بعد فقط وانما في جعل الاجناس الأدبية التي ترسخ تاريخها الوظيفي في التعامل مع ثوابت هذه العلاقة بحيادية شبه مقدسة لم تجرؤ (على حد تكهننا الاستقرائي) على الانحياز والميل لأحد طرفيها على حساب الآخر وشد الحبل باتجاه استعلائه، واعلان تفوقه الدلالي على أخيه، ومن المؤكد أن غياب المصادر عن ساحة استعراضنا التحليلي يجعل صورتها العامة والكلية ناقصة وتحتجب بعض أجزائها عن رؤانا فنفقد بسببها دقة تتبع المسارات الحديثة وحتى القديمة بضمها في اتجاهات التغيير الأساسية لهذه العلاقة التي تحسسنا من خلال طرح معاناتها الذاتية بسقوطها تحت مباضع التشريح، تلمسنا مدى الظلم الذي أصاب المدلول في علاقته هذه دون شقيقه الذي ارتفعت الأصوات من أجل تنصيبه ملكا موحدا على كرسي الدلالة، لذا فنحن نطمئن المدلول ليس انحيازا له ونزوعا عنصريا نحوه : أن مكانته الاستراتيجية ستبقى على موقعها بحكم الاشتراط والتعاقد العلائقي بينه وبين نظيره الدلالي، وهذه ليست رؤيا أو تنبؤا مستقبليا لواقع هذه العلاقة وما ستصبح عليه، ولكنها إشارة لتصبح وضعا ينظر إليه بالمقلوب وبصورة جزئية ومحتجبة، فكما ذكرنا آنفا إن إطلاق كلمة دال أو استخدام أي دال يحيلنا فورا ومباشرة إلى مدلول خاص به، والمدلول هو وليد استعمال أي دال لغوي كتابي أو لفظي…

———————————-

الهوامش

1) مبادئ علم الأدلة . رولان بارت

2) مبادئ علم الأدلة.

3) نحو علم للنص . مقال ــ تيري ايجلتن ــــ الثقافة الأجنبية ع.2 / 1991 ص 26 بغداد

4) مبادئ في علم الأدلة ص 81

5) أثر اللسانيات في النقد العربي. توفيق الزيدي – تونس

6) البنيوية وعلم الاشارة . ت هوكز بغداد، ص 102

7) البنيوية وعلم الاشاة ص 111

8) اللغة الشعرية -الشكلانيون الروس/تودوروف ـــ مقال /الفكر العربي المعاصر ع 28 بيروت

9) ما الشعر/جاكسبون ـــ مقال /العرب والفكر العالمي ع/ /1988 بيروت ص 12

10) أثر اللسانيات في النقد العربي ص. 61

11) لغة الشعر بين موكاروفسكي وباختين/ صدوق نور الدين مقال /العرب والفكر العالمي ع. 7

12) نحو علم للنص ص. 27

13) نحو رواية جديدة /أ.ر. غربيه ص. 100 ترجمة : مصطفى ابراهيم / دار المعارف بمصر.

14) نحو رواية جديدة ص. 28

15) نحو رواية جديدة ص. 29