دوال النفي النص/الجدل في قصة الطوفان

Bengrad
2021-06-04T11:38:30+00:00
العدد الثاني عشر
17 أغسطس 2020285 مشاهدة

عبد الرسول عداي – بغداد – العراق

>فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين *قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وأتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون *ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون *ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين *قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين *ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون.<

يمتد الجدل من الآية 27 – 34 ويوزع إلى أربع مقولات ( محاور الخطاب)، اثنتين قالهما نوح واثنتين قالهما القوم، والجدل يبرز موقف كلا الطرفين على مساحة زمنية مغيب عنها الفاصل الزمني فأضحت حدودها مبهمة، وبالتالي يكاد أن يكون ما قيل في هذه المحاورة هو تراكم مواقف الطرفين ناقصا الفواصل الزمنية، ومن الملاحظ أن الخطاب لا يقوم بقفزات فوق الزمن، بل يبؤر الموقف من خلال الخطاب مغيبا كل ما يثبت التركيز على محتوى الجدل، لذا جاء الخطاب مباشرا في توجيهه، متينا في نسيجه غير منفصل عن باعثه وهو رسالة نوح الإنذارية ( أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) 26. هذا المحتوى الرسالي لوظيفة النبوة كان له الدور الأساس في إبراز دعوة نوح بأنها منهاج للهدم الشامل / لا تعبدوا، وهي ليست نفيا لإطار واقع الارتباط بين الإنسان والمطلق بل أمر إلغاء تام بصيغة المجموع الشامل لكل صور الأواصر السابقة، وفي المقابل جاء فعل التأسيس ليعيد صياغة تلك الأصرة/العيادة كدور إنساني للارتباط بالله وحده، والرابطة التي تربط بين فعل الإلغاء/الهدم. وفعل التأسيس/البناء هي أصرة مستديمة في كل حلقات المشروع النبوي، بل إنها تمثل القاعدة التي أسس عليها مشروع التوحيد. ويتزامن مع محتوى النبوة دور إنساني واجتماعي، ينطلق من داخل الرسالة نفسها/ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم/. هذا الخوف على مصدر النوع الإنساني يخالطه أمل مشوب بالرجاء في الإيمان بالرسالة عن مصير أفرادها، هذا التبادل في مواقع المسؤولية بين الفرد/الجماعة، النبي /القوم، قابله طرح الملأ بالرفض التام / ما نراك إلا بشرا/ 27، منطلقين من الاعتقاد بأن المسؤولية يجب أن تلقى على عنصر خارج الجماعة/ عنصر فوقي نصف إله، إله معاقب، بطل من سلالة الآلهة، ملك من رحم الربات الخ…، بل نجد صدى هذه الفكرة البدائية عند المجتمع المكي الذي سخر من النبي محمد لأنه بشر يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فالنبوة في طرحها الرسالي تعيد صياغة مسؤولية الجماعة من خلال انتماء الفرد، وبالمقابل ترى- الكفر يطرد تلك المسؤولية إلى خارج مجال الانتماء الاجتماعي، ومن ذلك يتضح لنا إلى حد ما البعد الاجتماعي والفكري للباعث على الجدل بين القوم ونوح. وعند التمعن في هذا الجدال نلاحظ ما يلي :

– إن الجدل عبارة عن نسيج محكم من النفي بأنواعه المركب والبسيط، النحوي والدلالي، وبالتالي فإن هذه الملاحظة تجذب اهتمامنا إلى المستوى البلاغي للنص وإلى التدبر في دلالة كثافة النفي هذه.

– إن هذا الجدل من النوع المنتج الذي ولد فعلين في الابتداء، فعل الرفض الآية 27، وفي نهايته فعل التحدي الآية 32، وبذلك فهو ذو نهايتين مفتوحتين لاحتواء فعل الابتداء والنهاية بما يناسب محتواه كتعبير عن مواقف مضادة.

إن كثافة النفي التي كونت بنية الجدل بين القوم ونوح لم ترد في نمط أحادي من صيغ النفي، ولم تنحصر في قوالب الصيغ النحوية للنفي، بل امتدت على مساحة النص تولد من السياق ما يناسب اتجاه دلالة كل دال، ابتداء من أبسط دال نافي مثل : ظالم = غير عادل إلى دال النفي المركب الذي يشتق من تحليل السياق الآية 28، وفيما يلي تصنيف وتحليل دوال النفي الواردة في النص :

– النفي البسيط : ويتألف من كلمة مضادة لكلمة /الصفة/ الثابتة، فهي ذات محتوى منفي تقابل مضاد معجمي، وتتضمن القائمة ( أ ) محتويات النفي البسيط الواردة في النص وتتضمن القائمة ( ب ) المعجميات الثابتة التي يدخل عليها النفي فيجعلها مكافئة لها من حيث الدلالة :

( أ ) النفي المكافئ ( ب )

كارهون غير محبون

تجهلون لا تعلمون

الظالمين غير العادلين

معجزين ليسوا بفائتين

فدلالة النفي تكافئ بين الكلمة المعجمية الثابتة والكلمة المضادة فتكون ( أ ) = النفي المكافئ + ( ب) ، ثم إن تكرار صيغة الفاعل الصادر عن الخصم تشير إلى بيان حكمة على الطرف المضاد، أما صيغتي الفعل (عميت، تجهلون ) الصادرة عن نوح فهي لا تشير إلى نفي حدوث فعل بل إلى تقريرها حال ارتبط بالحكم على ذلك الواقع، فدوال النفي البسيط ثلث أحكام الطرفين على بعضهما البعض.

– النفي التام والنفي المضاد

ظهر دال النفي لتام-المضاد في أكثر من صيغة نحوية ( نفي المستثنى منه + المقابلة بين حالتين + صيغة الخبرالمنفي ) ، وقد توزعت كما يلي:

ت الآية النفي التام النفي الضاد

27 ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا/نفي المستثنى منه

27 ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين/ المقابلة بين حالتين

29 لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله / الإخبار المنفي

فالنفي التام هو نفي يستمر إلى ما بعد انتقالة النفي المضاد فـ/ ما نراك اتبعك / تمت وتستمر في سياق النص الدلالي إلى ما بعد الانتقالة إلى النفي المضاد، فهي تنفي الاتباع من جنس التابعين، والنفي المضاد يقدم هوية مغايرة للنفي المضاد، ودرجة المغايرة هنا لا تساوي قيمة التمايز بل تدل على الاتجاه العكسي لدلالة النفي التام، فالسادة لم يتبعوك في النفي التام ( المخاطبين ) والسادة لم يتبعوا ( عنصر الاتباع) في النفي المضاد الذي قدم محورا جديدا للاتباع وهم ( الأراذل) الذين لا يكافئون – طبقيا- ( بالنسبة لرأي الملأ ) السادة، وكذلك الحال بالنسبة لدال النفي الثاني والثالث، / ما نرى لكم علينا من فضل/و/ لا أسألكم عليه مالا/. فالفضل والمال ليسا من جنس الكذب والثواب الإلهي، بل قدما اتجاها عكسيا لدلالة النفي التام الذي استمر متجاوزا النفي المضاد، فما نرى لكم علينا من فضل، موقف ثبت إلى ما بعد التحول في الظن بكذب نوح، ولا أسألكم عليه مالا، استمر إلى ما بعد الجدال نفسه ليؤسس أحد مرتكزات الرسالة. فالنفي التام ينقض رأي الخصم بينما يقدم النفي المضاد الرأي المعاكس له.

– النفي المضاد

وهو نفي لموقف طرحه الخصم مغيب عن النص،/ لا أسألكم عليه مالا/ هو رد واضح موقف الخصم، أيا كانت درجة التبلور سواء كان شكا أم تساؤلا أو حكما حول المال الذي يتعين عليهم دفعه استجابة لدعوته. أما دال النفي في/ ما أنا بطارد الذين آمنوا/ فهي تدل على موقف الخصم في إصراره على طرد المؤمنين والتي كشفت، الآية 31 عن هويتهم/ ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا / وهذا بيان لموقف مضاد تجاه رأي الخصم المغيب عن النص.

– النفي المدور

لم يظهر النفي المدور إلا مرة واحدة وفي موقع فاصل بين جدال الرفض وجدال التحدي، وانسابت دوال النفي متتالية تؤكد دلالة الرفض التام لموقف الخصم على شكل حلقات متسلسلة تدور ثم تعود إلى نقطة الجدال الأولى:

نقطة البدء /لا أقول لكم عندي خزائن الله /

/ولا أعلم الغيب/

/ولا أقول إني ملك /

/ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا/ نقطة البدء

ابتداء حافظ على انتمائه إلى المجموع بعدم التميز عنهم ثم عاد من خلال دوال النفي المتعاقبة ليؤكد انتماء المؤمنين برسالته إلى المجموع .

فدال النفي المدور ذو دلالة تأكيدية فقط ، وهي مؤسسة على مواقف سابقة أي أنها إلى حد ما تشير إلى التراكم في اتجاهات الموقف لذا فهي غالبا ما تكون نهائية أو فاصلة بين حالتين كما في هذا النص.

– النفي المركب

يتألف من مقطع ودال النفي المركب اشتقاقه إلا من السياق، وهو قد لا يحتوي على النفي بل مجمل السياق يشير إلى ذلك كما في الآية 28، فالاستفهام / أرأيتم/ يتجاوز موقعه في النص قافزا فوق الجزء الثابت من السياق وهو بيان لحالة الموقف بين نوح والقوم / إن كنت على بينة من ربي وأتاني رحمة من عنده فعميت عليكم/ ثم يأبى تكرارالاستفهام / أنزلكموها/ مقابل / أرأيتم / ليؤكد نفي حالة

استفهام/ الجزء الثابت/ استفهام

– نفي ضمن السياق

ونفس التحليل ينطبق في دال النفي المركب للأية 34 ، فعدم نفع النصح طوقته صيغتان من أدوات الشرط الأولى / إن أردت أن أنصح لكم / والثانية / أن كان الله يريد أن يغويكم /

شرط / الجزء الثابت / شرط

– نفي صريح

فالجزء الثابت يتوسط صيغتين متشابهتين تؤثران على اتجاه دال وتحولاته إما إلى نفي يصرح به السياق أو يتضمنه ، وقد استخدمه نوح لخلخلة موقف الرفض أولا ثم التحدي ثانيا .

– دوال النفي في الجدل

النص الذي احتوى الجدل هو نص موجز، اقتصادي تكثفت فيه دوال النفي حتى كونت نسيج خطاب محكم توزعت فيه المواقف والآراء بين طرفين / نوح + القوم / حول دعوة نوح التأسيسية التي تقوم على فكرة التغيير الجذري / الهدم الشامل مقابل البناء الكامل/. ومن الملاحظ أن وظائف الدوال المختلفة للنفي ساعدت على تطور الجدال سواء في تحديد المواقف وإطلاق الأحكام، ومحاولة التأثير في قناعات الخصم، فكان دال النفي البسيط يفصح عن رأي الطرف الأول تجاه الخصم / بينما قدم دال التام – التام المضاد / حالة التناقض والتعارض بين الطرفين، وأكمل الدال المضاد ما هو مغيب من طروحات الأطراف عن النص من خلال عرض الموقف الثاني لها، أما النفي المدور فكان حدا فاصلا، / مفتاح التحول / من جدال الرفض إلى جدال التحدي، اللذين برز في كل منهما دال للنفي المركب صدر عن نوح في محاولة لخلخلة تعنت موقف القوم تجاه دعوته.

لقد كان هذا النص أنموذجا متفردا من الجدل بني على دوال النفي التي اختلفت أنواعه ومواقعه ضمن ترتيب معين تبعا لوظيفة كل دال في تطوير وتنامي الجدل، وبذلك كونت جدلا منتجا لفعلين هما الرفض / التحدي اللذان فتحا طرفي الجدل الأول للمواقف الموصلة إليه، والثاني لاحتواء اتجاهات الفعل لما بعد الجدل، لذا كان هذا النص عنصرا حيويا في قصة الطوفان ، لتحولات السياق داخله ولتبلورالأحداث في اتجاه متنامي فيه.